-->

الفصل السادس والعشرون- أشواك وحرير






الفصل السادس والعشرون 



صافرات الإنذار، ضجة، قلق، الكثير من الأجواء المضطربة والمتوترة أحاطت به في تلك المشفى الحديثة، الكثير والكثير من المشاعر المختلطة كانت تراوده.. الخوف والرعب هما السائدان؛ فمنذ حولان تقريبًا وهو يرتعب من دخول المستشفيات... هذه الأجواء تذكره بوفاة زوجته الراحلة، حقًا ما أشبه الليلة بالبارحة، كانت أجواء شتوية باردة أيضًا منذ عامان حينما ودع زوجته في إحدى المشافي المشابهة، قد تكون أقدارنا السوداء مظلمة وقاسية، ولكن الأشد ظلامًا وقسوة إنتظارها! واليوم هو ينتظر أمام غرفة وليده ولا يدري ما المصير الذي ينتظره.. لا يعلم كيف هرع به مسرعًا في ذلك الوقت القياسي، كل ما كان يعلمه أن ابنه ينزف ودمائه تغطي كفّي يديه.. يشعر بآثار الدماء على كفيه بالرغم غسلهما جيدًا.. أحاط رأسه بكفيه، مُنكسًا إياها لأسفل عّله يخفف ذلك الصداع أو يختفي صفير أذنيه، وهو يتمنى أن يفقد الوعي لحين خروج الطبيب.



❈-❈-❈



على الجانب الآخر ودعت "روان" الطبيب، ودلفت للداخل مجددًا حتى تطمئن على والدة زوجها.. لاحظت نظرات "هالة" المسلطة عليها بقوة؛ مما جعلها تتصنع اللامبالاة، واتجهت لتعدل لها من وضعية الوسادة خلف ظهرها، فشق الصمت حديث السيدة المسموم :


_أوعي تكوني فاكرة إن الشويتين اللي عملتيهم دول هيخلوني أحبك أو أرضى بيكِ لإبني!


أتسعت عيني "روان" بدهشة فحتى وإن كانت تعلم مسبقًا بما تضنيه لها من كراهية إلا أن الحديث غير مناسبًا تمامًا في هذا الوقت! نفضت عنها ذاك الشعور، واستمرت في مهمتها بينما أسترسلت "هالة"  حديثها :


_ريحي نفسك وبلاش تمثيل، مش بيجيب نتيجة معايا.


تنهدت "روان" وابتعدت خطوتين للخلف، ثم كتفت ذراعيها وأردفت بهدوء حزين :


_أنا مش بمثل ودول مش شويتين.. لو أي حـ... 


قاطعتها الأخرى بفظاظة صريحة ينهال منها الكراهية والحقد :


_حتى لو مش تمثيل، أنا عمري ما هحبك أو حتى أقبلك.. أنا بس وافقت على جواز إبني منك علشان ميزعلش!


ابتسمت "روان" إبتسامة باهتة لم تصل لعينها، وتسائلت بسخرية :


_وأنتِ لما بتعادي مراته مش شايفه إنك بتزعليه؟!


أجابتها "هالة" مباشرةً، وهي تتفحصها بعينيها دون أن تحيد عنها :


_أنا عارفه مصلحته، وعارفه إنه هيزعل شوية وبعدين يفوق، هو محبكيش زي ما حب مراته اللي بالمناسبة عمره ما هينساها!


كانت "روان" تستمع لها مُفضلة للصمت على أن تدخل معاها في شجار لن يؤتي بثماره، ولكن الحديث السام أصاب كرامتها وبقوة، فقررت الدفاع عن زوجها حتى ولو كانت غير متأكدة من مشاعره تجاهها.. المهم ألا ينجرح كبرياؤها :


_مالك بيحبني و...


قاطعتها مسرعه :


_مش حب! ده وهم نتج عن فراغ! بيحاول يلاقي حد شبهها، مش مصدق إنها راحت! بيحاول يخليكِ تشبهيها! بصي على الحجاب اللي على رأسك ده! زيها! هي كانت محجبه! لكن أنتِ مهما اتشبهتي بيها عمرك ما هتوصلي لمكانتها في قلبه، مش شايفك ولا هيشوفك غير سد خانة!


كانت كل كلمة تتفوه بها بمثابة خنجر مسموم يجرح بقوة في جدران قلبها، تشعر وكأن صخره صلبه اعتلت قلبها.. الخوف والقلق يسيطران عليها خوفًا من صدق الحديث الذي وبنسبة كبيرة يبدو صحيحًا! هي تشعر بذله! الحسرة تجتاحها وخاصةً بعدما سلمت له نفسها قبل قليل! لملمت كرامتها المهدرة على أرضية الغرفة، وقررت الذهاب إليه في المشفى، فلن تفشل أبدًا تلك الزيجة خاصةً بعدما حدث بينهما وخطوتها الجريئة تجاهه.. ستشعر أنها رخيصة وهي لن تسمح بذلك، عليها أن تحاول ولا تستسلم من أول جولة لها معه! اتجهت لباب الغرفة بصمت وشموخ، فأستفزتها عبارة "هالة" المتشفية بعدما لاحظت حالتها المبعثرة :


_هي الحقيقة بتوجع كده.


تأففت "روان" من الحديث وأصابها الضجر من تلك المرأة التي بدت تحتضر منذ قليل والآن صحتها تضاهي الخيول العربية! ولكنها ألتفتت إليها بكبرياؤها المعهود، وحدثتها بثقة مصطنعة حمدت ربها عليها :


_كلامك مش مظبوط! جوزي فعلًا كان بيحب مراته القديمة بس ده كان في الماضي، دلوقتي أنا مراته وبيحبني! وحتى لو مش بيحبني في إيدي اخليه يحبني!


أعتدلت "هالة" في سريرها، وبادلت غريمتها الإبتسام بثقة فحتى وإن كانت تبتسم لها الآن إلا أنها متأكدة تمامًا إنها استطاعت تحطيم تلك الجسارة الماثلة أمامها والتي تدعي القوة :


_الأيام بينا يا روان، وخليكِ متأكدة إن قعدتك هنا مش هطول!



❈-❈-❈


صف سيارته على قمة ذلك الجبل الشهير ضواحي مدينة القاهرة.. ألتفتت "ميرنا" حولها تمسح المكان بعينيها؛ فأعترتها لمحة من الدهشة تبعه القلق خاصةً مع خلو الجبل في تلك الساعة الشتوية المتأخرة، فلا يوجد سوى السكون التام وصوت الرياح.. أدارت رأسها في اتجاهه، و سألته مبتسمه بإصطناع بينما تتجلى الدهشة علي تقاسيم وجهها :


_حبيبي.. إحنا إيه اللي جابنا هنا؟


طالعها بملامح متجهمه، ثم أجابها بإقتضاب :


_مخنوق شويه!


وبالرغم من إرتعابها من نظرته إلا أنها ادعت التماسك، وأمسكت كف يده تمرر عليه إبهامها بنعومة، ثم أردفت بحماس :


_إيه رأيك نروح النايت؟


نفض كفه من يدها، ورد بغلاظة فهو لا يريد تذكر تلك المستنقعات العكرة :


_مش هروح الأماكن القذرة دي تاني!


_ما أنا وأنت وميرا كنا بنروح!


قالتها بإستنكار لا يخلو من الدهشة، وبالرغم أنها لم تتعمد ذِكر ابنة عمه إلا أنه رمقها بنظرة قالته وأردف ببرود قاسي يضاهي برودة الجو خارج السيارة :


_عاوز أنضف!


ترجل من سيارته واقفًا في مهب الريح الباردة علها تُبّرد نيران قلبه المندلعة، فلا يلتفت لقتلها! لم يكن عليه من الأساس أن يرد على محادثات والدها الملحة حتى يتأكد مما سيفعله معها، فوجئ بها تحاوط ذراعه من الخلف بحميميه، و أردفت بدفء حقيقي يقسم أنه استطاع خداعه :


_طب بس قولي مالك؟


طالعها بصمتٍ وترقب لربما تخلع ذلك الرداء الوهمي العاشق له، فلم يكن منها سوى نظرات الرجاء؛ مما جعله يجيش عما بصدره محاولًا سبر أغوارها :


_واحد فتحت له بيتي، واعتبرته من أهلي، واستأمنته على حياتي وعلى نفسي وبعد كل ده طعني في ضهري وكان هيقتلني تخيلي!


كان يطالعها بنظرات هادئة مبهمه لم تتفهمها، بينما هي كانت تبادله بصمتِ وترقب محاولة سبر أغواره "فعن أي شخصٍ يتحدث" قطعت صمتها سريعًا وأردفت بهدوء حَذِر : 


_مش يمكن أنت فاهم غلط؟!


ألتفت إليها بقسوة، فأبتلعت ريقها بتوجس، وصححت حديثها مسرعه :


_قصدي إنه مكنش قاصد يأذيك! أو ممكن أنت فهمت غلط وفيه سوء فهم.


حديثها لم يكشف له ما يدور بداخل عقلها؛ فشملها بنظرة مطولة من رأسها وحتى أخمص قدميها، ثم نظر للهاوية خلفها فأبتلعت لعابها برعب حينما رأته ينظر لسفح الجبل.. لا تدري ما السبب وراء حالته الغريبة "أمن الممكن أن يكون كشف أمرها؟ ولكن كيف كشف أمرها وابنة عمه مختفيه؟" فضلت أن تلتزم الصمت ولا تستفزه بأحاديثها حتى تعرف الحقيقة و تلوذ بالفرار من ذلك المكان المرعب، وبعدها ستحاول جاهدة مستميته حتى تثبت له حبها الحقيقي حتى وأن واجهها فحينها ستتوسل إليه بألا يتركها وإنها فعلت كل ذلك لأنها تعشقه وتهيم به، وإنها مَنْ تستحقه وليست الأخرى! أما عنه فقد تراقصت الشياطين أمامه تصور له قتلها؛ فأقترب منها بخطوات بطيئة وأردف بفحيح مرعب أخافها :


_بس أنا مش بسيب حقي!


أتبع جملته بطبع قبلة رقيقة على خدها الأيمن الذي يكاد يلامسه، وطوق خصرها بذراعه، عم المكان الصمت سوى من حديث العيون.. شق سكون الليل هاتفه فأسرع مُجيبًا له ظنًا إنه أمر يتعلق بإبنة عمه، ولم يلبث ثوانِ حتى انتفض صارخًا بهلع :


_مستشفى إيه؟


طالعته بعدم فهم، وانبثق الفضول من عينيها، فأوقف حيرتها قائلًا بقلق وتلعثم :


_كريم ابن مالك متعور ومحتاج نقل دم فصيلته نادرة زي فصيلتي.



❈-❈-❈



قطعت طرقة المشفى بخطى مُثقله بطيئة، عقلها مُنشطر لقسمين، الأول قلقًا على الصغير والآخر يفكر في حديثها "هالة" فلم يستطع خوفها أن يمحي آثار جرح قلبها منذ قليل...اقتربت من قرينها بحذر ولكنه لم ينتبه لوجودها؛ فجلست بجواره تراقب قلقه وحُزنه بصمتٍ وألم، احتضنت كتفيه من الخلف وأغرورقت عينيها بالدموع، ثم مالت برأسها على كتفه وبدأت في البكاء بأنين خافت، لم تكن هي أبدًا من تبدأ بإظهار مشاعرها للآخرين نظرًا لبيئة نشأتها وشعورها دائمًا بالغربة وسط التجمعات المشحون أفرادها بالمشاعر تجاه بعضهم البعض ولم يستطع حياؤها من منعها من احتضانه؛ خاصة بعدما حدث بينهما منذ قليل.. فقط احتضنته لتهون عليه أو على الأصح لأنها مَنْ كانت تحتاج وبشدة لذلك الحضن، احتاجت للأمان والإحتواء طوال سنوات عمرها فقررت أن تمنحهما لنفسها بعدما هجرت وطنها وباتت لاجئة في كل الأوطان.. ظلت تحرك كفها بحركات رتيبة على ظهره وتكرر همسها "بأن كل شيئًا سيصبح على ما يرام" وكأنها كانت تهمس لنفها وليس هو، رفع "مالك" أنظاره إليها سائلًا عن والدته بهدوء مريب :


_ماما عاملة إيه؟ 


أبعدت رأسها عنه ومسحت دموعها بسرعة، ثم طمأنته بإيمائه من رأسها :


_الحمدلله بقت كويسة، ضغطها بس كان وطي علشان كده أغمى عليها.


أومأ هو الآخر بتفهم، فسألته بتحشرج ولكنت نبرتها بدى فيها الإهتمام جليًا :


_طمني على كريم، عامل إيه؟


لم تترك حدقتيه ملامح وجهها، ورد بصوت مكتوم :


_خوفت عليه أوي، طول الفترة اللي فاتت خايف يروح مني هو أو أخو...


وضعت كفها على فمه مسرعه لتمنع حديثه، ثم تطلعت في عينيه مباشرةً وأردفت بجدية :


_القضاء معلق لحين النطق به! متقولش كده!


مسحت دمعة خائنة فرت من إحدى عينيه، و أكملت حركة يديها فوق ظهره، فأخترق همسه أذنها من جديد يشكو إليها مرارة أيامه :


_أنا اتحملت الفقد مرتين، ومش هقدر أخسر ولادها زي ما خسرتها!


تنبهت كل حواسها عند ذكره لزوجته السابقة، وخفق قلبها بخوف و رغمًا عنها لم تعد تستمع سوى لحديث "هالة" يتردد في أذنها حول عشقه للراحلة، أما عنها فستبقى خانة دائمًا مهمشة في حياته؛ ليعوض بها رحيل الأولى.. أغمضت عينيها تاركه قدرها بيد خالقها؛ فإرهاق عقلها بالتفكير لن يتسبب لها سوى في الألم والكآبة حتى بدون دليل على حديث "هالة" المزعوم بأنها في حياته مجرد بديل.. ربنا يحبها أيضًا! لن تستعجل الأحداث والأهم الآن سلامة ابنه!


❈-❈-❈


اتكأت "ريهام" على أريكة منزلها تراجع محادثاتها مع "هيثم" وابتسامة حالمة تزين ثغرها المطلي بحمرة قانية، لم يستطع الزمان أن يسلبه كلماته التي تذيب قلبها.. قضى "محمود" أكثر من عشرين عامًا يحاول لإستمالة قلبها ولم يتمكن منه، بينما "هيثم" يقدر بكلمة واحدة ونظرة من عينيه أن يزعزع إستقرارها ويربك مشاعرها.. أجفلت من اهتزاز الهاتف في يديها، وخفق لُبها بسعادة تصل حد الجنون! ولمَ لا؟ وهو بات يشغل عقلها ووقتها طوال الأيام الماضية.. تفرغت له و تغافلت عن بناتها و احتياجهم لها في ذلك التوقيت بالتحديد! رفعت الهاتف لأذنها وأجابت بهيام :


_تعرف إني كنت بفكر فيك؟ 


أتاها صوته عبر الطرف الآخر سائلًا بهمسٍ حارق اخترق أذنها :


_تحبي أجيلك؟


أجلت ضحكاتها العالية، وأصدرت بعض الأصوات من فمها تدل على الرفض، ثم تسائلت بميوعة لطالما احترفتها طوال سنوات عمرها التي تجاوزت الأربعين :


_تيجي فين؟! مش إحنا اتفقنا مش هنتقابل تاني قبل ما اتطلق؟


زفر بإحباط وتأفف بتذمر مصطنع :


_يعني مش هقدر أديلك الهدية قبل ما نتجوز ولا إيه؟!


تنبهت حواسها عند لفظ الهدية واتسعت عينيها، ثم اعتدلت في جلستها سائلة بإهتمام :


_هدية إيه؟


ابتسم في سره بإعجاب.. فها هي كما عهدها إنسانة محشوه بالجشع والطمع؛ بالرغم من ثراء زوجها، طرق بابها بهدوء، وأمرها بفتح الباب فتطلعت في ساعة الحائط بإرتباك لأن الوقت تجاوز منتصف الليل.. فتحت الباب وتطلعت فيه بخوف ثم زاغت عينيها في الأرجاء؛ حتى تتأكد من رؤية الناس لهما، بينما هو ظل متكئًا على طرف الحائط يحدق في جسدها الظاهر من أسفل قميصها المنزلي بوقاحة :


_أنت إزاي تيجي هنا دلوقتي؟! ممكن حد يشوفك ويقول لمح...


قاطعها هامسًا بحب :


_وحشتيني!


أقترب منها للحد الذي اخترق مساحتها الشخصية؛ فتراجعت هي للخلف ولكن ظلت مستندة على طرف الباب بذراعها.. توترت أعصابها من قربه المهلك وحضوره الطاغي، ثم لمحت إحدى حقائب الهدايا بيده؛ فأبتلعت لعابها وتسائلت بدلع :


_جاي ليه دلوقتي؟


لم تخفى عليه نظرة عينيه للحقيبة في يده؛ فلمعت عينيه بنشوة ودفعها لداخل الشقة ثم أغلق الباب خلفه وكأن شيئًا لم يكن! 


❈-❈-❈


بعد مرور يومين 


اتجهت نحو إحدى الكافيهات يكسو وجهها ملامح صارمة ممزوجة بالكبرياء.. ظلت تلتفت هنا وهناك حتى تجد ضالتها؛ فلوح لها بكفه عاليًا، اتجهت إليه بخطوات متمهلة واثقة، ثم وضعت حقيبتها أعلى الطاولة وسألته بعجلة :


_ها عملت إيه؟ 


ظل يتأمل ملامحها ببرود وكأنها لا تتحدث إليه، ثم ارتشف بعد قطرات الماء من الكوب أمامه ورد ببساطة وهدوء :


_أجرت منه الشقة. 


أرتخت ملامحها للمرة الأولى منذ دخولها المكان، ثم ضيقت عينيها وسألته بإهتمام :


_سأل ليه هتأجرها المدة دي بس؟ أو استفسر كتير عن حاجة؟


امتعضت تقاسيم وجهه وأجابها بتذمر :


_يا ساتر عليه واد مغرور وشايف نفسه، مكنش راضي يأجرها وبعدين مضّاني على تعهدات إن الشقة تتسلم ليه سليمة.  


لم تلتفت لثرثرته الفارغة وسألته بإهتمام أكبر :


_أنت متأكد إن مفيش حد عارف إنها بتاعته؟


هز رأسه بتأكيد وردد بثقة :


_أيوة طبعًا.. الشقة دي قافلها من سنين ومفيش حد يعرف عنها حاجة ومكنش بيرضى يأجرها أبدًا، شكله وافق أخيرًا يأجرها لأنها اتجوزت ومش عاوز حاجة تفكره بيها!


ابتسم بسخافة على حديثه، ولم تبادله هي لكنها أردفت بتأكيد :


_بأكد عليك للمرة المليون، تختفي من مصر بسرعة وقت ما مالك يعرف!


بالرغم من احتقاره لها والواضح تمامًا لنفسه، لكنه قرر أن يكمل معها للآخر؛ فهو لا يعنيه منها سوى المال.. لابد أن يحصل منها أولًا على كل ما يريد، ثم يستطيع بدء حياة جديدة نظيفة في مكان آخر مع مَنْ اختارها قلبه :


_إحنا مش هنتجوز ولا إيه؟


ابتسمت بسخرية ثم حدثته بصراحة :


_بعد الموضوع ده ما يخلص إحنا مش هنتقابل تاني! خد الفلوس اللي هتطلعلك من شغلنا وابدأ بيهم من جديد يا هشام وانساني!


عمت ضحكاته العالية ارجاء المكان لأنها أخبرته بالحقيقة للمرة الأولى؛ فتأكد أنه سيفعل الصواب بالفعل بما يخطط له الآن في رأسه! ارتدى نظارته الشمسية واستقام واقفًا في مواجهتها :


_شوفي هتنفذي امتى وكلميني.. سلام يا حُبي!


❈-❈-❈


منذ عودتها من المشفى وهي تتحاشى الخروج من غرفتها لئلا تحتك بوالدة زوجها، باتت تخشى أيامها في هذا البيت.. تقتصر معاملتها على الصغار فقط وزوجها الذي لم يعد يتحدث إليها سوى ببعض الكلمات المعدودة يُلقيها إليها طوال اليوم بالإضافة لنومه الليلتين الماضيتين في غرفة ولديه، باتت وحيدة أكثر من حياتها السابقة بالرغم أنها مُحاطة بالكثير من الناس الآن! لم تعد تخرج، ولم يعد لديها عمل بحجة إنه يخاف عليها بالإضافة لأنه يحتاج إليها بجانبه في العمل! لا تعلم هل عليها أن تخبره بحديث والدته أم لا؟ هل عليها أن تشكو له مرارة أيامها أم عليها أن تظل صامدة فقط؟ كما لا تجد مَنْ تشكو إليه الآن! لو أخبرت والدتها بالتأكيد ستخبرها بأنها لابد أن تتحمل وتلتزم الصبر دون أن تخبرها بحل واحد! وأخيها بات وحيدًا مهمومًا يستعد للسفر، وأخيها الآخر لم يعد يربطهما سوى محادثة واحده كل أسابيع طويلة.. أما عن "مجد" الذي لم تعرف صديقًا غيره تعتقد أنها ستخسره هو الآخر للأبد، هذا إن لم تكن خسرته بالفعل! وحتى إن لم يحدث بما ستكشو إليه؟! 


دخل "مالك" الغرفة فوجدها تحتضن جسدها بيديها.. شاردة في منظر الحديقة أمامها، كعادتها كل يوم لم تعد تقوم بأي شئ سوى العزف أو اللعب مع أولاده ويالسعادته كم يروقه هذا! لكنه لا يستطيع أن ينكر أن صمتها هذا وسكونها يؤلمانه! أقترب منها ببطئ واحتضنها من الخلف هامسًا في أذنيها بإهتمام ونبرة بدت لها مكترثة! 


_مالك؟ 


ارتفعت حرارة جسدها، وتدفقت الدموع لعينيها وكأنها كانت في حاجة ماسة لسؤاله؛ حتى تتخلص من همومها بالبكاء! لم تلتفت إليه فأدارها هو لتواجهه.. لقد كان متأكد تمامًا من أنها تعاني شيئًا ما لكنه يكره هدوئها وكتمانها، لاحظ احمرار عينيها؛ فكرر سؤاله بقلق واهتمام هذه المرة :


_مالك يا روان؟ 


مسحت دموعها بهدوء، وأجابته بنبرة متحشرجة غلفها الرجاء :


_أنا مش عاوزه أعيش هنا!


لم يستوعب إجابتها؛ فرمش بأهدابه عدة مرات، وسائلها مستفسرًا :


_مش فاهم.. حد ضايقك يعني؟ أو قالك كلمة تزعلك؟


زاغت عينيها تفكر "هل عليها أن تخبره بالحقيقة؟ أم بماذا تجيب؟ " كتفت ذراعيها أسفل صدرها وردت بهدوء :


_أنا مش مرتاحة هنا! 


كرر سؤاله بعناد :


_أيوه ليه؟  


_أنت اتجوزتني ليه؟


فاجأته بسؤالها؛ فحدق فيها بدهشة واستغراب، بينما هي طالعته بترقب؛ علها تستنبط منه أي شيء يُريح قلبها.. وأخيرًا نطق بهدوء :


_علشان حبيتك! 


همت أن ترد فقاطعها بإكمال حديثه بكل صدق :


_علشان مختلفة! جذبتيني ليكِ من أول يوم شوفتك فيه في الجامعة، حبيت شخصيتك وأخلاقك! حبيت ملامحك، كبرتي في نظري جدًا لما عرفت إنك عايشة هنا لوحدك علشان شغلك ومع ذلك محافظة على قيمك ومبادئك! حسيت إن فيه بينا رابط حلو بينا، وإني مينفعش أكمل حياتي غير معاكِ!


لا تدري هل هذا يعد اعترافًا منه بالحب؟ أم لا.. كل ما تعرفه إنها بقت تطلع فيه بحدقتين متسعتين وقلبها يخفق بعنف، اقترب منها مُقلصًا المسافة بينهما، وطالع عينيها بترقب شاعرًا بالدهشة من حالتها، يعلم أنها تخفي شيئًا ما؛ فنبهها بنبرة بدت لها صادقة مطمئنة :


_قوليلي مالك؟ إيه اللي مضايقك، وأنا هعملك اللي أنتِ عوزاه! 


تطلعت إليه؛ لتلتقط أي إشارة منه حتى تتأكد من صدق حديثه؛ فتفهم حالة التخبط التي تعتريها، وشجعها بنظره دافئة.. ألتقطت أنفاسًا عميقه، وبدأت بسرد كل ما دار بينها وبين والدته.. أتسعت عينيه بدهشة سرعان ما تحولت لإحباط بسبب أفعال والدته التي لا تكف عن التماسك بالمظاهر الإجتماعية السخيفة، ربت على كفها بمودة ثم أخبرها بنبرة هادئة مُطمئنة :


_هنروح نعيش في شقتي. 


تهللت أساريرها وارتسمت إبتسامة ممتنه على شفتيها ولكنها انكسرت سريعًا حينما تابع حديثه. 


_بس الأول هنستنى هنا يومين يكون كريم اتحسن، وأكون بعت حد ينضف الشقة لأنها مقفولة من يوم ما دخلتيها.


أومأت في صمت بينما هو قبّل مقدمة رأسها بخفة حينما رأى خيبة الأمل تخيم على وجهها وأخبرها برجاء :


_عاوزك تساعديني في الشغل.. ممكن؟ 


ثم تابع حديثه بثقه ناظرًا لعينيها مباشرةً يفخر بخضوعها لرغبته حينما تركت عملها بأمر منه :


_متأكد إنك مش هتندمي إنك سبتي الشغل! شغلك معايا هيريحك وهتكوني متفرغة ليا وللأولاد!


حرقة في العين ورغبة شديدة في البكاء كل ما شعرت به في ذلك الوقت.. لا يوجد أثقل عليها من ترك عملها الذي سعت لأجله طوال سنوات عمرها الماضية؛ فكان بمثابة عكازها التي توكئت عليه في غربتها.. ولكنها الآن لا تستطيع أن تعترض! فلو أخبرت أي أحد بالطبع سيتحالف مع رأي زوجها متعللًا بأن قرينها من الطبقة المخملية فلا حاجة لها بالعمل وعليها أن تلزم دور الزوجة النفيسة!! ابتسمت في داخلها بسخرية محدثة نفسها بتهكم "مساكين لن يفهموا أنها ترغب في العمل لتحقيق ذاتها والتخلص من وحدتها التي أرقت حياتها، فحتى وإن كان غايتها المال في السابق فلم يكن هو السبب الرئيسي فقط!" وتذكرت حديث المتنبي "ليس كل ما يتمناه المرء يدركه" فقررت الصمت فقط وشكرت ربها على نعمه؛ فمن الممكن إنه قد حان الوقت لتسرتيح، أخيرًا تخلت عن صمتها حينما لمعت في رأسها فكرة ما؛ مما جعلها تبتسم وتقول بحماس : 


_إيه رأيك اعمل الأكل النهارده؟


طالع تغيرها المفاجئ بإندهاش وغمغم مبتسمًا :


_أنا معنديش مانع.. بس قوليلي هنأكل ونطلب الإسعاف بعدها ولا إيه؟!


قهقهت معه بمرح، ثم غمزت له بإحدى عينيها قائلة بشقاوة لم يعتد عليها منها :


_هبهرك! 


اتجهت ناحية باب غرفة نومها تهم بالنزول للمطبخ مُعنفه نفسها بسبب شعور الريبة الذي ينتابها بسبب حموتها؛ فتوقفت تتنفس الصعداء مُشجعه نفسها على استعادة جموحها السابق فلابد أن تظهر من جديد بهيئتها الشجاعة فهذا بيتها وهو زوجها.. فهبطت السلم تدندن بثقة لم تتدرك من أين استعداتها من جديد "أهي من اعترافه لها بالحب؟! أم من جسارتها المعتادة! " 


أما عنه فوقف يتطلع في أثرها وشعورًا بالراحة والأمان يعترياه.. رأسها اليابس بدأ يلين؛ فها هي تخلت عن عملها لأجله.. كما أنها لم تعد تتعامل معه بتحفظ كالسابق، وما أسعده حقًا أنها وافقت على إتمام الزواج.. حتى وإن لم يتم الأمر بالشكل المطلوب إلا أنه في غاية سعادته الآن! 


❈-❈-❈


ظلت تهرول في المطبخ لبعض الدقائق حتى تجد الأشياء التي تحتاجها.. مانعة الخدم من التدخل، فوقفوا يتابعنها من الخارج منهم السعيد "كزينب" التى أردفت بمزاح لا يخلو من التشفي الواضح :


_دي الست الكبيرة هتتجلط لو عرفت!


قهقهت "مديحة" على حديث رفيقتها، أما عن "آمال" فطالعتهما بنزق، ثم تكلمت بصرامة أجفلتهما :


_المسخرة دي ميتسكتش عليها أبدًا! وبدل ما تقولوا للهانم واقفين تضحكوا وتتمسخروا؟! 


أبتلعت "مديحة" لعابها بتوتر وانقلبت ملامحها المتهللة إلى الوجوم، بينما "زينب" وارت توترها خلف قناع من اللامبالاة.. اختفت "آمال" لدقيقتين ثم عادت مسرعة تلهث وراء سيدتها التي اقتحمت المطبخ كعاصفة هوجاء هبت على إحدى المدن الساحلية في ليالي الشتاء، وصاحت بغضب : 


_أنتِ مين سمح لك تدخلي مطبخي؟ إيه خلاص مقدرتيش تتأقلمي على عيشة الهوانم فقررتي ترجعي لعيشة الخدامين!


جزت "روان" على أسنانها بغيظ فكانت متأكدة تمامًا أنها لن تمررها على خير لكنها لم تتوقع أبدًا أن تُهينها أمام عمال البيت هذا الأمر ما أشعرها بالسخط_ليس لأنهم الخدم! بل لأنها لم تتعرض للتوبيخ في حياتها أمام الأجانب وهي مخطئة، فكيف ستقبلها كرامتها وهي لم تخطئ! _ زفرت بقوة وقد قررت أن ترد بهدوء وألا تفتعل المشاكل فزوجها حاضر في البيت :


_جوزي طلب يأكل من إيدي وبصراحة أنا مقدرتش ارفض له طلب!


جملتها لم تخلو من الميوعة المقززة من رأيها والتي لم تعلم من أين خرجت! سبّت نفسها داخليًا، وسرعان ما ابتسمت بتشفي حينما أطلت نار الغيظ من أعين "هالة" التي رددت بسخرية ضاغطة على أحرف الكلمة هي الأخرى : 


_وجوزك مشغلك خدامة ليه وهو عمره ما طلب اكل من مراته الأولى! 


صمتت وتصنعت التفكير قليلًا تحت أنظار "روان" المتحفزة.. وأخيرًا استرسلت بمكر :


_يمكن علشان هي بنت نائب وزير!


تفهمت "روان" ما ترمي إليه غريمتها فضغطت على شفتاها حتى لا تبكي أمامها ثم ابتسمت لها ببرود وكأن شيئًا لم يكن، وعندما همّت بالرد تفاجئت "بمالك" الذي دلف للمطبخ للمرة الأولى منذ أعوام.. ثم أمسك بخصر زوجته مُقربًا إياها من جسده بجرأة، وقبل جبهتها..قبل أن يسألها بنعومة متصنعًا الجهل بوجود "هالة" :


_حبيبي! تحبي أساعدك في حاجه!


أتسعت أعين "هالة" بدهشة، وانطلقت منها سهام الحقد والغضب.. بينما "مالك" أكد لنفسه بأن هذا أقل تعويضٍ لها على جرح كرامتها التي بعثرتها أمه منذ قليل؛ فهو بالتأكيد سمع حديثهما لكنه آثر ألا يُعّرض والدته للحرج أمام الخدم! أما عن "روان" فتنفست الصعداء بخروج حماتها، ثم استعادت ملامحها الوجوم مرة أخرى وعقلها لم يكف ينبهها عن ترك ذلك المنزل وترتيب حياتها بأسرع وقت؛ شاعرًا بالخوف والترقب لمصيبة ما قادمة! 


❈-❈-❈


عادت من جامعتها حائرة تائهة كطيرٍ شريد فقد أمه.. لمَ تشعر بالتعاسة منذ تلك الليلة التي أعطاها بها محبسه؟! "ألم يكن ذلك ما أردات.. عايرته لتحظى بذو مستوى معيشي أعلى منه؟ إذن لماذا تفتفده الآن وبشدة؟!" دارت شعورها بالإحباط ذاك المساء خلف طبقة هشة من الفرحة المصطنعة والآن هي يتملكها الضيق، الحزن، خيبة الأمل والشعور بالغباء لأنها استمعت لوالدتها التي لم تكف عن تحريضها ضده، أخذتها قدماها لوالدتها التي لا تزال متشبسة بالبقاء وحدها في بيت عائلتها القديم لأسباب لا يعلمها سواها.. فتحت "ريهام" الباب بضيق شديد كسى تقاسيم وجهها كمن خرجت للتو من معركة شرسة، بينما استقبلت "رنا" الشرار المنبثق من عيني أمها بلامبالاة واندفعت للداخل، أحكمت الأم من رباط المأزر حول خصرها وأردفت بنبرة غير مرحبه :


_إيه اللي جابك يا رنا؟ 


وضعت الأخيرة كتبها وحقيبة يدها أمامها أعلى المنضدة، ثم نكست رأسها لإسفل ورددت بتردد بخزي واضح :


_ماما.. أنا حاسة إني اتسرعت وقسيت على يحيى!


لم تكن "ريهام" في مزاج رائق لتلك التفاهات من وجهة نظرها؛ فلم تستطع السيطرة نبرتها التي خرجت بتهكم لاذع :


_وأنتِ بقى هزة طولك وجاية لغاية هنا علشان تقولي الكلام ده!


_يحيى هيسافر يا ماما.


_ألف بركة يا أختي عقبال ما تسافر أخته الحرباية لجهنم علشان أخلص منها!


أتسعت عينا "رنا" بدهشة من حقد والدتها الواضح تجاه أبناء عمتها، وهمّت بالحديث فأستمعت لصوت الفراش بالداخل وكأن شخص ما يتحرك أعلاه فتصدر أخشابه ذاك الصوت المشهور.. استمعت له "ريهام" أيضًا فتوترت ملامحها تلقائيًا حينما شاهدت أنظار ابنتها تتجه نحو باب غرفة نوم الأولى، وأصابها الهلع حينما سألتها البنت بشك :


_هو فيه حد جوه؟


أجابتها "ريهام" بتأتأه حاولت إخفائها بقدر المستطاع ولكن لاحظتها الإبنة :


_ححد! حد... مين؟ 


لم تنتبه "رنا" لمَ ترتديه والدتها إلا في تلك اللحظة.. فقد كانت ترتدي إحدى قمصان النوم من قماش الستان ذات اللون الذهبي.. فطرأ عليها ذلك الهاجس الشيطاني "هل من الممكن أن تكون أمها بصحبة رجل في الغرفة! رجلٌا آخر غير والدها التي تصر على تركه! " عند تلك الخاطرة قُبض قلب الصغيرة بقسوة وجحظت عينيها بصدمة؛ حاولت نفض تلك الأفكار الشيطانية جانبًا؛ فهذه ليست أخلاقها التي ربتهما عليها بالتأكيد، ولم يخفى على الأخيرة حالة ابنتها المتشككة بها؛ مما جعلها تمسك بذراعي الأخرى لتأمرها بالجلوس ثم أردفت بنبرة واثقه حاولت بكل جهدها أن تخرجها دون أي توتر :


_يا بت ده أنا هجوزك سيد سيده.. أنتِ مش عارفه قيمتك ولا إيه؟!


بدأ الشك يزول بداخل "رنا" من ناحية والدتها وارتاح قلبها لثقة والدتها بأنها ستحظى بمن هو أفضل منه أو هكذا طمأنت نفسها؛ لتمحو ذلك الصراع الدائر بداخلها قليلًا! استمرت الأخيرة في الثرثرة بينما "ريهام" يتآكلها الغيظ من الداخل فبالتأكيد ستتعرض للتوبيخ من "هيثم" الماكث بالداخل يأكله الغضب هو الآخر!


_هترجعي امتى يا ماما ؟


تنبهت لسؤال ابنتها بعدما كانت شاردة في علاقتها المحرمة بحبيبها؛ فرمشت بأهدابها عدة مرات وسألت بعدم استيعاب :


_ارجع فين؟ 


_ترجعي البيت.. ده بابا هيتجنن عليكِ!


بالرغم إن العبارة الأخيرة دغدغت كبرياؤها الأنثوي من الداخل إلا أنها ابتسمت بسخرية وردت ببرود كمن تُلقي بتحية الصباح وليست قنبلة :


_أنا مش هرجع تاني!


قالتها بثقة وغيظ لإستيائها من زوجها الذي فضّل فتاة في سن بناتها عليها، ودعم ثقتها وعود "هيثم" لها بالزواج؛ فقررت الضغط على "محمود" متعللة بإهانته هو وابنة أخته لها :


_يعني إيه مش هترجعي تاني؟!


تسائلت "رنا" بصدمة غلفتها الإستنكار، ولم يكن من "ريهام" سوى الكذب لإنهاء ذلك الحوار بعجلة حتى لا يطول أكثر من ذلك، فشمخت بأنفها وأجابت مبررة :


_لما اللي اسمها روان تعتذر لي ساعتها هبقى أرجع تاني.


أومأت "رنا" بتوجس، وشعورًا يتزايد داخلها بعدم الراحة؛ فيبدو أن النهاية قد أقتربت، ولا تعلم لمَ ذلك الشعور الآن! أمسكت "ريهام" برأسها مدعيه الصداع والإرهاق :


_ماما.. أنتِ كويسة؟


حركت الأخيرة رأسها بالإيجاب، ثم أردفت بصوت واهن :


_أنا كويسه صحيت من النوم فاجأة بس.. علشان كده حاسه بصداع. 


أختطفت "رنا" حقيبتها، وهمّت بالمغادرة بحرج؛ فأدعت أمها الإنزعاج لمغادرتها بسرعة مدعية تحضير الغداء ليتناولاه معًا، ولكن الأولى أصرت على الرحيل؛ فتنفست "ريهام" الصعداء وتمتمت بغيظ :


_غبية وخايبة زي أبوها! 


❈-❈-❈


ارتكن على سور شرفة غرفته شاردًا في الغيوم الكثيفة التي تملئ السماء تشبه تلك الجاثمة على قلبه، لقد بات فؤاده محملًا بالأثقال والهموم.. مر على تلك الليلة التي كانت فيها بين يديه بضعة أيام ولا تزال صورة "حبيبة" تقف حائلًا بينه وبينها؛ يشعر بالذنب حيال ابنه المصاب لأنه كان مشغولًا عنه مع "روان" واللعنة إنها زوجته!! يبدو بأنه لم يستطع بعد تخطي حبيبته الراحلة! هو لا ينكر فعلًا بأنه لم يرد تخطيها "ولكن ما ذنب روان؟!" لا يزال ينام بغرفة ولديه منذ الحادث؛ متعللًا بمرض ابنه، هاربًا منها كالجبان! قطع وصلة أفكاره شقيقته التي اخترقت الغرفة كعاصفة هوجاء : 


_أنا عاوزه اتكلم معاك شوية.


ألتفت إليها بملامحه الهادئة، وابدى ترحيبه دون أن يأبه لدخلتها العنيفة :


_أكيد يا رونا.. تعالي.


مد ذراعه لها؛ ليمسك بكف يدها متجهًا لأحد الكراسي، ثم جلس في مقابلتها مائلًا للأمام بجذعه ومستندًا بذراعيه أعلى فخذيه، فأبتدأت حديثها متسائلة بجدية :


_أنا امتى هستلم ورثي؟ 


لم يظهر عليه أي دهشة وكأنه كان على يقين أنها ستتحدث في ذلك الموضوع_وكيف لا يتأكد وهي لا تحدثه إلا به_ ناظرها بنفس جديتها وأردف بهدوء :


_أنا بس قلقان يتنصب عليكِ زي المرة اللي فاتت فبحافظ لك عليه معايا.


شرست ملامحها وردت بغيظ وغضب بدون إرادتها فقد سئمت من مبرراته منذ وفاة والدهما :


_هو أنت فاكرني بيبي؟! إيه بحافظ لك عليه دي؟! أنا الكبيرة على فكره وبابا كتبلك كل الفلوس علشان تحمي حقنا مش تأكله أنت!


أتسعت عينيه بذهول من تلك التراهات التي فجّرتها في وجهه "فهو أبدًا لم يكن بهذة الصورة البشعة المأخوذة له في عقلها!" ابتلع ريقه وسألها بإستنكار :


_أنا واكل حقكم يا رونا؟! أنتِ شيفاني كده؟ 


طوال عمرها تحقد عليه ليس لأنه شخصٌ سئ فلطالما كان درع الأمان لها، ودائمًا يساعدها ويلبي أغراضها، ولكن لكونه المفضل عند والديهما لكونه الذكر، فوالدها كانت عائلته من أثرياء يفضلون دائمًا خلفة الأولاد لأنهم يحملون إسم العائلة ويكونوا عصبة في الميراث! قضت حياتها تشعر بأنها أقل منه.. منبوذة من والديها، ولم يشفع لها مستواها الدراسي المذهل في إظهار بعض المحبة التي تظهر لـ "مالك" والدتها قربتها منها لكونها تحمل نفس تفكيرها الشيطاني، غرورها وعنجهيتها! تناولت نفسًا مطولًا ثم سألته بعدم صبر متجنبه الإجابة عن سؤاله وكأنها لم تسمعه :


_يعني امتى هاخد فلوسي واتصرف فيها براحتي؟


لم يكن يمانع من اعطائها حقها، ولكنه يخشى أن تخسرها كما خسرتها من قبل؛ قرر تهدئتها الآن بتنفيذ بعضًا من مطالبها فهو لا يملك الكثير من المال في تلك الفترة، بالإضافة لإعطائها الوقت للتفكير في أمر استثمارها معه :


_طيب ممكن جزء دلوقتي والباقي تستني عليا لغاية ما المشروع يخلص وتاخدي من أرباح المشروع ويكون ليكي أسهم فيه! 


انفجرت براكين الغضب بداخلها؛ فما وصل إليها كان صحيحًا.. استثمر أموالها بدون معرفتها :


_أنت إزاي تسمح لنفسك تخدعني بالشكل ده؟ هي دي وصية بابا؟ بتستغل إنه كتب لك الفلوس وتنصب عليا؟ 


_أنا مش نصاب حافظي على كلامك! فلوسك معايا بس شغلت جزء منها مع فلوسي وفلوس ماما بدل ما هي مركونة في البنوك.. أنا مخدتهاش حطتها في جيبي يا هانم وأنتِ طلباتك كلها مجابة.


لا تنكر بأنه لم يقل سوى الصواب في كل كلمة ولم يخطئ ولكن النهاية اقتربت بالفعل وهم من خطوا سطورها وليس هي فأشارت بسبابتها في وجهه محذرة :


_طلباتي المجابة دي فهي حقي، وأنت مش بتصرف عليا من جيبك؛ فأوعك تفكر إنك كاسر عيني أو بتتفضل عليا بيهم، وأنا مش هسمحلك بأي تطاول أكتر من كده!


وقف مصعوقًا من تلك الحالة التي ظهرت عليها أخته.. غير مستوعب لهذة الكراهية المكنونة له بداخلها، وضع إحدى كفيه على وجهه يفكر فيما يجب عليه فعله الآن حتى لا يزداد الوضع سوءًا، بالإضافة لحالته غير القادرة على الجدال؛ فأردف أمرًا : 


_ممكن تخرجي ونتكلم بعدين!


_أنا هسيب البيت يا مالك بس اتاكد إني مش هرجع إلا بعد ما أخد حقي!


أجفلته نبرة التهديد في صوتها وازدادت همومه واحدًا وكأنه كان ينقصه الشجار على الميراث في ذلك الوقت.


بينما على الجانب الآخر خرجت "رونا" من الغرفة صافعةً الباب خلفها بقوة لتتفاجئ بـ "روان" التي وصلت للتو ولم تستمع سوى لجملتها الأخيرة؛ فتسائلت الأخيرة بتردد :


_أنتِ هتسيبي البيت وتروحي فين؟


كانت الشياطين تتراقص أمام عيني الأخرى.. تكرهها وبشدة! ولمَ لا؟! وهي من ستتمتع بأموالها بدلًا عنها! همت لتزجرها بفظاظة ولكنها تراجعت في الثانية الأخيرة؛ خوفًا من إفساد مخططها، أظلمت ملامحها بشدة وحل الوجوم محل الغضب ثم أجابت بإقتضاب : 


_مش عارفه!


_لو حابة تحكي قوليلي يمكن أقدر أساعدك.


قالتها "روان" بحكمة، فأسرعت الأخرى بنبرة صارمة :


_بعدين يا روان.. أنا محتاجة أكون لوحدي.


هزت الأخيرة رأسها بتفهم، ثم أردفت مقترحة :


_لو تحبي تقعدي في شقتي يومين لغاية ما تهدي، أنا معنديش مشكلة.


تحركت مقلتا "رونا" بدهشة سرعان ما تحولت لتفكير شيطاني نتج عنه فكرة عبقرية لن تُعوض؛ فهزت رأسها بلهفة وامتنان لم تستطع أن تخفيها لأن تلك الفرصة لن تتكرر :

 

_Thanks Rowan.. Thanks a lot.


أندهشت "روان" لسعادتها المبالغ بها من وجهة نظرها وضحكت بعدم تصديق.. أما عن "رونا" فتوسلت برجاء وملامح منكسرة مثلتها ببراعة :


_please, ممكن مالك ميعرفش


_ليه؟


سألتها "روان" بإستغراب؛ فردت الأولى بتلقائية دون أدنى تفكير :


_علشان ميحصلش مشاكل بسببي ومالك يزعل منك!


أومأت "روان" برأسها على مضض، ولا تدري لمَ ضربات قلبها عنيفة هكذا بالإضافة لذلك الثِقل الجاسم على صدرها.. ألإنها حفرت قبرها بيديها وانتهى الأمر!



يُتبع