-->

اقتباس - الفصل الثلاثون - كما يحلو لكِ - النسخة العامية



الفصل الثلاثون

النسخة العامية

اقتباس 


ليس هناك أسوأ من افتراق محتوم عندما يقر به الطرفان وهما يشعران بمثل المشاعر بعد العديد من المحاولات، والكثير من الغفران، وفيض من التعلق غير المفهوم لأي منهما، ولكن ما بُني على باطل لطالما سيظل وسيبقى باطلًا حتى النهاية..

 

بعد تجارب شتى في مُثابرة من كلا الطرفان بإنجاح علاقة أساسها مهتز، لا تحتوي سوى على عشق حافل باضطرابات، وانجذاب جسدي لم يخل من الإهانة والعنف وعدم الرضاء، وتفاهم طفيف وكلمات حافلة بمحاولة خلق قصة مُعينة يتشبث كل طرف بتفاصيلها كما تصور ويريد تحقيقها كما يحلو له ولا يقبل سوى أن تكون كما أراد، لن تستطيع النهاية سوى أن تكون واحدة..

 

وقع العشق وتحول لهيام، الانجذاب الحميمي بلغ أقاصي الأرض وعنان السماء، تحسُن ملحوظ بالتفاهم الظاهري، وهنا تكمن المُشكلة، العقل أولًا وبعدها يتبعه القلب والانجذاب وأي من مصاعب الحياة في حالة من التلقائية الخارجة عن الايدي.. وعقلان كعقليهما لا يستطيعان الاتفاق ومريضان بالتصميم، يستحيل لأي منهما أن يصلان لنقطة تلاقي إلى أن تقوم الساعة لأنهما وببساطة من منظور أو آخر يتشابهان تمامًا مثل الطريقان المتوازيان!

 

بأعماق عقليهما تجري نفس المُعادلة، خدعها وخدعته، كذبت عليه وفعل المثل، غفرَ لها وغفرت له، تعامل آلاف المرات بخبث ولكن فعلتها هي مرة واحدة من أجل فرار حتمي.. وكلاهما من شدة صدماته بالآخر لا يُريد سوى ما يحلو له، وبأعماق كلاهما تحديدًا هي تريد الفرار، وهو لا يستطيع سوى رؤية الانتقام..

 

من يخدع من؟ هل تظن أنها فعلت ونجحت بالأمر؟ لن تحلم بأسوأ كوابيسها بما ينتظرها!! يا تُرى؛ هل رأت تلك الفتاة التي تضررت على يديه؟ سيكون كل ما حدث لها مجرد ذرة من قطرة في محيط مما سيحدث لها!

 

أم يظن هو أنها لم تتعلم الدرس مليًا؟ هل تظن أن رؤيته يدعي تزييف ملامحه وهدوئه وبراعته في أن يكون ساكنًا كالتبن الذي سكن على المياه سيُفلح بمكره؟ لم يعد بداخلها ما قد يدفعها لهذا!

 

تذكرت كل نصائح "مريم" لها، وتحاملت على ذعرها، لا تريد أن ترى أخيها صريع حادثة سير، ولا تتمنى رؤية والدتها في غيبوبة قاسية كما تعرضت لواحدة بالفعل عند موت والدها، هي فقط أطمئنت أنهما غادرا هذا المنزل البارد الخالي من الحياة كصاحبه تمامًا.. ولو كانت محظوظة ستلحق بهما!

 

-       دادة اسمعيني كويس..

 

همست لمُربيتها التي عاونتها في أن تقنع والدتها وأخيها بالعودة إلى منزلهم لكي يكونان بسلام بعيد عن هذا المنزل الذي تقشعر من مجرد فكرة التواجد به! على كل حال هي لا تريد سوى أن تخرجهما أولًا من هذه الدائرة التي لا ذنب لهما بها وبعدها تنجو بنفسها، فهي تتذكر كلماته، هو يستطيع بمنتهى السهولة أن يقوم بإيذاء أيًا منهما في غمضة عين!

 

-       أنا دلوقتي احتمال اخرج معاه، ومش عارفة هرجع امتى، انتي لازم تسيبي البيت حالا وتمشي والسواق برا مستنيكي.. أنا بعتلك رقم أخوه عشان يمكن ده الوحيد اللي يعرف يتصرف لو فيه حاجة، وبلاش خالص يونس ويارا وجوزها يتدخلوا في الموضوع.. كل اللي هتعمليه إنك تخلي اخوه يسمع الرسايل اللي بعتهاله، أنا بسجله كل حاجة بتحصل ما بينا ووقتها ممكن نمسك التسجيل ده عليه صوت وصورة، عايزاكي لو اتأخرت تقولي لعلا تيجي تاخده وهي فاهمة كويس هتعمل ايه، أهم حاجة مامي وبسام ميخرجوش من البيت من غير الأمن اللي علا بعتته.. لو عرفت اطمنك عليا هطمنك بس ارجوكي بلاش حد يعرف حاجة خالص دلوقتي، انتِ بنفسك شوفتي مامي جرالها ايه لما بابي مات.. مش هاستحمل يجرالها حاجة بسببي.. ولو اتأخرت يومين تلاتة قوليلها إني في مؤتمر وراجعة وعمر مشغول وعنده قضايا.. يومين بالظبط لو مكلمتكيش عرفي اخوه!

 

همست لها على عجل وودعتها والأخرى تنظر لحالة الذعر التي تتواجد بها فهتفت بها بلهفة:

-       طيب استني يا حبيبتي، مش يمكن لو كلمتي والده يقدر يتدخل ويحل المشاكل ما بينكم، أنا مش هاينفع امشي واسيبك كده لوحدك!

 

أومأت لها بالإنكار وهي تتذكر كلمات "مريم" عن والده الذي خلق بيديه شخصية هذا الرجل الفاسد الذي تزوجته كما تذكرت كلمات "رضوى" ابنة أخيه هو نفسه عنه وابتلعت في خشية ثم تذكرت شيئًا ما لتقول بأعين توسعت بفكرة جيدة:

-       اه اسمعي، عُدي خليه يوصل لابن عمه أنس ومراته رضوى، ممكن يقدروا يلاقوني بسهولة لو حاجة حصلت والمشاكل ما بينا كبرت.. مش هوصيكي يا دادة على مامي وخدي بالك منها!

 

عانقتها بوداع ولم تستطع منع تلك الدموع التي فرت منها وتوجهت للأسفل حيث رأته ينتظرها، هي لم تكن تفعل أي شيء سوى أن تطمئن على عائلتها أولًا.. فلقد تعلمت أن ما تقرره وحدها عليها أن تتحمل عاقبته وحدها.. وإلا ستكون مثله تمامًا مريضة وستتمادى بمرضها وهي تُسنده إلى الواقع المرير الذي ليس هو وحده من يتوقف عليه أفعال المرء.. هي من تزوجته بتوقيع بكامل ارادتها على عقد زواج بمنزله بعيد عن أعين الجميع فلم تكن والدتها هناك ولم يكن أخيها حاضرًا وعليها أن تتخلص من الأمر بمفردها تمامًا..

 

كانت فقط تكسب بعض الوقت ليس إلا بما أعدته له كي تستطيع أن تُثبت لو اذاها بشيء ولقد أخبرت "علا" بما عليها فعله، لم تضع وقتها هي الأخرى مثلما فعل هو، فلقد تعلمت منه على كل حال!!

 

هي لم تفقد عقلها بعد لتوافق على الذهاب معه لأي لعنة، تريد أن تطمئن أن هناك من سيساعدها ولو بأي شكل من الأشكال فهي لا تضمن ما الذي سيسوله له عقله المريض بصحبتها لو أصبحا بمفرديهما.. ولا تتصور ما قد يحدث وهي بين أخيها ووالدتها!

 

هل تبكي حقًا؟ لمَّ؟ لأنها خائنة؟ أم لأنها كاذبة وخبيثة؟ ربما تبكي لأنها خائفة؟ وأين هذا الرجل الذي لاذت بالفرار إليه حتى يحميها من بطش رجل متلاعب؟ لا هي ولا هو ولا البشر بأكملهم يستطيعون منعه عما يُريد الحاقه بها!

 

توجه نحوها وهي تهبط من على الدرج الداخلي للمنزل برعبٍ شديد قرأه بعينيها ولكنه يرى كذلك التصميم بعسليتيها الباهتتين من شدة البُكاء، ما الذي حدث؟ هل هذا المخـ نث أخبرها أنه لن يُصبح لها سوى بعد طلاقها منه؟! أم هو يعمل بالفعل على ما وجداه؟!

 

-       أنا يستحيل اروح معاك أي حتة، ومفيش حد في البيت وممكن تتكلم براحتك!!

 

أخبرته بقوة ظاهرية حاولت التمسك بها بصعوبة شديدة ليدعي الصدمة ثم سألها:

-       خلاص خلينا نتكلم، ممكن أفهم فيه ايه يا روان؟ انفصال ايه اللي بتتكلمي عنه؟ احنا كنا كويسين!!

 

يريد تحقيق أمر وحيد فقط، أن يقنعها لمرة أخيرة بمصداقيته بالرغم مما يضمره بداخله لها، فقلبه المحترق قد بات رماده يخنقه وعقله الذي يأبى كل شيء سوى الانتقام لا يُريد سوى أن يحقق ما يحلو له!

 

ارتجفت ملامحها وهي تخشى النظر له بعد أن رأت ما رأته بصحبة تلك الفتاة ثم حدثته بصوت مهتز:

-       أنا مش هقول كلام كتير مالوش لازمة.. أنا عارفة إنك عرفت وتمثيلك عليا مش هصدقه المرادي، وحتى لو معرفتش فأنا بعرفك، أنا بقا معايا حاجات كتير لو طلعت قدام الناس مش هتبقى نفس المحامي بنفس سُمعته، غير أدلة كتير متأكدة إن ليها علاقة بقضايا مهمة.. فأرجوك لآخر مرة بقولك طلقني من غير مشاكل!

 

نظر لها بتأثر شديد وهز كتفيه ثم تسائل بذهول وكأن ما فعله أمر عفوي للغاية بينما في الحقيقة هو مجرد رجل مزور مُلفق ومخادع:

-       ما انتي كل اللي لاقتيه أنا صارحتك بيه! ايه المشكلة إن يبقى معاكي كل حاجة عني؟!

 

اقترب منها ففزعت وهي تنكمش على نفسها بينما ترجم هو كل ما يحدث بأنها لا تطيق لمسته عليها من أجل رجل آخر فتوقف عن حركته التي كانت مجرد اختبار لها وحدقها بحزن مزيف وأخبرها بشجن وهو يرمقها بجدية وانحنى كتفاه وكأنه يستسلم لموت وشيك:

-       بس لو ده اللي انتِ عايزاه يبقى تمام.. هطلقك.. بس عشان كل اللي معاكي ده ميهمنيش، عشان ارضيكي في الآخر..

 

تعالت أنفاسها ارتباكًا ثم أخبرته بنبرة مترددة اهتزت بذعرٍ عندما تذكرت ما رأته يحدث لتلك الفتاة:

-       اللي معايا أنا مدورتش عليه عشان بس اساومك عليه، اللي معايا خلاني اشوف حاجات كتيرة على حقيقتها، وأنا مش هاقدر أكمل مع إنسان يقدر ينام كل يوم وهو بيتعامل مع كل الظلم اللي ظلمه للناس في حياته كأنه حاجة عادية.. ومش بعيد في يوم يعاملني زيهم! ده لو هنعتبر إنك مكونتش ناوي تعاملني بنفس الطريقة من البداية!

 

انهمرت دموعها وملامحها ترتج بشدة بين الخوف وبين تلك الأحداث التي عايشتها معه ولم تغفل عن عقلها المصمم على تذكر كل ما رأته صباح اليوم بينما لم تهتز به شعرة، ولم يتأثر ببكائها الزائف..

 

هل تريد أن تُلهي عقله بهذه الحِجة الواهية، يا لجنس النساء، يستطعن ببراعة إلقاء اللوم بتصويب أناملهن على الرجال وهن في غاية الضعف وكأنهن ملائكة، لم يرتكبن ولو خطأ واحد!

 

وكأنها لم تقم باستغلاله، وكأنها لم تقم بخيانته، بل وتريد أن تنفي كل شكوكه وتُنسيه إياها، بعد تعلقها الغريب بابن خالتها، بداية بمكالمة ثم تلامس رآه بأم عينيه واختار أن يُكذبه ثم بعدها لقاء لم تظن أنه سيعلم عنه شيء، والكثير والكثير من الذهاب له بمنزله خاصة البعيد عن منزل عائلته، هل تظن أنه لم يعلم ما فعلته أثناء تلك الفترة التي لا يستطيع تذكرها؟ والآن هو المُخطئ.. يا له من جنس عجيب!! الكلب لن يفعل هذا بصاحبه، على الأقل لديه صفة الوفاء التي لا تتصف هي بها!

 

تأتي هي تُمثل البراءة بل وتلقي باللوم عليه وكأن كل ما فعلته لم تخطئ به، هل حقًا تظن أنه مغفل وساذج لهذه الدرجة؟! ليُريها سذاجته إذن، هل ظنت أنها تستطيع فعل كل ما يحلو لها لأنه يعشقها؟! العشق لطالما كان خطأ، ولكن سيتحمل كل عواقب خطأه!

 

مجرد أن يرى هدوئها عاد من جديد سيتوقف، لا يريد فقط سوى أن يخدعها، أن يحقق تلك الغاية الدفينة بداخل نفسه أنه يستطيع فعل أي شيء وكل شيء وهو يقنع من أمامه بأمر زائف، لن يتوقف حتى يحصل على تلك المرأة التي ظن أنه عرفها حق المعرفة يومًا ما ولو بحيلة صغيرة، يُريد أن يثبت لنفسه أنه يستطيع فعلها فقط لبعض اللحظات الأخيرة بينهما!

 

أخرج هاتفه ثم هاتف نفس سائقه الذي لتوه صرفه صباح اليوم وأخبره أنه بإجازة مفتوحة بينما ابتلعت وهي ترتعب من قراراته الفُجائية وظل يحدقها بأعين لائمة واتخذ خطوة للخلف مبتعدًا عنها وبدأ في الحديث أمام عسليتيها المفزوعتين:

-       محمود، هاتلي مأذون وتعالى على البيت في القطامية!

 

لن تصدق أفعاله حتى تحصل على فرارها منه، حتى ولو ينظر لها بهذه الطريقة، وحتى لو كان المأذون على بُعد دقيقة واحدة منها، ولو اتضح أنه سيفعلها بدون كل ما ظنت أنه سيقوم بفعله عندما يعلم أنها طوال تلك المدة كانت تخدعه!

 

أغلق هاتفه ثم حدقها من جديد من أعلى رأسها لأخمص قدميها وابتسم لها بحسرة مزيفة وأخبرها بمنتهى الهدوء وكأنه لا يحترق بداخله:

-       أنا هاستنى برا لغاية ما المأذون يجي..

 

لمحته بصدمة وعينيها لا تصدق أنه التفت وغادرها لتجده يتوقف في منتصف الطريق والتفت لينظر إليها ثم ألقى بكلماته بعدم اكتراث حقيقي:

-       وعلى الفكرة كل اللي معاكي هيوفر عليا كتير أوي مع يزيد الجندي، يا إما هيتشغل بعيد عني عشان يطلع ابنه براءة، أو أخيرًا هيقبل حقيقة إني سبت البلد كلها وهربت، وعلى ما القانون بقا ياخد اجراءاته ويتحكم عليا في كل حاجة أكون عشت حياة حلوة اوي بعيد عن حياة مختارتهاش!

 

لمحها باستخفاف وصدر لها تلك النظرة التي لم تكن سوى حقيقية، هو صادق في كل ما قاله بالإضافة إلى تأكيده التالي:

-       ده يعني لو يزيد الجندي بمعارفه وقرايبه مقدروش يلم الموضوع كله في غمضة عين!

 

ضحك بخفوت ساخرًا ليجد لديه رغبة حقيقية في الضحك دون ادعاء ثم أخبرها بين ضحكاته:

-       عارفة، أحيانًا الحاجة الوحيدة اللي بتصبرني عليه إحساس إني مسنود، من زمان أوي، من أيام ما كنت في المدرسة! بس اقولك، جربي كده تقدمي الورق ده في أي مكان وخدي اجراءاتك وشوفي إيه اللي هيحصل!

 

قال جملته الأخيرة بعدم اهتمام حقيقي ثم تركها وغادر للخارج وتركها تعاني بعقلها بين تهديده الخفي لتتنعم بآخر لحظات الهدوء الذي يسبق عاصفته التي لن يقبل سوى أن تُنسيها اسمها!

 

❈-❈-❈



هناك عدة قواعد للتعامل مع مثل هذا النوع من النساء، لا مواجهة، لا تلامس، وليدعها تظن لبعض الوقت أنها أحرزت هدفًا بالفوز، في المباريات الصعبة ضد الخصم يكون من الذكاء تركه يظن أنه أوشك على الفوز، وهذه هي مباراة حياته، ضد زوجته وليس مجرد فتاة ارتبط بها، ومصيبته أنه عشقها عشق لم يُخيل له أنه سيصل له مع امرأة.. وعلى مقدار العشق يكون الانتقام.. معجمه لا يقبل سوى هذا!

 

لو خدع "يُمنى" عامان كاملان، ما الذي سيفعله معها؟ هل يكتفي بأن تنسى كل شيء عداه هو؟ يُمكنه أن يُنسيها اسمها حرفيًا.. وتلك المرأة التي كانت مستمتعة أسفله بممارسة العلاقة الحميمة وهي تتحمل العـ نف الشديد لن يكون معها الضرر الجسدي التصرف الأمثل، هو يُدرك جيدًا ما الذي يؤثر بها.. يا لها من كارثة أن تخطأ مع رجل مثله يعلم مليًا ما يؤثر بنفس من أمامه!

 

كان يُراهن نفسه بشدة على ملاحقتها له، امرأة مثلها لن تذهب دون اغلاق لهذه الخديعة باحترافية منها لتخرج من هذه العلاقة وكأنها مثالية لم تخطأ بشيء!

 

أخرج هاتفه ثم أرسل إلى سائقه بأن يلغي حضوره هو والمأذون واستعد تمامًا لتلك اللحظة التي ستظن أنها قد أوشكت على الانتصار عليه، ذهب لسيارته وأخرج منها قفاز جلدي فهو يستحيل أن يلمسها ولو مرة واحدة بعد كل ما عرفه عنها فلقد باتت مُلوثة مُتسخة لا ترقى للمسته..

 

أخرج قطعة قماشية ثم سكب من هذا المخدر بغزارة وهو يحاول أن يمنع نفسه عن استنشاقه فلقد استطاع أن يتناوله من طاقم طبي كامل مُهيئ أسفل تصرفه واعطوه كامل الارشادات الطبية لاستخدامه وانتظر قدومها الذي يعلم أنه وشيك للغاية ثم ادخلها بجيب بنطاله وتمنى أن تكون فعالة عندما تأتي، ربما عليه أن يحتفظ بالزجاجة في جيبه الآخر، فتناولها واستعد لما يقدم عليه وانتظر بهدوء!!

 

لقد أعد كل ما سيحتاج له في ساعة واحدة، وكل ما يستطيع فعله كان بمجرد مفاوضة بعض العملاء على قضية قد تودي بحياتهم للأبد وكل ما يريدونه هو البقاء بسمعة جيدة ومواصلة أعمالهم، غريب للغاية تشبث هؤلاء التافهون بحياة سيئة!!

 

لوهلة أثنى على ما فعله.. وعلى ما يحدث بهذه الأثناء، فهناك جيش بأكمله يجهز لها ما لا تتصوره، لم يتبق فقط سوى وضع لمساته الأخيرة، وبعدها سيحاول أن يُرتب كل الأدلة أمام عينيه ليرى كيف سيقتلها بيديه كعقاب على خيانتها له التي يبدو أنها اعدت لها منذ مدة لا بأس بها وكان هو هائمًا بسذاجة في عشقها وثقته بها!

 

تفقد الوقت وحدد نصف ساعة بساعة يده، مراهنة أخيرة بينه وبين نفسه أنها ستأتي في النهاية، وكما فعلت هي وقامت بصرف كل من في المنزل لتبقى بمفردها معه، صرف هو الآخر كل العاملين والحراس والسائقين.. يا للسخرية، لو يعلم كلاهما كم هما متشابهان لتوقفا عن أفعالهما! 



❈-❈-❈

لم تصدق ردة فعله، لا تثق به اطلاقًا، أم هي الصدمة تجاه كل ما يحدث لها؟ لا تعرف كيف تصف ما تشعر به، ربما هي تقارب على فقد عقلها للأبد بسبب واهي تافه، رجل جذاب ناجح عرض عليها الزواج وقد قبلت هي به، والآن تشعر بالذعر بعد أقل من عام، كيف للحياة أن تتحول لتصبح هكذا؟!

 

بدأت الدقائق تمر، وهي لا تدري هل ما تفعله هو غباء أم ذكاء، بعد ما رأته سيكون من الغباء أن تقوم بتهديده، هو قادر على فعل الكثير بالفعل، لابد من أن الكثير من القضايا التي حصل بها على تبرئة موكليه قد لاقى الكثير من التهديدات أثناءها.. لقد كانت "مريم" مُحقة بذلك..

 

عقلها سيغادر رأسها التي قاربت على التوقف، ربما القليل من المحاولة بعد ستُنجيها منه.. أخرجت هاتفها ثم أرسلت رسالة أخرى إلى "عُدي" ولم تكترث بكل تلك الرسائل الأخرى التي وردت لها وطبعت بسرعة:

-       عُدي أرجوك اسمع اللي بعته، الموضوع مفيهوش هزار.. أنا بجد مش عارفة هاعمل ايه ولازم تلحق عمر!

 

زفرت وهي تحاول أن تتحمل ورمقت ساعتها لتجد أن الوقت يمر بتباطؤ وكأنه لا يريد أن ينتهي فحملت هاتفها ثم اتجهت للخارج، ربما ستستطيع الصراخ وأحد سيُنقذها منه أو يكون شاهدًا لو فعل بها أي شيء هذا إن لم يقم بابتزازه وتزوير شهادته، على كل حال لقد كانت مخاطرة منذ البداية بأن تتزوج بهذه الطريقة وهي تغفل عن كل الإشارات بمنتهى الغباء، ولكنها ستتحمل حتى النهاية!

 

نظرت بالحديقة التي وجدتها فارغة بالكامل ثم لمحت البوابة الخارجية فلم تجد حتى حارس البوابة فاتجهت للمرأب لتجده مستندًا على نهاية سيارته ولم يكن هناك سواه وهو عاقدًا لذراعيه وتفقدها بملامح لم تستطع قراءتها بينما بداخله قد فاز بالرهان في خلال عشرين دقيقة ليس إلا..

 

-       عمر أنا عايزة اقولك حاجة أخيرة!

 

تفقدته ولم تُصدق أنه بهذا السكون الشديد وحافظت على مسافة جيدة بينها وبينه ورغمًا عنها امتلأت عينيها بالدموع لا تدري هل من خوفها أم من أجل مشاعرها أم بسبب ما أوشكت على قوله وانهمرت دون تحكم منها وهي تنظر له وهو لا يُحرك ساكنًا:

-       أنا حبيتك اوي، فوق ما تتصور، عملت حاجات كتيرة اوي عشان جوازنا ده يكمل، بس أنت مسبتليش حل غير ده، كان لازم اشوف بعيني حقيقتك لأن كل كلمة منك كنت بلاقيني بصدقها من غير تفكير، وأنت اللي علمتني كل اللي عملته لغاية ما وصلت للورق اللي بين ايدي وكل حاجة كانت في الأوضة دي!

 

أومأ لها ببرود شديد وقرأت على ملامحه عدم الاكتراث والبرود التام فلم تكترث سوى بما تود قوله وتوقفت عن محاولة فهمه فلقد حاولت آلاف المرات وفشلت كثيرًا لتجهش بالبكاء وأكملت كلماتها بحرقة:

-       أرجوك بعد ما نتطلق، لو حبتني زي ما قولت فكر في مرة واحدة بس تروح لأخصائي نفسي، مش عشان السادية اللي أنت مقتنع انها مش مرض أصلًا بس أنا طول الفترة اللي فاتت دي كنت عارفة إن عندك اضطراب ثنائي القطب، bipolar لو تسمع عنه!

 

وجدت لسانها يتثاقل بينما لمحها وهو يستخف بداخله مما تقوله، الآن تود أن تصوره كمختل عقلي، يا لها من غبية، هل تظن أنه سيُصدق؟!

 

ظل ناظرًا لها ولم تتغير نظرته بينما تابعت وهي تتحدث له بمصداقية وعقلها مشوش لا تعرف من أين تبدأ فهي لم تتوقع هدوئه هذا وموافقته على انفصالهما بهذه السهولة:

-       أنا مستعدة اساعدك، ويمكن لو فهمت كل اللي مريت بيه من نوبات اكتئاب وهوس في حياتك هتقدر تفهم أنا ليه مقدرتش استحمل.. يمكن بعدها نرجع لبعض تاني بس صدقني أنا بقيت خايفة من كل يوم معاك

 

ارتجف جسدها بشدة وهي لا تسيطر على تلك الحالة التي تتحكم بجسدها بسبب البُكاء ثم تابعت وهي بالكاد تتنفس بين بُكائها:

-       أنت كل شوية بحال، واظن أنت فاكر الفترة اللي قبل ما نسافر المكسيك، ساعتها جاتلك نوبة هوس شديدة اوي، ده سبب إنك نسيت كل حاجة، مش عارفة أقولك ايه ولا اشرحلك ازاي الموضوع محتاج حد يفهمك ازاي حصلك ده، بس أنت مفوقتش منها في الآخر غير بعد ما كنت بحطلك ادوية في الأكل.. عمر أنت كنت بتغتصبني كل يوم مرة واتنين وتلاتة، بتولع في البيت، وعايز تنط من البلكونة، مكونتش بتنام، كنت بتاكل بطريقة مش طبيعية وبتشرب كتير اوي وبتصرف فلوس بشكل مش طبيعي وفاكر كل الناس ضدك.. واتحايلت عليك مليون مرة نروح لدكتور وأنت رفضت!

 

حاولت التنفس بين شهقاتها ليقترب منها بخطوة واحدة وادعى الاندهاش والصدمة:

-       انتي بتتكلمي بجد؟ ازاي أنا عملت كل ده؟ أنتي تقصدي إن كل اللي حصل وقتها أنا مكونتش واعي للي بعمله؟ ازاي؟!

 

ليس هناك أفضل من ادعاء تصديق من أمامك وموافقته بشدة، حسنًا، هو رجل مجنون، فليُصدق هذا ظاهريًا، بينما حقيقة أنها تحاول أن تُثبت أنه رجل مجنون بمرض عقلي كفاقدي الأهلية الذين يُعطى لهم أحكام مخففة بسبب اضطراباتهم بقضاياه، لن تُفلح هذه الحيلة معه، فلقد احتال بها على العديد من المستشارين والقضاة وهو يفر بموكله بعيدًا عن حكم الإعدام.. أمّا هي فلن تستطيع إقناعه بتخفيف حكمه النهائي عليها! فبعد ما فعلته لقد أصبحت ميتة بالنسبة له بالفعل!

 

أومأت له بالموافقة ولم تستطع أن تتوقف عن البكاء وملامحها ترتجف بشدة ثم اجابته بإطناب وهي تحاول أن تقنعه للمرة الأخيرة بكل ما تعرفه عن حالته:

-       أنا عارفة إن مالكش ذنب في حاجات كتيرة، وعارفة إنه كان غصب عنك، بس الموضوع هتقدر تعديه، والناس كلها بتقدر تسيطر على النوبات بالأدوية، بس لازم تفهم وأنا هحاول اساعدك على قد ما اقدر.. مش معنى اننا هننفصل يبقى خلاص ممكن منرجعش لبعض تاني.. بس أنا مش هاقدر يا عمر استحمل أعيش وانت مش واعي لنفسك ولتصرفاتك.. أنت كنت هتموتني وتموت نفسك عشان بس مش عايز تروح لدكتور! يمكن لو حاولت محاولة أخيرة كل حاجة في حياتك تبقى احسن، ويمكن نرجع لبعض، بس طول ما أنت مصمم إنك تستمر كده من غير ما تفهم اللي بتعاني منه عمري ما هاقدر أعيش ساعتها مع راجل هيكون أبو اولادي في يوم ونصحى في لحظة نلاقي حياتنا اتدمرت بسبب نوبة هوس أو نلاقيك موت نفسك في نوبة اكتئاب ونخسرك!

 

ابتلع بصدمة وأخذ خطوة أخرى نحوها لترمقه بتردد وهي تلمح على وجهه عدم مقدرته على تكوين جُملة واحدة ورأت كيف انحنى كتفيه وكأنما لسانه انعقد بالكامل لتهتف به بمصداقية ولم تستطع التوقف عن بُكائها:

-       صدقني هتقدر تعدي كل ده، وهتكون احسن راجل في الدنيا، مش معنى اننا هنسيب بعض يبقا حياتك هتبقا وحشة، وممكن وقتها نرجع لبعض.. أنا بس محتاجة وقت، وأنت كمان محتاج وقت لنفسك قبل أي حاجة في حياتك، لا باباك ولا دراستك ولا يمنى ولا شغلك ولا حتى أنا..

 

حدق بها بصدمة ثم تلعثم قائلًا بملامح مذهولة:

-       عشان كده أنا مش لاقي إجابات على أسئلة كتيرة.. صح.. انتي صح!

 

انهمر المزيد من دموعها وبالكاد تنفست بين نحيبها ليُردف:

-       اوعدك إني هروح لدكتور..

 

هل صدقها؟! هل فعل؟! لا تعرف.. ولكن لقد أرضت آخر ذرة اكتراث من أجله بداخلها، ربما ستُشكل كلماتها فارقًا في يوم من الأيام!

 

ادعى نظره بالأرضية وكأنه شارد مُفكرًا بكلماتها بينما بداخله كان يقهقه على تلك الحيلة التي تظن أنها ستحتال بها عليه وهمس مخبرًا إياها:

-       ادخلي استني المأذون جوا وسيبيني لواحدي!

 

استكانت قليلًا وهي لا تُصدق أنه اقتنع حقًا ولكنها ابتعدت سريعًا كما أخبرها ليلتفت وهو يخرج الزجاجة وسكب منها على القطعة القماشية من جديد لكي لا تراه ثم امسك بها يُخفيها بيده وتبعها مهرولًا ثم ناداها:

-       روان.. ثواني.. أنا عايز افهم حاجة..

 

التفتت له بتردد لتجد يديه موضوعتين خلفه ليبتسم لها بحسرة ثم أخبرها لكي يُطمئنها ظاهريًا:

-       متخافيش مش هلمسك ولا هافكر اقرب منك ما دام انتي عايزة ده.. بس هسألك حاجة وعايزك تجاوبيني عليها!

 

ابتلعت وهي تتفقده بخوف لم يغادرها فهي تعلم أن ذلك الرجل الذي رأته بصحبة تلك الفتاة لابد من أنه يتواجد بداخله بمكان ما بينما أخذ خطوة نحوها وهو يسألها:

-       انتي تعرفي الكلام ده من امتى؟

 

لم تصدق أنه استجاب لكلماتها وحاولت أن تتذكر متى أخبرتها "مريم" بهذا الأمر ثم اجابته بتردد:

-       يمكن بعد ما اتجوزنا بشهر ونص تقريبًا

 

أومأ لها بصدمة ثم اقترب نحوها من جديد بعد أن سألها:

-       وانتي ازاي قدرتي تستحملي الفترة دي كلها معايا وأنا كده؟ ليه مقولتيش بدري؟

 

اجابته دون تفكير وهي تهتف بحرقة وقد نجح بالفعل في التسلل لعقلها:

-       لأنك كنت رافض أي علاج نفسي وبعدين أنا استحملت يا عمر عشان أنا حبيتك بجد وكل اللي كان نفسي فيه إني أكمل حياتي معاك..

 

وجدت الدموع تفر من عينيها من جديد بينما لأول مرة تؤثر به كلماتها لتمتلئ عينيه بمسحه خفيفة من دموع خلفها الحريق المتأجج بداخله وهي تتفانى في أن يُصدق أنه مجنون بالفعل وأنها لم تكن خائنة طوال كل هذا الوقت ولمصيبتها أنها تحتال عليه بحقيقة عشقها الزائف له!

 

ادعى صعوبة التكلم ثم تحدث بصوت مهتز:

-       أنا.. أنا مش عارف الكلام ده حصل ازاي، بس أكيد كنت هاحس لو اني مريض بجد.. يعني استحالة حد يبقا مريض بين يوم وليلة

 

اتسعت عينيها الباكيتين ثم أخبرته باندفاع واكتراث حقيقي بعد أن صدقت أنه تقبل الأمر:

-       يا عمر انت طول الوقت مُكتئب يا إما بتفكر في اللي حصلك زمان، ونوبة الهوس اللي نسيت فيها كل حاجة دي مكنتش مبرر كفاية بالنسبالك.. أنا فاهمة إن صعب تقبل حقيقة إنك مريض بس مبقاش فيه حاجة الطب بيوقف قدامها.. الواحد مبيحسش هو بيعمل ايه غير لما بيشوف نهاية أفعاله وتصرفاته.. أنا دورت بنفسي وكنت بروح لـ..

 

وهذه كانت كلمتها الأخيرة قبل أن يقترب في لمح البصر وبنفس اللحظة وضع تلك القطعة القماشية على وجهها وفمها وبعد محاولة فرارها من بين يد اعقدها على خصلاتها والأخرى التي تكمم نصف وجهها بها وهي ترمقه بذعر والدموع تنهمر من عينيها دون توقف لم تفلح في الفرار كما أنها لم تفلح في الاستسلام لهذا المُخدر القوي الذي جعلها تقع أمامه كالجثة الهامدة!

 

وقع هاتفها بجانبها فوضع القطعة القماشية بجيبه ثم تناول هاتفها ووضعه أمام وجهها ليستطيع المرور بداخله وسرعان ما توجه لتطبيق رسائل شهير يعرف أنها تستخدمه وكل ما وجده به لم يزده سوى تأكيدًا على أنها خائنة، وكاذبة، ولا تريد فقط سوى الاحتيال عليه لتتخلص منه من أجل رجل آخر!

 




يُتبع..