رواية لا أحد سواك رائفي- بقلم الكاتبة سماح نجيب- الفصل الثاني
رواية لا أحد سواك رائفي
بقلم الكاتبة سماح نجيب
الفصل الثاني
رواية
لا أحد سواك رائفي
٢- " ما لم يكن بالإنتظار "
مرت ثوانى ثقال ، كانت باعثة على القلق ، فإنتظرتا أن يكمل الطبيب حديثه ، بعد تلك الجملة القصيرة ، والتى جاءت مقدمتها بشعور الأسف من جانبه ، ولم تكن سوى شرارة أشعلت فتيل الخوف بقلبها وقلب رفيقتها ، التى لم يكن حالها بأفضل منها ، فتلك النظرات المتبادلة بينهما ، جعلت كل منهما تحيك بخاطرها من الإحتمالات أسوءها
فلم تكن يدها القابضة على ثيابها ، كمن تستمد قوة واهية من اللاشئ ، بكافية أن تجعل ذلك الإرتجاف الذى حل على جسدها يتوقف قبل أن تشعر بأن أنفاسها على وشك الانتهاء
فجاء باقى حديث الطبيب ، مكملاً لتلك الحرب النفسية ، التى شنها الانتظار على حواسها ، خاصة وهو يقول معقباً :
- حضرتك للأسف عندك ورم خبيث
بفم مفتوح يكاد يصل للأرض ، كانت نعمة تردد هاتان الكلمتان الكفيلتان بجعل دموعها تنهمر كالأمطار :
- ورم خبيث
هز الطبيب رأسه ثانية بأسف :
-أيوة وكمان فى مرحلته الأخيرة يا مدام نعمة
تلك العبرات الحارة التى غزت عينيها ، بعد سماع ما قاله الطبيب بشأن صديقتها ، لم تمنعها من التشبث بأمل يسير ، يلوح بأفق التمنى وهى تقول بتساؤل :
-طب ايه العمل دلوقتى يا دكتور نعمل ايه لو فى علاج أو حاجة علشان نعمة تخف
فبما يجيبها هو الآن ، فهو يشعر بالعجز لإحياء الأمل بنفسيهما ، ولكن ضميره المهنى يحتم عليه إخبارهما بالحقائق :
- هو أولاً وأخيراً كل شئ بإيد ربنا ، بس فى حالة مدام نعنة حتى الكيماوى مش هيجيب نتيجة مفيش حل غير المسكنات وربنا قادر على كل شئ
كأن اصابها الخرس ، أو أن أحبالها الصوتية فقدت قدرتها على أن تتلفظ بأى كلمة ، فهل ما اخبرهما به الطبيب حقيقة ؟ هل أصبحت هى الأن مريضة بمرض عضال حتى لا يوجد له دواء ؟ ماذا سيحدث لها ؟ أو ماذا سيكون مصير إبنتها ؟
ظلت الأفكار والتساؤلات ، تتدفق بعقلها كالسيل ، ولم تخرج من شرودها إلا على صوت صديقتها عزة وهى تقول :
- شكرا يا دكتور
أقتربت منها عزة ، تمد كفها تسحبها من يدها ، فهى تعلم شعورها الآن ، فخرجتا من العيادة ، وكأن نعمة كانت بإنتظار ذاك ، فتعالت شهقاتها ، تنسكب دموعها على وجنتيها بغزارة
فحاولت عزة تقديم عبارات المواساة والإطمئنان لها ، فأخذتها بين ذراعيها وهى تربت عليها بحنان :
-إهدى يا حبيبتى ربنا قادر على كل شىء وقادر يشفيكى ان شاء الله بس يا نعمة متقطعيش قلبى
دفنت نعمة وجهها بكتف عزة وهى تنوح :
- أنا مش زعلانة على مرضى انا راضية بقضاء ربنا بس اللى خايفة عليها بنتى وانتى عارفة ابوها رمانا من زمان ومراته مش هتتحملها ، خايفة على سجى يا عزة
قالت عزة بشفقة :
-حبيبتى متقوليش كده ربنا هيشيل عنك وتخفى إن شاء الله بس قولى يارب
رفعت نعمة وجهها عن كتفها ، ورمقتها برجاء وهى تقول:
-مش عايزة سچى تعرف حاجة يا عزة اوعى تقوليلها
أماءت عزة برأسها إيجاباً :
-حاضر يا حبيبتى مش هقولها حاجة متخافيش يلا بينا نروح
سارت معها تشعر بالتيه ، وعقلها لا ينفك عن التفكير ، فى مصيرها ومصير إبنتها الشابة ، والتى تعلم إذا أصابها مكروه ، ستصبح سجى لقمة سائغة بفم زوجة أبيها ،فعادت نعمة إلى المنزل ، وحاولت رسم ابتسامة على شفتيها مثلما أعتادت ابنتها أن تراها باسمة
فألقت عليها التحية بصوت هادئ:
- السلام عليكم
رفعت سجى وجهها عن كتابها وهى قائلة بإبتسامة :
-وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته كنتى فين يا ماما ده كله قلقتينى عليكى
جلست نعمة بجانبها ، وأطالت النظر إليها :
-كنت مع عزة بتشترى شوية حاجات لبنتها ما انتى عارفة انها قربت تتجوز
قالت سجى بصوت عذب :
-ربنا يتمملها بخير ويسعدها يارب
داهمت الدموع مقلتيها ، ولكنها حاولت إخفاءها وهى تقول:
- ربنا يفرحنى بيكى انتى كمان يا سچى
قالت عبارتها ويدها تشد على حقيبتها ، التى تقبع بداخلها تلك الأوراق ، التى كشفت لها بمرارة عن مدى سوء أحوالها الصحية والجسدية
فردت سجى باسمة :
- تسلميلى يا ماما وربنا ما يحرمنى منك ابدا يارب
شعرت نعمة بحاجتها ، بأن تضمها لصدرها الحانى ، فما كان منها سوى أن جذبتها إليها ، تطوقها بذراعيها بحنان جارف ، تغلق عينيها من حين لأخر ، لتمنع تسرب دموعها من عينيها ، فسمعتا صوت جرس الباب ، فتركت سجى مأمنها بين ذراعى والدتها ، وذهبت لترى من القادم ، والتى لم تكن سوى صديقتها ريهام ، أتت حسبما أخبرتها بأنها ستذاكر برفقتها اليوم
فأشارت لها سجى بالدخول ، فدلفت ريهام وأقتربت من نعمة تقبلها على وجنتها قائلة :
- أزيك يا طنط نعمة وحشانى أوى والله
ربتت نعمة على ذراعها وهى تجيبها :
- أهلا بيكى يا حبيبتى تسلمى يارب
وكزت سجى ريهام بكتفها وهى تقول :
- تعالى يلا علشان نلحق نراجع اللى ورانا
سارت ريهام خلف سجى ، حتى وصلتا لغرفتها ، بينما ذهبت نعمة لفراشها ، فقواها منهكة للغاية ، وتريد أن تنال قسطاً من الراحة ، التى لن تشعر بها ثانية ، خاصة بعدما حدث اليوم
مرت ساعتين كاملتين ، وهاتان الفتاتان مازالتا تذاكران بجد ، حتى أصاب ريهام السأم ، فزفرت بملل وتأفف :
- أوووف هى المذاكرة دى ما بتخلصش أبداً يا ساتر يارب أنا زهقت يا أختى
نظرت إليها سجى وهى عاقدة حاجبيها بغرابة :
- مالك يا بت فى ايه لحقتى تزهقى يا فاشلة
لوت ريهام شفتها العليا تقول بإمتعاض :
- أه زهقت يا اختى من المذاكرة مفيش واحد ابن حلال ييجى يتجوزنى بلا دراسة بلا هم ووجع دماغ
حركت سجى رأسها بيأس :
- دا انتى فاشلة صحيح
قالت ريهام بتنهيدة حالمة :
- هو فى احسن من الفشل الا قوليلى ايه اخبار دكتورنا الحليوة
زوت سجى ما بين حاجبيها قائلة بتساؤل:
- دكتورنا الحليوة مين ده قصدك على مين
شدت ريهام على وجنتها برفق :
-استعبطى يابت عليا قصدى يوسف الدكتور يوسف
أجابتها سجى وهى تشعر بالغرابة من قولها :
- ماله دكتور يوسف ده كمان وأنا مالى بيه
-شوف البت ما انتى عارفة انه عينه منك يا اختى
قالتها ريهام فى إنتظار ردها ، فما كان من سجى إلا أن قالت بإنفعال طفيف :
-لا عينه ولا رجله انتى عرفانى مليش فى الحوارات دى يا ريهام
قبضت ريهام على كفها وهى تقول بهدوء :
- أنتى فهمتينى غلط انا اقصد انه ممكن يكون حابب يرتبط بيكى ويتجوزك
زفرت سجى بهدوء وهى تقول :
-والله لو نيته كويسة خير وبركة غير كده فى انه هينضرب بالجزمة
ضحكت ريهام قائلة بمرح :
- ياواد يا مفترى انت ياجامد
-واد كمان ذاكرى يا بت واسكتى نقطينى بسكاتك تعرفى ولا متعرفيش
نطقت سجى بعبارتها ، وهى تعاود النظر ثانية بكتابها
فأجابتها ريهام وهى تحرك شفتيها بإستياء :
- حاضر يا أختى هنقطك بسكاتى صحيح فين الانسيال بتاعك مش شيفاه فى إيدك
تحسست سجى معصمها ، حيث كان سوارها يزينه دائماً ، فأجابتها بحزن :
-مش عارفة وقع منى فين يا ريهام ومش لقياه دا كان هدية ماما ليا لما نجحت فى الثانوية وفضل فى ايدى لحد ما وقع منى حتى خايفة اقول لماما لتزعل منى
قالت ريهام بأسف :
- معلش ربنا يعوض عليكى يا حبيبتى بس شوفى مشمشة نايمة ومأنتخة ازاى الواحد ميبقاش قطة يعيش حياتة يأكل ويشرب وينام ويعيش سلطان زمانه
بجملتها الممازحة إستطاعت ريهام إقتناص تلك الضحكة الصاخبة من فم سجى ، فما لبثتا الإثنتان تتبادلان النكات والضحكات ، حتى أعلنت سجى عن ضرورة عودتهما ثانية للمذاكرة ، فريهام إذا لم تلجم حسها الفكاهى ، سينقضى اليوم بدون أن تفعلا شيئاً نافعاً
❈-❈-❈
تجلس تلك الفتاة المدللة ذات السابعة والعشرين من عمرها مع أصدقاءها ، وصوت ضحكاتها الصاخبة يسمعه جميع من يجلس فى هذا النادى الرياضى ، ذلك المكان الذى أعتادت أن ترتاده يومياً ، فهى تجلس وسط جمع من الأصدقاء ، تمثل بفتاة أخرى من ذوات النفوذ وربيبة مجتمع مخملى ، وثلاثة أصدقاء شباب أبرزهم شاب يدعى وائل ، والذى راح من حين لأخر يخبرهم بطرائف ، أخذت مايا تضحك على طريقة عرضه لها
وضعت مايا يدها على فمها ، بعدما أطلقت لصوت ضحكتها أن تخترق أذان الجميع ، فهتفت به :
- لاء حلوة دى كمان نكتة بقى يا وائل علشان خاطرى
اقتربت منها صديقتها وتدعى نيللى ، مأنبة إياها :
- كفاية يا بنتى صوتك جايب لاخر النادى حد يسمعك يقول لخطيبك
قبل أن تنبث مايا ببنت شفة ، سبقها وائل القول :
- أنا عارف انتى اتخطبتى لواحد خنيق زى ده ليه يا مايا كان عقلك فين
رفعت نيللى حاجبها وهى تقول بدهشة :
- وماله رائف على الاقل ارجل منك يا لولو
أمتلأت ملامح وجه وائل بغيظ عظيم ، فرد قائلاً بصوت مستاء :
- احترمى نفسك يا نيللى احسنلك ماشى
قبل أن تنشب بينهما مشادة كلامية ، كانت مايا تسرع فى فض ذلك الأمر ، قبل أن يتفاقم أكثر من ذلك ، فهتفت بهما بصرامة :
- بس اسكتوا انتوا هتتخانقوا ولا ايه
تبسم وائل قائلاً بسخرية :
- ما تلاقى الحلوة دى عينها منه يا مايا مش شيفاها بتدافع عنه إزاى
أجابته نيللى بصوت مفعم بالغيظ :
- احترم نفسك ياض انت هو علشان بحترمه يبقى عينى منه ولا علشان أنت مهزق ومش لاقى حد يحترمك
ضرب وائل الطاولة بقبضته وهو يهدر بصوت عالى :
- قولتلك أحترمى نفسك وعاجبك فى ايه بقى يا نيللى هانم
أجابته نيللى بإعجاب ظاهر ، تشيد بخصال رائف :
- الظاهر انك اعمى ومبتشوفش انت مش شايف رائف عامل ازاى هيبة ومركز ورجولة وأدب وإحترام
رفع وائل شفته ساخراً :
- علشان ظابط فى الجيش وايه يعنى
- ومش بس كده لاء دا ظابط صاعقة عارف يعنى ايه يا لولو
قالتها نيللى رغبة منها فى أن تزيد من حنق وائل ، وتشعره بضألته وعدم منافسته لرائف بأى من تلك الصفات التى يتصف بها
فتأففت مايا من لهجتها المتوددة :
- اهدوا بقى انتوا الاتنين وإسكتوا
تناولت نيللى مشروبها ، فأرتشفت منه وأعادت مكانه وهى تقول :
- أنا لو منك اطلب منه نتجوز النهاردة قبل بكرة وابقى حرم رائف ماهر زيدان
عبث مايا بأطراف شعرها ، المنسدل على كتفها ، فقالت بفتور :
- لسه بدرى هو انا هقيد نفسى من دلوقتى لسه الحياة قدامى طويلة
تعجبت نيللى من قولها فقالت :
- ليه ناوية تتجوزوا امتى بعد خمسين سنة ولا إيه
أجابتها مايا بنبرة غير مكترثة :
-بس يانيللى بطلى هبل فى حاجات لازم الواحد يتمتع بيها قبل ما تنحبس حريته ، وألاقيه بيقولى أعملى ده ومتعمليش ده
راحت عيناها تقيم ذلك الشاب ، الذى كلما نظرت إليه ، تجده يطالعها بإعجاب ويبتسم لها ، فما كان منها سوى أن بادلته الإبتسام ، فجذبت إنتباه نيللى بما تفعل ، فسألتها بفضول :
- أنتى بتبتسمى لمين يا مايا
رفعت مايا سبابتها وهى تقول :
- مين الشاب ده اللى قاعد على الترابيزة اللى هناك دى
ألتفتت نيللى برأسها حيث أشارت وقالت :
- أنتى قصدك على مين
-الشاب اللى قاعد هناك ده ولابس تيشرت لونه أصفر
قالتها مايا وهى مازالت تبتسم بثقة على نظرات الإعجاب التى لم يستطيع هو إخفاءها
فأمعنت نيللى النظر به ، فذلك الشاب ماهو إلا احد اعضاء النادى ويدعى هانى ، ولكن قبل أن تعلن عن معرفتها بكونه من يكون ، سبقها وائل فى فعل ذلك وقال :
- أه ده هانى عضو هنا فى النادى
ترك هانى طاولته ، وأقترب منهم ، خاصة بعدما بادلته مايا تلك النظرات ، التى علم أنها سترحب به ، ولن تبدى إعتراضاً ، فكان هو الأول فى مد يده ليصافحها وهو يقول :
- هاى أنا هانى نصار
تبسمت له مايا ، وشعرت بيده تشد على يدها الناعمة ، فأجابته بدلال :
- هاى انا مايا ودى نيللى وده وائل ودول أصحابنا
رفض هانى ترك يدها ، فعاود الحديث :
- أهلا ممكن اقعد معاكم لو مش هضايقكم
هزت مايا رأسها ببطئ ، وهى تقول بصوت حمل بين طياته إغراء :
- اه طبعا أتفضل يا هانى
جلس هانى على المقعد المجاور لها بالجهة الأخرى ، بينما مالت إليها نيللى برأسها وهى تهمس لها بصوت خافت :
- فى ايه يا بنتى لو حد شافك دلوقتى يقول ايه ، ولا حد راح قال لخطيبك
زفرت مايا وهى تقول بحنق :
- اسكتى بقى يا نيللى متبقيش خنيقة وأنتى مالك كده وقفالى على الواحدة هو رائف خطيبى أنا ولا خطيبك أنتى
عبست نيللى من تلميح مايا ، الذى رآته مهيناً بعض الشئ ، فأجابتها بفظاظة :
- والله انتى هبلة ومش عارفة مصلحتك
فضلت مايا ألا تكترث لقول نيللى ، بل صبت جام إهتمامها على حديثها مع هانى ، الذى بدأه هو بالتعريف عن ذاته وعائلته العريقة ذات النفوذ والسلطان ، وعن تلك المغامرات التى خاضها اثناء رحلاته المتكررة لدول الغرب ، يجعلها من حين لأخر تلقى نظرة على تلك الصور ، التى وثق بها تلك اللحظات التى يخبرها عنها ، فتبتسم تارة وتندهش تارة أخرى ، كأنها ترى أمامها ذلك البطل الإسطورى الملقب " بالسندباد " الذى خاض أهوال ومغامرات بتجوله بين بلدان العالم
❈-❈-❈
من حين لأخر ، يرفع يده يمسح بها حبات العرق ، التى تجمعت على جبينه ، بسبب ذلك الجهد المبذول في إنهاء شحنة الأثاث ، التى أوصى بها صاحب أحد متاجر بيع الأثاث ، فأنتصب بقامته بعدما كان منحنياً لوقت طويل ، وزفر بإرهاق متناولاً كوب الشاى القريب منه ، فأرتشف منه قليلاً ، وأعاده مكانه ليعاود الانحناء ثانية ، على تلك القطعة الخشبية التى ستتخذ قريباً شكلها النهائى ، المتمثل بمائدة خاصة بالطعام
ولكن وقع تلك الأقدام ، التى تقترب منه ، جعلته يدير رأسه ليعرف من تكون صاحبة تلك الخطوات الهادئة ، فتبسم بعد علمه ، إنها ماهى إلا إبنته الصغرى أروى
فتبسم بوجهها ، خاصة أنها تشبه والدتها ، تلك المرأة التى أرتمى على أعتاب الشوق لها والهجر لزوجته الأولى من أجلها :
- أروى راحة فين كده كنتى عايزة حاجة
أجابته أروى بحذر :
- أنا قولت لماما انى راحة اذاكر عند واحدة صاحبتى بس بس ..
إمتنعت عن تكملة حديثها ، فعقد حامد حاجبيه وقال :
- بس ايه انتى راحة فين بالظبط يا أروى
لمست أروى صرامة كلمات والدها ، فقالت مسرعة :
- هروح لسچى وطنط نعمة وانت عارف لو قلت لماما هترفض وهتزعقلى وانا زعلانة انى كدبت عليها بس اعمل ايه هى منعانى اشوف سچى أو أروح عندهم يا بابا
مد حامد يده بجيب بنطاله ، وأخرج عدة أوراق نقدية ، ووضعها بيد أروى وهو يقول :
- خلاص روحى وخدى الفلوس دى أديها لسچى
وضعت أروى النقود بجيبها ، فرمقته بتساؤل :
- مش هتروح معايا يا بابا بقالك كتير مروحتش تزورهم
أشاح حامد بوجهه عنها وهو يقول :
- لاء مش هقدر عندى شغل كتير سلميلى عليها
هو يعلم إنه إذا ذهب لرؤيتهما ، فسيرى فى نظرات زوجته الاولى نظرات قهر ووجع ، كأنها تخبره بمدى تقصيره وإجحافه بحقهما ، كأنه بذلك يهرب من واقعه ، ولكن هو يعلم أن الله سيعاقبه على ما يفعله ، وسيأتى يوم القيامة بشق مائل ، لعدم مساواته بين زوجتيه ، مفضلاً إحداهما عن الأخرى ، كأن نعمة ليس لها الحق بأن تأخذ منه ، ما تحصل عليه فادية من تدليله لها وولهه بها
❈-❈-❈
ولكن ذلك لم يمنعه من الحمحمة ، يحاول تنظيف حلقه فهتف بصوت وديع :
- أبيه أكرم أبيه أكرم
أجابه أكرم بضيق :
- عايز ايه ياض انت بطل زن بقى مش فاضيلك
رفع شادى حاجبيه وقال :
- ياض ! دكتور ايه ده مش عارف
نظر إليه أكرم بهدوء وهو يقول:
- لخص وقول عايز ايه يا شادى علشان عارف الدخلة دى وراها حاجة
تلعثم شادى قائلاً :
- أنا عايز أنا عايز
قبض أكرم على فكه وقال :
- هتفضل تتهته كده كتير قول عايز إيه وخلصنى
أرتسمت إبتسامة عريضة على وجه شادى وقال :
- أنا عايزك يا أبيه تساعدنى فى تجربتي الجديدة
دفعه أكرم برفق قائلاً برفض قاطع :
- مليش دعوة يا حبيبى علشان تفرقع فى وشى تشوهنى لاء مش هساعدك أنسى خالص
تصنع شادى الإستياء وهو يقول :
- دا ايه الإخوة دى هو مش أنا اخوك ولازم تساعدنى بتتخلى عنى
ألتوى ثغر أكرم قائلاً :
- هو يا تفرقع المعمل فينا يا اما مبقاش اخوك روح العب بعيد عنى يلا
رآى شادى والدته تقترب منهما ، ففكر انها ربما تساعده هى ولكنه نفض الفكرة سريعاً عن ذهنه ، وراح يردد بخوف :
- لاء ماما لاء دى لو جرالها حاجة بابا يقتلنى فيها دا بيخاف عليها من الهوا الطاير
تبسمت هدى لولديها وهى تتخذ مكانها بجوارهما متسائلة :
- بتتكلموا فى ايه كده يا حبايبى
مط شادى شفتيه قائلاً بوداعة :
- شوفتى يا ماما أبيه أكرم مش راضى يساعدنى
أثار سخطه بنبرته الوديعة فما كان من أكرم إلا أن قال بغيظ :
- ماما قوليله يحل عنى مش ناقص فرقعة انا أحسن والله أقومله ويومه مش هيعدى
نظرت هدى لشادى قائلة بلطف :
- أنت عايزه يساعدك فى ايه يا شادى
زاغ شادى بعينيه عن مرمى بصر والدته وهو يقول :
- دى تجربة عامل محلول وعايز اجربه على حد وأشوف النتيجة
رفع أكرم سبابته وهو يشير إليه بحنق :
- شايفة يا ماما عمايله ، يلا علشان اموت متسمم كمان حد قالك انى فار تجارب يا حبيبى
حاولت هدى التخفيف من حنق أكرم فردت قائلة بحنان :
- بعد الشر عليك يا حبيبى
بلغ منه الاستياء والتبرم مبلغه ، فعقد ذراعيه وقال :
- طب اجربه على مين دلوقتى ها عم عبده الجناينى
شهقت هدى بخفوت ، فعنفته قائلة بصرامة :
- شادى أبعد بتحاربك ومحاليلك دى عن أى بنى ادم مش ناقصين مصايب انت فاهم
نكس شادى رأسه وهو يقول بصوت درامى :
-خلاص يا ست ماما مش هجرب على حد خليكم كده طب اوصل للعالمية ازاى ها قوليلى ، مبتشجعوش العلم والعلماء
رفع أكرم شفته ساخراً:
- أنت عايز توصل للعالمية على جثثنا يا زويل
أجابه شادى ببرود مصطنع :
- ما كل نجاح لازم له ضحايا يا أبيه أكرم
تركت هدى مكانها واقتربت من شادى تقرص وجنته بتأنيب :
-بطل جنان يا شادى أحسن أخلى بابا يهدلك المعمل ده خالص ونرتاح كلنا
أتسعت مقلتيه فأسرع قائلاً :
- خلاص يا ست ماما أنا كنت بهزر معاكم وكنت بجر شكل أبيه أكرم علشان أبيه رائف مش هنا علشان اضايقه انا مش عامل محاليل ولا حاجة
أثناء حديثم لمحوا مجئ والدهما ، يتبعه رائف يجر حقيبته ، فأسرع شادى بترك مكانه وهو يقول بتفكه كعادته :
- إيه اللى جاب القلعة جمب البحر
تبسمت هدى على قول ولدها الصغير وهى تقول :
- صحيح انتوا اتقابلتوا ازاى وجيتوا مع بعض إزاى
رد ماهر وهو يمد يده يعبث بشعر شادى بمحبة :
- أتقابلنا على الباب برا
أقتربت هدى من رائف ، الذى سرعان ما طوق والدته بذراعيه القويتين ، وهى تقبله على وجنتيه ، وتربت على ظهره بحنان بالغ :
- حمد الله على سلامتكم حمد الله على السلامة يا قلب ماما
ضيق أكرم ما بين عينيه قائلا :
- اه حبايب قلبك جم خلاص مبقاش لينا لازمة
عقد شادى ذراعيه ، يشيح بوجهه بطريقته الدرامية :
- طب انا إيه بقى يا ست ماما
أخذته هدى بين ذراعيها تقبله وقالت بحب :
- أنت روحى يا شادى وأخر العنقود
حمحم أكرم قائلاً بصوت رزين :
- وأنا أبقى إيه بقى يا ماما
حان دوره فقبلته على وجنته وهى تقول :
- أنت نور عيونى يا أكرم وضحكتى
أراد رائف الحصول على تدليل أخر كشقيقيه ، فأقترب منها متسائلاً :
- طب وأنا وأنا يا ماما
لا يوجد أحد ينازعه بتلك المكانة بقلب والدته ، فغامت عينيها بدموع الحنان والمحبة وهى تجيبه :
- أنت قلبى يا رائف وأول فرحتى
أراد ماهر أن يمزح معها هو الآخر ، وصرف دموعها التى ملأت عينيها الجميلة ، فدنا منها قائلا بغضب مصطنع :
- يا حلاوة وأنا أبقى إيه بقى يا هدى دول ولادك اخدوا كل حاجة ومبقاش فاضلى أنا حاجة
ضحكت هدى وقالت :
- أنتوا كلكم عليا ولا إيه
ولكنها رمقته بعشق جارف ، ذلك العشق الذى لم تدع شئ ينال منه طوال سنوات عاشت بها بكنفه ، وتوج هذا العشق بإنجابها أولادها الثلاثة
فهمست له كأنها لم تعى وجود أبناءها بجوارها :
- أنت حبيب عمرى أنت الأمان والسند انت جوزى وابو ولادى وانت الدنيا دى كلها يا ماهر
طبع ماهر قبلة على جبينها وهو يقول بصوت متهدج :
- حبيبة قلبى أنتى يا هدى
وكأنهما نسوا أن اولادهما الثلاثة ينظرون اليهما بابتسامة عريضة على وجه كل منهم
فقال شادى بحالمية :
- دا أنت طلعت شقى أوى يا بوب مخلى جميلة الجميلات دايبة فيك
تبسم أكرم ببلاهة هو الاخر قائلاً :
- أه شوفتوا ولا قيس وليلى فى زمانهم يارب أوعدنا
عند هذا أفاق ماهر على حاله ، فعبس بوجههم قائلا ً بغضب أجاد صناعته :
- أنتوا بتعملوا ايه هنا يلا كل واحد على اوضته بتتفرجوا على إيه
قهقه رائف وهو يرى صرف أبيه لهم فقال :
- كده يابابا قلبك طاوعك تطردنا ، تطرد ولادك فلذة كبدك
أرادت هدى إنهاء ذلك المزاح ، فأشارت لزوجها ورائف بالاستعداد لتناول الطعام :
- طب يلا خلصوا علشان تاكلوا
رآى رائف والدته تتبع أبيه لغرفتهما ، مثلما تفعل دائماً عندما يعود من عمله ، فهى شديدة العناية به وبأفراد الأسرة ، فأحيانا تنتابه الغبطة لوالده على أنه حظى بزوجة كوالدته ، إمرأة كمن جمعت من الخصال مجملها وأجملها ، فهى جميلة حنونة شديدة الطيبة والوله بزوجها وأسرتها ، فظل يفكر هل سيحظى يوما بزوجة مثل والدته ، تعشقه كما تعشق والدته أبيه وتنظر اليه بتلك النظرة الشغوفة التى تجعله لا يفكر فى أحد سواها ، فلو بإمكانه أن يقتطف لها النجوم لفعل ذلك بدون تردد
ذهب لغرفته ومنها إلى المرحاض ، قضى به وقتاً لا بأس به ، وبعدما أنتهى من الاغتسال ، خرج منه يحمل المنشفة يجفف بها رأسه ، وبعد إنتهاءه وضعها بمكانها ، أرتمى على فراشه وأخذ هاتفه ، فهو يرد سماع صوتها والإطمئنان على أحوالها
بسماع صوتها أتسعت إبتسامته قائلا بصوت أجش :
- أخبارك ايه يا مايا
أجابته مايا بتساؤل :
- تمام يا حبيبى أنت رجعت
سحب وسادة صغيرة ووضعها أسفل رأسه وقال :
- أيوة لسه جاى من شوية قولت اتصل اطمن عليكى وأسمع صوتك
جاءه صوتها متهدجاً بدلال ظاهر :
- وحشك صوتى أوى طب أنا كنت خارجة مع اصحابى ما تيجى تخرج معانا وكمان علشان أشوفك
بإتيانها على ذكر رفقائها أجابها بغضب :
-أنا قولتلك أنا مبحبكيش تخرجى مع اصحابك دول
اجابته مايا بحدة :
-دول أصحابى وأنت عارف مش كل مرة تعمل كده لو أنا مراتك كنت عملت فيا ايه؟
رد رائف بثقة :
طبعاً مكنتش هخليكى تعرفى حد فيهم ولا كنتى هخليكى تسهرى معاهم
زادت حدة صوتها وهى تقول :
-يا سلام أنت عايز تقيد حريتى بقى وتمشينى على هواك ولا ايه
حاول رائف تصنع اللطف واللين :
-علشان عايزك تسيبى الشلة الفاسدة اللى انتى مصحباها دى ابقى بقيد حريتك يا مايا
ولكن لم يجدى حديثه معها نفعاً ، فسرعان ما عاودت القول :
- أنت عارف أنا كده وهفضل طول عمرى كده
ما كان منه سوى أن علا صوته بعصبية :
- أعملى اللى تعمليه سلام
أغلق الهاتف وألقى به على الفراش ، فهو حاول إصلاحها ولكنها عنيدة جدا ولا تستمع لحديثه ، وجد باب غرفته يفتح ولاحظ ان القادم لم تكن سوى جدته ، فدلفت جدته الى الغرفة بابتسامة له
فترك الفراش قائلاً بإحترام :
- أتفضلى يا تيتة
اقتربت منه صفية وهى تقول بإهتمام :
- مالك يا حبيبى باين عليك متنرفز ومتعصب أنا كنت سامعة صوتك من برا
زفر رائف بيأس وهو يقول :
- من مايا وتصرفاتها اللى مش عايزة تبطلها دى
ملأ الوجوم وجهها ، فهتفت به بإستياء واضح :
- وأنت ايه اللى مخليك متمسك بيها ما تسيبها يا ابنى وريح دماغك دى متنفعكش
أغمض عينيه قائلا بإرهاق :
- هنتكلم فى الموضوع ده تانى يا تيتة ، كل شوية تقولولى كده
ضربت صفية كفها بالأخر ، متعجبة من صنيعه :
- أنا هموت واعرف انت متمسك بيها ليه كده يا رائف
دلك رائف مؤخرة عنقه وهو يقول بقلة حيلة :
- بحبها يا تيتة ومش عارف أعمل إيه مش جايز تتغير
التوى ثغر صفية يميناً ويساراً وقالت :
- طيب شكلك هتستنى عمرك كله يا رائف
رفع رائف حاجبيه قائلاً بغرابة :
- ليه بس كده يا تيتة
زفرت صفية من أنفها بتبرم فهتفت به ، تحاول إنهاء ذلك الجدل :
- أقولك ربنا يقدم اللى فيه الخير محدش عارف نصيبه فين
أخذ يديها بين كفيه :
-ادعيلها ربنا يهديها
قالت صفية بهمس :
- ربنا يهديها ويبعدها عنك
ولكنها رآت السوار الأنثوى على الكومود ، فتعجبت من وجوده ، ولكنها فكرت أن رائف إبتاعه من أجل مايا ، ولكن السوار يتدلى منه حرف s
فأشارت له بفضول :
-انسيال ايه ده يا رائف
أجابها رائف بهدوء :
-دا يوم ما سافرت كنت هخبط بنت بالعربية لما نزلت كلمتها ومشيت لقيت ده وقع منها بصيت حواليا علشان اديها الانسيال ملقتهاش ففضل معايا
قالت صفية بتساؤل:
-شكلها ايه صاحبته دى يا رائف
إبتسم رائف قائلاً :
- معرفش يا تيتة
زوت صفية ما بين حاجبيها متسائلة :
- متعرفش إزاى أنت مش بتقول كنت هتخبطها بالعربية
وضع رائف يديه بجيب سرواله البيتى وقال :
- لما نزلت فضلت باصة فى الأرض وهى بتكلمنى ومرفعتش راسها فمعرفش شكلها ولا هى تعرف شكلى
قالت صفية بإعجاب :
- باين عليها بنت مؤدبة أوى
أماء رائف برأسه عدة مرات وهو يقول :
- الظاهر كده وكانت محجبة كمان حتى صوتها مكنتش سامع هى بتقول ايه
تبسمت صفية بإعجاب لقوله :
- علشان كده جايز من النوع اللى بينكسف يرفع عينيه فى حد وهو بيكلموه فى كده بنات مؤدبة ومحترمة وبتنكسف
نظر رائف للسوار قائلاً :
- بس مش عارف اعمل ايه بالانسيال ده يا تيتة
ربتت صفية على أحد كتفيه قائلة بحنان :
- خليه معاك محدش عارف مش جايز تقابل صاحبته فى يوم من الايام
ضيق رائف ما بين حاجبيه قائلاً بغرابة:
- ودى هاقبلها فين بقى يا تيتة أنا حتى لو قابلتها مش هعرفها
أفتر ثغر صفية عن إبتسامة هادئة وهى تقول :
- محدش عارف تدابير ربنا جايز فعلا تقابلها
أصابته الغرابة من تفكير جدته ، فأين ومتى سيقابل تلك الفتاة مجدداً ؟ فإن حدث ذلك لن يعرفها وهى بدورها لن تعلم من يكون ، فهى لم تنظر اليه وهو لم يرى ملامح وجهها ، ولكنه أراد إنهاء هذا الحديث ، الذى بدأ يشغل حيز من تفكيره ، وهو لا يريد ذلك بوقته الحالى ، فأخذ يد جدته وجعلها تتأبط ذراعه ، وخرجا من الغرفة ليتناولا الطعام برفقة باقى الأسرة
❈-❈-❈
سمعت سجى صوت جرس الباب ، فأسرعت بفتحه ووجدت أن تلك الزائرة لهما بهذا الوقت ، ماهى إلا شقيقتها الصغرى أروى ، فإبتسمت لها وعانقتها بترحيب شديد وسعادة لمجيئها ، فما كان من أروى سوى الشعور بالراحة ، وهى ترى شقيقتها تعاملها بكل هذا الحب والحنان ، فمن بمثل مكانها ، ولاقت تلك المعاملة الجافة من والدتها فادية ، ربما كانت ستفضل أن لا ترى وجهها ، وتقطع جسور الود بينهما ، ولكن ذلك القلب الحانى والعطوف ، الذى تملكه سجى جعلها تتغاضى عن أى شئ ، سوى أنها شقيقتها الصغرى تتقاسمها دماء أبيها
طغت السعادة على صوت سجى فقالت :
- أروى إيه المفاجأة الحلوة دى أهلا يا حبيبتى نورتى
تبسمت أروى بوجهها وهى تقول:
- قولت أجى اشوفك واقعد معاكى شوية هى طنط نعمة فين
قبل أن تقول شيئاً ، أقتربت منهما نعمة ، ترحب بقدوم تلك الفتاة ، فإن كان إبنة غريمتها ، إلا أنها غير معتادة على مقابلة الإساءة بالإساءة
فعانقتها هى الأخرى وهى تهتف بصوت هادئ :
- ازيك يا أروى بنت حلال تعالى يلا اتغدى معانا حماتك هتحبك إن شاء الله
فركت أروى يدها بحماس وهى تتخذ مقعدها حول تلك المائدة الصغيرة :
- الله وحشنى الأكل من ايدك يا طنط نعمة دى ريحته بس تشبع
جلس ثلاثتهن وتناولن ذلك الطعام الشهى ، الذى أعدته نعمة ، فهى ماهرة بإعداد مختلف الأكلات ، فتناولت أروى معهما الغداء بسعادة ، لكونهما لا يأخذنها بذلك الذنب وهى إبنة الزوجة الثانية ، التى لم يروا منها شيئاً حسناً بحقهما ، وبعد الانتهاء ذهبت نعمة الى غرفتها لتنال قيلولة قصيرة ، بينما ولجت أروى مع سچى الى غرفتها
فبتردد أخرجت تلك النقود من جيبها ، ووضعتها بيد سجى ، فهى تخشى رفضها أن تاخذها ، فشدت على يدها برفق وهى تقول:
- سچى بابا بعتلك الفلوس دى بس أرجوكى مترفضيش
هزت سجى رأسها بعنف رافضة أخذ النقود :
- قوليله شكرا يا أروى ماما مش مخليانى محتاجة حاجة من حد
هتفت بها أروى بلطف :
- بس ده مش أى حد ده باباكى يا سجى وده حقك
زفرت سجى بهدوء وقالت :
- معلش يا أروى مش هاخد الفلوس رجعيها له وقوليله شكراً وأرجوكى متغصبيش عليا
حاولت أروى بشتى الطرق اقناع سچى باخذ النقود ،ولكنها رفضت رفضاً باتاً أن تأخذها ، فبعد محاولاتها اليائسة والفاشلة فى تأدية تلك المهمة ، التى أسندها إليها أبيها
هبت واقفة تستأذن الإنصراف :
- طب انا همشى بقى علشان متأخرش
تركت سجى مكانها ، وهى تودعها مثلما أستقبلتها طابعة قبلة على وجنتها قائلة بإبتسامة :
- ماشى يا حبيبتى لما توصلى ابقى رنى عليا طمنينى انك وصلتى
أماءت أروى برأسها وقالت :
- حاضر سلام يا سجى
لوحت لها سجى بيدها ، بعدما رأتها تخرج من باب المنزل وهى تقول :
- مع السلامة يا حبيبتى
إنصرفت اروى وعادت سچى الى المذاكرة ، بتلك الأونة كانت نعمة فى غرفتها ، تفكر فى مصير إبنتها إذا حدث لها شىء ، فهى تعلم أن زوجة أبيها لن تقبل أن تعيش برفقتهم ، ففادية تكن كل الكره والحقد لها ولسجى ، وهى ايضا لاتريد أن تصاب سچى بالأذى أو القهر بحياتها من زوجة أبيها ، فظلت تفكر كثيرا كيف تأمن لإبنتها حياة هنيئة ، إذا أراد الله لها الرحيل من هذا العالم
باليوم التالى .....
هذا اليوم يوم عطلتها من الجامعة ، ففكرت بتنظيف وترتيب المنزل مثلما تفعل أسبوعياً ، فاثناء ترتيبها وتنظيفها لغرفة والدتها ، عثرت على تلك الأوراق الخاصة بالتحاليل والأشعة وأيضاً تلك الورقة المدون عليها أسماء لعقاقير طبية ، حلت الصدمة عليها ، عندما علمت حقيقة مرض والدتها ، فظلت تبكى بألم ، فكيف لها ألا تخبرها بهذا الأمر الهام ؟ فوالدتها الحبيبة تعانى من مرض خطير يهدد حياتها
ممسكة بالاوراق بين يديها ، وهى جاثية على ركبتيها وتبكى ، فعندما عادت نعمة ودلفت لغرفتها ، ووجدت سجى بتلك الحالة ، أصابها الخوف والقلق
فأقتربت منها ورفعت وجهها تتفرس به بقلق وقالت :
- فى ايه يا سچى مالك بتعيطى ليه كده حصل حاجة
مازالت عبراتها تنسكب على وجنتيها ، فخرج صوتها متحشرجاً بألم :
- ليه ياماما خبيتى عنى حاجة زى دى ، ليه مقولتليش أنك عيانة بمرض زى ده ليه خبيتى عنى الأشعة والتحاليل دى
شحب وجه نعمة ، فغمغمت بخفوت وشئ من التوتر :
- دى دى بتاعة واحدة تانية مش انا يا سجى
تبسمت سجى بألم وقالت :
- أنتى ناسية انى هبقى دكتورة وفاهمة الاشعة والتحاليل دى أنطلبت منك ليه وكمان اسمك اللى على الروشتة ده إيه ، وأسماء الأدوية المسكنة دى وكمان اسم دكتور الأورام
مسحت نعمة بيدها وجه أبنتها وهى تقول بقلة حيلة :
- أعمل ايه واقولك إيه بس يا سچى ربنا عايز كده والحمد لله على كل حال
أرتمت سجى على صدر والدتها وهى تنوح :
- مش لازم تخبى عنى حاجة زى دى ابدا كان لازم تقوليلى يا ماما كان لازم تقوليلى
شددت نعمة من ضم إبنتها لها وهى تقول ببكاء :
- هتعملى ايه يا سچى دا امر الله
أبتعدت سجى عنها قليلاً ، ومسحت عيناها بظاهر يدها وهى تقول بإصرار :
- ونعم بالله بس ممكن نروح لدكتور تانى نعمل أشعة تانى نعمل أى حاجة يا ماما
أجابتها نعمة ويدها تعمل على إزالة عبراتها :
- ودا هيغير الحقيقة يعنى دا أمر واقع وانا مش معترضة على مرضى كله اختبار من ربنا أهم حاجة لو حصلى اى حاجة أنتى هتعملى ايه يا حبيبتى ، مش عيزاكى تتبهدلى بعد منى
عادت سجى ودفنت وجهها بصدر والدتها ، وعلا صوتها الباكى بأنين :
- متقوليش كده انتى هتبقى كويسة وربنا هيشفيكى ان شاء الله يا ماما ، هتبقى كويسة بإذن الله
لم تعد أى منهما بقادرة على كبح جماح تلك العاصفة من الألم والوجع ، التى إجتاحت حواسهما ، ففتاة تبكى بصوت أقرب للنوح ، وأم بقلب مثقل بالإرهاق من التفكير بمصير إبنتها ، فلا تعلم أى منهما كم مر من الوقت ، وهما مازالتا جالستان على الأرض ، تطوق كل منهما الأخرى ، كأنهما يخشيان الإفتراق ، فالله وحده هو من يعلم كيف ستكون الايام القادمة ؟
❈-❈-❈
نظر لهاتفه بغيظ ، فتلك هى المرة الخامسة على التوالى ، التى لا يأتيه رداً منها ، فالإتفاق بينهما اليوم ، على أن يذهب لها بمنزل أبيها لرؤيتها ، قبل أن يعود لعمله مرة أخرى ، ولكن ربما هى لم تتذكر ذلك الموعد بينهما ، فحاول مهاتفتها مرة أخرى ، فجاءه صوت فتاة أخرى ، علم منها أنهما بأحد النوادى الليلية ، فإجتاحه الغضب و أخذ سيارته وذهب اليها ، حتى يعيدها الى المنزل
عندما وطأ ذلك النادى بقدميه ، ظل يجيل ببصره فى المكان بإشمئزاز ظاهر ، فرصدت عيناه مجلسها وهى تتوسط جلسة رفقاء السوء خاصتها ، وضحكاتها الصاخبة يسمعها القاصى والدانى
فبالثانية التالية ، كان يسحبها من معصمها يجرها خلفه ، فأصابعه الغاضبة تركت أثارها على بشرتها الغضة ، فنفضت يده عنها ، ودلكت معصمها وهى تقول :
- فى إيه يا رائف براحة مش كده ايه اللى انت بتعمله ده الناس بتتفرج علينا
رمقها بغضب ساحق وهو يصرخ بوجهها :
- إيه القرف اللى انتى بتعمليه ده والمكان الزبالة اللى انتى سهرانة فيه ده ، دا ولا الكباريه
عقدت مايا ذراعيها أمام صدرها ، وقالت بتبرم :
- دا مكان كويس جدا ومش كل حاجة اعملى ده ومتعمليش ده بطل تحكمات وأوامر أنا مش شغالة عندك ولا عسكرى من العساكر بتوعك يا حضرة الظابط
جز رائف على أنيابه ، يقول من بين أسنانه :
- أنتى لازم تحترمى أنك خطيبتى وهتبقى مراتى وانا ظابط منظرك ايه لو حد شافك كده يقول عليا ايه مش عارف اشكمك ولا ألمك من الأماكن الغريبة دى
فغرت مايا فاها من قوله ، فعبست وهى تقول :
- إيه تشكمنى وتلمنى دى كمان ، انا حرة وهفضل حرة وأنت خاطبنى وعارف إن أنا كده أنا بابى ومامى مبيعملوش معايا كده ومفيش حد فى الدنيا دى له حكم عليا
إلتوى ثغره وهو يقول بسخرية :
- ماهو للأسف انهم سابوكى كده لحد ما بقتيش تعملى حساب لحد
رفعت سبابتها محذرة :
- رائف لو سمحت انا مبحبش الاسلوب ده فى الكلام ماشى
بضربة خفيفة على إصبعها ، سحبته من أمام وجهه ، فعاد قائلا ً بصرامة :
- بصى انا صبرت عليكى كتير بس من هنا ورايح لازم تغيرى طريقة عيشتك دى وكمان لبسك انتى فاهمة ولا لاء وتقطعى علاقتك بالاشكال اللى تعرفيها دى
طحنت أسنانها من خلف شفتيها ، فسرعان ما رفعت حاجبها الأنيق وهى تقول :
- أنت بتتحكم فيا بمناسبة ايه بقى إن شاء الله
رفع يده اليمنى يشير لإصبعه الذى يحمل دليلاً على خطبتهما :
- أنا خطيبك لو حضرتك ناسية كده
بلمحة مختالة من عينيها أجابته بعدم إكتراث :
- أديك قولت خطيبى مش جوزى علشان الاوامر دى كلها ومش علشان الدبلة اللى فى ايدك هسيبك تتحكم فيا
بعد أن ألقت حديثها الغير مبالى ، أنصرفت من أمامه ، فهى رأت أنه أفسد عليها ليلتها ، مفضلة العودة للمنزل ، فاثناء عبورها الشارع للوصول إلى سيارتها ، التى صفتها على الجانب الأخر ،حاول اللحاق بها ولكنه لم ينتبه لتلك السيارة المسرعة القادمة تجاهه ، ولكنه لم يستطيع الابتعاد فكان مصيره أن صدمته تلك السيارة ، فأطاحت بجسده عالياً ، ليرتطم بعد ذلك بالأرض مغشياً عليه وغارقاً بدماءه
مازالت عيناها على إتساعها ، منذ سماعها صوت صيحته ، قبل أن يسقط كالجثة الهامدة ، فذلك الذهول الذى أصابها لم يمنعها من الركض إليه ، فجثت على ركبتيها بجانبه
حاولت تحريك جسده ، ولكنه لا يستجيب ، فظلت تناديه بخوف :
- رائف رائف رد عليا رااااااااائف
بذلك الوقت كان أفراد الاسرة جالسون كعادتهم ، تلك الجلسات المسائية ، التى لاتخلو من الضحكات ، يتفقد الأب أحوال أسرته ، وكيف قضى كل منهم يومه ، فأثناء إبتسامة زوجته له ، وجد ملامحها تنكمش فجأة ، وتضع يدها موضع قلبها ، كأنها تشعر بوخز قوى
فقالت هدى بصوت متألم :
- ياساتر يارب ايه ده
طالعها ماهر قائلاً بإهتمام :
- مالك يا حبيبتى فى ايه مالك يا هدى
حركت هدى رأسها بجهل لمعرفة ما أصابها :
- مش عارفة يا ماهر حاسة زى ما تكون حاجة ضربت قلبى جامد
- خير يا بنتى استعيذى بالله من الشيطان الرجيم
قالتها صفية وهى تمسد على خصيلات شادى القابع بجانبها ، تدلله هى بوضع قطع الفاكهة بفمه ، كأنه صبى صغير
فطفقت هدى تردد :
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
أبتلع شادى ما بجوفه قائلاً بتساؤل :
- هو أبيه رائف فين مش شايفه يعنى
رفع أكرم شفته وهو يقول :
- شكله راح لمايا هانم علشان كان بيقول راجع شغله بكرة الصبح
- اااه قولتلى بقى مايا ربنا يكون فى عونه
نطق شادى عبارته بأسف
فأعتلت ملامح الأسف والشفقة وجه جدته هى الاخرى فقالت :
- ربنا يصلح حالهم أنا مش عارفة هو واجع دماغه معاها ليه
شردت هدى قليلاً ، فلاحظ ماهر شرودها وصمتها ، وعدم مشاركتها فى الحديث الدائر بين أفراد الأسرة ، فتعجب من حالها وشعر بالقلق
- فى ايه مالك يا هدى بس
قالها ماهر بإصرار ، لمعرفة ما أصابها فجأة
فتململت هدى بجلستها كأنها لا تشعر بالراحة فقالت :
- مش عارفة يا ماهر حاسة انى مش مرتاحة وقلبى مقبوض جامد زى ما يكون فى حاجة حصلت
ترك شادى مكانه وجلس على حافة مقعد والدته مقبلاً لرأسها وهو يقول :
- فى ايه بس يا جميلة الجميلات سلامة قلبك
رفعت هدى وجهها له وهى تقول :
- مش عارفة يا شادى بجد مش عارفة إيه اللى حصلى
سمع أكرم رنين هاتفه ، فأخذه من على المنضدة الموضوعة أمامه ، فذلك الرقم هو رقم المشفى الخاص به ، ففكر أن ربما هناك مريض يحتاج مساعدته الآن
فبادرت هدى بسؤاله :
-مين يا أكرم اللى بيرن عليك
تبسم لها أكرم قائلاً بهدوء :
- دول من المستشفى يا ماما ممكن يكون فى حد محتاج عملية ولا حاجة وأتصلوا عليا
وضع أكرم الهاتف على أذنه ، فجاءه صوت أحد الأطباء العاملين بالمشفى ، فرد قائلاً :
- أيوة خير فى إيه
جاءه صوت الطبيب قائلاً بلهفة :
- دكتور أكرم لازم حضرتك تيجى المستشفى حالاً دلوقتى
قطب أكرم حاجبيه قائلاً بقلق :
- فى ايه اللى حصل
- أخو حضرتك عامل حادثة وجابوه المستشفى وحالته صعبة جدا
قالها الطبيب دفعة واحدة ، فما كان من أكرم إلا أن هب واقفاً وهو يقول بفزع :
- رائف ماله رائف
سمعوا جميعهم إسم رائف فجفت الدماء من أوردتهم فخشيت هدى أن يكون أصاب أبنها مكروه
فأقتربت من أكرم تهز ذراعه وهى تقول :
- ماله اخوك يا أكرم رد عليا
حملق بها أكرم بأعين متسعة فقال بصوت أقرب للذهول :
- بيقولوا رائف عمل حادثة وهو فى المستشفى وحالته صعبة
دبت هدى صدرها بيديها وهى صارخة بصوت جهورى :
- اااابنى
وبعد ذلك لم تعد تدرى شيئاً ، فهى سقطت مغشياً عليها ، فحاولوا إفاقتها ، وبعد أن أستعادت وعيها ، أنهمرت دموعها غزيرة وهى تقول :
- أنا عايزة اروح لابنى ابنى جراله ايه ودونى لإبنى
حاول ماهر تهدئتها ، فظل يربت عليها بمواساة :
- أهدى يا هدى ويلا نروح المستشفى
خرجوا جميعهم من المنزل ، يستقل ماهر سيارته يصطحب والدته وزوجته ، بينما أتخذ شادى مكانه بسيارة شقيقه أكرم ،فذهبوا جميعهم إلى المشفى ، بقلوب ترتجف من الخوف والصدمة
فقابل أكرم ذلك الطبيب قائلاً :
- رائف فين دلوقتى
- هو حالياً فى أوضة العمليات
بعد سماع أكرم قول الطبيب ، أرتدى الزى الخاص بغرفة الجراحة ، ودلف للداخل فوجد شقيقه ممدداً أمام الطبيب ، الذى يعمل جاهداً على إنقاذه ، فسكنه الألم وظل قلبه يأن بصمت على حال شقيقه ، فتلك هى المرة الأولى التى يرى بها رائف ، ذلك الشاب القوى والمفتول العضلات ، الذى أشاد بجرأته وشجاعته وإقدامه رؤساءه بالعمل ، متسطحاً يعمل مبضع الطبيب على شق جسده
أمام غرفة الجراحة ، كانت مايا تقف أيضاً تنتظر خروج الطبيب إليهم ، فأرادت هدى سؤالها عما حدث لرائف
فباغتت مايا بقبضها على ذراعها بأصابعها فراحت تهز جسدها وهى تقول بغضب :
- مايا هو ايه اللى حصل بالظبط عايزة اعرف ابنى ايه اللى جراله
حاول ماهر فض الأمر ، قبل أن تتخذ الأمور منحنى أسوء ، فسحب زوجته يقربها منه وهو يقول :
- اهدى يا هدى مش كده مش وقته الكلام ده
رمقته هدى بعصبية وقالت :
- اهدى إزاى و ابنى بين الحيا والموت وتقولى اهدى هى لازم تقول ايه اللى حصل انطقى قولى
ولكنها لم تسمع إجابة منها ، إذ وجدت ابنها أكرم يخرج من غرفة الجراحة ، فأقتربت منه تسبقها عينيها قبل لسانها فى سؤاله عن شقيقه
فنظرت إليه قائلة بنهنهة :
- أكرم اخوك جراله ايه وعامل ايه دلوقتى
يتبع...