-->

رواية لا أحد سواك رائفي- بقلم الكاتبة سماح نجيب- الفصل الرابع

 رواية لا أحد سواك رائفي بقلم الكاتبة سماح نجيب



تعريف الرواية...

دائماً ما تأتينا المنحة من قلب المحنة ، فأحياناً كثيرة ننظر للإبتلاء على أنه نهاية العالم ، ولكن ربما يجعل الله إبتلائك سبباً لسعادتك ، ويمنحك ما كنت تبحث عنه طويلاً وسط الزحام 

لم يكن فارس أحلامها سوى أعرج وسيم ، وقع له حادث أدى لفقدانه الثقة بكل من حوله ، فهو لا يريد أن يكون عبئاً على أحد ، ولكن كيف سيجعل قلبه يطيعه بألا يقع بعشقها ؟ فلم يجد سوى أن يحاول إخراجها عن طورها بأفعاله ، لعلها تترك المنزل وترحل عنه 

ولكن قد فات الأوان ، فعشقه أحتل قلبها ، وجعل كل نبضة من نبضاته تهتف بإسمه ، حتى باتت تنشد منه أن يرحم قلبها وحبها ، حتى أعلنتها صريحة بأن يرأف بها 

فماذا سيحدث بين عاشقة لا ترى غيره فارسها ، وعاشق فقد الثقة حتى بنفسه ؟


تصنيف الرواية ....

إجتماعى _ رومانسى _ كوميدى _ دراما 

السرد .... 

باللغة العربية الفصحى 

الحوار......

عامى باللهجة المصرية


❈-❈-❈


الفصل الرابع

٤- "  عيناه مسكن للسهاد "


جلست والدته بجانبه ، ومدت ذراعيها لتطوقه بهما ، وهى مازالت باكية ، فتمنت بتلك اللحظة لو تهبه حياتها ، ولا ترى تلك الحالة من الحزن والانكسار ، التى تغلغلت بروحه و بصوته ، فقلبها يقطر دماً وحزناً من أجله ، ولكنها لا تملك شيئاً سوى أن تغدقه بحنانها الأمومى ، أما هو وكأن تحجرت كل حواسه فجأة ، تجتاح أعضاءه برودة غير منتظرة ، فعيناه تحدق بالفراغ ، لايعرف ماذا يفعل ؟ فالأن أنقلب عالمه رأساً على عقب ، وسيصبح من شاب بمستقبل مشرق الى إنسان يعجز حتى عن مساعدة ذاته 


فحال أخيه الاصغر وجدته ، لا يفرق عن حال والدته ، فكان شادى الأسبق بالخروج من الغرفة ، وهو يحاول كتم صوت بكاءه على ما أصاب شقيقه الأكبر ، الذى لم يكن له شقيق فقط بل بمثابه والد ثانى له


فأستند برأسه على الجدار بالردهة ، وهو ينوح كطفل صغير ، فرآه أكرم واسرع بخطاه تجاهه وهو يسأله بقلق :

– مالك يا شادى بتعيط ليه ، فى ايه اللى حصل حد حصله حاجة ماما كويسة


نظر إليه شادى وهو يمسح عيناه بظاهر يده وقال :

– ماما كويسة بس أبيه رائف صحى وعرف اللى جراله يا أبيه أكرم وهو دلوقتى منفعل ومتعصب جامد


خوفه من مواجهة شقيقه ، كان الغالب على ذلك الشعور بالفرح لإستعادته وعيه ، فهو خير من يعلم رائف ، فزفر بتعب وهو يقول :

– يا الله أدينى القوة والصبر من عندك يارب


ولج أكرم الى غرفة العناية الفائقة ، حاول رسم ابتسامة على شفتيه ، فأصطدم بنظرات شقيقه الخالية من الحياة ، فالموقف صار أكثر تأزماً ، خاصة وأن رائف يطالعه بتحذير من أن يقدم على الكذب 


فإرتجف صوته قائلاً :

– حمد الله على السلامة يا رائف


ألتوى ثغر رائف بسخرية :

– وهى فين السلامة دى يا أكرم


وضع أكرم يديه بجيبى رداءه الطبى وهو يقول بهدوء :

– أهم حاجة انك لسه عايش يا رائف ولسه موجود وسطينا دا اللى يهمنا 


أجابه رائف ببرود حاول به أن يخفى ذلك الألم ، الذى نشب بقلبه :

– عايش وهو أنا كده هكون عايش لما أعيش عاجز ومقدرش أمشى يا أكرم


بخطوات قليلة ، كان أكرم يقطع تلك المسافة بينه وبين شقيقه ، فأنحنى إليه يربت على كتفه بتفاؤل :

– أنت ممكن إن شاء الله تمشى تانى بس الاول تعمل جلسات علاج طبيعى وممكن تسافر تعمل عملية وتبقى تمام 


أغمض رائف عينيه ، وزفر بعصبية :

– أنت فاكرنى عيل صغير علشان تضحك عليا بكلام زى ده يا أكرم


تبادل أكرم النظرات بينه وبين والدته ، التى أكتنفها الصمت منذ دلوفه ، فدلك مؤخرة عنقه وهو يقول :

– وأنا أمتى كدبت عليك أنت عارف إحنا أخوات وأصحاب وأنا أقرب واحد ليك ومش ممكن أغشك او أضحك عليك يا رائف


فضلت هدى الخروج عن صمتها ، فهتفت به :

– أيوة يا رائف يا حبيبى ان شاء الله ربنا هيشفيك وزى ما اكرم ما بيقولك انك ممكن تعمل عملية وتمشى تانى بس كل شئ بأوانه


لا شئ يجعله صامتاً الآن ، سوى أنه لا يجد ما يقوله ، فرياح الشدة بدأت موسمها ، بأحد فصول حياته ، الذى لم يضع بباله يوماً ، أن يبدأ باكراً وخاصة بهذا الوقت ، وهو من كان بإنتظار ترقية بعمله وزواجه أيضاً ، فهو لا يملك أن يفعل شئ سوى الانتظار


❈-❈-❈

أثناء مرورها من أمام غرفة والديها ، وجدت الباب موارباً ولم يكن محكم الإغلاق ، ولكن سمعت صوت حركة بالداخل اثارت إنتباهها ، فأبصرت والدتها من شق الباب وهى جالسة على الفراش ، وأمامها صندوق حُليها الذهبية بالإضافة للكثير من النقود ، رأت كيف تنظر لما تملكه بعينان ملتمعتان وبراقتان وممتلئتان بالجشع والطمع ، وكيف لا وهى أخذت حقها وحق نعمة وسجى مجتمعين ، فهى لم ترى أبيها من قبل يبتاع مشغولات ذهبية لزوجته الأولى أو إبنته الكبرى


ولكنها لم تكد تبتعد عن الباب حتى صاحت فادية من الداخل وهى تقول بتأنيب وتقريع لها :

– والله عال يا ست أروى واقفة تتصنتى وتتفرجى عليا من ورا الباب 


أبتلعت أروى لعابها قدر إمكانها ، قبل أن تدفع الباب بقبضة يدها المرتجفة ، فأنفتح على مصراعيه ، فنظرت لوالدتها التى قامت بلملمة محتوى الصندوق وأخفته خلف ظهرها ، وبعد هنيهة وجدتها تنهض وتضعه بخزانة ثيابها تخفيه عن الأنظار


فحاولت الإبتسام وقالت بتوتر :

– ماما أنا مكنش قصدى أقف أتفرج ولا أشوفك بتعملى إيه ، أنا بس كنت معدية من قدام الباب بس هى دى كل الحكاية 


علمت أروى أن كذبتها لن تنطلى على والدتها ذات الذكاء الحاد ، والتى تخشى ردود أفعالها ، خاصة أن بأوقات غضبها لا تضع أى أعتبار أنها إبنتها الوحيدة ، وربما تكون قادرة على إيذائها 


ولكنها وجدتها تقترب منها ببطئ متعمد منها ، فما كادت تصل إليها ، حتى إرتدت هى بخطواتها للخلف ، ولكن كانت فادية الأسرع فى القبض على ذراعها بأصابع فلاذية 


فتبسمت بوجه إبنتها وهى تقول بهدوء :

– مالك يا أروى يا حبيبتى خايفة منى ليه كده ، فى واحدة تخاف من مامتها ، دا أنتى بنتى الوحيدة اللى مليش غيرها فى الدنيا 


أكملت حديثها بتلك الضمة القوية ، والتى لا تعلم أروى هل هى تفعل ذلك من أجل محبتها ، أم من أجل أنها تريدها أن لا تبوح بما رآته لوالدها ، خاصة أن أبيها منذ أسبوع تقريباً ، عانى من أزمة مالية ، وأراد من زوجته أن تساهم بحل تلك الضائقة التى ألمت به ، ولكن تذرعت بحجة أنها لا تملك سوى بعض الحُلى الذهبية ، والتى لن تكون كافية لمساعدته ، عوضاً عن أنها تكنزها من أجل زيجة أبنتها ، فعمل أبيها على حل أزمته المالية دون الحاجة لها 


– أنا مش خايفة ولا حاجة يا ماما هخاف ليه يعنى

قالت أروى وعيناها تزوغ بكل أرجاء الغرفة ، تتمنى أن تفرج عنها والدتها من ذلك العناق الأمومى ، الذى جاء خالياً من أى عاطفة ، بل أكتنفه البرود ، كأنها تقضى مهمة لها ، وتريد الانتهاء منها سريعاً دون الفرط فى إظهار المحبة 


أبعدت فادية إبنتها عنها ، وراحت تتأمل وجهها قليلاً ، فإن كانت تحمل بعض الشبه منها ، إلا أنها تشبه شقيقتها الكبرى كثيراً ، وهذا ما تكرهه بها على الرغم من أنها إبنتها 


قالت فادية وسبابتها وإبهامها يشدان على ذقن أروى بجفاء :

– على الرغم من أنك بنتى أنا بس فيكى شبه كتير من أختك سجى يا أروى ومش عارفة ليه ده حصل 


– يمكن علشان أفكرك باللى عملتيه فيها هى ومامتها

قالت أروى فجأة ، فسرعان ما كممت فمها بيدها بعدما أدركت رعونة قولها 


ففادية بعدما كانت بنيتها العودة للجلوس على طرف الفراش ، إلتفتت إليها وعيناها جاحظتنان بشر عظيم ، فعادت وقبضت على ذراعيّ أروى بقسوة ،كأنها على وشك كسر عظامها 


فهدرت بها بصوت عالى :

– قصدك إيه يا بت باللى قولتيه ده ها أنطقى قولى ، أحسن مش هيطلع عليكى يوم تانى


دمعت عينيّ أروى فردت قائلة بخوف :

– مش قصدى حاجة يا ماما والله ما قصدى حاجة 


ولكن كأنها أيقظت قوة وحش كامنة بين القسوة والشر ، فراحت فادية تسدد لإبنتها العديد من الصفعات المؤلمة ، والتى تركت أثار أصابعها على وجه إبنتها ، فهى جن جنونها خشية أن تكون أروى تعلم بشأن ما فعلته هى بالماضى ، ومحاولتها المستميتة لأخذ زوج نعمة ، لشعورها الشديد بالكره لها منذ أن وعت معنى الحياة 


راحت أروى تصرخ لعل أحد ينقذها من بين يديىّ والدتها ، ولكن ربما كانت سعيدة الحظ بعودة أبيها ، الذى ما أن سمع صوت صراخ إبنته قادماً من غرفته ، حتى ركض ليعلم ما أصابها 


فوجد فادية جاثمة على جسد أروى بعدما طرحتها أرضاً ، وتعمل على ضربها وجذب شعرها تكاد تقتله ، فصرخ بزوجته بجنون:

– أنتى بتعملى إيه فى البيت يا فادية أبعدى عنها هتموتيها 


أزاح جسد زوجته بحزم لينقذ إبنته ، فتتابعت أنفاس فادية بإهتياج وقالت بصياح :

– بت قليلة الأدب ولازم تتربى لازم تتربى 


ساعد حامد إبنته لتستقيم بوقفتها وضمها إليه يربت عليها بحنان محاولاً أن يهدأ من روعها ، فقبل رأسها وهو يقول بحنو بالغ:

– إهدى يا حبيبتى وبطلى عياط قوليلى إيه اللى حصل 


تتابعت شهقات أروى فقالت بصوت متقطع :

– و والله  ييا بابا مكنتش أقصد حاجة ولقيت ماما ضربتنى وكانت عايزة تموتنى فى إيدها 


مد كفيه ومسح وجهها أمراً إياها بلطف :

– طب روحى غسلى وشك وروحى على أوضتك 


أمتثلت أروى لقول أبيها وخرجت من الغرفة ، بينما نهضت فادية من مكانها وعندما أرادت الخروج هى الأخرى منعها حامد ، بل أنه اغلق الباب ليتحدث معها بشأن ما حدث منها بحق أروى 


– إستنى هنا وقوليلى إيه اللى عملتيه فى أروى ده مش هتبطلى عمايلك دى فيها دى بنتك الوحيدة 

صاح حامد بعبارته ، فما كان منها سوى أنها عقدت ذراعيها أمام صدرها وهى تقول ببرود :

– بنتى وأنا حرة فيها أربيها زى ما أنا عايزة ملكش فيه يا حامد


رفع يده اليمنى يشيح بها أمام وجهها وهو يقول بضيق :

– هو إيه اللى مليش فيه يا فادية دى بنتى وهو أنا حيلتى غيرها هى وأختها 


ألتوى ثغرها بإبتسامة متهكمة :

– أه أختها ست الدكتورة بنت نعمة هانم 


علم أنها ستبدأ بوصلة جديدة من وصلات حديثها المتهكم والساخر بحق زوجته الأولى وإبنته سجى ، فأراد فض النقاش قبل أن يبدأ ، فخرج من الغرفة ، حتى قبل أن يعلم سبب ما حدث بينها وبين أروى 


ولكن فعلته لم تزيدها سوى حنقاً ، لكونها تعلم بتأنيب ضميره له لإجحافه بحق نعمة وسجى ، فماذا تفعل هى حتى تتخلص من هذا الهاجس الذى يهدد حياتها ؟ فحتى عندما حاولت أن تتحدى نعمة بكونها أنها هى من ستنجب الولد لزوجها ، قد رزقها الله بإبنتها أروى ولم يصح لها الإنجاب ثانية لمشكلات صحية ألمت بالرحم مما أدى الأطباء إلى إستئصاله ولم يعد بمقدورها الحمل ، لذلك جاهدت كل تلك السنوات الماضية ، أن تنقطع الأواصر بين زوجها وزوجته الأولى ، حتى لا تشعر بإنتصار نعمة ، حتى أنها لجأت لكل الأمور المباحة والغير مباحة لفعل ذلك

❈-❈-❈

بعد مرور أسبوع أخر ...

جاءت مايا لرؤيته وللإطمئنان على أحواله الصحية ، فهى أمتنعت عن الحضور بالأيام الماضية ، متذرعة بأنها لا تريد مقابلة أحد من أفراد عائلته ، خاصة والدته فنظراتها كادت تحرقها حية ، بإتهامها لها بأنها هى من تسبب فيما حدث لرائف


بعد سؤالها إحدى الممرضات عن تلك الفرفة ، التى يمكث بها رائف ، فأخبرتها بأنه تم إيداعه بأحد غرف المشفى بعد إفاقته ، فولجت إلى غرفته ، فأطمأنت أنه لا يوجد أحد معه 


فأقتربت من فراشه وهى تبتسم له :

– حمد الله على السلامة يا رائف


سمع رائف صوتها ، فرمقها ببرود وهو يقول :

– الله يسلمك لسه فاكرة تيجى تشوفينى دلوقتى يا مايا


وضعت حقيبتها على الكومود الصغير ، وجلست مقابل له على الفراش ، فأنكمشت ملامحها وهى تقول بوداعة ، كأنها مغلوبة على أمرها :

– مامتك يا رائف عاملتنى باسلوب مش كويس واتهمتنى إن أنا السبب فى اللى أنت فيه وقالتلى كلام كتير وزعلتنى جامد 


قال رائف بعصبية طفيفة:

– زعلتك ! اى ام مكانها هتعمل اكتر من كده انتى مش شايفة حالتها عاملة إيه


مررت يدها بين خصيلاتها وهى تقول بنعومة :

– المهم دلوقتى طمنى عليك اخبارك ايه 


خرج صوته خالياً من الدفء ومن الحياة فقال بألية :

– حصلى إصابة فى العمود الفقرى أثرت على رجلى يعنى هبقى عاجز ومش هقدر أمشى ولو مشيت همشى بعرج فى رجلى


بسماعها ما قاله ، تصلبت ملامحها وأتسعت عيناها بذهول ، فظلت تسأل نفسها هل ما أخبرها به حقيقة ؟ 


فهتفت به بصوت مشدوه :

– رائف انت بتقول ايه انت متأكد من الكلام اللى بتقوله ده


أجابها رائف بصوت كالصقيع :

– اللى انتى سمعتيه يا مايا وايوة هو ده اللى حصل 


وضعت يدها على فمها ، بعدما أنفرجت شفتيها بدهشة ، فغمغمت بتساؤل :

– طب مفيش حل أنك ترجع تمشى تانى زى الاول يا رائف


غرز يده بشعره وهو يقول بتأفف :

– الحل هيبقى على المدى الطويل وهاخد وقت على ما أرجع أمشى تانى زى الأول يا مايا 


رآها تترك مكانها ، وأخذت حقيبتها تضعها على كتفها ، فعيناها تدور بكل مكان ، تخشى أن تلتقى بعيناه ويقرأ ما ترفض شفتيها البوح به 


فتبسمت بتوتر وهى تقول :

– طب ألف سلامة عليك يا رائف أنا ماشية دلوقتى عايز منى حاجة وهبقى أجيلك تانى 


شقت إبتسامة ساخرة شفتيه وقال :

– شكراً يا مايا ومع السلامة


فهو لم يكن بإنتظار هذا منها ، فهى لم تذرف دمعة واحدة من أجله ، فظن أنها بسماع ما أصابه ، سيرى بعينيها حزن العالم أجمع على  مصيبته ، وستظل تتلو على مسامعه عبارات المواساة والتشجيع ، وأنها ستكون معه يد بيد ، حتى تمر تلك المحنة بسلام ، ولكن ذهبت أماله كلها أدراج الرياح ، فهو الأحق بالبكاء على ذاته التى تعلقت بأمل زائف 


  خرجت مايا من الغرفة ، وهى تفكر ماذا تفعل هى الآن ؟ فهى لا تستطيع التفكير ، بأن تقترن به بتلك الظروف ، فهى عاشت حياتها مدللة ، فكيف تصبح بين يوم وليلة ، زوجة لرجل مقعد وبحاجة للمساعدة ؟ صرخ عقلها بالرفض لذلك الأمر 


لم تنتبه إلا على صوت أكرم يناديها :

– مايا مايا استنى


توقفت قدميها عن السير ،وإستدارت إليه وقالت :

– أهلا أكرم فى حاجة 


نظر إليها أكرم متسائلاً :

– أنتى كنتى عن رائف جوا وعرفتى اللى حصله بسبب الحادثة ؟


أجابته مايا ببرود :

– هو قالى على كل حاجة لما كنت عنده


– رائف محتاجلك تقفى جنبه  يا مايا رائف حالته النفسية وحشة جدا فانتى لازم تقفى جنبه علشان يعدى المرحلة دى

قالها أكرم رغبة منه ، فى أن تقدم الدعم النفسى لشقيقه ، حتى يجتاز تلك المحنة


فما كان منها سوى أن أجابته ببرود مزعج :

– عن إذنك يا أكرم انا لازم أمشى أنا اتأخرت سلام


رحلت وتركته ينظر لأثرها بأسف وحسرة لحظ شقيقه ، بأن تلك الفتاة هى من أحبها ، ورفض الإستماع لأحد من عائلته ، بشأن أنها لن تكون الزوجة المناسبة له ، فالأن أتضح ظنهم بها ، فهى لا تكترث بأحد سوى نفسها ، فهى انانية لأقصى الحدود


فتمتم أكرم بأسف :

– كنت عارف انك هتعملى كده يا مايا وانك بنى ادمة سطحية ومبتحبيش غير نفسك ، خسارة فيكى أن رائف حبك


بإتيانه على ذكر إسم شقيقه ، ولج لغرفته ليستطلع أحواله ، التى أخذت تؤل من سيئ لأسوء ، بسبب إصابته بإكتئاب شديد ، بعد علمه بما أصابه ، فلم تفلح محاولة من أحد ، أن يدخل السرور على قلبه ، كأنه أحاطه بأسوار من جليد ، فلم يرى أكرم فائدة من مكوث رائف بالمشفى أكثر من ذلك ، فأخبر والديه بضرورة عودته للمنزل ، لعل الابتعاد عن المشفى ، يساهم بتحسن أحواله الصحية


فباليوم التالى ...

عاد رائف للمنزل جالساً على كرسي مدولب ، يدفعه والده بحرص ، فشد على أصابعه يكاد يسحقها ، وهو يرى نظرات الحزن والشفقة بأعين العاملين بالمنزل ، يتبعهما باقى أفراد الأسرة ، حتى وصلوا للصالة الفسيحة 


فشد والده على كتفه وهو يقول :

– نورت بيتك يا حبيبى


أجابه رائف مغمغماً :

– شكراً يا بابا أنا عايز أرتاح لو سمحتم


أنحنت إليه والدته وهى تربت على صدره بحنان :

– أنا خلتهم ينضفوا الأوضة اللى هنا جنب مكتب بابا علشان ترتاح فيها يا حبيبى


هز رأسه بالموافقة وهو يقول :

– ماشى يا ماما


فغرفته بالطابق العلوى ، لن يستطيع الصعود إليها وهو بتلك الحالة ، فكأن صلته بما كان له سابقاً ، لن يكون لها وجود ، سوى بخانة الذكريات 


فخرج من شروده على صوت أكرم يخاطبه بمحبة :

– أنا كلمت دكتور علاج طبيعى عندنا فى المستشفى هتبتدى جلسات العلاج من بكرة إن شاء الله


لم يكن بإستطاعته سماع كلمة أخرى ، فكل شئ بحياته الآن ، سيسير وفق ما يراه الآخرون ، فعلا صوته بعصبية :

– عن اذنكم عايز أرتاح لو سمحتوا عايز أروح الاوضة عايز أنام 


ساعده أكرم فى أن يصل لتلك الغرفة ، التى أوصت بها والدته ، وبعد أن قدم له يد المساعدة ، بأن يستلقى على فراشه ، أغمض رائف عينيه ، دليلاً على أن يتركه شقيقه بمفرده ، فخرج اكرم من الغرفة وهو يشعر بالاسف على حال أخيه


فأرتمى بجوار شادى على تلك الأريكة العريضة وهو يقول :

– بقت حالته النفسية وحشة جدا وكده مش هينفع خالص


حك ماهر جبهته ، كمن يشعر بصداع يكاد يفتك برأسه ، فدمدم بصوت مرهق :

– معذور يا أبنى يعنى من ظابط صاعقة لواحد قاعد على كرسى متحرك


مسح أكرم وجهه بكفيه وقال :

– بس يابابا لو بالنظام ده كده مش هينفع علاجه بيعتمد على الدعم النفسى والحالة النفسية وانتوا لازم تعملوا كده تحاولوا تحسنوا حالته النفسية وانتى يا ماما بلاش عياط قدامه كده ابوس ايدك


أخذت هدى تمسح وجهها بتلك المحرمة الورقية وهى تنظر لأكرم :

– أعمل ايه لما اشوف أول فرحتى بقى كده دا أنا قلبى بيتقطع عليه يا أكرم


هتف شادى بتأييد لحديث شقيقه :

– أبيه أكرم معاه حق إحنا لازم نساعده مش نزود همه أكتر


إستندت صفية برأسها على يدها المتكأة على طرف مقعدها ، فأخذت أنفاسها بتروى وقالت :

– اللى انت عاوزه إحنا هنعمله اهم حاجة أخوك يبقى كويس


بتذكره لمايا تجهمت ملامح وجهه فقال بإشمئزاز ظاهر :

– هو كان المفروض البنى أدمة اللى كان خاطبها دى تبقى واقفة جنبه بس الظاهر كده هى مبتحسش ولا عندها دم ولا ذوق


عض شادى على نواجزه وهو يقول :

– متفكرنيش بيها واحدة أنانية ومعندهاش دم


بضربات خفيفة متلاحقة ، كانت هدى تدب على صدرها وهى تقول بمرارة :

– اااه انا قلبى محروق منها لأن أنا عارفة أن هى السبب فى اللى أبنى فيه ، لو كانت هى فعلا مش مسامحاها ابدا على اللى عملته فى ابنى منها لله وحسبى الله ونعم الوكيل فيها


–خلينا فى ابننا دلوقتى يا هدى وكويس انها خطيبته مش مراته كان اتبلى بيها وكانت هتبقى المصيبة أكبر

قال ماهر جملته ، ليفض ذلك الحوار المتعلق بمايا ، فهم لديهم ما أحق بالتفكير من تصرفات تلك الفتاة الطائشة 


غفلوا جميعهم عن أن أصواتهم وصلت لمسامع رائف ، فهو سمع حديثهم بوضوح ، فلم يكن النوم يواتيه ، وهو بفراش لم يعتاده ، فكم رغب بتلك اللحظة أن يصرخ بملأ فاه ، أن يعنف ذاته على الانجراف خلف فتاة ، غض الطرف عن أفعالها ، فجاء دورها أن تغض طرفها عن حياته بأكملها ، بعدما رأته أنه بغير فائدة 


بعد مرور عدة ساعات قضاها بتعنيف ذاته وقلبه ، غفت عيناه بنوم متقطع تخللته أحلام مزعجة ، جعلته يفيق من نومه بعدما يأس من أن ينام بدون تذكر كل ما حدث معه بالأيام الماضية 


نظر بحسرة وقهر للكرسى المدولب الموضوع بجانب الفراش ،  فأقترب من حافة سريره ، ليرى إذا كان بإستطاعته مساعدة نفسه بدون اللجوء لأحد مثلما إعتاد ذلك منذ علمه بما أصابه 


مد ذراعه الطويل ، ولكن ما إستطاع سوى لمس طرف الكرسى المدولب ، فحاول الإقتراب أكثر ، ولكن أدى ذلك لسقوطه أرضاً بجانب الفراش وأرتطم وجهه بالأرضية الرخامية ، مما أدى لإصابته بجرح صغير بجبهته ، ولكن طفر منه الدم 


فقال بأنين وألم :

– اااااه يااااارب 


تحسس رائف جبهته ورأى أثر الدماء على أنامله ، فبكت عيناه وهو يرى أنه غير قادر على العودة لفراشه وغير قادر على مناداة أحد ، فالوقت متأخراً وكل من بالمنزل نائماً الآن ، فلا منجا ولا ملجأ له إلا الله والتضرع له بالدعاء ، فإن وهنت قواه وأقتلعت جذور الأمل ، فالله وحده القادر على تبديل حاله لأفضل حال وأن يكشف عنه الضُر


❈-❈-❈

أن ترى والدتها تتألم فى صمت ، وهى لا تملك شيئاً لتخفف به عنها ، لهو العذاب بعينه ، فالأدوية لم تعد تجدى نفعاً الآن ، فباتت ليلها كنهارها ، فهى رافضة أن تذهب بها للمشفى ، وهى على وشك بدأ إختبارات نهاية العام الدراسى ، فلم تكن تملك لها شئ إلا الدعاء ، فبعد إنتهاءها من الوضوء ، بسطت سجادة الصلاة وبدأت صلاتها بخشوع ، وصوت نهنهتها يعلو شيئاً فشيئاً 


فتحشرج صوتها بالدموع وهى تدعو برجاء :

– يارب يارب أشفى ماما يارب واشفى كل مريض انا مليش غيرها اشفيها يارب اللهم أشفها شفاء لا يغادر سقماً يارب


سمعت نعمة صوت بكاءها وهى تصلى ، فبكت هى أيضاً ، ليس على شئ ، سوى أنها تشعر بالخوف من تركها بمفردها  عندما يحين موعد رحيلها عن هذه الدنيا 


بعد أن أنتهت من صلاتها ، سرعان ما مسحت نعمة دموعها ، فتبسمت بوجهها قائلة بحب :

– حرماً يا حبيبتى


قبلت سجى رأسها وهى تجيبها :

– جمعاً يا ماما ان شاء الله


أشارت عليها والداتها بأن تعود لمذاكرتها ، فلم يتبقى الكثير ، فهتفت بها بتشجيع :

– يلا بقى علشان تذاكرى امتحاناتك خلاص قربت اوى وانا عايزة تقدير زى كل سنة ماشى يا قلبى


حركت سجى رأسها بضعف وإبتسامة واهنة :

– إن شاء الله يا ماما ادعيلى انتى بس دعواتك الحلوة


أخذتها نعمة بأحضانها ، تشتم عبق رائحتها ، فتعلقت سجى بها لا تريد تركها ، فهمست بأذنها :

– دعيالك يا حبيبة أمك وربنا ان شاء الله هيرزقك بالسعادة كلها


قبلتها سجى على وجنتها التى فقدت لونها ، بتكالب المرض عليها وقالت :

– أنا وأنتى يا ماما إن شاء الله


ذهبت لغرفتها بعدما شددت والدتها أوامرها بذلك ، فهى لا تريد تشتيت إنتباهها ، إذا ظلت جالسة أمامها ، فجلست على المقعد خلف مكتبها الصغير لتستذكر دروسها ،  فهى تريد إدخال السعادة والسرور إلى قلب والدتها ، وستفعل ذلك بأن تجتهد بدراستها  


بعد مرور أيام ليست بالكثيرة ، بدأت إختبارات نهاية العام الدراسى ، لم تكن تريد التفكير بذلك الأمر ، الذى سبق وأخبرها به ذلك الطبيب المدعو يوسف ، فكم من مرة أستوقفها بحجة سؤالها عن قرارها النهائى ، لتستطيع هى إرجاء الأمر لوقت لاحق ، معللة ذلك بأنها الآن لا تملك الوقت الكافى للتفكير 


فأخذت ريهام الشفقة على حاله ، فهتفت بها بلين :

– وبعدين يا بنتى دا الواد استوى على الآخر يا عين أمه


وضعت سجى رأسها بين كفيها وقالت :

– أنتى عارفة اللى فيها يا ريهام وانا بجد مش فاضية للمواضيع دى دلوقتى خاالص


سحبت أحد كفيها ، لتجعلها تنظر لها ، فحدقت بها بتساؤل :

– طب أنتى إيه إحساسك ناحية الموضوع وناحية يوسف


ردت سجى بصوت هادئ :

– عادى والله يا ريهام لا زعلانة ولا فرحانة


تهدل فم ريهام بعد سماع عبارتها ، فهى ظنت أن ربما تكون تشعر بالسعادة لفكرة زواجها من يوسف ، فغمغمت بغرابة :

– عادى ازاى يعنى ! مش حاسة بحاجة خالص ؟


حركت سجى كتفيها وهى تقول بصدق :

– اكدب عليكى لو قلتلك إن أنا حاسة بحاجة هو إنسان كويس وكل حاجة بس بالنسبة ليا عادى 


– طب أنتى توافقى تتجوزيه ازاى وهو بالنسبة ليكى عادى يعنى ومش مميز ولا حاجة ؟

ألحت ريهام بسؤالها ، فلم يكن رد سجى بالبداية سوى همسة حائرة مترددة ولكنها إستطاعت القول :

– مش عارفة يا ريهام أنا اليومين دول حاسة إن أنا فى دوامة


لاطفت ريهام وجنتها بلطافة وهى تقول :

– أهى هانت فاضل امتحان واحد والامتحانات تخلص وساعتها إن شاء الله تقدرى تفكرى


– على خير ان شاء الله يلا علشان نروح

بعد أن أنهت سجى حديثها ، تركت مكانها تنفض ثيابها من ذرات التراب التى ربما علقت بها من جلوسها على الدرج الرخامى لمبنى الكلية ، فياليتها تستطيع نفض الحزن عن قلبها وقلب والدتها 


فبعد أن أنهت سچى أخر إختباراتها ، كانت مفاجأة أخرى بإنتظارها ، فعند عودتها للمنزل ، وجدت والدتها بحالة إعياء أشد وأقوى من ذى قبل ، فذهبت بها إلى المشفى ، فقام الطبيب بمعاينتها وفحصها ، فأخبرها بضرورة بقاءها بالمشفى 


فنظر لها الطبيب بأسف :

– هى يا أنسة لازم تفضل هنا حالتها الصحية سيئة جدا ومكدبش عليكى دى يعتبر بتقضيها أيام 


أنهمرت دموعها ، فضغطت بأناملها على فمها لتمنع خروج صوتها الباكى ، فعادت وأماءت برأسها وهى تقول بغصة :

– تمام يا دكتور


تم إيداع نعمة بإحدى غرف ذلك المشفى الخاص بعلاج الأورام السرطانية ، فظلت سجى ملازمة لها ، رافضة تركها ولو لدقيقة واحدة ، فكل ما كانت تريده وتحتاجه ، كانت تأتى لها به جارتهما عزة ، فهى تأتى يومياً لرؤية صديقتها المقربة ورفيقتها ، تحمل معها طعاماً وثياباً أوصت بها سجى 


فدلفت عزة تلك الغرفة التى تتقاسمها نعمة ، مع ثلاثة نساء أخريات ، فأنحنت بجزعها قليلاً وقبلتها على وجنتها وهى تسأل عن أحوالها اليوم 


فأثنت عليها نعمة بصوتها الخافت :

– تشكرى على تعبك معانا يا عزة


تبسمت لها عزة تحاول أن توارى دموعها :

– متقوليش كده يا حبيبتى ربنا يشفيكى ويعافيكى يارب وتخرجى بالسلامة


رفعت نعمة يدها وأحتضنت يد عزة وهى تقول :

– شكل النهاية قربت يا عزة


خوف ملأ قلب عزة من قول نعمة ، فحاولت أن تسرى عنها :

– متقوليش كده ربنا قادر يشفيكى ان شاء الله هى فين سچى


أجابت نعمة وعيناها عالقة بباب الغرفة :

– فى الحمام وزمانها جاية أنا عايزة منك طلب يا عزة


تأهبت عزة لسماع مطلبها فهتفت بها بحنان :

– اؤمرى يا حبيبتى عنيا الاتنين عايزة إيه


حاولت نعمة الجلوس بفراشها ، فأسرعت عزة بمساعدتها ، فشكرتها نعمة وأخبرتها بما تريده منها :

– تسلم عينيكى أنا هقولك على عنوان تروحيه والست اللى هاتقبيلها خليها تجيلى هنا المستشفى ضرورى يا عزة متجيش إلا وهى معاكى


تغضن جبين عزة بتقطيبة خفيفة وسألتها :

– عنوان مين دى يا نعمة 




يتبع...