-->

رواية جديدة رحلة الآثام لمنال سالم - الفصل 9

قراءة رواية رحلة الآثام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية رحلة الآثام (ما طواه التامور وطمره) رواية جديدة قيد النشر




من قصص و روايات 
الكاتبة منال محمد سالم



الفصل التاسع

(القرار)
❈-❈-❈


غلبتها قلة الحيلة أمام تطفل هذه السمجة، فلم تجد بديلًا سوى الانتقال من السكن الحالي، والبحث عن آخر يتوافق مع وضعها المادي والنفسي. الاختيارات المتاحة لديها كانت محدودة للغاية، فوقع الخيار في النهاية -بعد بحث استمر لمدة أسبوعين- على مسكن أكبر في المساحة، يضم ثلاثة غرف، تشترك كل اثنتين في غرفة، فيما عدا واحدة ظلت شاغرة. وقفت "تهاني" أمام باب الغرفة الأخيرة تتأملها بنظراتٍ مزعجة، لو لم تكن مضطرة لما ارتضت بذلك بديلًا، حافظت على جمود ملامحها بعدما ألقت نظرة متأملة على الغرفة التي تضم سريرين منفردين، وخزانتين مستقلتين، بالإضافة إلى طاولة مستديرة، ومقعدين خشبيين، ومرآة تسريحة ملتصقة بالحائط. حادت ببصرها عن النظر إلى محتوياتها، والتفتت مخاطبة في هدوء شبه رسمي السيدة المسئولة عن تسكين المغتربات هنا:

-مناسبة، هاخدها.

ردت السيدة عليها بتشجيعٍ:

-إن شاءالله تتبسطي فيها، البنات هنا كلهم محترمين ومجتهدين، وشغالين في وظايف حلوة، اللي مدرسة، واللي ممرضة وآ...

قاطعتها قبل أن تنهي جملتها قائلة بجمودٍ:

-أنا بحب الخصوصية، فأتمنى محدش يشاركني في الأوضة بعد ما دفعت الدبل فيها.

هزت رأسها في تفهمٍ، وقالت:

-اطمني...

ثم مدت إليها يدها بالمفتاح قائلة ببسمة متسعة:

-دي نسختك أهي.

أخذته منها وهي تقول بإيجازٍ:

-شكرًا.

أكدت عليها مرة أخرى وهي تهم بالانصراف:

-لو في حاجة ناقصة بلغيني، أو سبيلي رسالة مع الأمن تحت.

-طيب.

قالت كلمتها وهي تسير معها إلى باب المسكن حيث كانت تتواجد إحدى القاطنات بالاستقبال الصغير. وجهت السيدة حديثها إليها بأسلوبها المرحب:

-دي زميلتكم "تهاني"، هتقعد معاكو من النهاردة يا "نزيهة".

حولت "نزيهة" ناظريها تجاهها للحظةٍ دون أن تبدو مهتمة فعليًا بها، ثم ابتسمت بتكلفٍ قبل أن تتابع تقليم أظافرها، لتنصرف السيدة بعدئذ تاركة الاثنتين بمفردها. لم تحاول "تهاني" صنع أي صداقة ودية مع هذه الشابة الغريبة عنها، حملت حقيبتها، واتجهت إلى غرفتها، لتغلق الباب عليها وهي تردد بصوتٍ خفيض:

-كده أحسن.

أدركت مدى صعوبة الوضع الذي أصبحت عليه حين تساهلت مع الغرباء، كل شيء قد بات مهددًا، وربما تخسر ما تحاول فعله قبل أن تتمه من الأساس، لذا كان القرار الصائب من وجهة نظرها الهروب مما يعرقل تحقيق نجاحها.

❈-❈-❈

تأكدت من إحكام غلق البَرْطمان جيدًا بعدما عبأته بصنيع يدها المميز من الحلاوة السوداء، لتضمن عدم تسرب محتوياته حينما تنقله، ثم لفته بكيس بلاستيكي صغير، وعقدته من الأعلى، قبل أن تضعه في آخر لتتمكن ابنتها من حمله بمفرده. مرة أخرى ألقت "عقيلة" نظرة مدققة على الحقيبة القماشية التي وضبتها لتتفقد ما ملأتها به، فقد أحضرت خصيصًا زبدة فلاحي، وقطع من الجبن، وبعض المخبوزات المنزلية، لترسلها مع ابنتها في زيارتها لحماتها. نضح قلب "فردوس" بالبهجة وهي تتحمس لملاقاة والدة زوجها، فإذ برؤياها تشبع توقها للتواصل معه، فمنذ أن سافر لم يرسل إليها ولم لمرة واحدة. أصغت بانتباه لتعليماتها وهي تحذرها بإشارة من إصبعها:

-تمشي على مهلك، وخدي بالك من الحلاوة.

أومأت برأسها هاتفة في طاعة:

-حاضر يامه.

شددت عليها مجددًا، وبنفس اللهجة الصارمة:

-وما تطوليش عندها، يا بخت من زار وخف.

جاء ردها على نفس اللهجة المطيعة:

-ماشي.

تأهبت "فردوس" لتتحرك بعدما حملت كل شيء؛ لكن أمها استوقفتها آمرة إياها:

-وريني نفسك.

أنزلت الحقيبة القماشية من يدها، والتفتت تحملق فيها بوجه باسم وهي تسألها:

-حلو كده يامه؟

بعد لحظة من الصمت المدقق، أخبرتها بملامحٍ جادة:

-خفي اللي على خدك ده شوية.

اعترضت بشيء من الإلحاح:

-ما حلو يامه، خليه عليا.

حذرتها بغير تساهلٍ:

-عاوزة حماتك تقول عنك مصدقتي جوزك يسافر واتسابتي؟

قصف قلبها توجسًا مما فاهت به، وقالت بلا جدالٍ:

-معاكي حق.

استخدمت كم بلوزتها لتمسح ذلك التورد عن بشرتها، ولعقت بلسانها شفتيها لتزيح آثار أحمر الشفاه الباهت من عليهما، ثم سألتها:

-كده أحسن؟

أجابتها في حبورٍ:

-أيوه.. ربنا يصلح حالك ويراضيكي.

مرة ثانية انحنت لتحمل الحقيبة القماشية في يد، وكيس الحلاوة السوداء في اليد الأخرى، وسارت نحو الباب، فلحقت بها والدتها لتعاونها على فتحه وهي لا تزال توصيها:

-امشي على مهلك، وما تتأخريش.

قالت مبتسمة في سعادة:

-حاضر يامه.

ظلت تتابعها بعينيها وهي تهبط درجات السلم، ودعائها لها يصدح:

-ربنا يسلم طريقك.

خبت نبرة "عقيلة" إلى حدٍ كبير وهي تنسحب عائدة إلى بيتها:

-ويهديلك العاصي.

قصدت بجملتها الأخيرة حماة ابنتها المتسلطة، فالأخيرة لا تكف عن مضايقتها بمعاملتها المتجافية رغم أن "فردوس" لم تبدِ أي سوء لها، ومع ذلك أثرت ألا تثير المتاعب من لا شيء، واكتفت بتجنب المواجهة معها قدر المستطاع.

❈-❈-❈

رقص قلبها فرحًا وهي تلج إلى مدخل العمارة ذات الأربعة طوابق حيث تقطن بها حماتها، صعدت بتمهلٍ حريص على درجات السلم إلى أن بلغت الطابق الأخير، تحمست للغاية لمقابلتها، اعتقدت أنها ستفرح برؤيتها، وتستقبلها بما يليق من ترحاب وحرارة؛ لكن ما حدث كان على عكس ما توهمته، بدت فاترة، باردة، متعالية، ومنزعجة من وجودها. نظرت لها شزرًا، وأشارت لها لتدخل بعدما أمعنت النظر فيما أحضرت معها، أولتها ظهرها قائلة بسحنة مقلوبة:

-مكانش لازمًا تيجي شايلة ومحملة، البيت مليان ومعدنيش حاجة ناقصة.

شعرت بالحرج الشديد من أسلوبها اللاذع، ومع ذلك ردت بأدبٍ:

-ده من بعد خيرك يا حماتي.

حينما استقرت في موضعها فردت ذراعها لتشير نحو الجانب وهي تأمرها:

-حطيهم جوا في المطبخ.

ظلت محافظة على نقاء بسمتها وهي ترد صاغرة:

-عينيا.

عندما ولجت إلى داخل المطبخ تفاجأت من كم الأطباق المرصوصة بالحوض، وكذلك الأواني غير النظيفة المتكومة بجوار الموقد، ففكرت في إبهارها ونيل استحسانها بتقديم العون وتنظيف كل شيء. لم تدخر "فردوس" وسعها، وعكفت في التو على إعادة المطبخ لما كان عليه من نظام ونظافة، فشمرت عن ساعديها، والتقطت سلك المواعين الصدئ لتستخدمه في دعك الأواني المعدنية، قبل أن تغسل الأطباق والصحون بإسفنجة شبه بالية متروكة بإهمال فوق الصنبور. استغرقها ذلك حوالي الربع ساعة، فخرجت بعد ذلك منه وهي تجفف يديها في جانبي ثوبها لتخبرها بصوتٍ شبه لاهث:

-أنا روقتلك كل حاجة.

هزت رأسها دون أن تنطق بكلمةِ شكرٍ، وأمرتها:

-طب اقعدي هنا عقبال ما أنشر الغسيل...

ثم وضعت يدها خلف ظهرها متأوهة في ألمٍ:

-ياني يا ضهري.

في التو رفضت نهوضها، وصاحت في تصميمٍ:

-لأ عنك يا حماتي، ارتاحي إنتي.

أسرعت نحو الشرفة حيث تركت حماتها كومة الغسيل الرطبة في طبق بلاستيكي عريض، فقامت بالتقاط كل قطعة على حدا، ونشرتها على الحبل. انهمكت كليًا في أداء كل الأعمال المنزلية المنقوصة، ملقية على عاتقها –بمودةٍ منها- مساعدتها فيما لم ينجز، على أمل أن تحظى في الأخير على كلمة شكرٍ، أو حتى معاملة طيبة جزاء معروفها، وحين فرغت من كل شيء ألصقت بشفتيها هذه الابتسامة اللطيفة وهي تخاطبها:

-كله بقى تمام، والصالة روقتها.

منحتها والدته نظرة طويلة ناقمة، ثم أمرتها وهي تشير برأسها:

-هاتي السبرتاية واعمليلي قهوة مظبوطة.

أحست بالإحباط لعدم تلقيها التقدير اللازم، ورغم ذلك حافظت على ابتسامتها الهادئة وهي ترد في طاعة:

-حاضر.

جلست عند قدميها، ومعها أدوات صنع القهوة، أعدت لها فنجانها كما طلبت، فارتشفته على مهلٍ وهي تسألها في فظاظةٍ، وهي ترمقها من عُلياها بهذه النظرة القاسية: 

-ما شيعتيش خبر ليه إنك جاية؟

مجددًا أحست بخيبة الأمل الممزوجة بالحرج تجتاحها، قاومت شعورها بالخذلان، وأجابتها بترددٍ:

-أنا لاقيت نفسي فاضية، فقولت أجي أونسك.

تفاجأت بها تهاجمها لفظيًا، كأنما أجرمت في حقها:

-وحد قالك إني مقطوعة لا سمح الله؟!

اتقاءً لغضبتها الوشيكة، اعتذرت منها دون أن تكون بالفعل مخطئة:

-مش قصدي، بس الدنيا ما بقلهاش طعم من بعد ما سي "بدري" سافر.

ردت عليها بتحفزٍ، وهي تسدد لها لكزة قاسية في جانب كتفها:

-حسه في الدنيا ياختي، ربنا يحفظلي كل عيالي.

زاد إحساسها بالحرج، وهتفت في صوتٍ خافت، ونظرة كسيرة:

-يا رب.

فقدت "فردوس" الرغبة في مشاركتها أي نوع من الحديث، خشيت من إثارة غضبها بلا سبب، فلزمت الصمت وهي تستشعر موجات الحزن المطعمة بالجفاء تموج في داخلها. تنبهت لها عندما خاطبتها في حديةٍ بعد برهةٍ:

-بقولك إيه، أنا رايحة البلد عن قرايبي هفضل هناك فترة، فماتجيش تاني، مش هتلاقي حد في البيت.

في تلقائيةٍ بحتة، سألتها مستفهمة:

-طب هترجعي إمتى؟

صاحت بها بصوتٍ حانق ومنفعل:

-هو تحقيق؟!

انكمشت على نفسها رهبة منها، وهتفت مبررة:

-لأ، أنا بس حابة أطل عليكي كل وقت وتاني.

لوحت لها بيدها عندما علقت بعبوسٍ:

-اطمني، مش محتاجالك.

ما إن أنهت فنجان قهوتها حتى هتفت فيها بما يشبه الطرد:

-يالا على بيتك، أنا دماغي تقيلة وعاوزة أريح حبة.

انصدمت بتصرفها المهين لها، فتأثرت عيناها، ولمعت فيهما العبرات، قامت ناهضة وهي ترد في خجلٍ شديد:

-ماشي يا حماتي...

بالكاد لملمت شتات نفسها المتبعثرة، وهي تحاول بصعوبة ألا تبكي، لتتابع:

-فوتك بعافية.

لم تضف شيئًا، ولم تودعها حماتها، فبلغت عتبة الباب، وانحنت لتنتعل حذائها، همَّت بفتحه، لكنها وجدت "عوض" يسبقها. أطرق الأخير رأسه حرجًا لرؤيتها أمامه، ثم قام بتحيتها في تهذيبٍ:

-السلام عليكم.

بلعت ريقها، وقالت بصوتٍ مال للحزن:

-وعليكم السلام.

استشعر الضيق في نبرتها، فقال محاولًا تخفيف ما ظن أنها قد تعرضت له في غيابه وهو ينظر تجاه والدته الملازمة دومًا لموضع جلوسها:

-يا أهلًا وسهلًا بالناس الغاليين، اتفضلي.

علقت بصوتٍ مرتعش دون أن تنظر ناحيته:

-لأ، أنا.. كنت نازلة.

أصر عليها محتجًا بجديةٍ رغم هدوء نبرته:

-مايصحش تمشي لوحدك، استني أوصلك.

رفضت مجيئه، وقالت وهي تتجه للخارج:

-كتر خيرك، المسافة مش بعيدة.

استوقفها بقوله المعاند:

-ده يبقى عيبة في حقنا...

أشار لها لتنظره بالخارج، واستكمل كلامه:

-استنيني لحظة أعرف الحاجة جوا.

لم تجد بدًا من الرفض أمام تصميمه، فهتفت في استسلامٍ يائس:

-طيب.

أسرع "عوض" متجهًا إلى والدته ليخبرها باهتمامٍ:

-هاروح يا أمي أوصل مرات أخويا لبيتها.

اعترضت عليه بوقاحةٍ، وهذه النظرة الحاقدة تطل من عينيها:

-هي ناقصة رجل؟ ما تسيبها تغور لواحدها.

عاتبها بقوله اللين:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، دي ضيفة في بيتنا، وإكرام الضيف واجب.

زمت شفتيها مرددة بغير اكتراثٍ:

-يا خويا، بلا قرف.

سدد لها نظرة أخرى مليئة باللوم؛ لكنه لم ينطق بشيء، بل اتجه عائدًا إلى "فردوس" التي تنتظره بالخارج، وهو يفكر مليًا في كيفية إرضائها دون أن يشعرها بالحرج.

❈-❈-❈

حين أخبرتها جارتها "إجلال" بورود اتصال هاتي من ابنتها المقيمة بالخارج، هرولت "عقيلة" مسرعة إلى محل البقال لتتمكن من الحديث إليها في التو، مكتفية بوضع الحجاب القماشي على رأسها دون أن تفكر للحظة في تضيع الوقت في تبديل قميصها المنزلي الفضفاض. تأبطت ذراعها، كمحاولة منها للاتكاء عليها خلال سيرها المتعجل، وهي تهتف بصوتٍ أقرب للهاث:

-تسلميلي يا "إجلال"، نتعبلك نهار فرحتنا بيكي.

ردت بوديةٍ معتادة منها:

-تسلميلي يا خالتي.

وصلت كلتاهما إلى محل البقال، فالتقطت "إجلال" السماعة السوداء لتناولها إلى "عقيلة" وهي توجه سؤالها لصاحبه:

-الخط لسه مفتوح؟

أجابها وهو يشير برأسه:

-أيوه.

بيدها المرتجفة أمسكت "عقيلة" بالسماعة، وضعتها على أذنها، وصاحت في شوقٍ جارف:

-ألوو، أيوه يا ضنايا.

ردت "تهاني" بكلمة واحدة عنت الكثير:

-ماما.

غلبتها دموعها الأمومية، فطفرت من حدقتيها وهي تخبرها بعتابٍ رقيق:

-وحشني صوتك، يهون عليكي أمك المدة دي كلها متسأليش عليها؟

جاءت نبرتها شبه مهمومة وهي ترد:

-غصب عني، كان عندي شوية مشاكل.

شهقت "عقيلة" مصدومة، ووضعت يدها على صدرها، كأنما تلطم عليه وهي تهتف بجزعٍ:

-وربنا قلبي كان حاسس.

حاولت تهدئتها بقولها:

-ماتقلقيش، كله تمام دلوقتي.

توسلتها بقلبٍ واجل:

-ما تسيبك من الهم ده كله يا "تهاني"، وتعالي وسط أهلك.

لحظة من الصمت حلت قبل أن تقطعها قائلة:

-مش هاينفع، أنا ورايا حلم عاوزة أحققه.

كادت "عقيلة" تعترض عليها لولا أن سمعتها تطلب منها:

-إنتي ادعيلي.

أخبرتها بوجه اكتسب سمات التعاسة:

-وربنا بدعيلك ليل نهار.

غيرت "تهاني" من مسار الحوار فسألتها:

-و"فردوس" عاملة إيه؟ اتجوزت خلاص؟

تنهيدة عميقة طردتها أمها من رئتيها قبل أن تجاوبها:

-كتبنا كتابها، مستنين بس جوزها يبعت ياخدها معاه.

ظهر الاستغراب في صوتها عندما تساءلت:

-ليه؟ هو راح فين؟

أجابتها وهي تمسح بيدها دموعها المسالة على وجنتيها:

-سافر العراق، بيدور على باب رزق جديد.

أتى تعقيبها مهتمًا:

-ماشي، ابقي سلميلي عليها.

ردت عليها والدتها بصوتها المتلهف:

-يوصل يا ضنايا، إنتي خدي بالك من نفسك، وماتغبيش المدة دي كلها عني، طمنيني كل شوية عليكي.

بنبرة شبه عاجلة اختتمت معها المكالمة:

-حاضر، لازم أقفل، مع السلامة.

انقطع الاتصال فجأة، وبقيت السماعة ملتصقة بأذن "عقيلة" لعدة ثوانٍ، ظل لسانها يردد في خفوتٍ، والألم يعتصر قلبها:

-ربنا يهديكي لحالك يا "تهاني".

تساءلت "إجلال" من ورائها في قلقٍ:

-كله تمام يا خالتي؟

أعادت الأخيرة السماعة إلى مكانها، واستدارت تنظر إليها بعينين حزينتين وهي تخبرها:

-اه يا حبيبتي...

أحست بشيءٍ من الإعياء يصيب بدنها، فطلبت برجاءٍ من "إجلال" وهي تمد يدها لتستند على مرفقها:

-رجعيني البيت ينوبك ثواب

في التو عاونتها وهي تقول بمحبةٍ صافية:

-ده إنتي تؤمري.

رمقتها بنظرة امتنانٍ قبل أن تدعو لها:

-ما يؤمرش عليكي عدو.

شردت رغمًا عنها تفكر في حال ابنتها الغائبة عنها، وقلبها لا يزال يستشعر وجود ما يؤرقها، وإن أنكرت وادعت صلاح أمورها، فإحساس الأم لا يخيب .. أبدًا!

❈-❈-❈

كان هناك متسعٌ من الوقت خلال سيرهما إلى منطقتها السكنية، ففكر "عوض" في استغلاله لإبداء الاعتذار المصحوب بالتبرير لزوجة شقيقه، خاصة مع علمه بطبيعة والدته الحادة حينما تتصرف بفظاظة وقحة مع الغير. وضع دارجته كفاصل ملائم بينهما، تنحنح لأكثر من مرة ليجلي أحبال صوته، حاول أن يبدو مُراعيًا حين استطرد متكلمًا، وقاصدًا الدخول في لُبِ الموضوع مباشرة:

-مش عاوزك تزعلي من أمي، هي خُلقها ضيق شويتين، بس طيبة.

قالت برأس مطأطأ في حزنٍ:

-ربنا يخليهالكم.

حلَّ الصمت بينهما سريعًا، فحاول أن يبدده بقوله غير الاحترازي:

-فيكي الخير إنك جيتي تشوفيها قبل ما تسافر لـ "بدري".

تأهبت حواسها لجملته العابرة، استغرقها الأمر لحظة حتى استوعبت مقصده، فرفعت نظرها إليه، وسألته مذهولة، وكأن أحدهم قد قام بطعنها غدرًا في ظهرها:

-تسافر؟!!

اندهش لردة فعلها، وعلق سائلًا:

-هو إنتي معندكيش خبر ولا إيه؟

رغم المفاجأة الصاعقة التي هبطت على رأسها إلا أنها جاهدت لتخفي تأثيرها عليها، ومع ذلك ردت متلعثمة:

-لأ، آ.. يعني سي "بدري" مقاليش.

ضيق عينيه، وقال:

-اعذريه، تلاقيه ملقاش فرصة يبعتلك جواب، بس هو بيعمل اللي في وسعه عشان يجيبكم.

بلا صوتٍ غمغمت في تهكمٍ مستاء:

-بأمارة ما جاب أمه الأول!!!

لم تسمع معظم ما خاطبها به كمبرراتٍ واهية لشقيقه؛ لكنها انتبهت إلى آخر كلامه وهو يردد:

-وأنا الحمدلله خلصت كل الورق المطلوب، وإنتي أكيد بعدها.

علقت بغير اقتناعٍ:

-ربنا يسهل...

بلغت موضع بنايتها، فتوقفت عن المشي لتطلب منه في رجاءٍ:

-قوله يا سي "عوض" يبعتلي جواب ولا يكلمني يطمني عليه، أنا برضوه مراته وليا لي حق عليه.

رد عليه متفهمًا:

-في دي معاكي حق وهو غلطان، أنا هعرفه أول ما يكلمني.

ابتسمت في امتنانٍ شاكر وهي ترد:

-تسلم وتعيش.

استأذنت بالصعود بعدما وصلت، صعدت إلى الأعلى ورأسها يعج بالكثير من الخواطر والهواجس المتصارعة، لا تدري لأي منهم ستكون الغلبة؛ لكن ما سيطر عليها، واستحوذ على اعتقادها حينئذ هو إحساسها القوي بالغدر والخذلان.

❈-❈-❈

منذ أن عادت "عقيلة" إلى المنزل، وهي على حالتها الساهمة تلك، فقدت الشهية لتناول الطعام، ولم تحبذ كذلك مشاهدة التلفاز، أو حتى الاستماع إلى الراديو، ظلت فقط جالسة على المصطبة الخشبية الموجودة في غرفة نومها، تستند بيدها على إطار الشباك الموارب، ناظرة من الفرجة الصغيرة إلى سرابٍ لا يراه سواها، بدت وكأنها قد اعتزلت في غرفتها، جاءت إليها "فردوس" بعدما بدلت ثيابها، سألتها لأكثر من مرة إن كانت تريد شيئًا؛ لكنها كانت تجيب بهزة نافية من رأسها، أتمت ما نقص من أعمال البيت، ثم عادت إليها، وجلست مجاورة لها، تأملتها بتفرسٍ لبعض الوقت، ثم سألتها في اهتمامٍ:

-إنتي بخير يامه؟

اعترفت لها بشيءٍ من الشجن:

-لأ، قلبي متوغوش على أختك، صوتها مريحنيش.

سألتها مدهوشة وقد تحفز في جلستها:

-هي طلبتك النهاردة ولا إيه؟

أجابتها بإيماءة بطيئة من رأسها:

-أيوه، وزادت الهم في قلبي.

التوى ثغرها بنقمٍ، وردت وهي تزيح رباطة شعرها لتمشط خصلاتها بيدها قبل أن تجمعهم معًا:

-يامه "تهاني" جدعة، مايتخافش عليها.

رأت كيف غامت تعبيراتها، وامتزجت بالتعاسة وهي تخبرها:

-بس لواحدها، مافيش حد ينصحها.

سكتت ولم تعلق بشيء، فإحساس والدتها بالألم راح يغمرها، وحينما ينتابها ذلك الشعور الثقيل تكون مهمومة أكثر، ترددت لهنيهة في إعلامها بما جرى في بيت عائلة زوجها، وما عرفته مصادفة من مسألة التوضيب لسفرها بدلًا منها، سرحت في همها لبرهة، سرعان ما عادت منه عندما سألتها "عقيلة" بنوعٍ من الاهتمام:

-أومال عملتي إيه عند حماتك؟ استقبلتك كويس؟

في التو عدَّلت عن رأيها، ولم تخبرها بالمهانة التي تلقتها هناك، أو حتى ما اكتشفته، لم ترغب في إحزانها، ولا التسبب في نشوب الخلاف بينهما على أمرٍ يمكن حله. اختبأت خلف بسمة مصطنعة، وردت بصوتٍ شبه مضطرب:

-آ.. أيوه يامه، قامت بالواجب وزيادة، دي.. فرحت بجيتي أوي.

تفرست في قسماتها بشكٍ ملموس، فأكدت عليها "فردوس" بنفس الابتسامة الزائفة:

-دول بيت كرم.

استغربت من عبارتها تلك، وقالت ساخرة:

-ماشوفتهاش يعني باعتة معاكي حاجة!!!

ادعت كذبًا وقد اهتزت بسمتها:

-ما أنا مرضتش، هو احنا ناقصنا حاجة يامه؟!

لم تبدُ مقنعة كليًا بتبريرها الضعيف، ومع ذلك تجاوزت "عقيلة" عن هذا الأمر لتقول وهي تسدد لها هذه النظرة العميقة:

-خير.. ربنا ييسرلك أمورك وتروحي لجوزك خلينا نطمن عليكي إنتي كمان. 

-إن شاءالله.

قالت جملتها تلك وهي تنهض من جوارها لتفر من نظراتها المتشككة قبل أن تكشف كذبها الواهي، ويتطور الوضع لما تخشى حدوثه!

❈-❈-❈

انقضت الليالي العابثة، وانتهت السهرات الماجنة، وصار الوقت مناسبًا ليعود إلى ممارسة عمله، فكان أول ما فعله بعد غيابٍ دام لشهر ويزيد هو العودة إلى المشفى الخاص لمقابلة "تهاني"، معتقدًا أن اللهفة قد بلغت منها مبلغها، بل وجعلت قلبها المرهف يلتاع ويتحرَّق لرؤياه، ما لم يتوقعه هو عدم تواجده بمكتبها رغم معرفته الأكيدة بالتزامها الدائم بالحضور. حك جبينه في تحيرٍ، ثم وجه سؤاله لإحدى الجالسات بالحجرة في شيء من الرسمية، خاصة ومكتبها مملوء بالكثير من الكتب والملفات:

-هي دكتورة "تهاني" مجاتش النهاردة؟

أجابته بما صدمه كليًا:

-لأ، هي اتنقلت أصلًا!

للحظةٍ تدلى فكه السفلي قليلًا، وردد متسائلًا في نبرة ذاهلة:

-اتنقلت؟ من إمتى ده حصل؟!!

مطت الطبيبة فمها لبعض الوقت، كأنما استغرقت في تفكيرٍ سريع، قبل أن تجيبه: 

-بيتهيألي من حوالي 3 أسابيع!

لاحقها بسؤاله التالي وهو يحاول أن يجعل نبرته خلالها تبدو عادية:

-ماتعرفيش السبب؟

هزت كتفيها معقبة بغير اهتمامٍ:

-تدريبها خلص هنا، وراحت مكان تاني.

ازدرد ريقه، وتساءل في حيرة متزايدة:

-طب هي مقالتش فين المكان ده؟

هزت رأسها وهي تجاوبه:

-الصراحة لأ.

ضغط على شفتيه مرددًا بوجومٍ:

-شكرًا.

غادر الحجرة سائرًا في الردهة بغير هدى، كان في قمة تحيره وتخبطه، فانسحابها الغريب أصابه بنوعٍ من الشك والارتياب، انهمك في تفكيره التحليلي للدرجة التي جعلته لا يلاحظ وجود "ممدوح" وهو ينتظره عند الدرج، صاح الأخير مهللًا في زهوٍ:

-ما بتضيعش وقت يا باشا!

أفاق من شروده، ونظر إليه قبل أن يزجره بحدةٍ، وقد أصبحت ملامحه مكفهرة:

-في إيه؟

اندهش لحالته المتعصبة، وفطن لحظتها لكونها مرتبطة بـ "تهاني"، خاصة أنه رآه عائدًا من نفس المكان الذي تمكث به بالمشفى، ظن أنها عاملته بجفاءٍ غير مقبولٍ، فاستثار غيظًا للنيل من غروره، لذا استطرد ساخرًا منه وهو يبتسم: 

-هي العصفورة نقرتك ولا إيه؟

رد عليه وهو يوكزه في جانب ذراعه بكتفه ليمر من جواره:

-لأ يا خفيف، دي سابت القفص كله وطارت.

تعلقت نظراته المستغربة به، وسأله وهو يتحرك في إثره:

-قصدك إيه؟

صعد كلاهما على الدرج، و"مهاب" يتكلم في تبرمٍ:

-"تهاني" اتنقلت من هنا.

لم يبدُ "ممدوح" مزعوجًا مما سمع، بل قال مستمتعًا:

-أوبا! ليك حق تضايق!

نظر إليه "مهاب" من طرف عينه مليًا، ثم أخبره في تصميمٍ مليء بالتحدي العنيد:

-ملحوئة، أنا عارف هي أعدة فين، هاروحلها هناك.

فرك رفيقه كفيه معًا، كأنما يبدي بذلك تحمسه، ليظهر بعدئذ تأييده لقراره في تشجيعٍ واضح:

-أهوو ده الشغل اللي على حق، وأنا معاك فيه.

❈-❈-❈

أدرك "مهاب" وهو يقود سيارته تجاه منطقتها المقيمة بها، أن لعبة صيد الطريدة الغاشمة اتخذت منعطفًا حساسَا للغاية بعد اختفائها عن محط أنظارهما، فهي ليست مثل باقي التحديات الفارغة، والمعروف نهايتها مسبقًا، بل بدت مستعصية على كليهما إلى حدٍ ما، وهذا ما أضفى على صراعهما نوعًا من التشويق والإثارة، على عكس باقي الساذجات المستسلمات لإغراء المال أو إغواء الحب، لذا إن استسلم في لحظة وتراجع، حتمًا سينقض "ممدوح" عليها ليظفر بالجائزة الكبرى، وهو لم يعتد الخسارة مطلقًا في مواجهته! 

تركه ينتظره بسيارته بعدما اتفق معه على ذلك، وصعد بمفرده للبناية التي تسكن بها. قرع الجرس، وانتظر بصبرٍ فارغ فتح الباب له، تأهب في وقفته، وضبط رابطة عنقه متوقعًا أن تستقبله هي؛ لكنه تفاجأ بأخرى غريبة تحدجه بنظرة متجهمة وهي تسأله:

-إنت مين؟

بهت ملامحه قليلًا، وأمعن النظر فيها لهنيهة بتحيرٍ، تراءى إلى ذهنه أنها ربما تكون شريكتها في السكن، فسألها في لباقةٍ، وهو يعاود وضع هذه الابتسامة الرقيقة على ثغره:

-دكتورة "تهاني" موجودة؟

قوست فمها في غرابةٍ قبل أن ترد عليه متسائلة بحاجبٍ مرفوعٍ للأعلى في تعجبٍ:

-"تهاني"؟ مين دي؟

اندهش مجددًا لطريقتها، وأخبرها في جديةٍ:

-دي دكتورة ساكنة هنا.

ردت عليه بعدم مبالاة:

-أنا معرفهاش بصراحة.

سيطر عليه الوجوم مرة ثانية، فاستأنفت كلامها شارحة له:

-بص أنا لسه جاية جديد، ممكن تسأل زميلتي، جايز تعرف.

شعر ببارقة أمل تلوح في الأفق عندما نطقت بهذه العبارة، وطلب منها بتهذيبٍ:

-طب هي موجودة؟

هزت رأسها قائلة:

-أيوه، لحظها أناديها.

تركت الباب مواربًا، وغابت للحظات بالداخل، لتعود إليه شابة أخرى ترتدي ثوبًا منزليًا فضفاضًا ومزركش الألوان، معقود من طرفه، ومربوط من خصره، جعلها تبدو كما لو كانت قد انتهت لتوها من المساعدة في حرث الأرض الزراعية. توقف عن تحديقه المتعجب حينما سألته "ابتهال" في فضولٍ:

-إنت عاوزني يا أستاذ؟

أجاب عليها بصيغة تساؤلية:

-ماتعرفيش دكتورة "تهاني" راحت فين؟

شملته بنظرة غريبة مطولة، كأنما تتحقق بها من شيء ما، ثم تمتمت بلا صوتٍ، وكأنها تحادث نفسها:

-إنت بقى الدكتور الحليوة!!

رمقته بهذه النظرة الثاقبة المغلفة بالغيرة والاستنكار، وهي لا تزال تتحدث في جنبات نفسها:

-والله، برافو عليكي يا "تهاني"، عرفتي تجيبيه على ملا وشه!!

ما لبث أن طفا الشر على صفحة وجهها لتقول في حقدٍ، وبلا صوت:

-بس على مين، وربنا لأفسدهالك!

انتبهت لصوت "مهاب" المتسائل بانزعاجٍ بعدما ضجر من مماطلتها الفارغة:

-إنتي مش سمعاني ولا حاجة؟

ضحكت في سخافة، وأخبرته بالكذب:

-لا مؤاخذة، أصلها عقبالك اتخطبت.

برقت عيناه في ذهولٍ صادم، وردد بغير تصديقٍ:

-أفندم!!

أكدت له بثقةٍ تامة، وهي تصيغ كذبتها بإتقانٍ، لتضمن بشكلٍ تام إفساد أي محاولة للتقارب بينهما من جديد:

-أه، وخطيبها حِمش أوي، مارضاش يسيبها لواحدها عازبة كتير، ده تلاقيه اتجوزها.

كرر في صدمة أكبر، وقد ارتفع حاجباه للأعلى:

-اتجوزت؟

استندت بذراعها على إطار الباب الخشبي، وقالت بلؤمٍ خبيث:

-أومال مفكر هي سابت السكن ليه؟

ثم رفعت يدها الأخرى لتسوي شعرها الفاحم وهي تتابع بمكرٍ:

-عمومًا أنا في الخدمة لو عاوز حاجة، أنا عِشرية وعمري ما أقصر مع الناس اللي بحبهم.

حدجها بنظرة احتقارية قبل أن يوليها ظهره منصرفًا دون أن ينطق بشيءٍ، فانتصبت في وقفتها مستنكرة هذه المعاملة الازدرائية، لتهتف من ورائه في حدةٍ:

-إيه؟ مافيش شكرًا حتى؟!!

ابتعد عن محيطها والصدمة تكاد تأكل رأسه المشحون، استطرد محدثًا نفسه في صوت متسائلٍ ومغتاظ وهو يهبط الدرجات ببطءٍ:

-طب هي عملت كده ليه 

يتبع


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة ، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية