رواية ذنبي عشقك - بقلم الكاتبة ميرا كريم - الفصل الخامس
رواية ذنبي عشقك
بقلم الكاتبة ميرا كريم
الفصل الخامس
رواية
ذنبي عشقك
وقد يأتي أحدهم خفيفاً يطفوا بجانبك في كل هذا الغرق
كجذع شجرة يصلح للنجاة
-جلال الدين الرومي
❈-❈-❈
-استني عندك
قالها هو بصوت جهوري تعمده حتى يصل لها بعد أن نزل من سيارته و استند على بابها
فقد تركته بداخل مكتبه لضميره الذي ظل ينهش به ولم يهدء ودفعه ليلحق بها ومتابعتها من بعيد، وها هو يتدلى من سيارته ويستند على بابها يطالعها متجمدة بأرضها…
تنفست الصعداء و وضعت يدها على قلبها المُـ رتعب تطمئنه قبل أن تهمس متفاجئة من بين أسنانها التي تصطك ببعضها:
-أنتَ
نطق آمرًا بملامح باردة أشد من ذلك الصقيع الذي نخر عظامها:
-اركبي
حاوطت ذاتها بذراعيها و نفت برأسها مما جعل خصلاتها المبتلة تلتصق بوجهها، ليزفر هو انفاسه دفعة واحدة ويهدر بنفاذ صبر وسبابته تحذرها:
-أنا مش بحب اعيد كلامي مرتين لو ما ركبتيش في غضون عشر ثوانِ همشي واسيبك وساعتها انا مش مسؤول عن اللي هيحصلك
زاغت نظراتها دليل على تفكيرها
ليضيق هو عينه الثاقبة ويستأنف كي يُــرهبها:
-أنتِ عارفة أكيد أقصد إيه!
فهمت هي ما يقصده بحديثه، فكانت ملابسها مبتلة بشدة وتلتصق على جسدها تحدد منحنياته وتجعل هيئتها أيقونة للفتنة تمشي على الأرض، فقد ابتلعت ريقها بتوتر لا تعلم ماذا تقرر ولكن في اللحظة التالية عندما استمعت لصوت غلقه لبابه واشـ عاله لمحرك السيارة يعلن عن انطلاقها وجدت ذاتها تندفع لباب السيارة تفتحه وتستقر في المقعد الذي بجانبه.
❈-❈-❈
كان غارق في افكاره أثناء قيادته يستغرب حاله لما لحق بها فكثيرًا ما يصادف نماذج تشبهها بحكم عمله ودائمًا يوفق في التصرف بحكمة وعملية شديدة ولكن لمَ معها اختلف الأمر.
زفر انفاسه غير راضيًا ثم فرك جبهته وكأنه يحث عقله على الثبات وحاول جاهدًا إقناع ذاته أن لا مخلوق خلق بعد ليزعزع قواعده الثابتة فتلك التي تجلس بجواره ما هي إلا كتلة بائسة استفزت ضميره اليقظ ليس إلا.
تنهد بضيق عندما وصله صوت اصطكاك أسنانها ببعضها ليرمقها بطرف عينه يراها منكمشة، ترتجف بشدة، وجنتها حمراء كالون الـ دم وكذلك أنفها المرفوع، خصلاتها تلتصق على وجهها و رغم شحوبها وتلك الكدمة التي تحاوط عيناها إلا ان ذلك لم يؤثر على جمالها… مهلًا مهلًا بماذا يفكر هو!
ذلك ما صرخ به عقله قبل أن يستغفر ربه بسره وينفض أفكاره المشينة بعيدًا… واثناء تحكمه في عجلة القيادة مال قليلًا بجسده نحوها كي يمكن يده أن تصل للمقعد الخلفي وتجلب سترته الإحتياطية، لتنتفض هي بقوة وتبتعد بجسدها لاقصى المقعد وقد برق وميض شرس بعيناها الواسعة جعله يزفر أنفاسه ويهدر بنفاذ صبر وهو يلقي بسترته نحوها:
-كنت بجيب ده...خدي البسيه هيدفيكِ
تنهدت بارتياح وأومأت له وبسرعة الريح ارتدته واحتمت به لتبدو مثل الفرخ الصغير بداخله، وبعد أن هدأت رجفة جسدها قليلًا تسائلت بترقب شديد:
-احنا هنرجع القسم!
قال بجمود وهو يركز نظراته على الطريق:
-لأ...دقايق وهتعرفي رايحين فين
❈-❈-❈
رفرفت بأهدابها لعدة مرات حين وجدته يهدأ من سرعته صوب منطقة شعبية يعم بها السكون لتتأهب بجسدها عندما توقف بالسيارة وتتسائل بريبة وهي تتلفت حولها:
-احنا فين؟
أجابها بجمود وهو ينفث دخان سيجارته ويشرد بنقطة وهمية في الفراغ:
-أنزلي
اتسعت عيناها وظهر وميض شرس بها و امتنعت قائلة:
-أنا مش هنزل غير لما أفهم!
انتفخت أوداجه وهدر بتهكم حاد وهو يلقي عقب سيجارته من النافذة:
-أكيد مش جايبك علشان انفرد بجنابك ولا علشان أغتـ صبك مثلا وأغصـ بك على حاجة...أنتِ طلبتي مساعدتي وانا بحاول اتنيل أساعدك...ولو شاكة في نيتي تقدري تمشي ومتورنيش وشك تاني
لم يروقها تهكمه بالمرة، فنعم هي بحاجة لمساعدته ولكن يصعب عليها تقبل طريقته فرغم كل ما تكبدته من شقاء مع شقيقها إلا أنها ترفض الخنوع فنفسها أبيه تعودت على التصدي والمجازفة، فصوت بداخلها يخبرها أن تسمعه ما يليق به و تنزل من سيارته وتعود لمنزلها ليكن ما يكون لم تصبح عابئة بشيء…حقًا ذلك ما كانت تود فعله ولكن ما صدر منها أن جسدها تحرك من تلقاء نفسه وكأن له عقل خاص به… فقد نزلت من سيارته بألية تامة والتفت تقف أمام بابه و دون أن تنطق سهمت بنظراتها الفارغة فلا شيء.
ضاقت عينه عليها لثوانٍ قبل يزفر أنفاسه دفعة واحدة وبعدها تناول هاتفه وقام بإجراء مكالمة سريعة،
ثوانٍ معدودة وكان يهرول ناحيته ويهتف بترحاب رجل سمين يرتدي عبائة وجلباب ويبدو من هيئته أنه من قابعين تلك المنطقة:
-يا مراحب...يا مراحب نورت الحتة يا "سليم" بيه
ترجل من السيارة وقال وهو يصافحه بهيبته المعتادة:
-منورة بأهلها يا "صابر" جهزت اللي قولتلك عليه
-أيوة يا باشا هو إحنا نقدر نرد لك طلب
-كويس أوي البنت هتقعد في حمايتك ولو حصل أي حاجة تكلمني
-تمام يا باشا دي على راسي
ليقترب منها ويقول ببرود شديد غير عابيء بارتباكها:
- المعلم "صابر" كبير المنطقة هيأجرلك الأوضة اللي فوق سطح بيته
فركت يدها وكادت تخبره بحرج أن ليس بحوزتها أي مال لتسد إيجارها ولكنه سبقها قائلًا:
-أنا هدفعلك الإيجار متقلقيش لغاية ما تساوي أمورك
أومأت له وهي مطرقة الرأس مما جعله يهدر بنبرة ثلجية تحمل بين طياتها تحذير خفي قبل أن يغادر تاركها ل "صابر" كي يوصلها لتلك الغرفة:
-مش عايز مشاكل ولا وجع دماغ وياريت ما شوفش وشك تاني...الراجل رضى يقعدك عنده علشان أنا ضمنتك لكن لو جالي أي شكوى منك هيكون ليا تصرف تاني معاكِ فاهمة ولا لأ
رفعت عيناها الأبية له وقالت وهي تتعثر داخل عتمة عيناه القاسـ ية:
-فاهمة...يا باشا
❈-❈-❈
غرفة واسعة ملحقة بمرحاض بدائي أصغر بكثير من مساحة الغرفة، ذلك ما استكشفته وهي تجول بعيناها في المكان بعدما أوصلها ذلك الرجل المدعو "صابر" فكانت الغرفة مطلية بالون الأبيض الباهت، و في الزاوية فراش صغير الحجم يفترش عليه شرشف صوفي سميك وهنا بالزاوية الأخرى طاولة مستديرة خشبية يعلوها آنية فخارية ( قُلة )
تحتوي على المياه التي تظل باردة تحت أي طقس، مقعدان متهالكان يحاوطها من الجهتين وهناك بركن بعيد على الأرض مقود بدائي صغير وعدة اواني واطباق تصلح للاستخدام
وإما بالأرض فيفترش بها حسيرة صغيرة تغطي ذلك البلاط الذي عفى عليه الزمن،
تنهدت بإرتياح و ارتميت على الفراش بتعب وظلت نظراتها معلقة بسقف الغرفة شاردة في كل ما مر بها...دقائق معدودة وسمعت طرقات على الباب لتهرول وتسأل بتوجس من خلفه:
-مين؟
-انا يا مزمزيل متخافيش
واربت بابها ببطء بعدما استمعت لصوت "صابر" واشرأبت برأسها حين مد يده بعدة أكياس بلاستيكية قائلًا:
- لامؤاخذة يا مزمزيل الباشا باعتلك دول و وصاني أدهملك
أخذت منه بأيدي مرتعشة ثم شكرته وأغلقت الباب مرة أخرى دون أن تنتظر مغادرته، ليبتسم ويداعب شاربه الكث بعد فعلتها ويغادر… بينما هي تنهدت براحة عندما استمعت لصوت خطواته تبتعد ثم أخذت تتفحص محتويات الأكياس فوجدت بواحدة طعام ساخن وأخرى كنزة صوفية ثقيلة وتنورة تناسبها ولكن لونهم يخالف قتامة ما تعودت أن ترتديه مؤخرًا ولكن لايهم ولا يحق لها السخط… لتحمد ربها حين وجدت ايضًا منامة ثقيلة تناسب مقاسها.
تنهدت براحة ثم اخذت تنزع ملابسها المبتلة لتستبدلها كي تنعم بالدفء ثم جلست على الطاولة تتناول الطعام بشهية كبيرة فهي لم تذكر منذ متى لم يدخل شيء بجوفها ربما ليومين، وبعد انتهائها ارتمت على الفراش بإرهاق شديد أثر تلك الليلة الكارثية التي كادت تقضي عليها لولآ رأفة الله بها ومساعدة ذلك الضابط المخيف لها، نعم مخيف بدايةٍ من ملامحه الثلجية القاسية التي تقسم أنها يستحيل أن تلين إلا بمعجزة...و صوته القوي واثق النبرات الذي يرهب الاعماق بكل سلاسة ونظراته الضيقة، الثاقبة التي تشعر انها تخترق روحها ليس فقط جسدها...و حديثه اللذع الذي يتعمد أن يلقيه بوجهها ولكن رغم كل ذلك تقدر ما فعله من أجلها.
ذلك أخر ما دار بذهنها قبل أن تسقط من شدة تعبها في سبات عميق لا تحسد عليه.
❈-❈-❈
وصل أمام منزله واطفأ محرك سيارته ثم نزل يستند بجذعه على مقدمتها وهو يشعر بضجيج صاخب برأسه يضاهي هياج تلك الأمواج المتلاطمة أمام ناظريه، تنفس بعمق يستنشق يود البحر الذي يحمله الهواء لعله يسترخي وينفض كل ما حدث اليوم عن رأسه ولكن احاله دون ذلك رنين هاتفه جاعله يزفر بقوة ويخرجه من جيب سترته و يرد بتنهيدة مثقلة لم تريح الطرف الآخر:
-الو
وكونه يعلمه تمام المعرفة قال بقلق:
-لأ الو معجبتنيش قول واحدة تانية كده
-"نضال" أنا مش فايق لهزارك
أتاه تنهيدة صديقه من الطرف الآخر وتلاه سؤاله المهتم:
-مالك يا وَحش
رد باقتضاب شديد:
-مفيش انت اخبارك ايه؟
-أخبار ايه بس سيبك مني وطمني عليك..طنط "ليلى"كويسة
تنهد واجابه بذات الاقتضاب:
-كويسة
-والشغل تمام
اجابه بملل:
-تمام
-طب يبقى ايه بقى ما هو مفيش حاجة تانية ممكن تضايقك
-مفيش حاجة مضايقاني هو أنت هضايقني بالعافية
وكأنه لم يستمع له حين تسائل:
-طب…هتحكيلي امتى بقى… لما تهدى صح
أصر هو:
-قولتلك مفيش حاجة
أدرك "نضال" بِفطنته أنه يتعمد أن يتكتم عن شيء يخصه فمن غيره يعلمه فحين يوجد أمر يشغل "سليم" أو يضايقه لم يفصح عنه إلا بعد عناء لذلك ألح عليه بمشاكسة:
-يا عم ما براحة ده انا بحبك …بص قولي ايه اللي حصل وهستر عليك
تفهم محاولاته و لذلك شبح بسمة ممتنة اعتلت فمه واجابه متهكمًا:
-تستر على مين يا دكتور الحريم
خليني ساكت
قهقه الأخر من الطرف الآخر ورد:
-طالما قولت دكتور الحريم يبقى انا كده اطمنت عليك
-هي البشمهندسة مش ناوية تلمك بقى بدل ما انت مفيش حاجة وراك غيري وعمال تستجوبني
تنهد "نضال" من الطرف الأخر مُسهدًا ثم أجابه بتوق شديد لذلك اليوم:
-يا ســــــــــــلام واللهِ دي هتبقى احلى لمة
باغته ساخرًا:
-نحنوح
فسر "نضال" الأمر بكل سلاسة:
-دي مش نحنحة ده حب يا جاحد
تنهد "سليم " وشرد بعيد بأفكاره ليتنحنح "نضال "ويخبره بفرحة عارمة:
-طب انا كنت متصل اقولك ان "رهف" وافقت أخيرًا وأول ما نفرش البيت هنحدد معاد كتب الكتاب و لو مجتش علشان تشهد على العقد مش عايز اعرفك تاني
-لأ هاجي طبعًا هو انا اقدر ده انا هاجي مخصوص علشان اشمت فيك أنك دخلت القفص برجليك
-يا عم اشمت براحتك على قلبي زي العسل المهم تيجي وتشرف صاحبك
ابتسم وقال بمحبة حقيقية:
-مبروك يا "نضال" ربما يتمملك على خير
اجابه" نضال" من الطرف الأخر مشاكسًا:
-مش هقولك عقبالك بس هقولك ربنا يكرمك باللي توقعك على بوزك
قهقهوا سويًا ثم ودعه واغلق معه وخطوات وكان داخل منزله وعلى وجهه بسمة حقيقية لم تظهر إلا نادرًا...وكونها نادرة استحوذت على اهتمام والدته فحين اقترب منها تسائلت مستبشرة:
-كده يا" سليم " حرام عليك كل ده تأخير أنا قلبي وقع في رجليا
مال بجزعه و قَبل هامتها قائلًا:
-سلامة قلبك يا ست الكل حقك عليا
قالها وهو يلقى متعلقاته بأهمال على الطاولة ثم أضاف وهو يجلس بأرهاق مواجه لموضع كرسيها المتحرك:
-أنا مش عيل صغير متقلقيش هيجرالي ايه يعني
-لأ عيل وهتفضل عيل في نظري العمر كله وهفضل أخاف عليك لغاية ما ربنا ياخد امانته
- بعد الشر عليكِ يا "ليلى" بلاش سيرة الموت دي مش بحبها
أومأت له وأخبرته برضا:
-يا بني محدش بيعيش أكتر من عمره...أنا بس نفسي أطمن عليك واشوف عيالك قبل ما أقابل رب كريم
هز رأسه بلا فائدة ثم قال ببسمة حانية وهو يقرص وجنتها بلطف:
-تاني! هو انتِ مبتزهقيش
نفت برأسها لتتسع بسمته ويخبرها:
-طب سيبك مني دلوقتي…"نضال" كلمني هو والبشمهندسة هيكتبوا الكتاب كمان كام يوم
تهللت أسارير "ليلى" وقالت ببسمة واسعة:
-يا الف نهار ابيض والله فرحتله " نضال "طيب ويستاهل كل خير
هز رأسه يؤيد مدحها لتضيف هي متمنية:
-عقبالك يا حبيبي
تنهد بملل وقبل أن تبدأ من جديد نهض يسألها قبل أن يتوجه لغرفته:
-"صباح" عشتك وعطتك علاجك ولا لأ
-اه يا ابني ربنا يباركلها والله ما عارفة من غيرها كنت عملت ايه
ربت على كتفها وقال متنهدًا:
-طيب انا هدخل انام علشان تعبان عايزة حاجة
عقدت حاجبيها وسألته بتوجس فتلك ليست عادته فطالما استمع لها برحابة دون كلل:
- مالك يا حبيبي في حاجة مضايقاك!
أخبرها بإقتضاب:
-مفيش يا ست الكل تصبحي على خير
أومأت له بقلة حيلة فهي تعلمه حين يكون أمر يشغله يفضل التفكير اولًا والانفراد بذاته، ليتركها ويدخل غرفته يستبدل ملابسه ويتمدد على فراشه يتوسد ذراعيه خلف رأسه ويشرد في نقطة وهمية في الفراغ يسترجع كل ما حدث اليوم.
❈-❈-❈
تململت في الفراش بتكاسل وكأنها لم تنم لسنوات وما أن تداركت المكان اعتدلت بنومتها وهي تبتسم بسمة غريبة بإرتياح أغرب فمن يراها يشعر أنها لم تنم بتلك الراحة في حياتها، نهضت من الفراش وتوجعت للمرحاض كي تغتسل اولًا ثم تؤدي فرضها ومن بعدها استعدت للخروج للبحث عن عمل
فقد ارتدت تلك الملابس التي بعثهم لها بالأمس، وحين انتهت وقفت تطالع هيئتها المُبهجة داخل تلك المرآة الصغيرة المعلقة على الحائط غير راضية… ولكن لا يحق لها أن تسخط فلم تعد تملك خيار أي شيء حتى أنها لاتعلم كيف ستأتي قوت يومها.
لذلك تنهدت وحمدت ربها وقبل أن تتردد نزعت قرطها الذهبي من أذنها ودسته بجيب تنورتها ثم خرجت، وأثناء نزولها الدرج تفاجأت بفتح باب إحدى الشقق وظهور ذلك المدعو "صابر"قائلًا:
- يا صباح الفل يا مزمزيل
ردت تحية الصباح وكادت تتخطاه لولآ انه سألها بخبث وهو يشملها بنظرة اعجاب لم تخفى عليها:
- تأمريني بحاجة انا تحت أمرك ده الباشا موصي عليكِ يظهر انك تهميه أوي
هزت رأسها دون أن تبتسم حتى ثم طلبت متغاضية عن نظراته التي لم تريحها:
-عايزة اشتغل ياريت تقدر تساعدني…
-وانتِ كنتِ بتشتغلي ايه قبل كدة لامؤاخذة
تنهدت واجابته بكل رضا:
-انا اشتغلت حاجات كتير قبل كده ومش هيفرق معايا الشغل عمره مايعيب صاحبه
طالما من غير ذل وهكسب بالحلال
أومأ لها بتفهم و وعدها بصدق:
- من عيوني يا مزمزيل أي حد يقصدني هدله عليكِ
ـ شكرًا عن أذنك
ذلك أخر ما تفوهت به قبل أن تفر من أمامه تاركته ينظر لآثارها وهو يداعب شاربه الكث بين أنامله بنظرة مريبة غير مريحة بالمرة.
❈-❈-❈
نسمات باردة لفحته استقبلها هو باستمتاع شديد وهو يجلس بشرفته شارد على غير عادته، تقدمت والدته منه بكرسيها المدلوب وسألته بقلق:
- مش ناوي تقولي مالك
أجابها ببسمة عابرة:
-مفيش يا ست الكل سلامتك
- مش عوايدك تفضل سرحان وساكت كده!
اعتدل بجلسته وأجابها:
- ابدًا مفيش حاجة
-"سولي" بتكدب على أمك متخبيش علشان عينك فضحاك
- بذمتك راجل طول بعرض زي يتقله سولي ده عيب في حقي
قالها بمشاكسة يخصها هي فقط بها فطالما كان يعشق ذلك الأسم منها حين كان صغير، ولكن الآن حين تريد أن تسبر أغواره تلقيه على مسامعه كي تشاكسه
فقد أبتسمت بكل ثقة وردت:
-لو مش عاجبك يا حضرة الضابط أشرب من البحر أهو قدامك
اتسعت ابتسامته وأجابها:
- عاجبني يا ست الكل هو أنا أقدر
-أيوة كده اظبط
قهقو سويًا ثم ربتت هي على يده بود لتهدء ضحكاته تدريجيًا ويخبرها بنبرة ثابتة:
- فاكرة البنت اللي لقيناها على الرمل
أومأت له وتأهبت لمَ سيقوله، ليسترسل هو ويقص لها كل ما حدث وبعد أن أنتهى أخبرته هي بفخر:
- ربنا يكرمك يا حبيبي زي ما كرمتها وساعدتها شكلها غلبانة وفعلًا ملهاش حد
- اللي مش قادر افهمه ليه مش راضية توقف أخوها الزفـ ت ده عند حده
- يا بني الـــ دم عمره ما يبقى ميا وهي شكلها اصيلة وأكيد مش عايزة تأذيه
_و ليه هو يأذيها ده لو تشوفي شكلها ده مبهدلها ده غير أنه بياخد شقاها
- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ده شكلها مسكينة يا بني والله قطعت قلبي عليها
أجابها منفعل للغاية بطريقة هو ذاته لايعلم سبب لها:
- لأول مرة احس بالتشتت ده مش عارف ده صح ولا غلط كل اللي أعرفه أنها غبية
أبتسمت "ليلى" بهدوء و مدحته قائلة:
- يا حبيبي أنت قلبك طيب وعمرك ما رديت حد عايز مساعدة....واللي عملته عين العقل انت عملت اللي بيمليه عليك ضميرك وصدقني ربنا هيجزيك خير
نعم هي محقة وذلك التفسير المنطقي الوحيد للأمر ولكن لمَ عقله اللعين لم يستوعب ذلك طوال الليل وارهقه معه…
تنهد تنهيدة مطولة يلعن تلك الغبية بسره قبل أن ينحنى يقبل يد والدته و ينهض يغادر لعمله، تاركها تدعو الله أن يحفظه لها فهو نبتة حياتها التي أتت ثمارها.
❈-❈-❈
كانت كالفراشة الزاهية التي ترفرف بأجنحتها الرقيقة بين الازهار... جميلة هي بطريقة خاصة بها عيونها الرمادية التي لطالما أسره الشجن بها وخصلاتها البندقية التي عادت لطبيعتها، تتأرجح مع خطواتها لتأرجحه قلبه وتزيد توقه أن يخلل يده بينها...فكانت نظراته متجمدة عليها وهي تقوم بأرشاد العمال على مواضع الاثاث
يتابع كل خلجة بها، وخاصًة بسماتها التي لطالما أتت بربيعها على قلبه الغارق بها..
-"نضال"
انتشله من حالة السُهاد التي كان عليها صوتها ناطقة بحروف أسمه نافضة قلبه ليبتلع ريقه ويرد وهو يتقدم بخطواته منها:
-نعم يا حبيبي
ارتبكت من ذلك اللقب الجديد على مسامعها منه وقالت وهي تلملم خصلاتها تضعها خلف اذنها:
-سرحان في إيه؟
تنهد وهمس وخضراويتاه تتمعن بها:
-مش مصدق ان كمان كام يوم البيت ده هيجمعني بيكِ
ابتسمت تؤكد له:
-لأ صدق
همس بنظرات تفيض فيض بِعشقها:
-يعني ده مش حلم هصحى منه
نفت برأسها وهمست بخجل وكأنها تخوض تلك المشاعر لمرتها الاولى:
-مش حلم انا فعلًا هنا معاك
تجرأ واحتضن كف يدها يدثره بين راحة يديه ثم قال بنبرة صادقة نابعة من صميم قلبه الـ مُلع بها:
-اوعدك هعوضك عن كل حاجة وحشة مريتي بيها وعمري ما هقصر في حقك ولا حق ولادك
غرقت داخل خضراويتاه الصادقة في نظرة عميقة مطولة أخذ هو يتغزل بها دون أن ينطق فقط عيناه وحدها كانت تخبرها أنه سيكون خير سند لها.
قطع تشابك نظراتهم صوت "شريف" الذي هتف بحماسٍ وهو ينزل الدرج الداخلي للمنزل:
-مامي الأوضة بتاعتي حلوة اوي
وموجود فيها Playstation اللي كان نفسي فيه
تبعته "شيري" تشاركه الحماس:
-وانا كمان اوضتي جميلة ولونها بينك وفيها كل العرايس اللي بحبها
ابتسمت "رهف" بسمة واسعة تنم عن سعادتها برضا صغارها ثم حثتهم قائلة:
-اشكروا "نضال" هو اللي جاب كل ده ورتبه بنفسه
ركضوا إليه يحتضنون ساقيه هاتفين في صوت واحد:
-شكرًا يا "نضال" يا احنا بنحبك اوي
اتسعت بسمته بسعادة نابعة من تقديره لتلك النعمة التي حُرم منها ثم قال وهو يجثو أمامهم ويضمهم له:
-وانا بموت فيكم يا عيون "نضال" وهعمل أي حاجة علشان اشوفكم مبسوطين كده علطول
خرجت" شيري" من بين يديه وقالت بمكر طفولي:
ـ أي حاجة!
أكد بثقة:
-أي حاجة…أي حاجة يا زئردة
لتطلب هي بحماس:
-طب احنا عايزين نجرب المرجيحة الجديدة اللي في الجنينة
اعتدل في وقفته ثم قبض على كفوفهم:
ـــ يلا بينا
ليهتف "شريف ":
-تعالي معانا يا مامي
ليضرب هو الأرض بقدمه ويقول بمشاكسة يقلد طريقة أطفالها:
-ما تيجي معانا يا مامي
انفجرت ضاحكة ونفت برأسها ليرفع منكبيه ويصحب الصغار وحين ابتعد هدأت ضحكاتها و
طالعتهم ببسمة رائقة للغاية تنم عن راحة عارمة لتلك الحياة الجديدة المقبلة عليها فهو عطوف مع أطفالها و تعلم أنه جدير بها ويقدرها وسيعوضها عن كل الخـ يبات التي مرت بها في كنف والد أبنائها.
يتبع