-->

رواية نابغة بعصر الأغبياء - للكاتبة أسماء المصري - الفصل الأول

 رواية نابغة بعصر الأغبياء
للكاتبة أسماء المصري


رواية نابغة بعصر الأغبياء

الفصل الأول


ظلت تتلفت حول نفسها وتنظر يمينا ويسارا حتى تتأكد أنهما بمفرديهما فما كان إلا أنه ابتسم لها وسحبها بقربه هامسا لها بشوق: 

-جميلتي، لا تقلقي فلا يوجد أحد هنا بذلك الوقت المتأخر.


بادلته البسمة وهمست له برقة: 

-أنا لست خائفة، فقط أهتم لمكانتك مولاي وحبيبي.


تنهد الملك سيتي وضمها أكثر لصدره مدققا نظرة بعينيها الجميلتين وقال متأثرا بمشاعره: 

-تعلمين يا بنتر كم أعشقك أليس كذلك؟


اتسعت بسمتها وهي تجيبه: 

-أليس ذلك بسبب رضاء اﻵلهة علي مولاي أن يعشقني ملك مصر اﻷول والأوحد !


رد بهيام: 

-بل هو رضائها علي أنا لجعلي أراكِ مصادفة بتلك الشعائر وقت مراسم تتويجي، تعلمين أنني بذلك اليوم لم أهتم سوى للنظر لعينيك الساحرتين والتي تذكرني بشمس المعبود رع.


اتكئت بجسدها تستند عليه وتنهدت بحزن وهي تعقب: 

-فقط أخاف المستقبل مولاي، فبالرغم من أنك فرعون مصر إﻻ أن القواعد تمنع نشوء تلك العلاقة و....


قاطعها واضعا كفه على فمها وانحنى مقتربا من أذنها هامسا: 

-لاجلك أُغير قوانين العالم أجمع جميلتي بنترشيت وإن حاول كهنة رع الوقوف بطريق حبي لكِ سأهدم معبدهم على رؤوسهم وأُنصّب المعبود ست رمزا لمُلكي إن اقتضى الأمر .


❈-❈-❈

استيقظت تلك الفتاة ذات العشرون ربيعا تغلق عينيها و تفتحها أكثر من مرة حتى تعتاد إضاءة الشمس الساطعة من نافذة غرفتها وتتحمل صوت والدتها المزعج فوق رأسها وهي تهتف: 

-هيا دورثي استيقظي فحقا لا اجد وصف لطريقة نومك الثقيلة؛ فأنا أحاول إيقاظك منذ ساعة يا فتاة، وكأنك لم تكوني هنا سوى بجـ سدك فقط .


تنهدت دورثي وتمطعت بجـ سدها وردت بضيق: 

-بالفعل لم أكن هنا، لقد كنت بمنزلي الحقيقي ومع حبيبي وعشـ يقي الفر......


صرخت هانده توقفها عن استكمال حديثها بتوبيخ لاذع: 

-ألم تكتفِ من المصحات النفسية والمشافي المخصصة للمجانين يا ابنتي العزيزة! ألم تكتفِ من نظرة الناس والمجتمع لكِ! كيف لكِ لا تهتمين بنا ابنتي وبوالدك الذي تعب كثيرا لأجل إخراجك من المصحة النفسية!


نظرت لها دورثي بغضب واﻻخرى تكمل توبيخها: 

-إلى متى ستظلين تتحدثين عن هذا الهراء؟


ردت بحدة: 

-ليس هراءاً، وإن كنتِ لا تريدين التصديق فهو شأنك أنتِ سيدة هانده .


صفعتها بقوة على وجهها صارخة بشراسة: 

-انا أمُك واللعنة؛ فكفي عن نعتي بذلك اللقب.


دارت هانده حول نفسها وهي تتذمر وتنوح وتبكي هاتفة: 

-كم أتمنى أن يعود بنا الزمن ليوم حادثك المشؤوم؛ فإما أن انقذك من السقوط من ذلك الدرج أو أن أكتم أنفاسك بعد أن عُدتِ من الموت شبح لابنتي .


بكت وانتحبت وهي ترجوها: 

-استحلفك بالله دورثي، كفى ابنتي فلم أعد أتحمل رؤيتك بهذا الشكل .


وقفت الأخرى أمامها بشموخ مجيبة بقوة: 

-أنا لست دورثي، أنا الكاهنة بنترشيت كاهنة معبد أبيدوس وخادمة المعبود رع وست و عشيقة فرعون مصر الملك سيتي مري إن بتاح أكبر ملوك الأسرة التاسعة عشر وحبيبي.


نظرت أمامها بإصرار واكملت: 

-شئتِ أم ابيتِ تلك هي أنا ولن أرتاح حتى أعود لموطني وحياتي ولا يهمني ماذا يفكر الأغبياء من عالمك بحقيقتي فأنا أعلم تمام العلم من أنا.

❈-❈-❈


تركتها وخرجت فعادت والدتها بذاكرتها منذ سبعة عشر عاماً عندما كانت ابنتها تلعب على درج المنزل وحدث ما حدث . 


وقفت دورثي تقفز على حافة الدرج بلهو وهي تهلل وتهتف بفرحة وصوت طفولي:

-انظري أمي ، أنا اقفز عاليا .


ابتسمت هانده ورفعت بصرها لأعلى تحذرها بالابتعاد عن الحافة: 

-ابتعدي قليلا صغيرتي عن الحا....


وقبيل أن تكمل حديثها كانت دورثي قد سقطت بالفعل لتصرخ هانده بفزع:

-طفلتي .

هرعت لتلتقطها ولكن كان الأوان قد فات وسقطت الطفلة ذات الثلاث أعوام لتلقى مصرعها على الفور .


جاء والدها ومعه الطبيب أملاً منه في أن يُكذب خبر وفاة صغيرته ولكن أحنى الطبيب رأسه بعد أن اتم الكشف عليها و التفت لوالديها يقول بأسى: 

-أنا آسف حقا، لقد توقف قلبها تماماً عن العمل تعازي الحارة لكما وليرقد جسدها الصغير بسلام .


ارتمت هانده أرضا تصرخ بانهيار وتتضرع لربها : 

-إلهي، أعد لي طفلتي أو أرافقها برحلتها تلك حتى لا تكن وحيدة .


ربت إيدي على كتفها يحثها على الصبر: -اصبري هانده فقد اختارها الله لتكون أحد الملائكة .


كان تدينهما هو عزاءهما الوحيد عن فقدان فلذة كبدهما .

بدأ إيدي بتجهيز مراسم الدفن والعزاء وإحضار أصغر التوابيت لصغيرته وطفلته البريئة والتي اُختطفت منهما مبكراً وسط بكاء عائلتها و صراخ والدتها .


دلفت هانده حتى تقوم بتغيير ملابسها استعدادا لمراسم الدفن فأمسكت بفستان ابيض رقيق يشبه فساتين الأميرات و توجهت لغرفة طفلتها ولكنها تفاجئت بشيئ جعلها تسقط مغشيا عليها .


اقترب إيدي سريعا ليسند زوجته الملقاة أرضا فنظر أمامه ليجد دورثي جالسة على فراشها تبتسم لهما وتمسك دميتها الخشبيه تلعب بها وكأن شيئا لم يكن .


صرخت هانده بفرحة وعدم تصديق: -ابنتي، طفلتي! لا أصدق عيناي، هل هذا حقيقي وأنتِ أمامي يا أغلى من عيوني؟


ابتسمت دورثي ولم تجب فأقبل عليها إيدي بدوره يقبلها من أعلى رأسها شاكرا ربه: 

-الشكر للرب هذه معجزة .


لم يصدق أحداً من عائلتيهما ولا الطبيب نفسه ما حدث فقرروا فحصها بشكل مكثف للإطمئنان عليها ولكن بتلك اللحظة تحديداً لم يكن شيئاً يهم والديها سوى سلامة صغيرتيهما وأنها على قيد الحياة .


❈-❈-❈

عادت هانده من شرودها بالماضي لتهمهم بخفوت داخل نفسها: 

-مفتاح الحقيقة يكمن بذلك اليوم، كل شيئ بدأ حينها ولا بد أن أتوصل للحقيقة فأنا لن أترك ابنتي الوحيدة تعيش حياتها منبوذة من الجميع بل ويكرهها ويهابها الجميع ويتعاملون معها على أنها مجنونة.


تحركت بجسدها وباشرت مراقبتها من بعيد حتى لا تلحظ الأخيرة مراقبة والدتها، ولكن هيهات فكأنما بها عينان بخلف رأسها وتعلم تماماً بمراقبتها فنظرت للمرآة لتجد هيئتها التي اعتادت عليها بزيها الفرعوني تبتسم لنفسها وتحرك رأسها كأنها تطمأنها بأن كل شيئ سيكون على ما يرام .


ارتدت ملابسها وتصنعت الهدوء وتحركت للخارج فأوقفها صوت والدتها المتسائل: -إلى أين؟


ردت بتأفف: 

-ذاهبة للمدرسة إن لم يكن لديكِ مانع!


وقفت هانده أمامها وقالت بتحذير: 

-فقط كُفي عن التحدث لأساتذتك بنفس الطريقة، و كُفي عن المقارنة بين ديننا المسيحي و الديانة المصرية القديمة فأنا لا أريد زيارة أخرى من القس ليعمد البيت أو حتى ليجبرك على الإنصياع لأوامر الكنيسة، أفهمتي ابنتي؟


أومأت بملل مجيبة: 

-سمعاً و طاعة.


خرجت وهي تتمتم بعبارات غير مفهومة وبلغة غريبة تعلم الأخرى جيداً أنها الهيروغليفية التي أصرت على تعلمها بسن التاسعة؛ فانصاع لها والدها ليتفاجئ أستاذها بتعلمها اللغة بسرعة كبيرة .


وعندما سألها بحيرة: 

-كيف استطعتِ التعلم ومواكبتي بتلك السرعة يا صغيرتي؟

ردت مبتسمة بضيق: 

-تلك لغتي الأم وأنا أعلمها جيدا ولكن لم أكن أستطيع قرائتها وكتابتها وعندما بدأت تعليمها لي استرجعتها على الفور من ذاكرتي.


نظر لها المعلم بحيرة ورمق والدتها بنظرة ذات مغذي لتبتسم الأخيرة لابنتها قائلة: -حسنا دورثي اصعدي لغرفتك صغيرتي.


تركتهما وصعدت لأعلى فهمس لها المعلم موضحا: 

-هناك أمر عجيب بابنتك، فهي تعلم الكثير عن الحياة الفرعونية بل وكأنها كانت تعيش بينهم لذا انصحك بأخذها لزيارة المتحف المصري بلندن لتشبعي شغفها المندثر ذاك.


عادت هانده من ذكرياتها وهي تتمتم بأسف: 

-يا ليتني لم استمع لك، ما كنت أعاصر ما أعايشه اﻵن .


❈-❈-❈

ذاهبه لمدرستها التي تنبذها ولا تطيقها بسبب تنمر زملائها الكبير وعدم تصديق أي منهم لقصتها؛ فأنهت بفروغ صبر اليوم الدراسي وعادت لمنزلها فلم تجد والديها ولكنها لم تهتم وصعدت غرفتها لتسترح قليلا؛ فغفت فجائها فارسها الذي تسعد بلقياه دائما في أحلامها والذي ابتسم لها وناداها بصوته الذي يأثر فؤادها: 

-بنتر أين أنتِ؟


خرجت مردتية زيها الفرعوني و المخصص للكاهنات وهرعت تجاهه بفرحة وسعادة كبيرة ترتمي داخل حضنه وقبلته قبل كثيرة على وجهه ووجنتيه وهو يضحك باتساع فاهه قائلا: 

-ألهذا الحد اشتقتِ لي ؟


ابتعدت عنه لحظات وقالت بصوت حزين: -فراقك أصبح يؤلمني يا مولاي ، لم أعد أتحمل أن أراك على فترات متباعدة بهذا الشكل.


رد وهو يداعب وجهها بسبابته: 

-فقط سبع ليالٍ قمرية هي كل ما ابتعدت بها عنك بنترشيت.


تجهم وجهها وأطرقته لأسفل و هي تقول بأسف وحزن: 

-وهل سبع ليال قمرية وقت قليل؟ ألم تشتاق لي كما أفعل أنا؟


اتسعت بسمته واحتضنها هائما ورد بهمس: 

-بلى حبيبتي ، اشتقت لكِ حد الألم ولكن أمور الدولة قد أخذتني .


ابتلعت لعابها وقالت بفضول: 

-أمور الدولة أم مولودك الجديد الذي وضعته لك زوجتك؟


ضحك ملئ فاهه ونظر داخل عينيها ورد مؤكداً: 

-فقط أمور الدولة معشوقتي الغيورة، تعلمين أن لا غيرك يحتل هذا القابع بداخلي وإن كنت معها بجسدي فعقلي وروحي وقلبي وكياني معكِ انتِ بنترشيت.


بللت شفتيها بطرف لسانها وعقبت: 

-وماذا عن نجلك مولاي؟


أجابها وهو يسحبها داخل حضنه: 

-تغارين من زوجتي وتفهمت الأمر ، ماذا أقول لغيرتك من ابني؟


أطرقت رأسها لأسفل ودمعت عينيها فهمس بالقرب من أذنها: 

-معشوقتي، لا تحزني فقريبا سأجد حلا ولولا تأديتك لنذورك الغبية لكهنة المعبد لأصبحتي زوجتي وقرينتي رغم أنف الجميع، ولكنني لا أستطيع الوقوف اﻵن أمام الكهنة، فقط أنتهي من حروبي مع الحيثيين وأتفرغ لإيجاد حل.


قضمت شفتيها ونظرت له بوله وقالت برومانسية: 

-أعشقك مولاي وفرعوني .


انحني يقبل كل إنش بوجهها وهو يردد: 

-وأنا أعشقكِ يا من سرقتِ قلبي وعالمي.

❈-❈-❈


جلست أمام الطبيب برفقة زوجها بعد أن مرت إليه بعمله وهي ترتعد خوفا وتبكي حزنا وألما ووضحت: 

-منذ ذلك اليوم المشؤوم وهي تتغير للأسوأ ولا يوجد بيدي حل لإخراجها مما هي فيه، فلا بد أن تجد لي علاج لحالتها.


رد الطبيب بحيرة: 

_منذ سبعة عشر عاماً وأنا لا أجد توصيف أو تشخيص لحالتها عزيزتي هانده، فكما شخصت تحدثها تلك اللغة الغريبة منذ أن كانت بالثالثة بأنها (متلازمة اللكنة الأجنبية) إلا أنها اثبتت للجميع عامة و لي خاصة أنه تشخيص خاطئ فهي لغة حقيقية وقد أكدها لي ذلك اﻻستاذ الذي جعلها تتقنها ليس تحدثا فقط ولكن قراءة وكتابة أيضاً.


تكلم إيدي بحيرة: 

-أنا خائف من انتكاستها من جديد فأنا لن أتحمل دخولها المصحة العقلية مرة أخرى.


رد عليه مؤكدا: 

-حالات الهياج التي كانت تراودها قد قلت كثيرا وربما خبُت تماما، ولكن كل ما يؤرقكما اﻵن أنها لا تزال تصر على حديثها القديم بأنها كاهنة فرعونية أليس كذلك؟


رد إيدي مؤيدا: 

-نعم، وأيضا حديثها لنفسها بالمرآة وأحلامها المتكررة وسيرها أثناء نومها، كل هذه أعراض مقلقة وتجعلني أخاف عليها من المجهول والقادم.


رد الطبيب يوضح ما لا يفهمه: 

-أنا حقا قد عجزت عن إيجاد تفسير علمي وخائف جداً بأن اسلم بالتفسير الخرافي بأنها تقول الحقيقة وهي ليست من عالمنا.


نظرت له هانده بخزي واحتقنت حدقتيها بإحمرار الغضب وهدرت به: 

-أنت من تقول ذلك؟ أين الطب والعلم؟


أجاب موضحا: 

-أحيانا يقف العلم حائراً عن تفسير بعض الظواهر الكونية الغريبة ومن أهمها أن الإعجاز العلمي لم يكتشف حتى اﻵن سر التحنيط لدي القدماء المصريين وربما كان لديهم من العلم ما يفسر حالة ابنتك لذا انصحك بالتوجه لمصر لربما تجد الأجوبة التي تريدها هناك.


❈-❈-❈

عادا بخفي حنين ودلفا للمنزل هائمين على وجهيهما فارتمت هانده أرضا تبكي بحرقة: 

-ابنتي الوحيدة إيدي، ابنتي الوحيدة تضيع من بين يداي ولا أجد حلا.


مسح على ظهرها مهدئا إياها وقال: 

-لا تحزني عزيزتي فسوف أجول العالم أبحث لها عن دواء وإن كلفني حياتي.


استمعا لصوت خطواتها النازلة على الدرج؛ فاقتربت منهما على الأرض وجثت بجوارهما تحتضنهما بقوة وصمت فأحاطهما إيدي بذراعيه هاتفا: 

-أنتما كل عالمي.


نظرت له دورثي ببسمة مصطنعة وقالت بصوت رقيق: 

-أنا بخير أبي، وسوف أتحسن فقط لا تقلقا علي.


تفاجئ بنعتها له أبي فهي لم تقولها إلا بحالات نادرة، فابتسم لها بفرحه وأومأ برأسه موافقا على حديثها وساعد زوجته بالنهوض والتي لم تصمت بل نظرت لدورثي متسائلة: 

-حقا بنيتي؟ أم فقط تخافين إرسالك للمصحة العلاجية.


ردت بثقة: 

-حتى وإن حاولتهما فعلها مجددا فلن تستطيعا؛ فأنا لم أعد نفس الفتاة الصغيرة، و تأخري بإنهاء دراستي كان بسببكما ولن أسمح لكما أن تفعلاها مجدداً.


تركتهما في حيرة من أمرهما و توجهت للحديقة التي تحيط منزلها وجلست أرضا تنظر للنجوم تتحدث معها وكأنها ترسل لها إشارات ورسائل وتستقبل منها أجوبة أيضاً تدونها بقلمها بنفس اللغة التي تتقنها.

❈-❈-❈

استيقظت في الصباح على غير عادتها تشعر بالنشاط، تبتسم أمامها فبادلها الابتسام وهي غير مدركة هل فعلا قضى معها الليلة بأكملها ولم يتركها !


نادته بصوت هامس متحشرج من إثر النوم: 

-مولاي.


رد مقتربا منها ومصححا لها : 

-بل سيتي، فقط سيتي دون ألقاب.


اتسعت بسمتها وسألته بتوتر: 

-لماذا لم تعد حتى لا يرتاب أحدا بغيابك؟


رفع حاجبه الأيسر متعجبا ورد ضاحكا: -يرتاب! أنا فرعون مصر الأول والأوحد بنترشيت ، أﻻ تدركين ذلك؟ فقط خوفي عليكِ أنتِ ليس أكثر لأنني أعلم ما يستطيع الكهنة فعله لمن يُدنس نذوره بالعفة.


ردت باكية: 

-يا ليتني كنت أعلم، ما كنت وهبت نفسي مطلقا لخدمة المعبد وما كنت تفوهت بحرف واحد من تلك النذور.


تنهد بحيرة ومسح على كتفها هاتفا: -حينما انتهي من حروبي مع الحيثيين سوف اأهيئ لكِ مكانا بعيدا عن أعين الناس لنعش به سويا معشوقتي.


سألته بتعجب: 

-وماذا عن مملكتك مولاي؟

رد مقبلا إياها قبلة شغوفة: 

-لأجلك أتنازل عن ملكوت العالم أجمع.

❈-❈-❈

أحياناً يشعر الإنسان بالضياع وسط عالمه فما بالك بشخص يظن أنه دخيل على عالمه ذاك! كانت هي دائما تشعر هكذا وتحاول بشتى الطرق الإنخراط بواقعها والإبتعاد عما يحاول الجميع إقناعها بأنه خيالات لا حقيقة، ولكن كيف وهي تشعر بنفسها وهي مستيقظة ونائمة، جالسة وسائرة بأن الأمر ليس فقط حقيقياً ولكنه واقعا تعيشه.


جلست أمام طبيبها بزيارتها المعتادة مطرقة رأسها تسترجع حلمها أو واقعها هي أصبحت لا تعلم والذي كان منذ ساعات قليلة عندما استيقظت على لمسات رقيقة ظنت أنها لوالدتها ولكنها تعجبت عندما فتحت عينيها فوجدته بشحمه ولحمه فرعونها وحبيبها سيتي جالساً أمامها بغرفة نومها؛ فابتلعت ريقها ونظرت لهيئتها ومنامتها الحديثة وسألته بحيرة: 

-مولاي! كيف أتيت إلى هنا؟


رد بتجهم وجهه: 

-كان لابد أن أجتاز الحواجز لتنبيهك بما هو اتٍ بنترشيت.


ابتعلت من جديد ريقها بتباطئ أنفاسها وسألته: 

-ماذا تقصد؟ هل أنت بخير؟


أومأ لها مجيبا بجمود في تعابير وجهه: -التعويذة فشلت للمرة الثانية بنترشيت، ويبدو أنكِ ستظلين عالقة هنا لفترة أخرى ولكن لا تحزني حبيبتي كل ما عليكِ أن تتقني دورك جيداً.


لم تعي ما يقوله فتسائلت بفضول: 

-ماذا تعني؟


رد موضحا: 

-إن شعرا والدي تلك الفتاة بأنك لست ابنتهما فستعودين مرة أخرى لذلك المكان الذي أودعوك فيه قبلا، وكثرة العقاقير التي يعطونها لكِ تؤخر مفعول التعويذة حبيبتي، وأنا أريد استعادتك سريعا يا عشقي الوحيد.


اتسعت بسمتها وبكت هاتفة بتساؤل: 

-أنا لا أهذي وأنت حقيقي بجسدك هنا بغرفتي مولاي وحبيبي، أليس كذلك؟


أومأ لها موضحا: 

-لا أستطيع المكوث أكثر من ذلك، فقط لا تنسي أن تقنعي الجميع بأنك تلك الفتاة، ما أسمها؟


ردت فورا: 

_دورثي لويز.

ردد مؤكدا: 

-أنتِ من اﻵن دورثي لويز حتى أعود لأتواصل معكِ من جديد عندما يكتمل القمر وأحاول مرة أخرى استعادتك معشوقتي.


عادت من شرودها عندما هتف الطبيب بصوت مسموع: 

-أتسمعينني دورثي؟


أومأت باقتضاب وأجابت: 

-نعم، أسمعك بوضوح.

ابتسم لها وسألها: 

-إذاً من أنتِ اليوم؟


ردت بحدة: 

_دورثي لويز إيدي.

رفع حاجبه وقال بمحاورة: 

-لستِ بترشيت الكاهنة الفرعونية عشيقة الملك سيت؟


رمقته بتقزز وصححت له: 

-تقصد الفرعون سيتي الأول أعظم ملوك اﻻسرة التاسعة عشر!


ابتسم وأومأ لها مؤكدا: 

-نعم هو، أعتذر عن خطأي فأنا لست ضليع بعلم المصريات.


ابتلعت لعابها بتوتر وارتبكت قائلة: 

-لا مشكلة، فقط كنت أصحح لك الإسم ولكنني دورثي لويز إيدي اﻻبنة الوحيدة لإيدي بنزالز وهانده بنزالز، اسمياني تيمنا بوالدتيهما، فدورثي هي والدة أبي و لويز هي والدة أمي.


نظر لوالديها بتعجب ولكن لم يفت عليه تجهم وجهها فسألها بمراوغة: 

-هل تشعرين بالضيق الآن دورثي؟


ردت مجيبة: 

-نعم ، فأنا لا أريد تكرار تك الزيارة من جديد كفاني تنمرا من الجميع.


ٍسألها مستنبطا: 

-تنمرا بسبب حالتك المزاجية المتقلبة والتي تهيئ لك أحيانا بأنك كاهنة فرعونية؟


حاولت اختلاق أي كذبة لتقنع ذلك الطبيب أنها قد تعافت حتى يتركها وشأنها إلى أن تعود لعالمها فردت: 

-كل ما هنالك أنني أشعر بالضجر أحياناً وربما اختلقت بعض الأمور لإدخال الإثارة والتشويق لحياتي.


سألها متعجبا لسماعه حديثها ذلك لأول مره منذ سبعة عشر عاماً: 

-اتعترفين أنك كنت تختلقين الأمر؟


أومأت له بإصرار مفسرة: 

-نعم، فكما رأيت أصبح الجميع يتعاملون معي بحذر ولكنني حقا قد مللت من ذلك الأمر وأشعر بوالداي قد تعبا كثيرا لذا أود أن أعتذر لهما وأعدهما أنني لن أضايقهما مجددا.


انتهت الجلسة ولكن ليس قبل أن ينفرد الطبيب بوالديها وهمس لهما مفسرا: -ابنتكما أذكى بكثير من أن تقع بخطأ الإعتراف ذلك إﻻ وأن يكون هناك مخطط بعقلها. 


سأله إيدي: 

-ماذا تعني بمخطط؟

رد بوضوح: 

-أمران لا ثالث لهما، إما انها خافت إيداعها بالمصحة النفسية مرة أخرى؛ فادعت أنها توقفت عن الهذيان، أو أنها تخطط لشيئ أكبر من أن يتقبله عقلي.


ابتسم بنهاية جملته ولكنه لم يعي أنه زرع الرعب بقلب هذان الواقفان أمامه بخوف ورهبة لا يعلما ماذا هما بفاعلان.

❈-❈-❈

عاد ثلاثتهم فارتمت هانده على الأريكة وجلس إيدي بجوارها فانتصفتهما دورثي وأراحت رأسها على كتف والدتها فأحكمت الأخيرة ذراعها حولها وحاوطهما إيدي بمحبة وشوق وسألها بقلق: 

-أنتِ بخير ابنتي أليس كذلك ؟


ردت بصوت رقيق: 

-نعم أبي، أشعر أنني لم أكن بخير منذ فترة طويلة ولكنني بخير اﻵن.


سألتها هانده بحيرة: 

-ماذا حدث حتى تغيرت أفكارك هكذا؟

ردت بتوضيح زائف: 

-فقط مللت من تلك الشخصية التي أتقمصها و.........


قاطعها إيدي بحدة: 

-استمعي لي جيدا، لقد حاولنا بشتى الطرق إبعادك عن ذلك الطريق الذي نهايته هو عبارة عن درب من الجنون، ولكن إن اتضح أنك تتلاعبين بنا فأعلمي يا بنيتي أننا قد استهلكنا طاقتنا القصوى ولم يعد لدينا ما يمكن أن نقدمه لكِ.


ربتت على كتفه مهدئة إياه ببسمة زائفة وقالت: 

-لا تقلق أبي، فأنا جل ما أريده اﻵن أن أنتهي من دراستي حتى أتفرغ للتوظيف لأثبت نفسي بهذا العالم.


ابتسم لها بحبور وربت على كتفها فاستأذنت وصعدت غرفتها لتنظر لنفسها بالمرأة لتجد حالها كما هو بلباسها المعاصر وليس الفرعوني فتجهم وجهها فتلك المرة الأولي التي ترى نفسها بتلك الهيئة فهمست بصوت منخفض: 

-لقد قال إن التعويذة فشلت، فهل يعني أنني لن أستطيع رؤيته مجددا؟


صمتت تنظر أمامها للمرأة وهمست من جديد: 

-مولاي، أين أنت ؟ أنا حقا أشتاق لك منذ الآن.


بدلت ملابسها بأخرى بيتيه واستلقت على الفراش تتمتم بعبارات فرعونية تستدعي بها النوم وهي تقول بنهاية حديثها: 

-سأانتظرك بمنامي فرعوني وحبيبي الذي أعشقه وأتمناه.


أغلقت عينيها تستدعيه بحلمها كما اعتادت منذ أن كانت بالرابعة عشر من عمرها وهو نفسه تاريخ تعرفها على الملك سيتي الأول ولكنه لم يزورها، نعم لقد كف عن زيارتها لعام كامل استطاعت فيه الالتحاق بمدرسة بلايموث للفنون كطالبة بدوام جزئي وبدأت بدراسة الآثار بشكل مكثف وعميق أيضا، حتى جاء ذلك اليوم الذي فتحت عينها لتجد نفسها بحال عجيب والألم يغزو كل حواسها والدماء تقطر من أجزاء جسدها الشبه عاري.


يتبع..


إلى حين نشر فصل جديد من رواية نابغة بعصر الأغبياء للكاتبة أسماء المصري، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة