-->

الفصل العاشر - مشاعر مهشمة 2



 الفصل العاشر 

 

تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وأحيانا تأتي المصائر بما لا تشتهي الأنفس، ولكن أن تصبح أنت المتسبب في حدوث أسوأ مصائرك، تضحى كالغريق في دوامة المصائب المتوالية، والذي لن ينتشلك من هلاك محتوم، غير عودة الأمور إلى نصابها الطبيعي، واستقرار الوضع النفسي الهائج بداخل نفسك، مرت عليه عدة لحظات، كانت الصدمة متمكنة من سائر أعصابه، ثبت، تسمر، ولم يتزحزح من موضعه، بل اكتفى بالنظر إلى جسدها المفترش الأرض، وكأنما صاعقة أصابت جسده، وألجمته عن الحراك، أنينها المتألم، والذي بعث الروح فيه من جديد، هو ما أفاقه، وجعل أنفاسه تزداد في غير تصديق، فقد ظن لوهلة أنه على شفا فقدها كما البقية، وبدون أن يشعر، هرول إليها بقلب دب فيه الرعب، جلس بجوار جسدها الراقد على عقبيه، ومد يديه إليها ليرفعها عن الأرض، أسند ظهرها على جذعه، وراح يتفقد كلها بأعين مرتعدة، رأى عينيها مفتوحتين، ووجهها ظاهر عليه كل علامات الإعياء والتوجع، لم يرَ أي موضع ينز الدماء في جسدها، إلا أن قلبه رغم ذلك ما يزال نابضا بقوة، مسح بيده فوق جانب وجهها، وهو يسألها رغبة في الاطمئنان عليها، بصوت طاغي عليه الهلع:

 

-انتي كويسة؟ فيكي حاجة؟

 

رفعت عينيها له، وهي ترمش بأهدابها، وكل ما بها يرتجف، كانت تناظره وهي ضاممة ما بين حاجبيها، معبرة عن توجع بالغ، صرح به صوتها وهي تجيبه:

 

-لا لا مفيش حاجة، انا كويسة.

 

تنفس الصعداء، وشعر بالدماء تسير في عروقه من جديد، عندما تأكد أن الرصاصة لم تصِب جسدها، بينما هي حاولت النهوض، واتكأت بإحدى يديها على الأرضية، لتعاونها على استقامة جسدها، ولكنها شعرت بألم وخز أسفل بطنها، كتمت تآوهها وهي تتابع المحاولة، إلا أنه منعها عن الاستمرار، وهو يسألها مستفهما حول ما هو ظاهر أمام مرأى بصره، من علامات التوجع المرتسمة فوق وجهها:

 

-في حاجة بتوجعك؟

 

لم توارِ تألمها عنه، خاصة وأنها تشعر أنها ليست على ما يرام، وغير في مقدورها حتى النهوض بمفردها، وأخبرته بصوت خافت يصرخ بالتوجع:

 

-بطني وجعتني شوية، وبرتعش مش قادرة اتحكم في أعصابي.

 

أدرك أنه هو المتسبب في إيلامها وتلف أعصابها، حيث إنها ما كان ينبغي أن تُدفع بجسدها بمثل تلك الطريقة المنفعلة إلى أن ترتطم أرضا، وهي لم تتعافَ بعد من آلام ولادتها بشكل كامل، ولا يجب أن تتعرض لأي إجهاد بدني أو نفسي، ضم شفتيه بضيق، أمسك بذراعيها بإحكام، وساعدها على الوثوب، وهو يقول لها بصوت حانٍ -نادرا ما يحدثها به- يحمل الإهتمام لأمرها:

 

-اسندي عليا.

 

بمنتهى اليسر رفع جسدها عن الأرض، ولكنها بغير سهولة وقفت بجسد شبه منحنٍ، لعدم استطاعتها على الاستقامة بجسدها، لما يعصف به من آلام لا تحتمل، كتمت آنات كادت تتفلت من بين شفتيها، خشيةً من نهره لها، لأنها هي من عصيت أوامره ونزلت إليه، رغم تشدده على النقيض، بينما هو كز على أسنانه غضبا من نفسه، وبغضا على المتسبب في عصبيته، التي قادته إلى فعل أهوج، كاد يودي بحياتها، وفي تلك اللحظة، وجها بصرهما معا نحو الباب، الذي دلف منه جماعة من الحرس الخاص بالفيلا، ضخام الجثة، من الواضح أن سبب قدومهم، استماعهم إلى صوت الطلقة النارية، التي انطلقت من سلاح "عاصم" منذ لحظات مضت، سلطت هي نظرها نحوه، عندما صدح صوته الجائش يأمرهم بغير تساهل:

 

-خدوا دي من هنا.

 

أشار برأسه نحو "ثنية" التي ارتعدت فرائصها، وانزوت في جلستها، وراحت تهتف في هرجلة باستجداء لن يستمع له الآخر، أو يأخذه بها شفقة، مهما أبدت إعرابها على الندم:

 

-يا عاصم بيه والنبي، يا عاصم بيه..

 

تجاهل رجائها وتوسلاتها بالعفو عنها، حتى أخذوها عنوة خارج الغرفة، والتفت نحو الأخرى، التي لم يكف جسدها عن الإرتجاف، حتى قارب على الخوار، شعر "عاصم" بما أصاب جسدها من عاصفة من الرهاب، جعلتها عاجزة عن الحراك، رأى أنها لن تستطيع في مثل تلك الحالة المذرية، الصعود إلى الغرفة سيرا، انحنى بجذعه قليلا نحوها، وحاوط أسفل ركبتيها بذراعه، والآخر ملتف حول ظهرها، وقام بحملها صعودا على غرفتهما.

 

أنزلها بروية وتؤدة على الفراش، ومن حسن الحظ أن الرضيعين كانا غافيين، حيث إنها لن تساعدها قواها المستنزفة، على إرضاع أيا منهما، جلس إلى جانبها، وهو يزفر بإرهاق، وكأن قواه أُنهكت من تعنيفه الجسدي لتلك العاملة، فهذا ما كان ظاهرا لها، وهذا أيضا ما ودت الإستفسار حوله، وبتردد ملحوظ في نبرتها، سألته:

 

-هي عملت إيه يا عاصم؟

 

لم يجد بدا من المراوغة، وعدم إعلامها بما حدث، من تدبير مؤامرة على والده، للتخلص منه، غفل عن عدم علمها ببواطن الأمور، وبما طرأ على والده، ورد عليها في تجهم بصوت فاتر:

 

-هي السبب في اللي حصل لبابا.

 

عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم، فهي إلى الآن لا تعلم ما أصاب والده، هزت رأسها بطريقة مستفهمة وهي تعلق:

 

-السبب في إيه؟ هي عملت إيه انا مش فاهمة؟ وuncle كمال ماله؟

 

حانت منه التفاتة نحوها، ووجهه يعلوه وجوم عارم، يوضح عدم صفاء ذهنه ليجيبها على تساؤلاتها، ولكن فمه الذي يفتحه كل عدة لحظات، يشير في الحقيقة إلى إكباته لرغبته في التحدث، وكأنما يرى أن في تحدثه إنهيارا لثباته المتزعزع، أبعد ناظريه عنها، عندما صدح صوت رنين هاتفه، معلنا عن تلقيه مكالمة هاتفية، أخرج الهاتف من جيب بنطاله، ليرى رقم الطبيب الخاص بوالده على شاشته، وكأنه مشهد قديم في ذاكرته، يُعاد مرة أخرى، أمام مرمى بصره، باختلاف الشخص والمكان، شعر بخوف من الرد على المكالمة، وشعر بتصاعد خفقات قلبه، حتى آلمه موضعه في صدره، انتهت المكالمة وهو ما يزال في حالة من التيه، والريبة في نفس الآن، تضاعف وجيب قلبه، عندما تكرر الرنين، ليشعر بوجوب إجابته، أوصد عينيه، وهو يضغط على موضع الإيجاب، وضع الهاتف فوق أذنه، ورد عليه بكلمة واحدة تحمل الإسترابة من استقبال انباء لن تكون بالخيرة كما يتوقع:

 

-أيوه!

 

ألقى الطبيب، عدة كلمات تُعد، مرت عبر أذنه، واستقر صداها في رأسه، وكان لتأثيرها بالغ الأثر في قلبه، أنزل الهاتف عن أذنه، وهو مسلط نظره نحو اللا شيء أمامه، بوجه شاحب، وبعينين غائرتين، انزلق الهاتف -بغير شعور- من بين يده أرضا، شعرت "داليا" بعدم الإرتياح لهيئته، كما انتفضت عندما استمعت لصوت ارتطام الهاتف بالأرضية، بتردد وضعت يدها فوق ظهر كفه، الذي أحست فيه ببرودة عجيبه، ناظرته بشيء من القلق وهي تتساءل بحذر مستريب:

 

-في ايه؟ مين اللي كان بيكلمك؟

 

حول إليها نظراته الغائمة، خلف لمعة بالكاد ترى من العبرات المنحبسة في حدقتيه، وهو يجيبها بصوت ضعيف خفيض:

 

-الدكتور.

 

حينئذ اجتاح قلبها شعور بالقلق حول القادم، والذي لم تستفسر حوله، وظلت على صمتها، وتفقدها لوجهه الذي هرب منه الدماء، توقعت ما أعلمه به الطبيب، والذي أكد لها حدثها إضافته بصوت انتزع منه كل معالم الحياة، ومشبع بألم جم:

 

-خلاص.. مات.

 

برقت عينيها، وانحبست أنفاسها للحظة، ولكن ما لبثت أن ترقرقت الدموع بعينيها، وهي ترى دموعه تسيل من عينيه بصمت، رغم ما تستشعره من انتفاضات بجسده، تعبر عن كتمانه لنهنهات بكائه، كادت تدنو منه لتحتضنه، لتساعده عن تفريغ شحنات حزنه الأسيرة، ولكنه حال دون لمسها له عندما هب واقفا، ولم يدع لها مجالا حتى للتحدث، وغادر الغرفة على عجالة.

 

 

--

 

شعور الفقد، أبغض شعور قد يتسلل إلى القلب، يوغر الصدر، ويصدع الروح، ولا يترك صاحبه إلا بعدما يستنفذ كامل طاقته النفسية، مما يذبذب أمله، وينتزع ثقته فيما هو قادم من حياته، ليصبح آنذاك خالي الوفاض، لا يراوده إلا شعور الوحدة، الذي يجعل منه شاجنا على الدوام، ولكن رغم ذلك فإن الفقد درجات، يُقاس حسب الشخص الذي غادرك، ومكانته في حياتك، فكلما كانت مكانته أكبر، كلما كان الشعور أضنى، وكلما أصبح الفاقد في حالة ميئوس منها. يسير في الرواق المؤدي إلى الغرفة التي لفظ بها والده آخر أنفاسه، حيث أمر الطبيب بألا يخرجه منها ريثما يأتي، ليتسنى له توديعه للمرة الأخيرة، أدار مقبض الغرفة، بيد ترتعش، وجسد ينتفض، بخطوات متثاقلة، يقدم ساق ويؤخر الأخرى، توجه نحو الفراش الذي يرقد عليه، وما إن وقع بصره على وجهه الشاحب، حتى شعر أن قلبه وقع في هوة الحزن، الذي استوطن وجدانه، وجعل الدموع تنساب بغزارة من عينيه، نظراته رغم حزنها، إلا أنها كانت تطالعه بلوم عارم، وراح يسأله بجزع:

 

-ليه؟

 

خنق غصة مؤلمة استقرت في حلقه وهو يتابع معاتبته، بعينين تتسابق فيهما العبرات، وصوت ينتحب بقوة:

 

-ليه دلوقتي؟ انت معرفتنيش قبلها، مادتنيش فرصة أهيأ نفسي للحظة دي.

 

صمت لهنيهة، محاولا ضبط أنفاسه، ومنع شهقات بكائه من الظهور، ثم أكمل على نفس الشاكلة بصوت مختنق:

 

-مانت كل مرة بتروح المستشفى وبترجع كويس، اشمعنا المرادي؟

 

رفع وجهه لأعلى والدموع لا تتوقف عن الإنسياب، ترك لنفسه العنان لإخراج ما يجيش به صدره، بعيدا عن العيون المترقبة للحظات هوانه، وبالقرب ممن حرك بموته الكامن بداخله، من أمور محزنة لقلبه، ومؤرقة لفكره، كان منظاهرا بالتغافل عن حقيقتها، وبنشيج بكائه أطنب في سخطه:

 

-ليه كلكوا بتسيبوني؟ ليه مصمم تخليني ابقى لواحدي؟ عايز تثبت لنفسك إيه! اني جبان وخواف! ومقدرش اعتمد على نفسي من غيرك! زي مابتقولي دايما.

 

مسح بحركة هوجاء من يده العبرات المغرقة وجنتيه، والعالقة في طرفيه، وهز رأسه يؤكد على ما لم ينفك الآخر طوال حياته عن إلقائه على سمعه، مكملا نوبة إنهياره:

 

-خلاص انت صح، انا فعلا كده، انت مسبتنيش السنين اللي فاتت دي كلها، خليتني ابقى شبهك، ونفس تفكيرك، خليتني مقدرش اخد خطوة في حياتي من غير ما ارجعلك فيها، ليه سيبتني دلوقتي؟ انا مش هعرف اعمل حاجة في حياتي من غيرك.

 

خارت قواه، وارتجفت قدميه، وشعر أنهما لم يعدا قادرين على حمله، جلس أرضا، واستند بمرفقيه فوق طرف الفراش، ودفن وجهه في يديه، واستطرد في مزيد من البكاء المدوي:

 

-انت دايما بتقولي اني جبان، بس انت اللي جبان مش أنا، عارف ليه؟ عشان محاربتش المرض واستسلمتله، انا بقى بحارب ومش بستسلم، بحارب كل اللي زرعته فيا ومش بستسلمله، عشان ماضعش أكتر مانا ضايع، عشان مكرهش نفسي اكتر مانا كارهة، انت بقى عملت ايه دلوقتي؟ غير انك سيبتني تايه مش عارف المفروض أعمل إيه في حياتي من غيرك.

 

قاطع متابعته شهقات بكائه، التي كانت نابعة من قلب مكلوم بسيوف الماضي، قاتم بالذكريات الحالكة، وتائة في عتمة حياته، رمقه بذات النظرات المعاتبة، وبصوت مهتاج، ومقهور أخبره:

 

-موتك مش بيحل حاجة، انت كده بتكسر ضهري، هتخليني ماشي من غير عكاز اتسند عليه، انت دمرتني من الأول، ودلوقتي موتك بيزود الدمار اللي جوايا، انا مش مسامحك، مش مسامحك على اي حاجة، مش مسامحك.

 

مع الأخير من كلماته، كان يهز جسده بيديه، كأنما يحاول إعادته إلى الحياة، مع كلماته التي ما كان ليغفر له التفوه بها إن كان على قيد الحياة، تدراك حقيقة رحيله، وتركه شريدا بمفرده، دون حتى أن يبعث الثقة بداخله، في قدرته على تسيير أموره بنفسه، دون الحاجة إلى الرجوع إليه، في شتى شئونه الخاصة، هز رأسه بالنفي، وعينيه تذرفان مزيدا من الدموع الحارقة، وهو يكرر آخر كلماته بإنكسار بالغ:

 

-مش مسامحك يا بابا.. مش مسامحك يا بابا.

 

 

--

 

الإقتناع بمفارقة أحد الأبوين الحياة، أمر يحتاج لعزيمة قوية، لمواجهة ذاتك بالحقيقة المُرة، والأمر الواقع، والإعتياد على كونك ستتابع العيش بلا أحدهما، فماذا إذا عن رحيل الاثنين عنك؟ وما يخلفه غيابهما على روحك؟ الضياع، التيه، والصدمة مؤكدا سيتملكون منك، ويجذبوك للسير بداخل طرقهم العثرة، لتجد نفسك وسط غياهب الحياة المظلمة، حينئذ لن ينتشلك من الظلمة، غير عزيمتك، التي دفعتك في بادئ الأمر، للإقتناع بحقيقة غيابهما الدائم، كما أن ستحتاج لوجود من يكون لك ملاذا وملجأً، ليكون بديلا متاحا لكليهما، أو على الأقل لأحدهما، ليمحق شعور الوحدة المقيت، ويبدله بألفة ودفء، مما كان يُبث فيك عن طريقهما.

 

يعلم ان والده لم يكن بالوالد الأخير، ولم تكن معاملته له الأفضل على الإطلاق، كما أنه لم يكن يوما منبعا للحنان، أو كانت تربيته قائمة على الفضيلة والإحسان، ولكن كان يكفيه منه شعور الأمان، الذي كان يغمره، بين جدران بيته، وأنفاسه المحيطة به، كانت له كالحصن المنيع، ضد أي حدث غادر، حتى وإن كان يرغب في الإبتعاد عن البيت في كثير من الأحيان، وينفر من وجوده به، لما كان يختلجه من شعور خانق، لقساوته الدائمة معه، إلا أن روحه كانت ما تزال معه في الحياة، وذلك في حد ذاته، كان كفيلا بجعله ييقن بأن ظهره محمي، كما يبعث لقلبه شعورا بالإطمئنان.

 

لم يستطع احتمال البقاء بجوار المعزيين أكثر من ذلك، أراد أن يختلي بنفسه، بعيدا عن الضغط النفسي الواقع على كاهله، أثناء قدوم من يجمعهم صلة بعائلته لتأدية واجب العزاء، وإلقاء العبارات المواسية، وقف في ركن منزوٍ في حدثقة الفيلا، يحاول احتجاز العبرات في طرفيه، حتى يظل على هيئته الصلبة، التي لا تتأثر -أمام الجميع- بأي مصاب يلم به، ولكن بينه وبين نفسه، لا يستطيع إنكار الإنهيار الداخلي، الذي يهدد بالظهور للعيان، التفت برأسه، عندما شعر بخطوات قادمة نحوه، بعينين حمراوتين ضبابية الرؤية، استطاع أن يحدد هوية الآتي، والذي كان "مجد"، أتى ليعزيه، فلم يتسنى له عند مجيئه الالتقاء به، وعلم من حد العاملين بوجوده في الحديقة الخلفية  وجه "عاصم" نظره للأمام مرة أخرى، رغبة في عدم إظهار الضعف الدفين له، استمع إلى زفرة مطولة من الآخر عندما أضحى جواره، تبعه استطراده بصوت فاتر لا ينم على أي تأثر:

 

-البقاء لله.

 

ابتلع "عاصم" ريقه، محاولا قتل الغصة المستقرة في حلقه، لئلا تظهر في صوته، وبثبات استحثه بصعوبة من داخله، علق على ما قاله:

 

-جاي ليه؟ جاي تشمت فيا!

 

انتاب "مجد" شعور بالأسى على تفكيره العقيم، ورد عليه بشيء من الإزدراء على ما يجول في رأسه من أفكار ليس لها وجود:

 

-مفيش شماتة في الموت، انا مش زيك.

 

حينئذ ناظرة بنظرة مشبعة بالبؤس، وأخبره بهدوء شاجن:

 

-ولا عمرك هتكون زيي يا مجد، لإنك في حياتك مشوفتش اللي شوفته؟

 

رغم تعجب "مجد" من تبادله أطراف الحديث معه، بدون تحفز في تكلمه كعادته، ولكنه لم يكن ليتفق على ما قاله، حتى عندما لمح الحزن المنبعث من حدقتيه، وقال له بهدوء يتسم به:

 

-لو في مرحلة في حياتك كانت صعبة عليك، فغيرك مر بالأصعب، فياريت متعلقش أفعالك على أي شماعة، عشان متحسش بالذنب على اللي عملته فينا وفي غيرنا؟

 

حرك رأسه في إنكار وهو يتساءل بكسرة:

 

-ومين قالك اني مبحسش بالذنب؟

 

حالة "مجد" المشدوهة من طريقة الآخر الغير معتادة، جعلته يؤثر الصمت، بالأخص عندما وجده يتابع التكلم على نفس الشاكلة ولكن بانفعال طفيف:

 

-بس إحساسي ده بيتدفن جوايا، مع كل إحساس اتجبرت اني ادفنه عشان ابقى عاصم الصباحي، اللي واقف قدامك، واللي محدش يقدر يقف قصاده، واللي بيتعمله من الكل ألف حساب.

 

شعر بالضيق تجاه الغرور الذي التمسه في نبرته، والذي يشير إلى استخدامه العنف والشدة، كوسيلة لجعل المحيطون به يتقون شره، ويخشون بطشه، وراح يخبره بعدم رضاء:

 

-مش حاجة تدعي الفخر الخوف اللي بتشوفه في عيون الناس منك واتقاهم لشرك وآذاك.

 

اشتد عضلات وجهه، وعقب عليه بصوت اخشوشن:

 

-انا مبأذيش إلا اللي بييجي عليا.

 

لم يستطع "مجد" التحكم في نفسه وهو يهدر به بهجوم:

 

-ده بقى تبريرك قدام نفسك، زي انتقامك مننا اللي مالوش أي مبرر، غير إنه مرض جواك.

 

التوى ثغره للجانب بطريقة ساخرة، وهو يسأله باستنكار:

 

-ليه انتوا معملتوش حاجة! مكنتوش السبب في سجن ابويا؟

 

انقلبت سحنة "مجد" وقال له بعدائية لم يستطع إخفائها:

 

-أبوك هو السبب في سجنه، مش احنا اللي قلناله يشتغل مع ناس شمال ويتاجر في أدوية مضروبة، ويقنعك إن احنا السبب ويخليك كمان تنتقمله مننا.

 

شعر "عاصم" بوخزة في قلبه، من أعماله المشينة، والموبقات التي استمر على فعلها لسنوات، وبالرغم من تركه لها منذ سنوات كثر، إلا أنها لم تُنتسَ، وها هي يؤتى على ذكرها بعد مماته، بعد عدة لحظات لم ينبس ببنت شفة للآخر، أردف له بنوع من البوح:

 

-انت اللي عارفه إني بعمل كل ده عشان انتوا السبب في سجن ابويا واني بنتقم ليه، بس اللي متعرفهوش اني بنتقم لنفسي معاه.

 

ضم "مجد" حاجبيه بشيء من الغرابة، فقد كانت كلماته مبهمة، فذكر لانتقامه لنفسه غير معلوم السبب بالنسبة إليه، بينما الآخر أوضح له المعنى الضمني مما قاله عندما أكمل:

 

-تعرف حاجة عن المعايرة اللي كنت بتعايرها؟ تعرف حاجة عن النظرات اللي كنت بشوفها من الناس؟ كنت بشوف فيها استحقار وإهانة ليا، كان الكل بيشاور عليا لما ابويا اتسجن، وكأني فيا شيء عجيب، كنت بسمعهم وهما بيقولوا ابن كمال الصباحي المجرم، واللي يقول قاتل، واللي يقول نصاب، واللي يقول تاجر مخدرات، كل ده انا اتحملته لواحدي، عيشته لواحدي.

 

مع استرساله لمواقف مضت، تركت تأثيرها المضني فيه، كان صوته يزداد انفعالا، صمت لهنيهة يلتقط أنفاسه التي تهدجت، تحت نظرات "مجد" المتفقدة، وآذانه المنصته، ثم تابع بحرقة عارمة:

 

-أنا بسببكوا البني آدمة الوحيدة اللي حبيتها سابتني  وأبوها قالي ابعد عن بنتي، احنا مش شبهكم ومبناسبش مجرمين.

 

غامت نظراته خلف سحابة من العبرات، وهو يتذكر حدث ليس باليسير إعادته في ذهنه، يوم كان يتتبع حبيبته المزعومة، في النادي الذي كانا معتادين الذهاب إليه معا، أيام إجازاتهما، كونهما كانا في عامهما الأول من المرحلة الجامعية، وكانت علاقتهما مستمرة منذ ما يقارب العامين، بعد اعترافه بعشقه لها، ازاد في سرعة خطواته، لكي يلحق بها، عندما استشعر غرابتها معه، وفرارها من المكان الذي يتواجد به الأونة الأخيرة، أوقفها عن السير قابضا على ذراعها، وأدارها إليه، وبنظرات متفقدة لعينيها التي لا تناظراه، هتف باسمها:

 

-مي.

 

برأس منكس، هاربة من نظراته لها، أردفت بوجوم:

 

-نعم يا عاصم؟

 

مد يده تجاه ذقنها، ورفع وجهها له، وراح يسألها بلوم عاشقٍ:

 

-في إيه يا مي؟ ليه مش عايزه تبصيلي؟ بتتهربي مني ليه؟ ليه كل ماتشوفني في النادي بتمشي؟ انا عملتلك حاجة زعلتك؟

 

بضيق جلي في صوتها أجابته:

 

-بصراحة يا عاصم، بابا منبه عليا متواصلش معاك تاني.

 

ضم ما بين حاجبيه وهو يستشف منها السبب في ذلك متسائلا:

 

-هو عرف اللي بينا؟

 

حركت كتفيها بعدم علم، وأخبرته ما فطنته من طلبه المفاجئ:

 

-أنا مقولتلوش، بس هو أكيد فاهم ان في حاجة بينا، وعشان كده طلب مني معدتش اكلمك.

 

ظهر الحنق على قسماته، ونفخ في كدر وهو يسألها:

 

-طب ليه؟

 

حال دون ردها، صوت والدها القادم من جوارهما وهو يجيبه بالنيابة عن الأخرى:

 

-أنا أقولك ليه.

 

ظهر التوتر على تعبيرات "عاصم" من حضوره المباغت، وعلى الرغم من ملامحه العابسة إلا أنه رحب به باحترام مرددا:

 

-أهلا شاهين بيه.

 

أشار لابنته بالرحيل، ولم يكن منها غير استجابة صامتة، وتحركت من أمامهما بعدما شيعت الآخر بنظرة آسفة، لم يبادله الترحيب، واعتلت نظراته الإزدراء وهو يأمره بصرامة:

 

-ابعد عن بنتي يا عاصم.

 

زم "عاصم" شفتيه لثانيتين، كابتا انفعاله من طريقة الآخر الفجة، ثم أخبره بجراءة:

 

-أنا بحبها، ولولا سننا وان احنا لسه طلبة كان زماني طالبها منك.

 

ناظره في تجهم صرف وهو ويقول له بأسلوب غير متساهل، يحمل التحذير قبلما يستدير مغادرا، تاركا الآخر في أوج إنكساره:

 

-احنا مش شبهكم يا عاصم، وانا مش هقدر اديلك بنتي، احنا مش بناسب مجرمين، واعتبر ده أول وآخر تحذير مني ليك، معادش ليك دعوة بمي لا من قريب ولا من بعيد، وإلا رد فعلي ساعتها مش هيعجبك.

 

أغمض عينيه، محاولا محو صوته المقيت، وصورته التي لا تقل مقتا عن ذهنه، ولكن على ما يبدو أن عقله لن يصمت عن تذكيره بكل ما تعرض له منذ طفولته، من مآسٍ، وقساوة، تركت آثارا بالغة في تكوين شخصيته، الذي يراها رغم ثباته المعتاد اهتزازية، حانت منه التفاتة نحو "مجد" الذي ما يزال باقيا مطرحة، كأنما ينتظر المزيد من الآخر، ليتسنى له معرفة كل الأسباب الذي قادته إلى أفعاله المؤذية، رمقه "عاصم" بنظرة لم يفهمها الآخر، ولكن وضح معناه، عندما قال له بملامح تنم على النقم:

 

-تعرف إنه دايما كان بيحرق دمي بيك، وإنك واقف جنب ابوك وانا مش عارف اجيبله حقه، كنت عايزني أعمل ايه قدام تقليله مني؟ كنت بحاول اثبت نفسي قدامه، كنت عايزه يبطل إهانه فيا، كنت عايزه يبطل يقارني بيك ويطلعني أقل منك، كنت عايزه مرة واحدة يشوفني احسن منك.

 

عبرت تعبيرات "مجد" عن الإنزعاج، عندما توصل إلى أسباب تغيره معه في صغرهم، قبل حتى أن ينشأ ذلك الخلاف بين والديهما، والذي ازداد سوءً، بعد حادثة اختطاف "أسيف"، ودخول والده السجن، ودمدم في سخط جلي:

 

-بأذيتنا؟ كنت عايز كل ده بأذيتك فيا وفي اهلي!

 

انفعل صوت "عاصم" وهو يخبره بتشنج وعينين بارقتين:

 

-ده اللي هو عايزه، وده اللي رباني عليه، علمني إن اللي ييجي عليا اردهاله في وقتها، علمني إن اللي يوجع قلبي مرة اوجعله قلبه مية مرة.

 

سحب نفسا مطولا، ليثبط به انفعاله، لفظ بتباطؤ انفاسه الساخنة، المنبعثة من اختتاق صدره وهو يضيف بغصة مريرة:

 

-تعرف ايه عن طفل مكملش لسه الست سنين أتحط في ايده سلاح واتجبر إنه يقتل بني آدم؟

 

يُتبع..