-->

الفصل التاسع والعشرون - الجزء الثاني - كما يحلو لكِ - النسخة العامية



الفصل التاسع والعشرون

النسخة العامية

الجزء الثاني

 

تجمدت بمكانها ثم انصتت مليًا لخطواته فوق هذه الأرض المبطنة بالكامل بالبساط إلى أن تيقنت من ذهابه ومن شدة صدمتها لم تستطع أن تتحرك ولو بمقدار أُنملة واحدة، كل ما ذهب إليه عقلها أن يكذب، أو أن هذا مجرد اختبار جديد..

 

كيف عساها أن تتوقع غير ذلك؟ لقد اعتادت الأمر معه، هو كاذب، ويضعها بمئات الاختبارات، وعند عودته بهاتفها لابد أن تُكمل حتى خط النهاية في هذه السباق المرير الذي أخيرًا لاح شريط الفوز على مرمى عينيها!!

 

ترددت لبُرهة بداخلها عما لو كان محقًا في مقصده، هل هذه ستكون البداية لعلاجه؟ أم هو يفعل شيء لا يقتنع به فقط من أجل أن يحصل على المزيد من عشقها؟ لا، لن ينجح في ذلك، مع أول عثرة وأول هوة سيتساقط بهوة امراضه إلى الأبد ولن يتغير أبدًا!

 

لقد عاهدها على الصدق ولم يفعل، لقد أخبرها أنهما لن يتواجدان بهذه الغرفة الجحيمية اللعينة ولقد دخلاها من جديد، لقد أخبرها أنه سيكون الرجل الذي تتمناه ومع أول نوبة أو ارتياب أو موقف طبيعي قد يحدث بين أي زوجين يُخالف كل ما كان عليه.. هي لن تقع في هذا الفخ مرة أخرى..

 

لم تعد تلك الساذجة الضريرة بالوقوع في العشق وحسب، فلقد تيقنت أنه هناك الكثير في الحياة أهم من العشق والانجذاب الجسدي.. ولو ستتملكها عاطفتها تجاهه عليها العودة برأسها حوالي أسبوعين ماضيين فقط لتتذكر كيف كانت كحيوان أليف بدخل قفص حديدي مُكبل من عنقه ولا يحق له التصرف كبنو البشر..

 

استمعت لخطواته من جديد فادعت ملامح التوجع بينما هي مستقرة على الفراش لا تتحرك ومازالت ممسكة بأسفل بطنها وهمهمت في آلم بهدوء لتستمع لصوت ارتطام بجانب الفراش ثم أحست به يقترب منها وانعكست شفتاه بقبلة مطولة على جبينها وأخبرها وهو يمسح على خصلاتها:

-       أنا جبتلك موبايلك وفتحته، ابقي طمنيني عليكي أول ما تصحي

 

همهمت له كاستجابة وفتحت عينيها مُدعية الإرهاق وهزت رأسها بالموافقة ثم اغمضت عينيها ليقبل وجنتها من جديد ثم همس بالقرب من أذنها:

-       هتوحشيني يا بنوتي..

 

التفت وغادرها بينما لم تر بعد ما تركه بجانب هاتفها ولم تدرك كذلك ذلك الانزعاج بداخله فبمجرد قيامه بتشغيل هاتفها وجد كمية من الاهتزازات التي لم تتوقف سوى بعد ما يقارب من أربع دقائق بعد كل تلك الاشعارات التي وصلتها!

 

كاد أن يذهب فوجدت نفسها تتكأ على يديها وهتفت تناديه:

-       عمر

 

استدار وحدقها بتساؤل فوجدها تنظر إليه بإرهاق وحزن في نفس الوقت ولم يكن يعلم أن تلك الأيام الماضية معها ستمثل له فارقًا للغاية هكذا وعاد من جديد ليجلس على طرف الفراش عندما قرأ حاجتها له بعسليتيها لتضمه بشدة وحاولت أن تتماسك ولا تبكي، هذه هي المرة الأخيرة التي ستقوم بمعانقته هكذا وسيضمها بين ذراعيه، لا تريد أن تذهب دون وداع بينهما وحتى ولو كان من جانبها.. ربما هي أنانية ولكنها لا تتحكم في هذا الشعور اللعين الذي يولده قلبها كلما نظرت إليه أو فكرت به!

 

-       بنوتي هما كام ساعة وراجعلك..

-       عارفة

 

سرعان ما همست مُعقبة بثقة ثم تابعت وهي تدعي التعب:

-       أنا بس كان نفسي تكون جانبي النهاردة، بس بردو شغلك لازم تخلصه، خليك بس ترجع كام يوم وبعد كده الأيام جاية كتير..

 

فرق عناقهما ليحدق بملامحها متفحصًا لتنظر له ببراءة وملامح مُتعبة، بعد ما فعله بها ليلة أمس يتعجب؛ لقد قاربت على فقد وعيها، أعجوبة أنها استطاعت الاستيقاظ بعد مرور القليل من الوقت، ولكن هو يعرف أنها تستيقظ دائمًا بسبب الألم ثم تغرق في نوم عميق.. هذا ليس بجديد عليها..

 

ابتسم لها بلين ثم قبل أناملها لتتابعه بعينيها وقبل جبهتها مرة ثانية ونهض لترفع عينيها نحوه وأشار لها مودعًا بابتسامة وملامحه تلك أفضل ما قد تتمنى أن تتذكره وتحفره في ذاكرتها عنه للأبد وقت افتراقهما..

 

سرعان ما ذهب للخارج ولم يكترث لارتياده "برق" حتى يذهب للخارج وحتى ولو بملابسه الرسمية ثم عدل قليلًا من هندامه واستقل الكرسي الخلفي للسيارة وانطلق بصحبة سائقه لمقر عمله وعقله مُشتت بين تلك المشاعر وبين أن يُهيئ لـ "يزيد الجندي" أنه حاول وهذه كانت محاولته الأخيرة.. يرضى أم يقبل، لا يكترث لهذه اللعنة بعد الآن، فلقد كانت "روان" محقة.. هو لم يعد طفل بعد اليوم ليُملي عليه ما يفعله، لقد طفح الكيل من اتباعه خطاه وقوانينه..

 

بالرغم من صعوبة الأمر وشبه استحالته، ولكن لكل قانون ثغرة يستطيع عن طريقها خرقه.. وفي خضم يقينه من هذا بمنتهى الإيمان.. نسي بالكامل أن شبه استحالة خسارة من يعشقها واستطاعتها خرق كل قانون سنه وتملكها لكل الثغرات كالخاتم بأصابعها ترتديه كيفما يحلو لها ستحدث في أقل من ساعتين تمامًا!

 

--

 

نهضت سريعًا بعد أن تيقنت من مغادرته للمنزل وبالطبع لم يكن لديها وقت لتضيعه، فاتجهت لتنخفض بجسدها وهي تستكشف كيف سيمكنها أن تتخلص من كل هذا البساط الذي غلف الأرضية بالكامل وليس له بداية من نهاية فأخذت تتبعه فلم تجد أي شيء فسرعان ما اتجهت لأسفل الفراش وأخذت تتحسس بيدها وجود ما يدل على أي شيء وبمجد تلمسها لشبه تجعيدات في الأرضية ارتفع نبض قلبها ارتباكًا.. لقد كانت "يُمنى" مُحقة..

 

اخذت تحاول التلفت يمينًا ويسارًا لترى كيف يُمكنها التخلص من البساط ولكن كونها زوجة "عمر الجندي" لوقت لا بأس به كان عليها أن تجد حل لكل شيء، فلقد تعلمت منه الكثير..

 

اتجهت حبوًا للخارج وجسدها بأكمله يؤلمها، فهي لم تكن تمزح، لقد اقتربت دورتها الشهرية بالفعل وما فعلاه بالأيام الماضية قد جعلها بالكاد تستطيع الوقوف على قدميها وبصعوبة تُحارب الشعور بسائر أنحاء جسدها المفتقر للراحة بأعجوبة!

 

تمسكت بالسرير وكادت أن تمسك بهاتفها بينما وجدت وردة حمراء وظرف ورقي لتدري أنه واحدًا من رسائله، ربما لاحقًا ستقرأها، ولكن أهم شيء الآن هو أن تستطيع الوصول لتلك الأوراق وترك المنزل قبل عودته..

 

اتجهت تعدو للأسفل ثم أمسكت بسكين حاد واتجهت من جديد لتعود إلى الغرفة ثم تركت السكين جانبًا وهي تشعر بارتباك هائل ثم تناولت زفرة مطولة وحاولت أن تزحزح السرير قليلًا لتنطلق زفرات مصحوبة بصوت متوجع منها وهي بالكاد حركته إلى الجانب قليلًا ثم لهثت من المجهود القليل الذي بذلته وجلست على ركبتيها وهي تحاول أن تمزق هذا البساط بأي طريقة فوق تلك التعرجات التي لمستها أسفل البساط..

 

في البداية بدا الأمر صعب للغاية ولكن كلما مزقت المزيد بدأت تلاحظ ما يبدو كباب مُغلق فلم تكترث بوجع يديها، لقد تحملت آلام وأوجاع شتى لا تضاهي هذا الألم في شيء، عليها فقط أن تُسابق الوقت وتسرع بالأمر!

 

 

تعلم أنها لابد من أن تعرف سريًعا عن هذه الخزينة حتى تستطيع أن تخبر "علا" مساعدتها الشخصية بإحضار هذا الجهاز الذي حضرته مُسبقًا وستستطيع عن طريقه فتح الخزينة نفسها أم أن مفتاح الخزينة هو الذي أعطاه لها بصحبة واحدة من رسائله بالسابق.. ستكتشف هذا عما قريب!

 

ستكون كارثة حتمية وقت اكتشافها أنه كان صادق، وكذلك كانت حبيبته السابقة!!

 

--

بعد مرور أكثر من نصف ساعة بقليل..

 

-       صباح الخير يا باسم

 

رفع "باسم" نظره نحوه وابتلع وقفز من مقعده وتعجب لرؤيته يبتسم بهذه الطريقة التي لم يلمحها على وجهه قط منذ أن عرفه، يا تُرى ما الذي حدث له بإجازته الطويلة تلك وجعله يبتسم هكذا؟

 

طرد تلك الأفكار سريعًا من عقله قبل أن يغضب ويصب غضبه عليه وتلعثم لوهلة قبل أن يكون جملة مفهومة ولكنه اجابه في النهاية:

-       صباح الخير يا مستر عمر

 

لانت ابتسامته أكثر بينما أملى أمره باقتضاب غير مبالغ به وهو يضع يديه بجيبيه:

-       تعالى معايا

 

ارتبك قليلًا واستطاع قراءة ذلك على ملامحه ليستمتع "عمر" بداخله على خوف هذا الرجل منه.. لا يصدق أنه بعد كل هذه السنوات معًا وبالرغم من أنه لم يؤذه سوى ببعض الغضب والكلمات دون مواقف جادة، ما زال يرتعب منه للغاية!!

 

مشى بتأني يتفقد صرحه الذي لا يعلم كيف بناه، أو؛ هو يعلم ولكنه يُريد الفرار من هذه الحقيقة المُرة للأبد، وهناك أيضًا ما لا يريد الفرار منه والتصريح به، كل هذا النجاح لا يجعله يشعر بالراحة، لا يريده، ولا يتمنى الاستمرار به، فرؤية كل هذا لا تذكره سوى بانتقامه من "يُمنى" واثبات ما يُمكنه فعله ليس إلا..

 

توقف بالرواق أمام احدى المكاتب ثم أشار نحو "باسم" فطرق الباب ثم تقهقر خلفه قليلًا ليخبر "عمر" صاحب هذا المكتب الذي قصده من البداية وأخبره:

-       تعالى يا كريم عايزك

 

مشى قليلًا للأمام ثم فعل المثل بمكتب قريب من المكتب الأول ونادى صاحبه الذي تبعه وهو يستمتع للغاية بنظراتهم المتسائلة وملامحهم المبهمة..

 

اتجه للجهة المقابلة من نفس الدور فهو يعلم أن هذان المحاميان بينهم الكثير من الود، مثل المحاميان في الجهة المقابلة، حزبان بشركة المحاماة الخاصة، رجلان ورجلان ونزال عنيف على الكثير من القضايا، وحرب دائمة بين الحزبين لا تنتهي..

 

فعل المثل ونادى الأول ثم الثاني ليصبح متبوعًا بأربعة من المحامين ومساعده الشخصي فعليه أن يجري بعض الاختبارات ليرى ما الذي سيفعله عندما يتوقف عن المحاماة للأبد، فكلماتها ما زالت تتردد بأذنيه حتى الآن!

 

دلف جميعهم مكتبه ثم جلس يتوسطهم ولم يغفل عن تلك النظرات المشحوذة بالضغينة بين الحزبين ليبتسم ساخرًا بداخله، لو تزوج بأربعة نساء ستتوافقن قبل أن يتفق هؤلاء الرجال أمامه!

 

زفر بعمق وتفحص ملامحهم ثم سأل واحدًا منهم وهو يتفحصه:

-       احكيلي كده عن أهم عشر قضايا مسكتهم طول السنة دي وقولي عملت فيهم ايه!

 

تعجب الرجل وارتبك ولكنه كان يتوقع هذا وهو يتقصد أن يصنع منه أضحوكة، فهو أضعفهم شخصية، التابع الأول لـ "كريم هيكل" وبالطبع لن يترك "كريم" أن تقع دميته للخدش أو التكسر، فكاد أن يتحدث بدلًا منه واعطاه نظرة جادة وأخبره بتحذير وهو يشير إليه:

-       سألته هو مش أنت، دورك جاي.. اهدى!

 

--

 لقد كانت هي صادقة معها بمكان الخزينة، ولقد كان هو صادق معها بما يخبرها إياه، لقد كانت هي محقة، ولقد كان هو كذلك، وعقلها قارب على مغادرة رأسها من شدة الصدمة!!


ارتجفت أناملها التي تغلف فمها وحاولت أن تستيقظ من صدمتها وهي تتلفت حولها بعد أن أضاءت نور وحيد، هذه غرفة وليست خزينة، وبابها الحديدي متروك بالفعل على مصراعيه مفتوح لأي أحد، والباب الأول الخشبي المثبت بالأرضية كان بالفعل مفتاحه ما أعطاه إياها، ولكنها لا تستطيع أن تصدق أن كل ما اختفى اثناء نوبة هوسه من حواسيب وهواتف خاصة بهما هما الاثنان قد وضعها هنا..

 

هل يُمكن أنه نسي الباب مفتوحًا اثناء نوبة هوسه الأخيرة؟ لو كان هذا التخمين حقيقي فستكون هذه أول مرة في حياتها معه تمتن بشدة لمرضه!!

 

تفقدت الغرفة حولها وهي ترى الكثير من الأوراق والملفات واقراص مدمجة وذاكرات تخزين، المكان يعمه الفوضى بشكل غير منطقي، لم ترى أي من أشياءه مبعثر بهذه الطريقة قط، على كل حال لم يعد أمامها سوى أن تتصرف وبسرعة..

 

بدأت تنظر بالأوراق لتجد بعضًا منها عقود، والبعض أوراق اتفاقيات، ثم ابتلعت في ذعر عندما وجدت أن كلماته بالرسائل كانت صادقة، هذه هي الهويات المزيفة لتلك النساء اللاتي ذكرهن بكلماته، بل والرجال؛ لكن الحقيقة موجعة، تختلف اختلاف شاسع عما تراه عينيها من صور أُناس لا تعرفهم مخطوط بجانب وجوههم من هم حقًا وفي أي بلد ولدوا!

 

حاولت أن تجمع كل ما استطاعت بالطبع لن تستطيع أن تأخذ كل هذا واتجهت نحو ما تعرفه، الأقراص المدمجة وذاكرات التخزين المحمولة، أخذت تضعهم فوق الأوراق بعناية ثم وجدت صورة تجمعه بـ "يُمنى" فوق قرص مدمج يبدو قديمًا وبجانبهما ذاكرة تخزين تبدو مختلفة وضعت بجانب خرقة غريبة وكأنها بقايا شيء ما قديم للغاية، فانتباها الفضول ولكنها جمعت كل ما استطاعت على دفعات وضعتهم على الفراش ثم حاولت الاستعداد لبقية خطتها، لن تقبل سوى الفرار منه ولن تهدأ حتى ترى كل ما هو عليه دون تجمل وكلمات مخادعة منمقة برسائله!

هناك شيء تعرفه جيدًا، تعلمته طوال حياتها، اكتسبته من خبرتها الطويلة بالعمل بمجال البرمجة، أي بينات في الحياة سواء كانت ورقية أو رقمية لابد من أن تُنسخ نُسخ عديدة احتياطية فهي لا تدري كيف ستكون ردة فعله على هذا!

 

هرعت سريعًا للهاتف الاحتياطي ثم قامت بتشغيله ومرت تلك الثواني إلى أن قام بالولوج لوضع الاستعداد وكأنها سنوات وسرعان ما هاتفت "عُلا" وبمجرد سماعها اجابتها أخبرتها قائلة:

-       علا، أنا هبعتلك السواق النهاردة، عايزة كذا Hard Drive يا ريت لو عندنا في الشركة تروحي تجيبي ويدخلو شنطتك ومفيش مخلوق يعرف حاجة عن الكلام ده، وتجيبي معاكي اللابتوب بتاعي القديم اللي متشال في المخزن وبتاعك كمان الجديد.. وتجيلي معاه، وتجيبي كل الورق المتأخر اللي المفروض امضيه، مفيش مخلوق يعرف حاجة عن الكلام ده.. السواق عارف عنوان البيت.. هبعتهولك.. ومتسبينيش مستنية كتير!

 

سرعان ما أنهت مكالمة واتصلت بسائقها الخاص الذي تتعامل معه قبل زواجها ثم أرسلته إليها وتناولت نفسًا عميق وزفرته وهي تحاول الهدوء، الانهيار والخوف والاندفاع لن يدفعوها سوى لاتخاذ قرارات قد تدمر كل ما توصلت له، عليها أن تهدأ حتى تستطيع التصرف وإلا كل ما فعلته بالأيام الماضية وكل ما تحملته لن يكون له فائدة..

 

توجهت للغرفة الجحيمية الأخرى وأمسكت بهاتفها الذي تركه لها وبمجرد فتحه وجدت ما يزيد عن خمسين رسالة من "يونس" بواحد من تطبيقات المراسلة الشهيرة ولكنها تجاهلت هذا تمامًا بصحبة الكثير من الرسائل غير المقروءة ووجدت أنه مر حوالي ساعة على مغادرته فقامت بالاتصال به فورًا لتستكشف ما الذي يفعله وهل يا تُرى اكتشف أمر التوكيل الذي حصل عليه بصحبة الأموال التي قام بتحويلها إلى حساب شركاتها أم لا!

 

كما أن عليها اكتساب المزيد من الوقت حتى تحضر "عُلا" وتعرف تمامًا ما الذي يفعله وكذلك عليها أن تُشغل عقله قليلًا حتى لا يكتشف كل شيء باكرًا! 

 ❈-❈-❈

 

-       الكلام ده محصلش، أنا ورأفت اللي اشتغلنا على القضية وفاكر اليوم ده بالذات لما طلبت مساعدة من عصام رفض، أصل كريم خلاص بقا ممضيه عقد احتكار ولا كأننا في شركة واحدة والمفروض نساعد بعض ولا هو مـ

-       ما خلاص!

 

صرخ بهم "عمر" بنبرة جهورية بعد أن اشتد جدال زعيمي الحزبين ليوقف حديثهم الذي يُصيبه بالتقزز ثم زجرهم جميعًا بنبرة في منتهى البرود الذي استطاع عن طريقه استفزازهم ببراعة شديدة فهو يعلم أن هؤلاء الأربعة سيظلون في معاداة إلى يوم الدين وربما سيكون هذا أمر من الأمور التي ستدفعه لإنهاء هذه الشركة والتخلص منها حتى ينتهي من شجارهم ولكن المنافسة بينهم هي في الصالح العام على كل حال:

-       انتو لو ضراير مش هتتخانقو كده.. هتفضلوا مكملين في شغل النسوان ده امتى؟ مكبرتوش على حركات العيال بتاعت زمان دي؟  

 

وجد هاتفه يهتز بداخل جيب سُترته فأخرجه ونظر به ليجد أنها تتصل به وتعجب لاستيقاظها مُبكرًا فوجه نحو الجميع نظرة مُهيبة وألقى بتعليماته:

-       محدش يمشي لغاية ما آجي، باسم، اطلبلي قهوة سادة!!

 

تركهم ثم خرج من هذه الغرفة بينما لم يكن يدرِ ما الذي فعله تأخره على الرد عليها بها، في خلال مجرد ثواني كانت فكرت في أسوأ التوقعات والسيناريوهات الممكنة التي قد تحدث لو اكتشف كل ما تفعله!

 

-       بنوتي الحلوة صحيت بدري أوي كده ليه؟!

 

اختلاف مائة وثمانون درجة بعد أن كان يصرخ برجالٍ اثنان منهما أكبر منه عمرًا، يتحول لهذا الحمل الوديع من أجلها بعد أن كانت نظراته تقتلهم رعبًا.. ربما هي لا ترى الأمر، ولكن بمجرد سماع هذه الجملة منه اطمأنت قليلًا واجابته قائلة:

-       التعب صعب أوي، مش عارفة ليه المرادي مختلف كده، مش عارفة أنام منه، قولت اصحى واعمل الأعشاب اللي كنت بتعملهالي يمكن ارتاح شوية، وبالمرة اشغل نفسي بالشغل وهنسى الوجع وخلاص..

 

اتجه ليجلس على كرسي بغرفة الاجتماعات القريبة وسألها باهتمام:

-       شربتيها طيب ولا لسه؟

 

توسعت عينيها في قلق واجابته بثبات:

-       أنا لسه اهو هانزل اعملها.. كلمتك اول ما قومت على طول من السرير زي ما قولتلي..

 

سرعان ما توجهت للمطبخ وكأنها تصنع شيء ما فهي لا تدري قد يرتاب بسماعه أنها لا تفعل شيء، وربما هناك كاميرا مراقبة في مكان ما لا تعلم عنها، وبالفعل شرعت في صنع القهوة ليجدها يهمهم برضاء وعقب مُطريًا:

-       حلوة بنوتي اوي وهي بتسمع الكلام، يا ريت بس تفضل كده على طول!

 

همهمت له وهي تجلس منتظرة نضوج قهوتها فهي حقًا تحتاج لها لكي تستطيع محاربة عدم نومها لليلة أمس فلقد ظلت مستيقظة طوال الليلة حتى تستطيع إقناعه بالأمر وايقاظه هو نفسه فأخبرته بنبرة مليئة بالدلال:

-       على فكرة احنا اتفقنا وأنا مبرجعش في كلمتي.. وصحيح عايزة أخد رأيك في حاجة!

 

تريثت لبرهة حتى تستدعي انتباهه وتتأكد أنه يستمع لها وسألته بتلك الطريقة التي تعلم أنها ستكتسب بها رضائه وستنطلي عليه بالكامل وها هو اثبات جديد له أنها تغيرت للأبد:

-        ممكن أكلم علا تيجي تشتغل معايا من البيت النهاردة لأني تعبانة وفي نفس الوقت مش هاعرف أنام؟ هكلملها السواق يروح ياخدها وبالمرة ابقى بعدت عن دوشة الشركة، موافق؟

 

همهم بالموافقة وهو شارد تمامًا بنبرتها وطريقتها الجديدة معه ولأول مرة في حياته يتناول معها حديث هاتفي بهذه الطريقة ليبتسم بهيام تام، ليته استمتع بصوتها هذا عبر الهاتف منذ سنوات وليس اليوم فقط!

 

-       طيب ثواني خليك معايا هكلمها بسرعة واجيلك تاني..

 

فعلت خاصية الانتظار واتصلت بالفعل بها وهي تمسك بقهوتها واتجهت للأعلى فهي مُتأكدة أنه ليس هناك أي كاميرات مراقبة بغرفته أو بغرفته الأخرى الجحيمية بينما لا تعرف ما الذي يدسه ببقية المنزل ثم سألتها قائلة:

-       وصلتي لفين؟

 

آتاها ردها على الطرف الآخر ثم قالت:

-       خلاص اهو داخلين على الشركة..

 

اجابتها سريعًا قبل أن تعود له من جديد:

-       يالا بسرعة طيب..

 

وجدته لا ما زال منتظرًا إياها دون وجود أي أصوات جانبه فأعلنت عن عودتها بنبرة مُعتذرة وممتنة في آن واحد:

-       معلش آسفة، سيبتك تستناني بس خلصت بسرعة، هي معاها رقم السواق تكلمه وتيجي معاه بقا..

 

تنهدت وعينيها منشغلة بقراءة هذه الأوراق دون أن تلمسها لكي لا يستمع لصوتها عبر الهاتف ثم سألته:

- احكيلي.. ابتديت شغل ولا لسه؟

 

زفرة منزعجة كانت كفيلة أن توضح لها أنه قد بدأ بالفعل فسرعان ما أخبرته:

-       معلش يا حبيبي أنت بقالك كتير مش بتروح وأول كام يوم هيبقو مليانين حاجات

 

أطلق تأتأة وعقب عاقدًا حاجباه:

-       انتِ مش متخيلة الناس هنا عاملة ازاي، لو بحل مشكلة ما بين أطفال مش هتبقا كده..

 

ادعت الاستغراب بنبرتها وتعجبت:

-       احكيلي طيب وفهمني، مالهم الناس اللي عندك؟

 

أغمض عينيه واراح رأسه للخلف واجابها بصوت يتشبع بالملل ولكن بهدوء كاسح:

-       أنا عندي هنا اكبر اتنين محامين، كريم هيكل وأحمد المنشاوي.. كريم معاه محامي تاني اسمه عصام وأحمد معاه محامي تاني اسمه عمرو.. كل اتنين عاملين حزب.. هم شُطار وكويسين بس المشكلة بينهم خناقات مبتخلصش.. وأنا من ساعة ما جيت وأنا في اجتماع معاهم.. وأول ما اتصلتي قولت اكلمك انتي أحسن ما ينرفزوني

 

سرعان ما ادعت الاندهاش وقالت مُعقبة:

-       أنا آسفة مكونتش اعرف إنك في اجتماع، خلاص روح كمل براحتك ونكمل كلام لما تخلص..

 

أطلق صوت يدل على النفي ثم حدثها بنبرة كانت لتقع في عشقها يومًا ما قبل أن تقرأ تلك الكلمات على ورقة أمامها تُثبت تزويره لشهود واعطائهم مبلغ مادي ليس بقليل:

-       هرجعلهم لما علا تجيلك.. انتي وحشتيني اوي اصلًا من ساعة ما سبتك النهاردة الصبح.. خلينا نتكلم شوية وبعدين نبقا نشوف شغلنا

 

لم تُجبه فورًا من شدة صدمتها مما تراه بينما كان يتوقع أنها تبتسم ببلاهة على قوله لتفيق نفسها في النهاية وعقبت قائلة:

-       أنت كمان وحشتني.. وصحيح لقيت فيه جواب حلو حد سابهولي ومعرفش فيه ايه، ممكن تحكيلي فيه ايه؟

 

اخبرته بذلك لكي تستطيع تقليب الأوراق لكي لا يرتاب في أمرها، فلابد أن صوت رسالته سيكون المثل كتلك الأوراق التي لم تستطع تبين ما فيها بالكامل ليأتيها صوته من الطرف الآخر بتغزل واضح:

-       وليه بنوتي متقرهوش لينا احنا الاتنين؟

همهمت بدلال وهي ترتعب من أن يتضح صوتها بالذعر بعد أن وجدت ورقة أخرى تبدو كعقد زواج بين رجل وامرأة ولكن لا يحمل اسمه ولا تلك الأسماء تعرف عنها شيء ثم أخبرته:

-       لا الحاجات دي مش هاقدر اقراها وانت معايا.. بس يمكن لو شجعتني وحكيتلي ايه اللي فيه أحاول اقراه وأنا معاك..

 

حاولت اكتساب المزيد من الوقت حتى قدوم "عُلا" بينما هو في حالة استرخاء كُلية والابتسامة لا تفارق وجهه وهي تجد كذلك وثيقة لعقد بيع قطعة أرض ما بمكان بعيد للغاية عن هنا بل هو في محافظة أخرى تمامًا فوضعته جانبًا بينما بحثت في المزيد:

-       مش هاقدر هقولك فيه ايه ولازم تقريه بنفسك، أنا كتبتهولك النهاردة الصبح عشان قولتي إن جواباتي وحشتك، واضح إن مبقاش ورايا حاجة غير إني احققلك كل اللي بتحلمي بيه واللي عايزاه!

 

فهمت ما يُرمي إليه فأغمضت عينيها وهي تحاول أن تُركز بكلماته بدلًا من هذه العقود الخاصة بخاضعاته التي وجدتها بالكامل تخص نساء واسمائهن بالكامل أجنبية وغريبة فلقد كان مُحق بهذا الشأن كذلك وابتلعت في غضاضة وعقبت سائلة إياه:

-       هو أنت فعلًا عايزنا نروح لدكتور سوا زي ما قولتلي النهاردة الصبح؟

 

تنهد بانزعاج قليلًا ولكنه حافظ على هدوئه وأخبرها:

-       حبيبتي أنا لا شايفك مجنونة ومظنش إني مجنون فاحنا مش محتاجين علاج، وقولت اننا هنروح لاستشاري زوجي زي ما طلبتي مني، فده عشان يوضحلك قد ايه احنا كويسين، وبمجرد ما هنروحله أنا واثق إنه مش هيلاقي مشاكل ما بينا، احنا كل مشكلتنا اننا في الأول كنا مصممين كل واحد فينا يعمل اللي عايزه من غير ما يفكر في التاني، إنما لما حسيتك بجد المرة دي متغيرة معايا وراضية وقبلتي بيا أنا عمري في حياتي ما همانع أي حاجة انتي عايزاها.. وبكرة تسمعي الكلام ده من واحد غيري أو واحدة وهم بيأكدولك اننا تمام!

 

يا له من وقت تأخر للغاية لكي يقرر هذا، هي لا تستطيع أن تنتظر للمزيد من التجارب مع رجل مزور ويستخدم شهود زور للفوز بقضاياه، ونظرت لهذه التعهدات والكثير من الأوراق القانونية لأسماء تجهلها وشعرت وكأنها تقع ببراثن نصاب محترف وليس مجرد محامي جيد السمعة فحمحمت وهي تخبره ببراءة ادعتها عكس كل ما اصابت به من احباط:

-       تعرف إن تقريبًا أول مرة في حياتنا نتكلم مكالمة طويلة أوي كده؟

 

زفر مبتسمًا لدرجة أنها شعرت بابتسامته بينما جلست هي على الفراش وهي تحدق بيأس بالجدار أمامها وعينيها شاردتين بالكامل في كل ما وجدته وكاد أن يصبح ملكها للأبد لتستمع لصوته وهو يقول:

-       دي الحاجة الوحيدة اللي ندمت عليها في حياتي، اننا مكناش بنتكلم كده من زمان..

 

وجد اشعار على هاتفه فأرسل ردًا عليه ثم استمع لها تخبره:

-       أنا مبسوطة اوي إن كل حاجة ما بينا بقت حلوة، أنا آسفة لو كنت بضايقك زمان.. متزعلش مني، أنا بس مشكلتي إني مكونتش فاهمة حاجات كتير بس أنت شوفت بنفسك، وآخر مرة حاولنا فيها مع بعض نجحنا فعلًا وبقينا مبسوطين..

 

شعرت بالرثاء على حالها وهي تتحدث بهذه الكلمات البعيدة كل البُعد عن الصحة ولكن اوقفها استقبال مكالمة "عُلا" فتوقفت عن متابعة كلماتها وحدثته قائلة:

-       أنا علا بتكلمني ومعايا waiting

 

همهم لها بصوت واثق وقال:

-       عشان وصلت برا مع السواق ولسه معدية من البواية.. يالا روحيلها بس متنسيش تغيري هدومك اللي كنتي لبساها، ولا عايزاها تشوفك كده؟..

 

أطلقت ضحكة خافتة مجاملة بينما هي تحترق بداخلها في حالة من مشاعر مختلطة لا تستطيع تبينها ثم نهضت وهي تتوجه لتبدل ملابسها وأخبرته:

-       هغير حاضر.. أنت روح كمل اجتماعك وأول ما تخلص ابقا كلمني..

 

دام الصمت لبرهة على الهاتف وقبل أن تُناديه وجدته يقول:

-       بحبك!

 

بالطبع لم تستطع سوى أن تعقب بالمثل وقالت:

-       أنا كمان بحبك اوي.. باي..

 

نهض وهو يعيد هاتفه لسُترته والابتسامة لا تفارق وجهه وعاد من جديد لمكتبه ولكن هدأت ابتسامته ثم تحدث بنبرة محذرة:

-       أنا ما صدقت ابعد عن شغل النسوان بتاعكم وافصل منه شوية، لو لقيت تاني أي شد في الكلام هلغي العرض اللي هعرضه عليكم في اخر الاجتماع ده، احنا مش في محكمة عشان ناخد حكم، اهدوا وفوقوا من الهبل اللي انتو فيه! عيب لما أكبر محامين عندي يتعاملو بالشكل ده مع بعض! 



❈-❈-❈

بعد مرور ساعة ونصف..

بالكاد استطاعت أن تتظاهر أنها توقع على تلك الأوراق وقامت بتشغيل حاسوبها الذي وجدته بغرفة مكتبه وتصنعت العمل بصحبة "علا" لمدة نصف ساعة أنهت بها الكثير من الأعمال المتراكمة وبعدها تظاهرت بتوجيه "عُلا" إلى الحمام الملحق بالدور الأسفل وارسلت لها رسالة أن تترك الأقراص الصلبة الرقمية المحمولة بالحمام..

 

بعدها بحوالي ربع ساعة توجهت لنفس الحمام وحملتهم لتخفيهم بداخل ملابسها واتجهت لتتناول الحاسوب الخاص بها وكأن مساعدتها تُريها به شيء ما يصعب عليها فهمه فقالت لها:

-       بصي خلصي انتي بس المكالمات اللي قولتلك عليها، وهاتي كده الورق ده..

 

تناولت الأوراق وتصنعت الانشغال ثم حملت كل ما بيديها من أوراق وحاسوب بعد أن طوته وأغلقت شاشته:

-       أنا هاقعد فوق شوية لأني تعبانة وزهقت من قاعدة الكرسي، أخلص الحاجات دي تكوني انتي كمان خلصتي وشوفي لو ينفع نعمل الاجتماع ده مع العميل النهاردة وهجيلك تاني..

 

اعطتها نظرة ذات مغزى بالكاد فهمتها الأخرى وأومأت لها بالموافقة ثم امتدت يدها لهاتفها وشرعت بالتحدث به وكأنها تفعل ما قالته لها بينما اتجهت "روان" للأعلى..

 

هرعت سريعًا لتقوم بنسخ كل ما وجدته على ذاكرات محمولة فهي تعلم أنها عن خلال حاسوبها القديم الذي تحافظ عليه مخفي بمخزن شركتها ستستطيع أن تقوم بنقل أي بيانات منه مباشرة لخادم محمي بشدة للمحافظة على هذه البيانات، لقد أرهقت كثيرًا وهي تصنع نظام الحماية بنفسها ولن يستطيع مخلوق في العالم خرقه، فهذه ستكون نسخة والنسخة الأخرى ستكون على ذاكرات تخزين الأقراص الصلبة، هذا بالإضافة إلى النسخ الأصلية، لا تحتاج سوى لبعض الوقت ليس الا!!

 

دون أن تشاهد أي من هذه التفاصيل التي وجدت اغلبها تسجيلات مرئية قامت بنقلها وهناك البعض كان عبارة عن أوراق ممسوحة ضوئيًا ومخزنة لتبدأ في الاطمئنان قليلًا وتركت تلك النسخ تأخذ وقتها في النقل والتخزين تلقائيًا على شبكة الخادم مباشرة واتجهت لتبدل ملابسها لكي تستعد للمغادرة.. ستغادر هذا المنزل الكريه للأبد!!

 

 أنهت سريعًا تبديل ملابسها وأخذت حقيبة كبيرة وضعت بها بعض من الأوراق كفيلة بسجنه بعد كل ما رأته منها وأخذت المزيد تُمسك به وكأنها تلك الأوراق التي توقها ثم هاتفته ولم تمر ثلاث ثواني حتى قام بالرد عليها متسائلًا:

-       قطتي مرقباني ولا إيه؟

 

اجابته متسائلة بابتسامة:

-       لا أكيد، اشمعنى بتقول كده؟

 

جلس على كرسي مكتبه وهو يُجيبها:

-       عشان لسه مخلص اجتماع حالًا..

 

ادعت الاندهاش ثم قالت بنبرة مواسية نوعًا ما:

-       للدرجة دي الاجتماع كان طويل.. واضح إن وراك شغل كتير..

 

همهم لها بالإيجاب وقال بنبرة منزعجة:

-       لسه ورايا آلف ورقة هتتمضي كمان وشكلي مش هاخلص غير على بليل اصلًا..

 

تفقدت مظهرها سريعًا بالمرآة ثم واسته من جديد:

-       أنا عارفة إنه يوم صعب بس هيعدي وكل ده هيخلص!

 

لا تدري هل كانت تواسي نفسها أم تواسيه هو نفسه، ولكن الأهم أن كلماتها كانت في منتهى المصداقية الشديدة، وهذا ما تحاول أن تحتال به عليه إلى أن تغادر هذا المنزل، لم يتبق سوى دقائق قليلة..

-       لسه تعبانة؟

 

أطلقت تأتأة وأخبرته وهي تحاول أن تدعي تزييف المرح:

-       لأ ابتديت افوق، بس اثار جريمة امبارح لسه تعباني شوية

 

أطلق ضحكة ماكرة وحذرها بخبث:

-       عشان قطتي تبطل تحلم بحاجات هي مش قدها

 

أطلقت تنهيدة تصنعتها ببراعة وتحدثت بشكوى واضحة وكأنه هو من سينقذها من براثن مصاعب حياتها، لتجعله يشعر أنه ملاذها وحاولت تحتال على عقله بهذا:

-       أنا حاسة إني مبقتش قد أي حاجة، أنا تعبانة وعندي اجتماع مع عميل مهم و الـ technical team (الفريق التقني) خربلي الدنيا وأنا مش موجودة، مش عارفة هالحق اخلص كل ده امتى..

 

تريثت لبرهة تنتظر سماحه الأخير للفرار، ولكنها تعرف مليًا أنه يُريدها أن تطلب هذا منه بوضوح، بالطبع يبحث عن سؤالها المباشر بهل يُمكنني الذهاب لعملي؟ لا تمانع النطق بها لو كان هذا ما عليها فعله حتى تذهب دون عودة!

-       هتخلصي أكيد، واحدة واحدة هتلاقي كل حاجة بتخلص!

 

عادت من جديد لتدلف الغرفة وهي تتفقد ما إن كانت تستطيع حمل المزيد معها فوجدت رسالته فتفقدتها بطرف عينيها ولم تستطع سوى أن تحملها وتدسها بحقيبتها ثم سألته بما يريد أن يستمع له:

-       ممكن أروح بس الشركة أخلص الاجتماع ده وبعدها أرجع على طول؟

 

همهم بالموافقة وأجاب بنبرة متسيدة ذلك القهر الذي اندلع بكياها وشعور الإهانة الذي اجتاحها بداخلها لمجرد أن تطالب بأبسط بديهيات حياتها، هل كان يظن أنها ستبقى هكذا للأبد؟ أم يظن أن تتنفس المرأة بإذنه وتنام بإذنه وتتناول الطعام وقتما يحلو له ستكون هذه الحياة المثالية لأي زوجين! رجل مختل حقًا!!

-       روحي ومتتعبيش نفسك، متزوديش عن أربع ساعات وارجعي بسرعة..

 

ارتبكت قليلًا بداخلها وهي تلمح ما لم تستطع أن تحمله معها أمام عينيها كي تمر بسلام من تلك البوابات الأمامية ولكن لم يتضح هذا على نبرتها ثم قالت بنبرة متسائلة بتلاعب أحيانًا يتملكه وهي تضرع بداخلها أن تحصل على الإجابة المُرادة منه:

-       أنا كويسة على فكرة وقادرة اروح الشغل، افتح حتى أي كاميرا وشوفني قدامك هتطمن إني لسه بعرف اتحرك، امال لما ابقا حامل في بيبي هتعمل ايه؟ مش هتحركني من على السرير؟

 

أطلق همهمة مُفكرة بينما أجاب في النهاية وهو يحدق بهذا الرجل أن ينصرف بسرعة وبمجرد ذهابه عقب قائلًا:

-       ولو عندي مليون كاميرا في البيت مش هابقى متطمن عليكي زي ما ابقا شايفك قدام عينيا ولامسك بايديا وانتي في حضني.. وبعدين احنا هنقضيها مكالمات ونسيب شغلنا يا قطتي ولا ايه؟ مش اتفقنا اننا هنرجع نشتغل كام يوم عشان نفضى بعدين؟ عايزاني اسيب كل اللي ورايا واروح افتح كاميرا مش هتجبلي غير ملامح من بعيد لا وهوقفك كمان في حتة معينة عشان اعرف اشوفك.. بطلي بقا تخليني افكر في حاجات تانية خالص وسيبيني اركز في الزفت اللي مبيخلصش ده

 

ابتسمت وحاولت أن تعكس تلك الابتسامة الزائفة على نبرتها بعد اجابته الثعبانية التي لم تفهم منها الكثير ثم انتقلت سريعًا لما تُريده:

-       أنت اللي الكلام معاك حلو اوي، بس خلاص لو وراك شغل روح، أنا بس ممكن اروح أنا وعلا مع السواق بتاعي وباقي العربيات تيجي معانا أو تمشي ورانا زي ما بيحصل كل مرة؟

 

همهم من جديد بالسماح بينما دلف العامل يحمل المزيد من القهوة فلم يكترث لتواجده بينما حدثها بملل وانعدام طاقة غريب يُغلف صوته:

-       ماشي، خدي بالك من نفسك ولما توصلي طمنيني عليكي..

-       حاضر يا حبيبي.. باي..

 

أنهيا المكالمة لتنطلق هي كالطلقة كي تغادر هذا الجحيم للأبد وبسرعة ثم أرسل هو للمسئول عن الفريق الأمني الذي عينه لها أن يسمحوا لها بالمغادرة مع السائق الخاص بها ومساعدتها الشخصية ثم ترك هاتفه جانبًا ونهض ليخلع سُترته واستدعى "باسم" ثم انتظره وهو يرتشف من قهوته وحاول بصعوبة أن يخرجها من عقله وهو يُدلك جبهته وحاول الحصول على تلك الطاقة بداخله للتركيز بصعوبة ولم يمر كثير حتى ظهر مساعده الشخصي أمامه..

-       وريني بقا ايه اللي كان عاملك أزمة في حياتك وأنا مش موجود وأنت مش عارف تسكت الناس عليه، اديني قاعد قدامك اهو..

 

من نبرته المهينة الساخرة منه اضطر أن يزيف ابتسامة لبقة ثم حدثه مُعتذرًا:

-       أنا آسف يا مستر عمر، مكونتش اقصد.. بس عملت في الاخر اللي حضرتك قولت عليه

 

لو فعل أي شيء من نفسه وأخذ قرار لا يُعجبه، وإذا أخبره ولح عليه لا يُعجبه كذلك، كيف عليه أن يُرضي هذا الرجل صعب المراس؟! لقد طفح الكيل من التعامل معه حقًا.. ولكنه عليه أن يتحمل هذه اللعنة من أجل مسئوليات شتى لا يدري من سيتحملها عنه..

 

اتجه لخزانة جانبية بمكتبه وأخرج تلك الدفاتر التي تحتوي على الأوراق التي تنتظر لتوقيعه منذ شهور ثم وضعها أمامه فنظر "عمر" لكمية تلك الدفاتر ولعن نفسه بداخله على تلك الأعمال المتراكمة وأخبره بتهكم وهو ينهض ويُمسك بقهوته:

-       روح اقعد هناك احنا مش هنخلص.. وأنت مش هتفضل واقف كده!

--

تحامل على نفاذ صبره قدر المُستطاع وهو يُحدق بساعته بين الحين والآخر، كان عليه أن يحضر في الموعد تمامًا، فبالطبع هو يستحيل أن يحضر بموعده أبدًا، وخصوصًا بعد أن عرف كيف هو "عدي" عندما حاول الاقتراب منه بالفترة الأخيرة وهو يُقنعه أنه يريد نظامًا محاسبيًا لشركته غير الذي قد منحته له "روان" بالفعل!!

 

بعد حوالي نصف ساعة من الانتظار آتى "عُدي" بخطوات كسولة يتجه نحوه ويرتدي نظارة شمسية وملامحه ما زال يتضح عليها النُعاس فنهض "يونس" لمصافحته وأخبره بمرح:

-       ده أنت شكلك لسه مقومتش من على السرير!

 

بادله المصافحة ثم جلس أمامه وتثاءب بالفعل ثم عقب ببعض التهكم:

-       مش فاهم ايه اللي يخلينا نتقابل بدري كده في الجو الزفت ده، ما قولتلك نخلي المعاد بليل بس أنت مستعجل مش فاهم فيه ايه..

-       أنا هفهمك حالًا، اجيبلك قهوة بس عشان تفوق وتركز معايا شوية!

-       ربنا يستر، الدخلة دي مش مريحاني.. حد من الشركة خرب الدنيا ولا ايه؟

 

أومأ له بالإنكار واضطر أن يتوقف قليلًا عن الاسترسال معه بالحديث عندما اقترب النادل منهما وقام "يونس" بطلب القهوة لكلاهما بينما نزع "عدي" نظارته وهو ما زال نائم جزئيًا وبمجرد مغادرة النادل سأله:

-       فيه ايه يا يونس على الصبح؟ مش مقابلك اخر مرة وكان كله تمام؟ وبعدين هو ايه اللي مكنش ينفع في الموبايل ولازم نتكلم فيه سوا؟

 

أطلق "يونس" زفرة حارة لدرجة أنها احتلت انتباه الآخر أمامه ليحاول أن يبدأ كلماته بهدوء وأخبره مجيبًا:

-       بصراحة، هو الموضوع بعيد عن الشغل شوية.. عشان كده كان لازم نتكلم فيه واحنا مع بعض عشان مش لاقي حل فيه

 

أعطاه نظرة متعجبة وهو يُفكر بعقله أنه لو يحتاجه في أمر شخصي لذلك قرر أن يتقابلان قبل الثانية عشر ظهرًا لابد أن يقتله بيديه على فعلته تلك، ولكنه جاراه في الحديث وسأله:

-       موضوع ايه بالظبط؟

 

ارتبك قليلًا ثم أجلى حلقه واجابه:

-       بصراحة أنا اتعرفت عليكم كلكم يوم ما عمر عزمنا في الاوتيل.. فاكر اليوم ده؟

 

هو يتذكر اليوم، ولا يريد أكثر من أن ينساه بعد كل ما حدث بينه وبين أخيه يومها، يكفي أن يومأ له بالموافقة ثم انتظر أن يضع النادل القهوة الساخنة بصحبة زجاجات المياه وترقب انصرافه بفارغ الصبر فهو لا يستبعد ما قد يفعله "عمر"، لابد من أنه فقد عقله مع ابن خالة زوجته كذلك، هذا أمر ليس ببعيد عليه!

 

-       بصراحة أنا حاولت اتصرف بأكتر طريقة رسمية ممكنة، قولت لروان، وعرفت يارا أختي، بس في نفس الوقت أنا مش فاهم الشخصية اوي ولا اعرفها فمش هقدر اتسرع.. يعني..

 

أجلى حلقه بينما حدقه الآخر بعدم فهم فكل كلماته لا توضح شيء بعينه ولكنه ترك له الفرصة لكي يُتابع فرآه يبتلع بصعوبة وهو ينظر له بجدية لم يعهدها منه قط وأردف في النهاية:

-       أنا معجب بعنود وعايز اتقدملها وهي رافضة بسبب خوفها من والدكم!

❈-❈-❈

لم تستطع منع نفسها من تلك الحالة المُزرية التي وقعت بها عندما لمست ذلك الزر وشاهدت واحدًا من تلك التسجيلات المرئية التي تصور حادث قيادة مات رجل بسببه بالفعل، وكل ما فعله صاحب السيارة بعد أن تفقده بصحبة منديل ورقي ووجده قد فارق الحياة دخل سيارته من جديد وترك الرجل أرضًا ثم ابتعد بسرعة عن مكانه.. لابد أن هذا دليل في قضية ما، ولابد أن هناك أهل أو أقارب لهذا الرجل يتساءلون من فعل به هذا!

 

لم تكترث لتلك النظرات المصوبة إليها من "علا" وهي جالسة بجانبها على المقعد الخلفي وتحمل الكثير من الأوراق على قدميها ولا تدري ما الذي بها ولكنها اعتادت ألا تدخل فيما لا يعنيها ولطالما كانت رسمية معها للغاية ومع والدها وهي تشعر بالراحة هكذا لاستمرار العلاقة بينهما بهذه الطريقة، ولكن كل ما يحدث بالآونة الأخيرة بات يُصيبها بالذهول وفضولها لا تستطيع أن توقفه!

 

-       مدام روان حضرتك كويسة؟

 

التفت نحوها بملامح مصدومة واجابتها قائلة في حالة من الذهول بعد أن رأت انسان حقيقي يُقتل ودمائه تسير أسفله على أرضية أسفلت شارع جانبي، هذا ليس بمشهد من فبلم بل حدث بمنتهى الحقيقة ولم يكترث حتى قائد السيارة أن يبحث أو أن يعرف من هو:

-       لا.. لا أنا مش كويسة!

 

شعرت بجسدها ينتفض بأكمله وهي تشعر بالذعر وقبل أن تستمع للمزيد من كلمات لن تفيد في مساعدتها شيئًا حدثتها قائلة:

-       علا، كل ورقة معاكي تتاخد scan وتنسخي منهم مش اقل من اربع او خمس نسخ ويتشالو في أماكن مختلفة..

 

أومأت لها وهو تقول باهتمام:

-       حاضر أكيد هاعمل كده، بس قوليلي فيه حاجة تانية اقدر اساعد فيها..

 

التفتت لها وهي على مشارف البكاء مما رأته وهمست لها:

-       اه، مفيش مخلوق يعرف حاجة عن الحاجات دي، ارجوكي يا علا انتي عارفة اني بثق فيكي ازاي.. لو سمحتي متقوليش لحد

 

انهمرت دموعها دون توقف وهو تتوسل لها فأومأت الأخرى لها بتفهم وبمجرد توقف السيارة حاولت أن تجفف دموعها وأخبرتها:

-       يالا احنا معندناش وقت نضيعه، خليهم يجبولك كذا ماكنة تصوير عشان نلحق نخلص!

 

اتجهت كلتاهما للأعلى سريعًا عبر المصعد وبدأت "علا" بالفعل بفعل ما قالته والترتيب له بينما الأخرى تريد أن تعرف جيدًا مع من تتعامل، هل هو قاتل؟ مزور؟ يبتذ الرجال والنساء حتى يصبحون شهداء زور؟ يتاجر بالعقارات؟ هل هو مجرد رجل مريض عقلي؟ سادي ومغتصب؟ أم هناك المزيد مما لا تعرفه عنه بعد؟ هل كل ما عاشت به كان مجرد كذب متلاحق لا يتوقف؟!

 

لابد لها من مشاهدة المزيد حتى تستطيع وقتها اتهامه والدفاع عن نفسها أمام رجل مثله، لن تظل خائفة وساذجة بعد الآن!

--

أخذ يوقع تلك الأوراق وهو يُلقي نظرة سريعة على ما بها وكان كل شيء منطقي واعتيادي وخصوصًا تلك المصروفات التي تخص استخدامه الشخصي إلى أن بدأ يقترب من ذلك التاريخ الذي عانى بها من نوبة هوسه الشديدة.. بالطبع هو لا يعلم ما عانى منه، ولكن رؤية هذه المبالغ والمصروفات وبعش الشيكات المتأخرة بدأ الأمر يقلقه ويجذب انتباهه!

 

شرد لوهلة مُفكرًا لدرجة أن "باسم" نفسه تعجب للغاية من ملامحه ولكنه ترقب منتظرًا، فهو يبدو أنه على قول شيء ما هام وسيتفوه به عاجلًا أم آجلًا..

 

-       باسم، أنا عايزك تجبلي كل ورقة ليها علاقة بيا أو اجراء اخدته من آخر شهر تلاتة لغاية أول شهر ستة!

 

قام بتوسيع الفجوة الزمنية قليلًا، فهو حقًا لا يتذكر أي شيء حدث وقتها، لقد فسر هذا بالسابق أنه كان ثمل ويتشاجر معها بشأن قضية الخلع، يتذكر بعض الأحداث الطفيفة، ولكن كيف أصبحا بخير وهو لا يتذكر ما حدث؟؟ ألهذه الدرجة كان ساذج ويتعلق بالعشق وحده ولا يريد سوى أن يكونان بخير وحسب؟!!

 

لقد كان لديه خطة محكمة، كان سيفسد القضية بادعاء صورية مقدم صداقها وقانونيًا هذا معناه عدم افصاحها عن رد المهر له مما سيُفسد القضية وكان يستطيع إيجاد شهود بالفعل ليُثبت هذا..

 

كان يُريد أن يمنعها عن العمل، وعن والدتها وأخيها وابنة خالتها إلى أن تتعلم ألا تخوض مباراة ستكون هي الخاسرة الوحيدة بها بالتأكيد، ولكن ما الذي حدث حقًا خلال تلك الفترة؟!

 

بدأ عقله يربط الكثير من الأحداث ببعضها البعض ولكن كلما ربطها وجد أن هناك حلقة مفقودة.. لا يمكن أنه قيدها بالفندق وذهب لابتياع سيارة وفجأة يجد نفسه جالسًا بصحبة برق وهو يقرأ بعض الأشعار لأوفيد، ثم بعدها يتشاجران، ويمارس معها الجنس، ثم فجأة يستيقظ، ثم ينام، لا يتذكر كل شيء حدث!! ربما بعض الأوراق الموثقة ستكون أسهل فهمًا من ذاكرته!

 

انتبه عندما وضع "باسم" أمامه الكثير من الأوراق وبعض الملفات فأخبره ببرود:

-       سيبني شوية ولما اخلص هقولك!

 

أومأ له بتفهم ثم توجه للخارج على الفور بينما بدأ يقرأ كلمات تُثبت ما يتذكره وفجأة وبعد مروره بالأوراق وجد توكيل منها له بحق الإدارة لكل شركاتها، متى حدثت تلك اللعنة؟!

 

بدأ بقراءة المزيد بينما حاول التذكر فلم يستطع أن يجد أي حوار أو جدال أو مناقشة تُفيد موافقتها على ذلك، ولكن؛ لقد كان خطط أن يهددها بحصوله على هذا التوكيل فقط لتتراجع عن قضية الخلع، هو يعلم أن فكرة خسارتها لعمل والدها وارثها تصيبها بالذعر، سؤاله الوحيد فقط كيف ومتى حدث ذلك؟!

 

دلك جبهته مليًا وبدأ يُصاب بالغضب المختلط بالقلق والحيرة بينما حاول أن يُسلط تركيزه أكثر على فترة زمنية مُحددة ليجد كارثة، لقد قام بتحويل مبلغ ضخم إليها، رقم واحد ورُص أمامه سبعة اصفار، متى فعل هذه اللعنة؟ أم هي من فعلت به امرًا ما لدرجة أنها اجبرته على فعل هذا؟!

 

لا هو لا يجبر، لابد من أنها خدعته، أو قامت بفعل شيء جعل عقله يغيب، هل كانت تعطيه عقاقير منومة مثلًا؟ أو مخدر للهلوسة؟ ربما.. قد يكون هذا منطقي!

 

جلس يحاول استيعاب صدمته وهو يُفكر في أي كلمة أو حدث مر عليه يُفسر تحويل هذا المبلغ الضخم من حسابه إلى حساب شركتها ثم تذكر كلمة واحدة وكأنها رسالة غير مباشرة، كلمات والده عندما قام بزيارته..

"صحيح، أنا قابلت علي أبو المكارم مدير بنك ... من كام يوم وسأل عليك، ابقا كلمه!"

 

هذا الرجل تحديدًا لابد من أنه هو الذي قابله اثناء قيامه بهذا الجنون المحض، كيف استغلته بهذه الطريقة يومها؟!

أمسك بهاتفه سريعًا وقام بالاتصال بوالده، هو يعلم أن "يزيد الجندي" لا ينطق بحرف واحد دون أن يكون له مقصد ومعنى خلفه، حتى ولو ثرثر بالكثير فكل كلمة منه لها ثقلها ومقصدها واهميتها:

-       أخيرًا روحت شغلك!

 

تعجب من رد والده عليه بهذه الطريقة، بالطبع "يزيد الجندي" يصل له دبيب النمل وهو نائم يحلم بحلم ما في فراشه ولن يغيب عنه خبر وصوله إلى شركته صباح اليوم فحدثه بهدوء قائلًا:

-       معلش أنا اخر مرة كنت متعصب شوية يوم ما اتقابلنا، ازيك يا بابا عامل ايه؟

-       تمام! أنت اللي عامل ايه؟ وكان ايه اللي معصبك؟

 

لم يُرد أن يبدأ المكالمة بينهما بما يُريده وحسب، بعد أن اثبت له للمرة الآلف بعد المليون أنه الوحيد الذي يكترث من أجله حقًا ويعتني به حتى دون ادراكه، فعلى ما يبدو لقد علم بشأن هذا المبلغ الضخم الذي أعطاه لها وحتى لم يواجهه بهذا مباشرة لكي لا يتدخل بالأمر!

-       مفيش مكنتش نايم ومصدع ومكنتش طايق انزل الشغل بصراحة وبمجرد ما أنت ما فكرتني اتضايقت يومها اكتر..

-       وأنت ايه اللي نزلك النهاردة؟

 

آتاه سؤاله المتعجب خلاله عن تغير حاله فجأة فأجابه بمنتهى الثقة:

-       ما أكيد يعني في الآخر كنت هرجع شغلي .. طمني عليك عامل ايه؟

 

استمع لضحكته الخافتة الساخرة ثم عقب بتهكم:

-       يااه، أخيرًا سألت عليا، وافقتلك وادتك السماح خلاص، أنا كويس يا عمر، ها، ناوي على قضية ايه المرادي؟

 

تريث لبرهة وحاول أن يتناسى اهانته السابقة بينما اجابه بضيق:

-       لسه هاشوف، أنا كان فيه اجتماع مهم وشوية حاجات بخلصها الأول، صحيح كنت عايز اسألك على حاجة.. علي أبو المكارم قالك ايه بالظبط؟

 

تنهد والده عندما تذكر لقاءه بهذا الرجل ثم اجابه بحرص كعادته:

-       مفيش، قال إنك كنت عنده بتخلص حاجة في حسابك وبس كده وكان قالي إنه عايز يقعد معاك اكتر..

 

بالطبع لم يجبه بالحقيقة، والآخر لم يتقبل هذا الرد، ولم تُفد هذه المكالمة في شيء، فقرر انهائها على عجل:

-       نبقى نروحله سوا وأنا كلها يومين واعدي عليك، معلش يا بابا هاقفل معاك وهكلمك تاني، سلام!

 

لم يستطع عقله مواكبة ما يحدث هذا التوكيل وهذا المبلغ وماذا هناك بعد؟! سيارة لا تفيد في شيء ولا يستخدمها، عشرون مليون جنيه خسرهم في لمح البصر، نصفهم لها والنصف الآخر للسيارة كيف فعل ذلك؟ أين كان عقله وقتها؟!

 

تفقد المزيد من كوارث هذه الفترة ثم قام بالتركيز على مصروفاته ليجد أن هناك مصاريف غير منطقية بالمرة، هو لا يلجأ لهذا الرجل إلا عندما يُريده أن يبحث بطريقة غير قانونية خلف شخص ما، هو يتيقن كما يعرف اسمه أنه لم ينظر بقضية واحدة منذ أن تزوجها، ما الذي سيحتاجه من هذا الرجل حتى تُصبح أتعابه ضخمه لهذه الدرجة؟!!

 

الكثير من الأسئلة التي ليس لها إجابة ولابد من أن يجد إجابات ودلائل ملموسة عليها وإلا سيفقد عقله بالتأكيد!!

 

قام بالاتصال بهذا الرجل بسرعة وبمجرد أن آتاه صوته وجده غير مرحب بالمرة ولكنه على ما يبدو يحاول أن يخفي ذلك بنبرته:

-       أهلًا أهلًا عمر بيه، ازي حضرتك عامل ايه؟!

 

حاول انتقاء كلماته التالية وهو يجيبه محافظًا على صدمته وهدوئه بصعوبة شديدة ثم قال:

-       كله تمام، معلش على التأخير الفترة اللي فاتت كنت مشغول في حاجة كده واغلب الوقت كنت برا مصر

-       ولا يهم حضرتك اكيد ده مش أول تعامل ما بينا طبعًا..

 

عقب سريعًا وهو يُريد أن يصل لمقصده:

-       أكيد.. أنا صحيح مضيتلك على الشيك المتأخر وكمان فيه شيك تاني فيه زيه بالظبط عشان التأخير.. بس كنت عايز منك تبعتلي آخر حاجات تاني وتبعتلي حد من عندك يجي يستلم الشيكات.. وممكن تصرفه النهاردة لو حابب

 

سرعان ما أخرج دفتر شيكاته من درج مكتبه وقام بتحرير شيك آخر وآتاه اجابته:

-       تحت أمرك ومتشكر جدًا.. والحاجات كلها بالعناوين هتكون عندك حالًا.. بس أفضل ابعتهالك مرة تانية على موبايلك عشان الموضوع زي ما أنت عارف شخصي ومش كويس إني احتفظ بنسخة بيه، وكنت مستني منك تقولي امسح كل حاجة!

-       أكيد، ابعتلي دلوقتي وامسحها خلاص!

 

أنهى المكالمة وانتظر بفارغ الصبر بينما اهتجت دمائه الغضب والتوتر ولأول مرة في حياته يشعر بمثل هذا الشعور وبمجرد ما بدأت رسائله تصله على هاتفه وقع في صدمة شديدة وهو يرى زوجته تتفلت خلسة دون علم فريقها الأمني بمرأب شركتها ثم تذهب لعقار وتمكث ما لا يقل عن ساعة إلى ساعة ونصف ثم تغادر بعدها، وكل هذا يحدث باصطحابها لسائقها الخاص الذي بالطبع بتستر عليها بخصوص أمرٍ ما!

 

حاول ابتلاع صدمته وهو يشعر بأنه رجل مغفل وساذج وكانت هي تقوم بخداعه وإلا كانت لتُصرح بقيامها بالأمر وبالطبع لو غرق بصدمته الآن لن يفلت منها إلا برؤية عنقها بين قبضتيه ولكن لابد من أن يتأكد أولًا لماذا تفعل كل ذلك.. يستحيل أن كل ما عايشه معها كان مليء بالكذب والخداع إلى هذا الحد، هي ليست بامرأة مخادعة ولا مستغلة، لقد تأكد آلاف المرات من ذلك..

 

حاول أن يتوارى من تلك الخفقات المتسارعة بجنون بفعل قلبه الذي أوشك على خسارة ما كان يُحيه طوال المُدة السابقة شاعرًا بالخزي الممتزج بصدمته بها ثم هاتف الرقم مرة أخرى وبمجرد اجابته عليه ألقى بأوامره المباشرة ليقول:

-       تعرف يا وائل تجبلي أسماء الناس أصحاب الشقق في العمارة دي في أسرع وقت؟!

-       ده برج كبير جدًا مليان دكاترة وشركات ومُلاك عاديين.. بس يعني الموضوع سهل وبسيط.. ساعة زمن وكله يوصلك يا عمر بيه، تحت أمرك! 


❈-❈-❈

في نفس الوقت..

لم تقوى على تحمل كل تلك الحقائق التي رأتها بأم عينيها، لقد كانت "يُمنى" خائنة بالفعل مثلما أخبرها ولتوها انتهت من مشاهدة وجودها عارية أسفل قدمي رجل آخر لا تظهر ملامحه بهذا التسجيل المرئي الذي لم يكن بجودة جيدة نظرًا لمرور سنوات تطورت بها التكنولوجيا كثيرًا.. لقد كان معه حق في كل ما قاله!!

 

ولكنها كانت هي الأخرى مُحقة بأنه ليس سوى رجل مؤذي، كاذب، ومخادع، وبعيد كل البعد عن القانون وعن الدفاع عن حق الناس، وكل ذلك العشق والكلمات والعاطفة الهائلة به لا توضح سوى أنها كانت مغفلة وساذجة وبشدة!!

 

انتقلت يدها لذاكرة محمولة صغيرة وهي تصمم على رؤية المزيد من أفعاله بعد أن شاهدت مقتل رجلين وهروب آخر من مكان ما وخيانة حبيبته السابقة، وكأن الأسوأ ينتظرها للنهاية..

 

قامت بكبس زر التشغيل على تسجيل مرئي لتجد غرفة غريبة الشكل تمتلئ بتلك الأدوات التي تُشابه ما يملك بغرفة الجحيم بمنزله ولكن تلك الملامح بداخلها تبدو مُرعبة وكأنها غرفة للقتل وليست غرفة للمتعة كما يدعي..

 

آتت كارثتها في النهاية عندما وجدت امرأة بشعر اسود قصير تسير على أربع من تلقاء نفسها وكانت الصدمة في رؤيته يدخل بعدها وهو يحتسي من زجاجة خمر مباشرة بينما توجهت تلك المرأة لتقبيل حذاءه..

 

لوهلة تملكتها الصدمة وهناك حديث ما يدور بينهما لا تستطيع الاستماع له حيث أن التسجيل لهما بأكمله صامت دون صوت فبدأت تُسرع قليلًا لتجده يبتسم بشر غريب وهو يقوم بضربها ولكن ليس بسوط ولا عصا بل بسلسلة معدنية والأخرى تسيل منها الدماء لتشعر بأنها على وشك فقدان وعيها من شدة الصدمة..

 

ارتجفت يديها المتجهة لتحاول الوصول لنهاية هذا التسجيل وبصعوبة استطاعت توجيهه لما قبل النهاية فما رأته للتو كان بمنتصف التسجيل فاتسعت عينيها ذعرًا عندما وجدت ما يُشابه آلة غريبة الشكل ويمتد منها طرف لا يذهب سوى داخل تلك المرأة ذهابًا وايابًا بسرعة جنونية وهو جالس أمامها يُشاهدها باستمتاعٍ شديد ولا يكترث أنها باتت جثة هامدة وعلى ما يبدو أن هناك دماء تغادر جسدها بنفس مكان هذا الجهاز الذي لم تر مثله بغرفته!

 

دموعها انهمرت من عسليتيها المذعورتين ولم تقو على التنفس ولا حتى أن تغلق عينيها لجزء من الثانية وشعرت أن قلبها كاد أن يتوقف وتصلبت كتمثال أمام ما تراه بينما رأته يحتسي بقايا ما بالزجاجة ثم نهض وتوجه نحوها ليوقف هذه الآلة عن العمل والاندفاع باخلها ثم ذهب وآتى بما يُشابه قطعة قماشية ليُجفف هذه الدماء وبعدها أصبح بداخلها بوحشية لم ترها منه قط..

 

-       مدام روان، مدام روان..

 

نظرت نحوها في ذعرٍ شديد وهي تلهث وبُكائها لم يتوقف وتلثمت برعب وهي تخبرها:

-       عرف؟ هو جه؟ هو عرف أنا عملت ايه؟ بلاش يجي، شوفي أي أمن يمنعه.. أنا، أنا مش هشوفه تاني.. أنا مش لاقية حد اروحله!

 

هذت بالكلمات في صدمة شديدة واجهشت بالبكاء وهي تتقهقر للخلف ولا تتصور سوى أن يفعل بها المثل لتهدئها "علا" وهي تقول بتردد:

-       مفيش حاجة ولا حد، أنا بس جاية اقولك إني خلصت كل حاجة زي ما حضرتك طلبتي

 

أومأت لها بالتفهم وحاولت أن تتماسك بداخلها وهي تُفكر إلى من تذهب الآن ويستطيع أن يتعامل معه ومع جنونه عندما يكتشف فعلتها ثم حدثتها بتوسل وهي تتجه نحو حاسوبها وتغلقه:

-       ارجوكي كل حاجة تتشال في مكان محدش يعرفه لغاية ما اطلبه منك، وأنا، أنا.. أنا لازم امشي من هنا بسرعة!

 

لا ترى نفسها سوى بهيئتها المزرية وهي تبكي بين يديه وتتوسل له أن يكف عما يفعله بينما هو يجذبها أمام العاملين من خصلاتها وهو يرميها بالإهانات، لو تعرضت لهذا ستموت، قلبها سيتوقف ولن تستطيع أن تنظر بوجه شخص للأبد وستضرر سمعتها هي وهو وعملها وعائلتها وهي لا تريد ذلك.. هي لا تدري من يستطيع أن يتعامل معه حقًا..

 

فكرت أن تتحدث إلى أخيه فهرعت إلى الهاتف وقامت بالاتصال به وانتظرت أن يجيبها والوقت يمر عليها وكأنها تُساق إلى تنفيذ حكم الإعدام وحدثت "علا" وهي تقول:

-       أنا ماشية، أنا هاخد السواق معايا زي ما بعمل كل مرة، وانتي شيلي كل حاجة لغاية ما اقولك!

 

لم يُجبها فأعادت الاتصال بينما رمقتها "علا" في قلق وأخبرتها باكتراث وشفقة على حالها:

-       طيب حضرتك بس اهدي وان شاء الله مفيش حاجة هتحصل..

 

صرخت بها دون وعي منها ولم تتوقف عن البكاء بينما قالت:

-       اسمعي اللي بقولك عليه!!

 

اتجهت للخارج بعد أن حملت حقيبتها ولم يقم "عدي" بالإجابة عليها فحاولت للمرة الثالثة ووصلت لنفس النتيجة فقررت أن تهاتف "عنود" بدلًا منه، ومنذ آخر مرات ومرات حاولت الوصول إليها باتت مليئة باليأس الشديد من أن تستطيع أن تصل لأحد منهما!!

 

لن يكون والده الحل بعد ما علمت أنه لا يُفضل امرأة مثلها، وكذلك لن تكون والدته الحل في أن تحميها من بطشه بها، اللعنة، هي لا تملك حتى أرقام لهما!!  

 

اللعنة على العمل، وعلى الزواج، كيف كانت بهذا الغباء الشديد، كيف آمنت لرجل مثله، كيف وثقت به هكذا؟!

 

تفلتت شهقاتها وهي بالمصعد ولكنها حاولت أن تجفف دموعها كي لا يراها أحد واخرجت نظارتها الشمسية لترتديها وجسدها يرتجف بالكامل وساقت نفسها بدون هدى نحو السيارة الخاصة بها التي تمتلكها من قبل زواجها وسرعان ما آتى السائق ليدخل سريعًا واعتذر منها على أنه لم يكن متواجدًا ثم سألها:

-       أنا آسف يا مدام كنت بس بجيب حاجة، حضرتك حابة تروحي فين؟

 

فكرت في كلماته لتجهش بالبكاء وأخبرته:

-       مش عارفة، معرفش، أي حتة بعيد عن هنا بسرعة وبعيد عن البيت!

 

ارتاب الرجل وسألها بقلق حقيقي فهو لأول مرة يراها منذ سنوات بمثل هذه الهيئة:

-       حضرتك كويسة؟ محتاجة أي حاجة اعملها؟

 

أكملت بُكائها في حالة من الانهيار وهي لا تدري كيف تُجيبه! من عساه يتعامل مع رجل سادي مضطرب عقليًا قد يفقد عقله عندما يعلم بأنها باتت تملك الكثير بين يديها عنه وتستطيع أن تدينه، من الذي سيصدق أن رجل مثله مريض ومختل؟ من الذي سيتقبل معرفة هذا عنه؟! يا ليتها ماتت قبل اليوم!!

 

أخذت تبكي ووهي لا تدري ما الذي عليها فعله ولا تستبعد أن هذا الكائن الذي رأته منذ قليل قد يقتلها هي، ووالدتها، وأخيها، وبالطبع والده لن يكترث لأفعاله، فلابد من أنه كان يعرف أنه يقوم بالدفاع عن مجرمين منذ زمن بعيد! وربما يكون نسخة أصلية منه!

 

فجأة هدأت وهي تعرف أن الوحيدة التي تعرف كل هذا عنه وقد تستطيع نصحها باتخاذ اجراء ضده هي "مريم" المعالجة النفسية لتصيح بسائقها:

-       بسرعة اطلع على برج *** اللي كنا بنروحه دايمًا!

--

بعد مرور نصف ساعة..

الآن كل ما كانت تفعله بات منطقي للغاية، لقد كانت تستغله، تخدعه هذه الماكرة، يا لها من عاهرة، لا تكترث بما بين قدميها وتركته له كما يحلو له حتى تصل لأسوأ ما فعله يومًا بحياته، ولكن هل تظن أن هذه هي النهاية؟!

أخرج هاتفه وهو يتفقد محتويات الغرفة التي انتهكتها بعهرها وتمثيليتها الزائفة صباح اليوم بالتعب، وخرج بخطواتٍ سريعة نحو الخارج ودخل السيارة وتحدث بغضب للطرف الآخر:

-       وصلت لحاجة يا وائل؟!

-       ايوة يا عمر بيه، خلاص اهو هبعتها لحضرتك على الايميل، كل أسماء الناس بمجالتهم هتبقى عندك خلال عشر دقايق..

 

عاد من جديد نحو مكتبه وانتظر على أحر من الجمر وهو يشعر بالنيران تتطاير من جسده ولكن هناك الأسوأ، لتوه تلقى شعارًا يُفيد بأنها ذاهبة لنفس المكان.. ما لعنتها؟ من الذي تلتقي به؟ يستحيل أن يكون هو نفس الرجل الذي اختار أن يكذب عينيه عندما رآه يلمسها وهي مسلوبة الأنفاس يومها!

 

لا بل كذب رؤيته معها هو وأخته، وكذب تلك المكالمة التي اجابتها وهما مسافران، كما كذب تغزله بها عندما قام بدعوة عائلتها القذرة على العشاء.. ألهذا الحد عماه العشق؟! ألم يتعلم من السابق أي شيء!!

 

هشم أسنانه وهو ينتظر وصول هذا البريد الالكتروني وبمجرد وصوله قام بطباعته ليُدقق في هذه الأسماء مليًا ثم أخذ الأوراق وغادر ليبلغ "محمود" سائقه:

-       في برج اسمه **** في شارع **** اطلع عليه بسرعة!

 

حدق بتلك الأسماء التي كُتبت أسفل كل رقم طابق وبالفعل هناك الكثير من الأطباء والشركات ولكن آخر ست طوابق مملوكة لمجرد مُلاك لا يزاولون أنشطة تجارية وبمجرد وصوله للاسم الأخير تيقن من أنها كانت تذهب له طوال هذه المدة!! لقد كانت تذهب له طوال هذا الوقت وهو مغفل بشدة، والآن تظن أنها ستُفلت بما تملكه بين يديها بمساعدته لها!!

--

بعد مرور ساعة ونصف..

جلس ببرودٍ كاسح في هذا الجو الصيفي بالمقعد الخلفي لسيارته يستنشق تبغ غليونه برمقاتٍ جليدية كبقعة تجمدت منذ ملايين السنوات ولم تلمسها مرة واحدة أشعة الشمس وانتظر رامقًا ساعته وهو يعد الدقائق؛ بل الثواني التي تصنع الدقائق، الدقائق التي كلما مرت لا تؤكد لها سوى حقيقة خيانتها البشعة..

 

كيف انساق لعشق امرأة من جديد؟ كيف ترك نفسه لفعلتها؟ هل لأنه ظن أنها النسخة النقية من الخائنة الأولى أم لأن هذا الفتى المُراهق لا يزال بداخله هناك في مكان ما وأذعن مُصدقًا بكل معاني العشق السخيفة الواهية التي قرأ عنها بقصص التاريخ الأسطورية؟!

 

العشق يدفعه لفعل كل ما لا يؤمن به.. لقد أخبرها هذا آلاف المرات.. ولقد كان في منتهى الغباء ليُصدق أنها مُختلفة عن شبيهتها الأولى ولكن ها هي تؤكد له أن هذه الملامح لا يحتمي خلفها سوى امرأة وفتاة خائنة!

 

لماذا صدق عهودها؟ لقد كان أمامه آلاف الإمارات التي صرخت به بأن لا عهد لها واختار أن يُكذبها، لماذا لم يستمع لكلمات والده؟ لقد اثبتت له آلاف المرات أن امرأة مثلها لن تتنازل عما تُريده واختار أن يتنازل هو بدلًا منها..

 

المزيد من الدقائق تمر، وهو يعدها في ثبات، فحميتيه تركا المشاعر بعيدًا حتى حملت عينيه الموت الجلي الذي استتر خلفه انكسار رجل يُخان مرة ثانية بعيدًا عن عينيه بعض الخطوات بالأعلى من امرأة ظن أنه سيودع بعشقها كل آلامه لتأتي هي اليوم وتضاعف آلامه ملايين المرات..

 

نفث دخانه ونظراته لا تزال ثابتة على ممر هذا العقار الضخم، بجانبه أسماء كل مالكيه، وأمامه الثلاث سيارات الذي ظن يومًا ما أنه يحميها بقبيلة من رجال الأمن من كل المخاطر.. يا لها من غبية، أظنت أن لتنازله ولينه وعشقه لها تستطيع الآن فعل كل ما تريده دون أن يعلم هو ما تفعله!

لو كان انتقم من الأولى خلال عامين بأكملهما، فهي، وخاصةً بعد أن تزوجها لن يُكفيه سنوات وسنوات من الانتقام، لو كانت الأولى تقبل الإهانة وتنتشي بها، فهي؛ وخاصةً بعد تجاربهما السابقة، لن تتخلص منه سوى بالموت الحتمي!

 

لقد كان ساذجًا بتصديقها بكل تلك الأيام الماضية وهي تُمثل أنها الزوجة الرائعة والعاشقة المُخلصة والصديقة التي لم يحصل عليها قط والأم التي افتقدها منذ نعومة أظافره، وفداحة سذاجته تتضح أكثر بأنه سمح لها بمنتهى الرضاء أن تُصبح له كل شيء في هذه الحياة.. وعليه، الجزاء من جنس العمل..

 

كم يا تُرى سيُسجن رجل محامي مخضرم مثله بعد أن يُعذبها كما يحلو له ويتشفى بها ثم يقتلها أمام أعين والدتها وأخيها وهي مُتهمة بجريمة ينجو منها الزوج وتقع تحت بند جرائم الشرف! ماذا عن الأدلة الموثقة؟ ماذا عن ثلاثة سائقين وسبع حراس.. شهادة عشر رجال، وأمن العقار برؤيتها مع هذا الرجل مرارًا، وسائقه هو نفسه، وتحت التهديد يستطيع اثبات الأمر بدليل موثق مرئي لها هي وعشيقها الذي كان يفتح له بيته لأكثر من مرة بل والجميع سيشهد بذلك.. هو الزوج المجني عليه بخيانة زوجته، أليس كذلك؟ كما يستطيع بمنتهى السهولة السلسة أن ينقل الواقعة بأكملها لبيت الزوجية الخاص بهما! انتقام يليق بها حقًا!

ولكنه لن يكون ضحية هذه المرة، سيقتل زوجته، هذا شرفه، وهذا حقه، ولا يستطيع أحد أن يغلبه في ذلك.. ستكون الجلسة المصورة التي سيتحدث عنها الجميع لأعوام.. خطة جيدة للغاية في مسيرته المهنية وهو يُمثل بمنتهى المصداقية دور المجني عليه..

 

سيدة الأعمال "روان صادق" تُقتل على يد زوجها المحامي الشاب "عمر يزيد الجندي" بعد شهور من الزواج والسبب خيانتها له! عنوانًا يُلائم الصفحة الأولى لأشهر صحف الدولة!

أو؛ سيدة الأعمال "روان صادق" تقوم بالانتحار بعد اكتشاف زوجها حقيقة خيانتها له مع ابن خالتها! هذا أيضًا عنوان جيد! والسبب رفضه تطليقها بعد أن استغلته بقضية استرجاع املاك أُسرتها من عمها "نادر صادق"..

 

نفث دخانه بهدوء، سلط نظرته الجليدية على الساعة بيده ثم بسرعة راجع بذهنه مادة قانونية حفظها عن ظهر قلب، المادة الستون من قانون العقوبات، لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة. ولحسن حظه وسوء حظها هي زوجته شرعًا وقانونًا!

 

 

تجمد جسده بأكمله كاتمًا لأنفاسه عندما رآها تُغادر هذا العقار وهي تلتفت بارتباك واضح عليها للغاية ثم سرعان ما دخلت للسيارة وجذب هاتفه يتصل برقمها ليجد نفس الرسالة.. الهاتف الذي يتصل به ربما يكون مُغلقًا وربما يخص امرأة خائنة دفعته للانشغال بعمله كي تفعل من وراء ظهره ما يحلو لها بخِسة واضحة..

 

لمعت عينيه بمسحة تكاد تكون معدومة من العبرات التي لجزء من الثانية أدت لإظهار فحميتيه كليل كئيب يُنبأ بسيل جارفٍ لن ينتهي أبدًا والسيارة التي تخصها تتحرك مُغادرة..

أمسك بهاتفه وتفقد ما أرسله له رجل الأمن الذي يُلازمها بالسيارة ثم قرأ الرسالة منه التي اعلمته أنها مُتجهة لمنزل عائلتها..

 

اخيرًا بعد ساعة ونصف استطاع جفنيه الراحة لبُرهة، عدة ثوانٍ لآخر مرة في حياته سيشعر بالراحة خلالها، هدوء مخيف يسري بكيانه بأكمله ليُطلق تنهيدة في النهاية دلت على أنه لا يزال حيٌ يُرزق ثم تكلم آمرًا بجفاء:

-      اطلع على بيتي أنا وهي..

 

حدق بالفراغ بنفس هيئته التي شابهت تمثال لا يتنفس ولا تغادره زفرة واحدة تدل على حياته وبرأسه لا يرى سوى الكثير من الأيام، العهود، التوسلات، رسائله التي كتبها كالمغفل تمامًا إليها وظن أنها المرأة النقية الوحيدة التي لا تزال حية تُرزق في هذه الحياة الفانية!

 

كلما تذكر كام كان ساذجًا شعر بداخله بالوهن، وكلما تذكر كلمات والده عنها التي هو نفسه لم يُشكك بخيانتها له ولم يطرأ الأمر على عقله يتيقن من جديد كم هو رجل ضعيف، كم هو ساذج أمام النساء، وكم هو بعيد كل البُعد عن النجاح والقوة الذي يستتر خلفهما حقيقته التي لا تتغير!

تحدث بلهجة آمرة من جديد لا تنقل سوى الحروف الفارغة من المشاعر أو التأثر:

-      وقف العربية وانزل، انا هاكمل لوحدي

 

تعجب السائق من كلماته وهو ينظر له بلمحة خاطفة عبر المرآة الداخلية للسيارة ولكنه فعل فهو بالنهاية يتقاضى آجره منه وبمجرد ترجله وجده هو الآخر يفعل ثم حدثه بلذاعه بنفس اللهجة دون أن ينظر له:

-      اعتبرها اجازة مدفوعة، هابقى اكلمك وقت ما اعوزك!

 

استقل سيارته ولم يكترث بهذا الرجل الذي تركه بمنتصف الطريق وانطلق مسرعًا متجهًا إلى أقرب طريق سريع قد يكون خاليًا في مثل هذا الوقت من السيارات والاكتظاظ المروري ثم اخيرًا استطاع البُكاء دون أن يشعر بالخوف من مراقبة أي عين له!

 

هشمه الانكسار راجفًا بجسده الذي هز كيانه بأكمله وهو لا يدري لماذا عليه تحمل الأمر مرتين، أهو رجل يستحق أن يُخان بدل المرة مرتان؟ هل عليه أن ينتقم مرتان؟ وإذا كانت "يُمنى" صدعت روحه لسنوات وكادت أن تصنع منه قاتل، ما الذي سيتعرض له بعد انتهائه من "روان" ومن انتقامه منها؟

 

انتحب بوهنٍ ثم التفت حوله ليرى ما إن كان هناك من يتابعه أو يراه لتزداد شهقاته بعد أن اطمئن بأن أقرب سيارة له تبتعد بمسافة كبيرة عنه وترك لنفسه المزيد من الدقائق بعد أن يشعر بالحزن والاستياء قبل مواجهة كل ما سيواجهه معها كبداية جديدة عليه وعليها قد لا تتركها سوى بأبشع منظرٍ وحالة قد تخطر على عقل بشر.. فبعد سقوط قناعها الماكر الذي خدعته به لن يراها سوى على حقيقتها الخبيثة التي ظنت أنها ستنجو بها منه!

--

الحل الوحيد مع امرأة مثلها سيكون في غاية السهولة، هل تظن أنها خدعته، هي لا تعرف من هو بعد.. أو ربما تعرف واستهانت بما يستطيع فعله، ليُريها ما المُقبل عليه من محامي يستطيع أن يتملك حياة رجال بين أصابعه!!

 

كان عليه أن يقوم بالاستعداد لهذه اللحظة تحديدًا، وقد استعاد تركيزه من جديد وتخلص من ضعفه الذي لطالما كان عقبته في الحياة، هذه المرة سيتخلص منه للأبد بقتلها، ربما عليه أن يُعذبها أولًا وبعدها سيجعلها تتمنى الموت بل ولن يسمح لها بفعله، ولحسن حظه قد ترافع عن هذا القاتل وأخرجه من قضية كان حكمها الإعدام المؤكد..

 

مشى برواق تلك المشفى وهو الذي لا يكره أكثر من استنشاق هذه الرائحة الكريهة التي تفوح من كل مستشفيات العالم بأكمله ودخل دون انتظار ونظر للرجل بهدوء كاسح وأعين تحمل لون الموت وابتسم له وقال مستنكرًا:

-       دكتور حسام.. بقالنا كتير متقابلناش..

 

انتفض الرجل بجلسته وسريعًا قام بصرف رجلين كانا يجلسان معه ثم حدثه متسائلًا:

-       احنا اتفقنا اننا منتقابلش بعد ما أخدت اتعابك.. خير.. ايه اللي فكرك بيا؟

 

اتجه بمنتهى الأريحية وجلس على واحدًا من تلك الكراسي أمام مكتبه ثم أخبره مجيبًا:

-       هو خير أو شر، على حسب أنت هتعمل ايه.. بس خلينا نجرب.. أنا عايز فريق كامل يقدر يعمل اسعافات، يعلق محاليل، يخيط جروح، يدي حُقن، يخدر، يفوق، وطبعًا لو عايزين جراح شاطر أكيد هنكلمك وأنا عارف العشم اللي ما بينا.. وأظن لما كسبت القضية ده فهمك أنا ممكن اعمل ايه واقدر على ايه!

 

نظر له الرجل بملامح مبهمة بينما أردف "عمر" بثقة شديدة وهو يحدقه بما ارتعب الآخر منه لسنوات:

-       من حقك ترفض، ومن حقي كمحامي بيجيب حقوق الناس اعرفهم مين دكتور حسام عبد الرازق واقولهم على حاجات كتيرة.. زي الغلطات بتاعت العمليات، أو بيع الأعضاء لناس محتاجينها، والمصيبة ازاي بتجيب الأعضاء دي وأنت بتقول انها من متبرعين.. من حقي مش كده؟!

 

ابتلع الرجل وتجهمت ملامحه بينما ابتسم الآخر وهو على يقين أن كل من كان على شاكلته بالطبع سيُفكر آلاف المرات قبل أن يُفضح أمام العالم بأكمله!

--

في مساء نفس الليلة..

دخل المنزل ليجدها منتظرة اياه بالقرب من بهو الاستقبال ليلمحها بثاقبتيه الفارغتين من المشاعر تمامًا وكل ما يتساءل به وهو يتفقدها باضطرابها الجلي عليها، هل يا تُرى اضطرابها هذا لخيانتها القذرة أم لعدم مقدرتها أن تواجهه وتنظر له بمقلتيه!

 

وجدها تنهض لتواجهه بارتباك ثم همست له بترددٍ شديدٍ:

-      محتاجة اتكلم معاك!

 

ابتسم لها بعذوبة واقترب نحوها ليرى مُقلتيها فازعتين من مجرد خطوة واحدة اتخذها ثم همس إليها متصنعًا التلقائية وقد برع بالأمر تمامًا:

-      خير يا بنوتي؟

 

ابتلعت وهي تحاول الثبات بعد كل ما أدركته عنه ثم حدثته بتردد مرة ثانية:

-      عمر أنا بجد حاولت كتير وفشلت في كل محاولاتي معاك.. مبقاش قدامنا حل غير الطلاق! أرجوك ننفصل بهدوء من غير ما نكرر خناقنا وعصبيتك وعياطي، خلاص مبقاش ينفع غير كده..

 

عقد حاجباه وهو يتصنع الدهشة على ملامحه فمن المفترض انهما بأفضل حال قد يكون به اثنين متزوجين يعشقا بعضهما البعض، ومن المفترض كذلك أنه تركها صباح اليوم بأعجوبة بعد أن شق عليه ترك عناقها للذهاب لعمله، ولكن ما لا تعلمه هذه الساذجة أنه اكتشف خداعها له وقد أصبح على يديها الرجل الذي يُخان مرتان بل وفي منتهى الغباء كي لا يتعلم من اخطائه..

 

كان عليه أن يتحلى بالمزيد من بلاهته وتعجبه فتسائل بخفوت:

-      روان، احنا كويسين يا حبيبتي.. ايه اللي خلاكي فجأة كده بتتكلمي عن الطلاق؟

 

تهدجت انفاسها بخوفٍ ورأسها لا يتوقف به كل ما شاهدته ثم حدثته بتوتر:

-      انا كنت بحاول الفترة دي كلها بس خلاص مبقتش استمر اكتر من كده معاك!

 

زم شفتاه وهو يدعي الاستياء على ملامحه واقترب نحوها من جديد لتتقهقر هي للخلف واعينها متوسعة وأومأت له بالإنكار ثم همس بها بحزن زائف:

-      احنا اتفقنا اننا هنتكلم في كل حاجة بهدوء وصراحة مع بعض..

 

ادعى بعض الانزعاج الذي لابد له من الظهور على ملامحه وواصل:

-      خلينا نتناقش مرة، ولو ده قرارك ومصممة عليه مش همنعك عنه..

 

ضيقت ما بين حاجبيها وهي تتفقده بمزيد من التوجس الشديد وهي تموت رعبًا بداخلها وقلبها ينبض بصدرها كالجمر المتقد الذي يحرق بها كل ذرة دماء يقوم بضخها بداخل عروقها بينما وجدته يُتابع بنبرة ممتزجة من الحُزن والتفاهم:

-       اقولك على حاجة.. خلينا نتعشى برا ونتكلم سوا بعيد عن كل اللي في البيت.. أنا عارف إن مامتك وبسام هنا وأنتي مبتحبيش تقلقيهم عليكي.. ايه رأيك؟ الكلام برا هيكون أحسن ليا وليكي وفيه خصوصية أكبر!

 

تفقدته بحيرة ونظراتٍ خائفة لترطب شفتيها وهو في انتظار اجابتها بعد صنيعه الذي يحاول خلاله أن يبدو مُقنعًا ليجدها في النهاية تومأ له بالقبول وعقبت بحروفٍ بهتت به نبرتها:

-       أوك.. يكون احسن..

 

أومأ لها بالموافقة ثم حدثها وهو يجلس على كرسي قريب:

-       تمام، غيري هدومك براحتك واجهزي وهستناكي هنا..

 

ابتلعت وهي ترمقه بخوفٍ وهزت رأسها مرة ثانية بينما توجهت للأعلى حتى تقوم بتبديل ملابسها وبمجرد التفاتها وتركها له تابعها بفحميتيه التي التمعتا كأفعى نهمة جائعة في انتظار الانقضاض على فريستها ولكن كل ما تنتظره هو أن تقع هذه الوجبة الدسمة بفخها الذي نصبته بمنتهى الإحكام!


يُتبع..