-->

رواية جديدة مواسم الفرح (ست الحسن) لأمل نصر الفصل 7

 

قراءة رواية مواسم الفرح (ست الحسن)  كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



قراءة رواية مواسم الفرح 

من روايات وقصص 

الكاتبة أمل نصر

(ست الحسن)

الفصل السابع



هل مرت عليك هذه اللحظة أن تخطأ بشيء لا يستحق او في نظرك هو هكذا، ثم تفاجأ بظبطك متلبسًا وكأنك فعلت الجرم الكبير، وما ينتظرك من عقاب سيكون أشد وأعظم..

هذا هو ما شعرت به نهال وقت أن وجدته أمامها فجأة وبدون مقدمات، وقد كانت تقضي وقتها في التسامر والضحك مع نوها وصديقتها الجديدة بثينة، سعيدة بحرية اقتنصتها في المدينة الجديدة عليها، منبهرة بروعة المكان، وقد ارتخت اعصابها وهدأ عقلها عن التفكير في هذه الخاطرة التي ذكرتها بثينة عن عدم زواج مدحت حتى الآن، لأنه ربما بسبب قصة عشق له،

كانت مجرد خاطرة، لكنها تسببت باشتعال رأسها دون هوادة، مع شعور اخر لجلد الذات، لأنها لا تستطيع التوقف، وقد اتخذت قرارها في السابق بنساينه ونسيان حلمها الطفولي في القرب منه، بعد أن اثبت لها خطأها قبل ذلك؛ بطلبه لشقيقتها الصغرى، هذا الصراع كان كالطاحونة بداخلها، وعرض الخروج والتنزه كان كطوق النجاة الذي انتشلها حتى لا تغرق في بحر الأوهام، بأن تعيش حياتها الطبيعية تفرح وتمرح كأي فتاة في سنها، بعيدًا عن سذاجة في عشق يائس تأذي نفسها به، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. 


لقد كانت مندمجة في الحديث مع الفتيات لدرجة أنها لم تنتبه لمجيئه بالقرب منها، سوى من نظرة الهلع التي ارتسمت على وجوه الفتيات صديقاتها، لتصعق فور أن رفعت رأسها إليه، فتصعق برؤيته وهذه الهيئة الضخمة والقناع ثلجي الذي كان مرتسمًا على ملامح وجهه، رغم اشتعال عينيه في إلقاء التحية بتهكم صريح:

- مساء الخير.

قالها ورددن خلفه نوها وبثينة التحية بارتباك وتلعثم:

- اهلا يا دكتور، مساء الخير اتفصل. 

تجاهل الرد عليهن، واتخذ طريقه نحوها لتجده يدنو ويقترب منها بعد ان شلت المفاجأة عقلها وانعقد لسانها عن الرد، وكأنها أصيبت بالخرس، ليكمل عليها بفحيح هامس بجوار أذنها:

- تجومى على طول من سكات وما اسمعلكيش حس ولا نفس حتى.

تطلعت لاشتعال عينيه، وشعرت بتحكمه القوي للسيطرة على انفعال بدا ظاهرًا من حركة فكيه، وبدون أدنى تفكير، وجدت نفسها تقف لتتحرك أَليًا معه، صدرت بعض الكلمات من صديقاتها بغرض إلهاء مدحت او فتح حديث بمودة:

-اتفضل معانا يا دكتور، دا احنا حالا واصلين الكافيه ونهال جات معانا بصعوبة..

أوقفهن مدحت بإشارة من كفه ليصمتن على الفور، ويده الأخرى أطبقت على كف نهال يسحبها وكأنها طفلة صغيرة، في انتظار العقاب من والدها الذي يسحبها الان بهدوء ما يسبق العاصفة،


أما هو فقد كان يُحجم غضبه على أقصى ما يمكن، حتى لا يلفت إليه الأنظار من أصدقائه في الناحية الأخرى من الكافيه وقد كان ينتوي بتقضية وقته معهم، ثم تفاجأ بها هي هنا، تتحدث وتتسامر بالضحك وكأنها من رواد الملهى المعتادين عليه، تقضي وقتًا ممتعًا وهو كالمغفل يتصل عليها بالساعات ليطمئن عليها وعن ميعاد عودتها للمنزل، وهي لم تترفق وتجيبه ولو في مرة واحدة حتى .

في غمرة شروده واحتقانه العاصف لم يكن يدري باعتراضها الضعيف والمها من قبضته التي كادت أن تهشم عظام اصابعها:

-يا مدحت خف عليا شوية، يدي بتوجعني... يا مدحت، 

التفت رأسهِ بحدة نحوها بنظرة حادة الجمتها عن الشكوى مرة أخرى رغم ألم العظام الذي فاق احتمالها، ليعود ويكمل سيره متجاهلًا كل شيء حتى النداء بإسمه من صديقه يونس والذي ترك مكانه ليلحق به، ويرى السبب في عودة مدحت وتراجعه عن جلسة الأصدقاء القدامى التى أتى خصيصًا من أجلها حسب الإتفاق معه.

- إيه يا عم مالك؟ انت جاى ولا ماشى ولا ايه ظروفك؟!

قالها يونس يوقف الاَخر وهو يجذبه من ذراعهِ قبل ان يصل لمخرج الكافيه، ف استدار إليه الاَخير مجبرًا، والتفت معه يده الممكسة بها كي يخفيها خلف ظهره بعيد عن انظار يونس والتي توقفت عليها تلقائيًا:

- روحى انتى استنينى عند العربية.

همس بها مدحت من تحت اسنانه، قبل أن يجيب صاحبه، والذي تابعها بعينيه حتى خرجت من الكافيه، لتزيد من عصبية الاَخر، ويهتف به:

- فى إيه يا يونس؟

رد الاَخر تعلو وجهه ابتسامة مرتبكة:

- نعم يا عم بتزعق ليه بس؟ هى مين دى الى كنت ماسكها وخارج بيها ؟

إمتقع وجه مدحت من الغضب، وخرجت إجابته بصعوبة شديدة بتحم شديد على قبضته التي كانت تتحرق لضربه، ورد بابتسامة صفراء:

-  وانت مالك يا يونس؟

ضحك له الاَخير يردف ببرود غير اَبهًا بانفعال صاحبه:

- خلاص يا عم ما تزعلش منى واعتبرنى ماسألتش، المهم انت مش راجع معايا تسلم على الجماعة ولا ايه؟

ذهبت انظار مدحت نحو اصدقائه المتابعين من الجهة البعيدة:

- معلش يا يونس بلغهم سلامى واعتذاري لأن بصراحة جد عندي أمر ضرورى مش هقدر اتحل منه.

قالها وهو خارح من الكافيه، امام نظرات يونس التي رافقته باستغراب من فعلته.


❈-❈-❈ 


- يا نهار اسود ومهبب، يا ريتنا ما جينا معاكى من الاساس، يا ريتنا ما جينا. 

هتفت بها نهى بولولة نحو بثينة وهي تنهض وتلملم اشياءها كي تغادر هي الأخرى، ردت الاَخيرة بارتباك وقلق:

- يعنى وهو إيه اللى حصل يعنى؟ أنا مش فاهمة انتو مكبرين الموضوع كدة ليه؟

هدرت نهى بصوت خفيض خوفًا من لفت الأنظار إليها:

-حصل أيه؟ هو انتي لسة كمان بتسألي؟ يعني عايزاه فى أول يوم دراسة ليها يلاقيها فى كافيه وتجوليلى حصل ايه؟

ردت بثينة بتوتر اصابها بالفعل:

- عندك حق دا انا نفسى خوفت منه اشحال هى بقى؟

قالت نهى وهي تحاول الاتصال بهاتفها ولكن فشلت مع اهتزاز يدها:

- هى !! .... انا مش عارفة اعمل ايه؟ واطمن عليها ازاى؟ دا انا حتى خايفة ما اتصل بيها.

عقبت بثينة على قولها بتشتت:

- طب وبعدين بقى؟ هنعمل ايه يعني؟

حسمت الأخرى وهي تعلق حقيبتها اليدوية على كتف ذراعها وتتحرك:

- هنمشى يا ماما، ونشوف بجى هيحصل ايه بعد كدة!! وربنا يستر.


❈-❈-❈ 


سأل سالم زوجته وهو مضجع على وسادة قطنية ومستلقي على المصطبة المفروشة بالفراش من خيوط الصوف خارج المنزل، بعد استماعه لحديثها:

- يعنى هو جالك كده بعضمة لسانه؟!

ردت سميحة بلهفة وتشدق:

- ايوه والنعمة الشريفة زى مابجولك كده !!

اشاح وجهه عنها بتفكير ثم قال بعدم اقتناع:

-  مش عارف ليه مش عاجبنى لكلامك.

تغضن وجه زو جته فقالت بعتب:

- وه يا ابو بلال يعنى انا هاكدب ليه بس؟

زفر الرجل يضرب بكفه على طرف الفراش، ورد بضيق:

 - بطلي يا سميحة عمايلك دي، انا عارف انك مش بتكدبى، بس ولدك مش مضمون، وانا مش عايز اخسر اخويا .

ناظرته سميحة باستنكار هاتفة به:

-وه وتخسر اخوك ليه بس؟ هو احنا ولدنا طايش ولا عفش اسم الله عليه؟

زفر سالم يعتدل بجذغه ليضرب كفيه ببعضهما ويصيح بها بنزق بعد ذلك:

- يا مرة افهمى، ولدك جلبه متشعلج لسه ب بدور يعنى كده ممكن يظلم نيره بت عمه معاه، إفهمي بجى أنا جلجان ليه؟

اعترضت سميحة لتردف نحو زو جها بإصرار:

- ويظلمها ليه ان شاء الله؟ دى بت عمه مش غريبة عليه وعارفاه وعارفه طبعه .

اغمض عينيه سالم مخرجًا سبة وقحة من فمه قبل أن يتجه إليها يقول كازا على أسنانه:

- اجيبهالك ازاى بس يا ام مخ ضلم؟ ولدك واخدها عند عشان نيرة و بدور اصحاب الروح بالروح، يعني انتي من غير ما تجصدي جبتهالوا على الطبطاب.

رفرفرت سميحة بأهدابها تحاول الإستيعاب حتى ظنها فهمت مقصده، قبل أن تصدمه بقولها:

- مش فاهمه !!

عوج سالم فمه متنهدًا بثقل قبل أن يرد:

- ولا هتفهمى !

- يعنى ايه ؟!

سألته ليردف لها بحسم بعد أن فقد الأمل منها:

- يعنى تأجلى الروحة لبيت اخويا عبد الحميد وطلب نيره" لحد اما انا اجولك .

هنا اعترضت سميحة وكأنها تدافع عن قضية حياتها:

- ليه بس يا سالم توجف الحال؟ دا انا ما صدجت فرحت والواد راسه لانت، دا انا كنت مجهزة نفسي على إن اروح بكرة، دا حتى على رأي المثل زي ما بيقولو، خير البر عاجله..

- انا جولت مفيش روحة دلوك يعنى مفيش روحه دلوك 

قالها سالم مقاطعًا بحزم جعل سميحة تنتفض من جواره، لتعود لمنزلها، تغمغم بالكلمات الحانقة نحو زو جها، الذي قطع عليها فرحتها بموافقة عاصم بالإرتباط بابنة عمه، وتعنته الغير مبرر بأسبابه واهية


❈-❈-❈


أما عن عاصم فقد كان مستلقي على فراشه، يسند ذراعه على جبهته، ليغطي عينيه بتفكير عميق عما وافق به منذ قليل مع والدته، يراجع نفسه إن كان هذا الأمر قارب الصواب أم الخطأ، فكرة ارتباطه ب نيرة ابنة عمه.

هو لا يريد ظلمها وقلبه معلق بغيرها، بل وهي اقرب الناس إلى مالكة قلبه، ولكنه ايضًا يريد المضي في حياته والتجاوز كي يعيش، يريد انهاء عذابه الدائم بالتعلق بالمستحيل، يريد الوفاء بوعده لنفسه بنسيانها الذي يصعب بمجرد رؤيتها وتتبخر معه كل الوعود في الهواء.

يجب التفكير جديًا في نيرة حتى لو كانت اختيار والدته، ف هي في الاول والاخير ابنة عمه، ولا ينقصها شيء، يكفي انها من دمه وتربية يـ  ده ويعلم جيدًا بأخلاقها، وهي مثال جيد للزو جة التي يتمناها الرجل، وهو إنسان ضعيف ومهما طال به الزمن أو قصر، ف مصيره إلى الزو اج، إذن بما يفيد التأجيل؟ ما دامت الأمور كلها بالنصيب كما يقال دائمًا، حسنًا ف ليأخذ هو نصيبه أيضًا!


❈-❈-❈


الإنتظار في هذه اللحظات، كان هو اصعب الأوقات التي مرت بها على مدار سنوات عمرها، لقد كانت ترتجف داخلها بعنف، رغم تظاهرها بالتماسك، تراقب كل همسة منه كرد فعل يخفيه عنها بصعوبة رغم احتداد عينيه، وتجاهله لها منذ أن انضمت معه في السيارة ، تعلم أن الأمر لن يمر على خير، والعينة بدأت من اول دخولها السيارة حينما جمد الدماء بعروقها بصيحته الهادرة بمجرد ان حاولت أن تستقل المقعد الخلفي ف زجرها هادرًا بصوته المخيف:

- انا مش سواج حضرتك، اترزعى من جدام اخلصى.

إننتفضت محلها لتتحرك على الفور مذعنة لتنفيذ الأمر، تخشى رده العنيف، وقد بدا جليًا بهذا الانفعال الشديد في القيادة، والنظرات الحادة التي كان يحدجها بها كل دقيقة، لتزيد من جزعها، حتى فاض بها وقررت التعجيل بالحسم، فخرج صوتها بارتباك:

- انا اسفه انى مرديتش عليك وماجولتلكش انى خارجة مع صحباتى 

التفت رأسهِ بحدة نحوها يرمقها بعدائيه مخيفة زادت من جزعها، ثم من دون رد عاد للقيادة مرة أخرى، غمغمت داخلها بحنق، ثم اخذت نفس طويل تهدئ به توترها:

فخرج هذه المرة صوتها بقوة تدعيها وكأنها تناولت حبوب الشجاعة:

- على فكرة مفيش داعى لعصبيتك دى كلها، انت  شوفت بنفسك احنا كنا جاعدين باحترامنا فى مكان محترم والبنات اللى معايا فى منتهى الادب والاحترام كمان وو..... اه...

تأوهت صارخة بفزع مع اهتزاز جسده المفاجئ بعنف، حينما باغتها بأن ضغط على مكابح الفرامل، وتوقف بالسيارة بقسوة لدرجة جعلتها اندفعت بقوة للأمام، وارتدت على الفور، بفضل حزام الأمان الذي حمى رأسها وجسدها من الإصابة.

طالعته بصدمه كي تلومه، ولكن نظرته الخطرة لها جعلتها تبتلع ما بداخلها من كلام وتتراجع بكل جبن عن الإعتراض، لتنتفض بعد ذلك مع صيحته المخيفة:

- يعني انتى مش حاسه بغلطك ؟! لو انتي معاكى حج انطجى وقوليها ؟ سكتى ليه؟

تبخرت كل الشجاعة التي كان تعد نفسها بها في الرد على كلماته، ليحل الخنوع والأستسلام بهز رأسها إليه، وهو يتابع كازا على أسنانه:

- من اول يوم دراسة ليكى بتطلعى وتروحى ع كافيهات، امال لما تاخدى على البلد شوية هلاجيكى فين بعد كده؟

النبرة المتهكمة في تلميحه استفزتها، ف عادت لجنونها ترد بدفاعية:

- يعنى هتلاجينى فين إن شاء الله؟ والله انت عارف اخلاجى كويس على فكره.

هدر بها بعصبية يضرب بكفه على عجلة القيادة :

- انتى لسه ليكى عين تتكلمى بعد اللى عملتيه؟

ردت بشجاعة مزيفة:

- يعنى كل ده عشان روحت كافيه؟ كل بنات الجامعة بتروح كافيهات وبيتفسحوا كمان وبيروحوا رحلات، انا معملتش حاجة غريبة على فكرة .

تبسم بجانبية ساخرة يقارعها:

- وبيبجي برضوا من غير شورة اهاليهم؟!

برقت عيناها تهتف بانفعال مستهجنة قوله لها:

- اهاليهم كيف؟ إنت عايزنى اتصل بابويا فى البلد عشان اجولوا على كل مشوار ارحله! تيجي ازاى دى!

ذهبت السخرية عن ملامح وجهه فجأة ليجيبها بقوة وبدون تفكير أو تردد:

- انا اهلك .

لهجته الواثقة أصابتها بالإرتباك، لتردد خلفه بعدم استيعاب:

- اهلى كيف يعنى؟ إيه الكلام اللي انت بتجوله ده؟

اقترب برأسهِ منها، يضغط على كل حرف يتفوه به:

- يعنى انتى طول ما انتى هنا تبجى تحت مسؤليتي، مفيش خروج ولا طلوع يا نهال تاني مرة إلا بإذنى .

جحظت عينيها تصيح به باعتراض، متناسية خوفها وجزعها من رد فعله:

- يعني انت عايزنى اخد اذن منك فى اى خطوه او اى مشوار، ليه كنت جوزى مثلاً؟

جملتها العابرة والتي اردفت بها ساخرة دون أن تعي بوقعها عليه، وقد تسمر امامها، يطالعها بصمت لعدة لحظات، حتى صدر صوته بنبرة هادئة غريبة لم تفهمها:

- بصفتى واد عمك يا نهال، ودي مش محتاجة شرح أو توضيح، وع العموم لو مش عاجبك الكلام اتصلى حالاً بابوكى واشتكينى ليه.

ارتدت برعب مع تلميحه الصريح، لتسأله بتوجس:

- إنت قصدك ايه يا مدحت؟ يعني عايز تبلغ ابويا باللى حصل انهارده؟

رد ببساطة:

- مش انت شايفه نفسك ماغلطتيش تبجى خايفه ليه ؟!

تلجمت وانعقد لسانها عن مقارعته، فتابع سائلًا بتشفي:

- سكتى ليه ؟!

تكتفت بذراعيها تنظر للأمام متهربة من عينيه المتصيدة لكل همسة منها، تقول بصوت خفيض، وقد هزمها بحجته:

- يعنى هاجول ايه؟

تنهد بانتصار، فقال بنبرة قوية وبصوت متملك:

- كويس جوي الكلام ده، يبجى كده تسمعى الكلام، وتانى مره اياكى يا نهال، اياكى ماترديش على أي اتصال مني، فاهمة؟

ضغطت تجيبه هامسة بغيظ مكتوم :

- فاهمة


❈-❈-❈


وعند بدور التي كانت تراجع في استذكار دروسها، وهي منكفئة على كتابها، وهاتفها لا يكف عن ورود الإتصالات عليه، وهي في كل مرة تتناوله فتري الأسم، فتلقيه بأهمال دون إجابة، كي تعود لدروسها، فيعود الهاتف للإتصال مرة أخرى، فتزفز هي بضيق، مغمغمة بحنق لاستمرار هذا اللزج في الألحاح، وتشتيتها عما تفعله، حتى فاض بها، لتتناول الهاتف وتغلقه، قبل أن تلقيه بإهمال خلفها على التخت، متمتمة:

- غور يا اخى بلا هم.


❈-❈-❈


ولجت نهال لداخل الشقة الجديدة لسكن الفتيات، بعد أن فتحت بمفتاحها، ف استقبلتها على الفور نهى بأن ركضت نحوها لتسألها بقلق:

- ها عملتى ايه؟ طمنيني. 

حدجتها نهال بنظرة محذرة، متجاهلة الرد عليها قبل أن تلقي التحية على الفتيات زميلاتها الاتي كن يجلسن في الصالة، يتابعن كل شيء:

- مساء الخير يابنات. 

ردت إحداهن تُدعى أميرة :

- مساء الخير، انتى كنتى فين يا نهال؟ دى صاحبتك بجالها ساعة هتموت من الجلج عليكى .

التفت نحو نهى تحدجها بنظرة نارية لترد على الفتاة بغضب مكتوم:

- يعنى هكون فين يعني؟ انا كنت مع بثينة صاحبتى الجديدة بنجيب شوية ادوات وحاجات للدراسة، إيه يا ست نهى؟ هو انتي نسيتي؟

استدركت الاَخيرة على اللهجة المتشددة من نهال، وقالت باضطراب

- اَه، يا نهار ابيض دا انا كنت ناسية صح، وجلجلت عليكى بصراحة بعجلي الضلم ده.

تدخلت فتاة أخرى وتدعى سهام لتقول بتفكه:

- جلجتى! دا انتى روشتينا يا شيخة، رايحة جاية رايحة جاية، في الصالة قصادنا ولا اكن عليكي بيضة حتى.

تبسمت نهى بصفار نحو الفتاة والمزحة الثقيلة التي ألقتها، فهمت لتقرعها بالسخرية، ولكن اميرة اوقفتها بنظرة التشكك:

- وانتوا سيبتوا بعض ازاى يعني؟ دا انتو طول الوجت مبتفارجوش بعض نهائي. 

بلغ الغيظ والكبت بنهال مبلغه، بعد ما مرت به منذ قليل، وما تجده الاَن من تحقيق، وهي لا ينقصها، همت لتفرغ شحنة الغضب في الفتاة، ولكن نهى سبقتها لترد بدبلوماسية:

- خبر ايه يا أميرة؟ انتى هتحسدينا ولا إيه؟ طب اهى حصلت يا ستى من نبركم وسيبنا بعض، انبطوا كدة واهمدوا بجى.

اصدرت المذكورة صوت مستهجنًا لترد على نهى بغيظ، والآخرى لم تقصر، ولكن نهال كان قد فاض بها ولم يعد بها التحمل لأي شيء، فاستئذنت باعتذار:

-معلش يا جماعة انا هلكت النهاردة في اليوم الطويل ده، ومعدتش جادرة حتى على الكلام.... عن اذنكم بجى، انا داخله اؤضتى عشان ارتاح .

قالتها وتحركت على الفور، وذهبت بدون انتظار رد منهن.


❈-❈-❈


دلفت لداخل غرفتها تصفق الباب خلفها بقوة، لتخلع عنها حجابها على الفور، حتى تلتقط انفاسها بلهاث وتعب، بعد أن ابتعدت عن أعين الفتيات المترقبة، وقد خلت اَخيرًا بنفسها، لا تصدق ما حدث معها هذا اليوم وما ختمه مدحت بأفعاله المتسلطة، لقد اظهر لها اليوم وجهًا جديدًا، لم تكن بحياتها أبدًا تتوقعه وهذا الغضب الحارق ليفرض عليها تحكماته مع أول خطأ بسيط تقع به، وهي التي ظنت انها خرجت عن محيط البلدة ومحيطه هذا في العشق اليائس، لتعيش القادم لنفسها ومستقبلها فقط، يأتي الاَن هو بتعقيداته معها، ليحجمها حتى تكون تحت سيطرته، زفرت بضيق لتسقط على طرف الفراش بتعب، وحسرة لختمام يومها الأول في هذا العالم الجديد، بهذا السوء.

رفعت رأسها على اندفاع باب الغرفة ودخول نهى فجأة  هتفت نحوها نهال بغيظ:

- مش تخبطى الأول يا زفتة انتي جبل ما تدخلى هجم كدة!

تغاضت نهى لهجة صديقتها الحادة لتقديرًا لغضبها، وخطت تقترب منها بعد أن تأكدت من غلق الباب جيدًا، فقالت بقلق:

- معلش يا نهال، بس أنا اصلى كنت هموت من الرعب والخوف عليكي، 

رمقتها نهال بحنق صامتة ثم دنت لتخلع حذائها الابيض من أقدامها، ف استطرت نهى بلهفة:

- ما تردى يا نهال ساكته ليه؟ وقعتي جلبي يا شيخة.

حدجتها نهال بنظرة حادة ثم ردت بتوبيخ:

- اسمعى يا نهى، تانى مرة تاخدى بالك من تصرفاتك، انا مش ناجصه حد من البنات اللي برا دول، او في أي حتة تانية، يشنع عليا بكلمة واحدة فاهمة؟.... كفاية الهم اللى انا فيه .

- يا نهار اسود.

تفوهت بها نهى، ثم جلست بجوار نهال على طرف الفراش، تسألها بجزع:

- هم ليه؟ هو ايه اللى حصل بالظبط؟ وعمل إيه معاكي الدكتور مدحت؟

صممت قليلًا نهال، قبل أن تجيبها وهي تفرك كفيها بعضهما:

- الدكتور الباشا حكم عليا انى مخطيش خطوة واحدة، ولا أي مشوار اعمله إلا بأذن منه، وزيادة على كده هروح الجامعه معاه وارجع كمان معاه .

ازبهلت نهى تقول بعدم استيعاب:

- وه، دا واد عمك شديد جوى، طب وانتى هتبعيه يعني على كدة ولا هتعملي إيه؟

تطلعت نهال بها تجيبها بقوة:

- مضطرة دلوجت اهاودوا شوية كدة على ما يهدى ويشيلنى من دماغه، انا مش ناجصه يبلغ ابويا، عشان عارفه كويس ابويا هيصدجه مهما انا جولت او عملت، لكن بعد كدة بقى، يبقالي صرفة، ما انا مش هستحمل الوضع دا كتير 

أومأت لها نهى بهز رأسها توافقها:

- هو دا الصح، تهاودي شوية على ما ينسى والموقف يعدي، واساسا يعنى، هو بكل مشاغله دي، هيلاجى وجت ازاى لتوصيلك الجامعة، روحة وجاية كمان؟

زفرت نهال مطولا ثم قالت

- يعدلها المولى ان شاء الله.


❈-❈-❈


صباح اليوم التالي


كانت نعمات تجهز الأبناء الصغار، ياسين بأن جهزت له حقيبة الروضة خاصته، ثم نهلة الصغيرة التي كانت تمشط لها شعر رأسها، ف اقتربت منها بدور مرتدية ملابس المدرسة استعدادًا للذهاب، تخاطبها:

- أما يا أما.

التفت لها نعمات وهي تربط بالرباط الصغير على خصلة كبيرة بأحد الجوانب لشعر نهلة، وردت بعدم تركيز:

- اممم، عايزة إيه يا بدور؟ معاكي حاجة ناجصة وعايزة تشتريها لمدرستك انتي كمان؟

نفت بهز رأسها ثم تحمحت تجلي حلقها وتجمع شجاعتها وهي ترد:

- انااا، عايزة افلت!

حتى الآن لم تكن منتبهة نعمات، لذلك انتظرت بدور والدتها حتى انتهت من شقيقتها، مردفة بالنصائح المعروفة:

- امشى على طول ياحبيبتى وخلى بالك من اخوكى من العربيات، واوعي تخليه يلعب كورة مع العيال الكبيرة، ليوقعوه زي امبارح، ولا يتأذى.  

هتفت بها بدور بنفاذ صبر

- ياما انتبهيلى بجى وسيبك من البت دى شوية، هي النصايح دي مبتخلصش؟

رمقتها نعمات بامتعاض قبل أن تصرف اطفالها الصغار للذهاب لدراستهم، ثم خاطبتها:

- ادينى انتبهتلك اها، جولى عايزه ايه بجى يا ست العرايس؟

ابتعلت بدور ريقها وبللت شفتيها بتوتر قبل تقول:

- ااا ما انا جولت وانتي مخدتيش بالك، انا عايزه افلت .

رددت نعمات بعدم استيعاب:.

- عايزه تفلتى! كيف يعني؟ معناه إيه الكلام ده؟

تشجعت بدور لتردف بتصميم وقوة:

- عايزة افلت، يعنى عايزة افسخ خطوبتى من معتصم ونوفوضها على كده واخلص.

- هى مين اللى تخلص يا بت الكلب؟ ايه اللي انتي بتهلفطي بيه دا يا بت؟

صدرت قوية أجفلت الأثنان مع دخول راجح بغضبه، وقد سمع ما قالته ابنته بالصدفة. 


 يُتبع..

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة أمل نصر من رواية مواسم الفرح (ست الحسن)، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية



رواياتنا الحصرية كاملة