-->

الفصل الثالث والعشرون - من رواية بعد الاحتراق After Burn للكاتبة غادة حازم

قراءة رواية بعد الاحتراق -  After Burn 
بقلم الكاتبة غادة حازم 
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية 
قبل أي منصة أخرى


الفصل الثالث والعشرون
 

هذا وعدي:

سوف أمنحك –أيًا ما كان– المتبقي مني كله

إذا وعدتَ

بمساعدتي في لملمة الأشلاء.

 

ألفا هولدن

 

 

أن تبلغ عنان اليأس والضَنْك لا يكن عادةً بالشيء الهين؛ ذلك يحتاج تراكمات سنين من الحرمان.. وستزداد بؤسًا إذا لّازمك ذلك الشيء المقيت فيما بقيَّ من حياتك.. الجوع للحب، العوّز لدفيء البيت ولأُنس، الأهل.. الحاجة لأن تكون مرئ، مرغوب!!.. هذا ما يدفعك للتشبث كالغريق إذا أشبع أحدهم كل ذلك داخلك، يجعلك ترغب في ضمان وجوده، فامتلاكه -ابتلاعه لو امكنك- فقط كيلا تعود لمرارة الجوع من جديد!!

 

ومَن أدمن الشبع مِن بعد جوع،

كان أشرس مِن أشرس جائع!!

 

وكذلك كان هو!!

 

بالنسبة له.. لم يكن أدهم فقط الصديق الوحيد، أو الأخ القريب، كان يساوي الحياة، بل يساوي ضمان الحياة!!.. لذلك، القبول بالمساومة على فقده أو حتى المشاركة فيه كان أمرًا مستبعدًا تمامًا.. خط أحمر مُدمغ بدماء كل مَن يفكر في التفرقة بينهما أو حتى يهدد بذلك!!.. أدهم من العائلة..

 

بل أدهم هو العائلة..

 

هو مَن عرّفهُ ذلك المفهوم الذي لم يعرفه قبله.. هو لم يدخلها إلا من أجله، لم يكن يعنيه سُلطة أو مال، فقط العائلة ما كانت تعنيه.. الحاجة للانتماء والشعور بأنه جزء من كُل..

 

لقد اغراه بذلك، استدرجه من حيث فقده.. ومن أجله فقط، أقبل على ارتكاب الفظائع بصدر رحب.. فدائما كان الدافع موجود..

 

من أجل العائلة!!

 

لكن.. في قرارة نفسه، العائلة ذاتها -المنظمة وكل ذلك العالم المظلم- لم تكن يعنيه في شيء، ما كان يعنيه هو أدهم.. ومن أجله انضم لتلك المنظمة كي يوافق خطاه ويحظى بقربه.. أقبل على طريق القتل والدماء.. في سبيل شيئا واحد، العائلة، ويا له من مفهوم كان جائعًا له.. كان جائعًا للمعنى الضمني له من كل ما فقده عبر حياته؛ الأمان والانتماء.. العائلة تعني أن الواحد للجميع، والجميع للواحد.. ما من شيء يسمى استقلال، أو فردية..

 

كلنا واحد

ومن أجل العائلة!!

 

ومن أجل العائلة قتل، من أجل العائلة عذب، احرق، ذبح، ارتكب الأهوال وتشبعت روحه بالآثام، توغل بالظلام حتى تشرّبه وصاره منه!!

 

هو مًن جعله هكذا.. هو مَن أخبره أنه لابد له أن يكون كذلك.. قد آمن به، كان ذنبه الوحيد أنه آمن به، وآمن بكل كلمة لقنه إياها.. أن رابطة العائلة -بالمعنى الذي علّمهُ إياه- أكبر أقوى من أي رابطة عرفتها البشرية.. لا شيء -لا شيء قط- يمكنه كسرها!!..

 

العائلة تأتي أولًا

العائلة قبل المصلحة الشخصية

 وتأتي حتى قبل الحب!!

 

أليس هو مَن قال هذا؟ إذًا لما أنكره وتملص منه؟!

 

لمَ تملّص من رابطة العائلة وأنكر العهد؟! .. لم عاقبه وهم لم كان جُرمه الوحيد أنه نفذ ما العهد.. كان يحميه، يقسم بكل ما فعله كان يحميه!!.. كان يحميه بقانون العائلة مِن سُمً الافعى الذي تخثر بعروقه وأعماه أهلكه.. خشي أن يخسره، فيخسر معه نفسه وكل شيء..

 

فيما أخطأ؟!.. أين الخطأ الذي من أجله عاقبه هكذا عقاب؟!.. اللعنة، لقد أماته على قيد الحياة، وأمات كل شيءٍ فيه!!.. والأهم، كيف أمكنه فعله، وهو الأخ قبل الصديق، وهو العائلة التي أقسم بحفظها على مصلحته وأهواءه الشخصية!!

 

أكان كل هذا وهم..؟!

أضحوكة صدقها هو وحده؟!

أيعقل كان أدهم يعده بشيء هو نفسه لا يفي به!!

 

”أين ذلك القسم أدهم وأنت تلقيني في قاع الجحيم!!“

 

دمغت عيناه بتلك الذكرى المستعرة بينما كان مستلقيًا على الفراش بشقة ريم، شقيقة اللعين، وميض قرابة الثلاث سنوات، والأفكار التي صاحبتها غيمت فوق رأسه، وهي التي لم تبرحه قط!!.. فكرة الوجود، الحياة، الموت.. والعقاب!!.. كل تلك الأفكار تربت معه وتربى عليها منذ أن كان صغيرًا، حاربها وحاربته، كسرته عدة مرات واستوطت واستنزفته.. لكن تلك المرة.. جاءته من حيث لم يتوقع!!.. كانت كقضبان الحديد القاسية، شجت رأسه لعشرات الأجزاء، فلا نجاة له منها..!!

 


قضبان أقسى عليه من القضبان التي حبسه خلفها أدهم!!

 

-        ما هذا الهراء؟!.. ولمّ لم يخبرني!!

 

فزع عادل من استلقاءه على صراخ ريم وتبعته بحركتها المعتادة عندما لا يروق لها ما سمعته، إذ تغلق الهاتف وتقذفه بتهور دون أن تنتظر سماع الرد.. اعتدل ليرتدي سرواله التحتي ثم عاد للجلوس على الفراش ومراقبة انفعالها وهو يتصاعد بينما تجئ الغرفة ذهابًا وإيابًا من شدة الاغتياظ، ومن ثم أعربت عن حنقها ذلك بسبة عالية وهي تدب بقدمها أرضًا مستكملة ثورانها:

-        كيف يفعل ذلك؟! .. ألهذا الحد لم أعد مهمة بالنسبة له؟!

 

حسنًا، لم يكن من الصعب عليه التخمين عمَن تتحدث، فقد كان ينتظر فتيل تلك الشغلة منذ أمد بعيد، لذلك سألها متصنع الجهل:

-        اهدئ بيبي، واخبريني ما القصة بالضبط؟؟

 

أحكمت رداء الحمام الذي تريديه وقد كانت على مشارف الاستحمام بعد ممارستهما الحامية معه قبل ان تهاتفها والدتها وتلقي لها بالخبر.. أشعلت سيجارة وقد بدأت ترتعش كامل اطرافها:

-        أدهم.. سيعقد قرانه اليوم مجدد على تلك اللعينة!!

اخذت نفس طويل من سيجارتها أحرق صدرها لتزفر الدخان بغيظ:

-        سحقًا لهم جميعًا، لن أذهب وليحدث ما يحدث!!

راقبها بصمت ولم يعقب مستمتعا بحالة جنونها تاركًا إياها تصل لأقصى درجاته فكلما كان أعنف كلما حصل علما أراده:

-        لا افهم كيف يُقدم على فعل ذلك وتلك اللعينة كادت أن تتسبب بموته!!

-        ماذا؟!

 

لم يتصنع الدهشة هذه المرة بل كانت حقيقية.. هو حقا لم يتوقع أبدًا معرفتها بذلك الأمر، صحيح كان يسعى لتمرير ذلك إلى عقلها مستقبلًا لكن لم يتوقع أن تستقبلها وحدها كهذا دون عناء!!.. الحقيقة أنه هو من حاول موته أو بتعبير ادق كان يحاول ان يقتنص فرصته في تصفيه فريدة أمامه.. محاولة جعله ان يتجرع من الكأس ذاته، أن يجرب ما أجبره على أن يختبره .. ان يجرب الموت بموت من يحب أمامه .. ولكن ما حدث خالف توقعاته بعد ان خطط لكل شيء باللحظة والثانية التي سيجتمع فيها الاثنان والتي بالمناسبة عرفها من ريم لحظة استقبالها لأدهم يوم خروجه من النيابة ..

 

 بالأساس هذا كان الغرض من اتصاله بها ذلك التوقيت تحديدا وما إن عرف حتى حمل عدة القناصة خاصته وذهب إلى افضل نقطة قد سبق ودرسها أمام مبنى المستشفى منذ ان عادا من المركب .. لكن كل ذلك راح سدى واللعين في آخر لحظة فداها وتلقى الرصاصة بدلت عنها .. لكن لا بأس ها هي تصب في مصلحته في النهاية وتمشي الخطة في الطريق الذي رسمه رغم أنفك يا أدهم!!

 

رمت ريم جسدها جالسة على الفراش باغتمام بينما تسترسل غافلة عن التماع عين الآخر مع كل كلمة تلفظها:

-        هل عرفت لماذا افرطت في التعاطي ذلك اليوم؟!.. لقد سمعت أبي خِلسه وهو يهذي بهذا يوم الحادث دون أن ينتبه لوجودي.. لم يكن يريدني أن أعرف ولكني عرفت.. ذلك ما جعلني أفرط في التعاطي ذلك اليوم.. كنت مصدومة ولا زلت، يخفون عني الحقائق وكأنني لستُ أخته ومن حقي أن أعرف..  كنت أموت من داخلي.. خوفي على أدهم كان ينهيني وتجاهلهم لي يضاعف شعوري بالوحشة.. والآن.. ها هو قد أفاق.. وتزوج مجددًا من الساقطة التي كادت تنهيه.. فعلها ثانيةً دون أن أعنيه في شيء ليخبرني!!.. لا أحد يهتم بأن يخبرني شيء، لأن لا أحد يهتم بوجودي من عدمه.. عندما كنت أضاعف جرعتي كنت أعلم أنني أقف على أعتاب الموت وقد تكون النهاية، لكن أتعلم.. حتى موتي لم يكن ليلاحظه أحد!!

 

تحررت دموعها على جانبي عينها بينما تسترسل بصوت مختنق:

-        في بعض الأحيان اتساءل كيف لم يلاحظوا حتى الآن إدماني؟.. كيف لم يعرفوا أنني لست بخير.. أعيش معهم بالبيت ذاته لسنتين أنّى لهم ألا يلاحظوا أنني تغيرت، لم أعد تلك الطفلة الساذجة ذاتها.. قبل أن آتي هنا صرخت في وجه أمي وكدت أخبرها بأنني أعرف كل شيء يحاولون اخفاؤه وفي المقابل هي لا تعرف أي شيءٍ عني، لا تعرف شيء عن المعاناة التي أخوضها.. لا تعرف حتى أن ابنتها مدمنة واقف أمامها احتضر من أعراض الانسحاب وهي لا تعرف.. لم تشعر حتى!!.. كل ما قالته إنني أساءت احترامها وعليّ أن اعتذر، تخيل!!

رغم عنده وجد نفسه يشرد فيما قالت وثمة جزء ضئيل بداخله تحرك.. شيئا في علاقتها بوالدتها العاهرة ذكره ب ليليان.. كلتاهما عانت الإهمال ذاته

كلتاهما يفتقدان الحب والاهتمام

وأخيرا كلتاهما لم يكن لديهما ذنب فيما وصلا اليه

 

كلا.. هي ذنبها الوحيد هو .. ادهم

قدرها جعلها تجني ثمار ما زرعه اخيها العزيز

 

-        لماذا أنت صامت هكذا؟! قل شيء!! الا تراني انهار أمامك..

 

أطال عادل التحديق بها يتأمل دموعها وتبعثر حالتها محاربا ما يندفع داخله من أفكار قبل ان ينبس قائلا:

-        لأنني أعلم كل شيءٍ

-        تعلم ماذا؟

 

تعجبت ريم ليسترد بكياسة ذئب منتقي بعناية كلماته التالية ومراقبا وقعها عليها:

-        أعلم أنها السبب بمحاولة قتله.. وبالمناسبة ذلك كان سبب انفصال صداقتنا أيضًا

 

-        ماذا؟.. كيف؟

-        فريدة تورطت مع أحد عصابات المافيا لذلك حاولوا قتلها مسبقًا وعندها تزوجها أدهم أول مرة أملًا في أن يكون اسمه كافيًا لحمايتها وقد رأيتِ كيف كان ذلك سريعًا ومفاجئًا حتى لكِ.. لكنهم لم يتركوها رغم هذا وحاولوا قتلها من جديد.. في كل مرة كانت تعرض حياة أدهم للموت لقد حاولت تحذيره منها ولم يسمع لي وفضل أن يخسرني بدلًا عنها!!.. حتى آخر مرة التي فقدت فيها ذاكرتها كما زعمت كمحاولة أخيرة للحفاظ على حياتها.. هل تعرفين لما أختفى أدهم بعدها؟؟.. لقد كانت هي السبب أيضًا!!.. تلك العصابة التي تورطت معها صارت تطارده هو وكان عليه أن يختفي حتى يتم التفاوض معهم ويصل إلى ترضية جيدة ووالدك يعرف هذا جيدًا لذلك توقف عن حملة بحثه فجأة!!.. والآن عادت والموت في قدمها .. لقد كانت دائما هي السبب!!

 

-        اللعنة كل هذا يحدث وأنا لا أعلم!! إلى هذا الحد لا أحد يأبه بوجودي.. حتى أنت كنت تعلم طول الوقت وأخفيت عني الحقيقة!!

 

انتفضت ريم بكل غضب تضربه في صدره وتفرغ كامل كبتها به، لتجد ذراعيه تحتويها بكل حب يقبل رأسها ويتحمل دفعاتها أنفاسها الغاضبة تصطدم برقبته حتى بدأ انفعالها يهدأ تدريجيًا حينها همس لها:

-        أنا لن أتركك مثلهم.. وسأفعل أيًا ما تشائين حتى لا أراكِ هكذا مرة أخرى.. حتى وإن اضطررت لقتل تلك العاهرة وكل مَن يجرؤ ويزعجك!!

 

وعندها فقط..

أُطفئت النار داخل صدرها

 لتُوقد بدلًا عنها بريقًا بعينها!!

 

❈-❈-❈


 

ثمة طنين.. طنين طاغي يضفي عليها شعور موجات غير مرئية تخدر حواسها وكأن أحدهم أطفأ زر الشعور وانقطع الضوء بغتة!!.. كانت تراقب من حولها بعين خاملة ولسان بطيء ثقيل في رد عبارات التهنئة التي تنهال عليها من كل صوب ومن أناس بالكاد تعرفت عليهم.. ليس لمعرفة شخصية ولكن لأنهم من صفوة المجتمع اعلاميون ومشاهير.. كالبهاء، تبحلق في وجوه الآخرين محاولة فك شفرة ما يهمسون به، مغيبة، غير مدركة لهويتهم ولما يدور من حولها وأنها للتو قد عادت حرم أدهم الشاذلي!!

 

نعم، أصبحت حرمه!!

 

ويده التي تلتف حول خصرها كالتفاف الافعى حول فريستها خير دليل.. والثوب الأبيض الذي أجبرها على ارتدائه عوضا عن ثوبها الاحمر الذي انتقته.. وكذلك رائحته تغمرها من كل مكان.. إنه يستحوذ عليها بالكامل ليُظهر للجميع رخصة امتلاكه لها .. نفس تحكمه، وسطوته، ونفس خضوعها واستسلامها..!!

 

نفس السيناريو يتكرر

لقد تزوجته..

عادت له مرة أخرى

وتلك المرة لم تكن مرغمة!!

 

بل كانت خابية، ساكنة بشكلٍ يثير الريبة.. في ركنٍ ما من خيالها، ثمة بصيص من الوعي لايزال يعمل ويقاوم مفعول الدواء.. يحاول إلهاؤها عن الكارثة التي افتعلتها للتو، بإطلاق العديد من السيناريوهات المندفعة بشحنة من الغباء والمغلفة ببقايا من كرامتها الواهنة، والتي لا ترقى قط لحيز التنفيذ.. ولماذا؟!.. ببساطة لأنها كانت مستمتعة بذلك الشعور الخفي، محتمية خلف طبقة سميكة من التبلد.. تراقب نفسها من بعيد وكأنها ليست هي.. إنها ليست هي.. ليست تلك المرأة التي تجلس على أريكة مخملية جوار أدهم.. داءها ودواءها.. كل ذلك لا يخصها.. الأهم أنها لا تشعر بشيء!!

 

لا حقد، لا غضب، لا قهر..

لا قهر..

فقط هدوء يروق لها.. وكفى!!

 

-        ابتسمي.. الجميع يصور!!

 

كانت ثقيلة جدًا للنظر له أو الرد عليه رغم ذلك ابتسمت.. فعلتها.. كانت شبه منتشيه والجرعة المضاعفة من المهدئ منحتها السكينة والتماسك بتلك اللحظة.. جعلتها تتنفس بصدر رحب وهو يحاوط إصبعها من جديد بطوق العبودية الصغير.. كل شعورٍ بالكراهية تضاءل للحد الذي جعلها لم تنفر حينما باغتها بقبلة دافئة بين عينيها تقبيل إصبعها متخطيًا تلك الندبة التي لازالت تحتفظ بها.. ذكرى من ذلك اليوم اللعين الذي كاد يقتلع إصبعها في سبيل استرداد خاتمُه!!

 

خاتمُه؟!

 

نعم بتعمد أو غير تعمد أعاد لها ذات الخاتم المقيت متمتمًا بعبارة جعلتها تبتسم باتساع هذه المرة ولكن ابتسامتها كانت ساخرة:

لم يفارقني أبدًا وكأنه كان يعرف أنه سيعود لكِ حتمًا“

 

❈-❈-❈


 

في وقتٍ لاحق..

 

ثمة مداعبة ناعمة لخصلات شعرها دغدغت حواسها وأغرتها بالانغماس في ذلك الشعور.. تلك الأصابع الساحرة لازلت تستحثها على النوم، تسيطر عليها كتنويم مغناطيسي.. ظنته حُلم جميل، شعور غامر قلما عبرها، لذلك تشبثت به.. أحبت هذا، لم ترد أن يتوقف أو ينتهي.. تمطت كقطة خاملة تتمرغ في أحضان صاحبها، ولم تكن تعلم أنها بتلك اللحظة تفعل هذا حرفيًا!!

 

ذلك قبل أن تميّز رائحته..

 

رائحة مالكها!!

 

تخللت تلك الرائحة حواسها لتقاوم ثقل عينيها وبصعوبة شديدة افترق جفنيها لتقابلها الاضاءة الضعيفة في الغرفة، كانت الرؤية ضبابية والنعاس ثقيل وكأن جفينها ملتحمان، لا تفقه ما بالها، إدراكها شبه منعدم لا تستحضر شيء من ليلة الأمس، ولا تعرف حتى كيف انتهى بها الحال هنا، بل كانت بتلك اللحظة لا تعرف أي شيء عن حياتها.. شبه مخدرة، جميع أعضائها مكبلة، كم كان متخم هذا الشعور، متخم ولكنه جميل.. جميل أن تنسى كل شيء ولا يتبقى بذهنها إلا الراحة.. ومن جديد نست، نست حتى لما فتحت عينها من الأساس، لتستسلم لمعزوفة تلك الأصابع الساحرة مجددًا!!

 

 

راقب أدهم انغلاق عينيها باستمتاع شديد، منذ زمن لم يشعر بلمسته المهيمنة عليها، حتى مع علمه أن استسلامها ذلك يرجع لتأثير المهدئ الذي تعاطته بجرعة مضاعفة بالأمس.. لذلك رغم أن الساعة الآن تقارب على الظهيرة إلا أنه يتوقع أن يطول معها الأمر ربما لليوم التالي أيضًا..

 

وعلى غرار الامس، تذكر ما حدث بعدما عقد عليها وأعادها له، لم يخفى عليه انها لم تكن على طبيعتها، ذلك المهدئ اللعين جعلها شبه مخدره إلى درجة أنها بدأت تفقد السيطرة وعندها فقط استنجدت به.. نعم فعلتها، وجدها تقبض على ذراعه بقوة وتميل على كتفه لتهمس بصعوبة ان رأسها ثقيل وليست بخير وراحت تتغافى رغما عنها.. حينها، رغم معرفته بأنها حركة عفوية صدرت منها في لحظة ضعف إلا أنها اوقعت قلبه بألف ألف قاعٍ في حبها.. رغما عنه، راح عقله يؤول له ذلك ويُمني نفسه بأنها لم تفعل هذا لشيء إلا لكونها تحبه فقط!!

 

لقد قالتها أخيرًا، وهذه حقيقه

 

ومنذ تلك اللحظة وهو لا يكاد يصدق أنها قد اعترفت بها.. فريدة لازالت تحبه، وهذا ما لم يتمناه بأفضل أحلامه!!

إلا أنه حدث

 

ومنذ حدوثه وهو يتلهف شوقًا للاختلاء بها مجددًا كي يتأكد أنها لم تكن تهذي أو ما تفوهت به كان تحت تأثير العقار.. يتأكد أنها حقًا تحبه وقالت ذلك عن وعي.. أن ما حدث معه بالأمس كان حقيقة وها هي لازالت تحبه رغم ما حدث

فريدة ستبقى معه مهما حدث

فريدة عادت ملكه من جديد بشكل كامل

وهذه المرة أبدًا أبدًا لن يضيعها مهما حدث!!

 

رفع جذعه بخفة متسللًا من خلفها رغمًا عنه عليه أن يتفقد بعض الأمور العالقة لحين استيقاظها.. بدأ بمراقبة ردة الفعل على خبر زواجه.. الحقيقة أن الأموال التي ضخها في هذا أتت بثمارها وذباب الإعلام قاموا بالطنين على أكمل وجه حتى صار الخبر هو الأكثر تداولًا عالميًا بما يكفي ليصل لكل بِقاع الأرض وتحديدًا بقعة بعينها يمكث بها الكابو وباقي أعضاء المنظمة!!

 

راقب تفاعل وسائل التواصل المتعمد والمدفوع منه كذلك الصور المتداولة لهما والتي حرص على أن تكون حميمية بدرجة كبيرة كي تخرص كل افواه النعاج التي تشكك في علاقتهما والسبب وراء رجوعهما خاصة بعد ما تناقلت الأخبار ما حدث بينهما مؤخرًا .. وربما ما ساعده على نقل هذه الصورة هو الحالة التي كانت عليها فريدة بالأمس وأنها لم تعارضه في شيء أو تمانع لمسته على خلاف العادة.. ومرة أخرى يرجع الفضل في هذا إلى عقار الفاليوم!!

 

رغم ذلك، شيئًا بداخله مقت رؤيتها هكذا، مغيبة، ومستسلمة، لا تبدي أي رد وكأنها دمية اذا امرها تبتسم تبتسم واذا وضعها هنا لا تحرك ساكنا دون إذنه.. رباه، شتان بين صورتها تلك وفريدة التي عرفها.. وشتان بين ردة فعله في كل حين من المثير للإعجاب انه في كلا الحالات يريد تغيريها!!

 

بات لا يعرف أيهما الغريب

هو أم هي؟!

 

❈-❈-❈


 

فيما بعد.. حاجة ملحة لدخول الحمام أرغمتها على التململ بانزعاج، لم تشأ أن تفارق هذا الدفيء، ولكنها فتحت عينها بالأخير تتمطى بكسل رهيب.. شعور جيد جدًا بالاكتفاء ملئها وكأنها نامت مئة عام.. ابتسمت بانتشاء وعينها الناعسة بالكاد ترى ما حولها..

 

”لحظة أين أنا؟!“

 

سؤال طرق عقلها لتسحب جسدها بثقل شديد مدققة النظر في المكان حولها، لتتذكر ما حدث بالأمس تباعًا وعلى ذكره رفعت الخاتم لمرمى بصرها محدقة فيه بنظره زائغة..

 كل شيء كان حقيقي..

 

”أجل“

 

همهمت دون صوت، لتستشعر فراغ عقلها من أية أفكار سلبية، الحقيقة عقلها فارغ من أية افكار عامة وذلك أهم ما في الأمر.. المهدئ، كان رائع.. أروع شعور بالراحة اختبرته، تمنت هذا الهدوء ما تبقى من حياتها.. أجل، ستدخل المرحاض، وتعود للفراش سريعًا لتلحق وصلة نومها الهنيء.. أخذت نفسًا عميق وهي ترفع الغطاء عنها لتغامرها الرائحة ذاتها.. رائحة أدهم.. دارت عينها على الفراش لتلتقط أثره جوارها..

 

جوارها؟!

 

هبت واقفة بعدم اتزان وهي تسترجع بعض اللقطات المشوشة أمس عن صعودها معه لأعلى ودخولها المتعثر للجناح، كانت في حالة مخدرة وغير متزنة بسبب تأثير الدواء حتى أنها لم تخلع ثوبها ثم سقطت على الفراش نائمة.. دلكت فروة شعرها لتزيحه عن مجال الرؤية بينما تسير بتعثر حتى وصلت الحمام واوصدت خلفها لتحاول الافاقة.

 

وعندما انتهت لاحقًا، خرجت لتبحث عنه في أرجاء الجناح حتى وجدته بغرفة الاستقبال جالسًا يحدق بشاشة الحاسوب المفتوحة أمامه بتركيز شديد، وعلى ما يبدو أنه كان يعمل .. إذا ماذا تفعل هي؟!.. انسحبت بهدوء وغيرت وجهتها ففي كلتا الأحوال لم ينتبه لها عازمة الهبوط للطابق السفلي علها تجد ما يلهيها.. شعرت بجوع وسأم شديد،  نعم ستطمئن على بلوتو وربما تأكل فهي تشعر ببوادر هبوط في ضغط الدم من قلة الأكل

 

لكن ما إن تحركت مبتعدة حتى سمعت صوته الأجش:

-        صباح الخير

 

تأملته لدقيقة فقد كان يفحص جسدها بينما يستريح بجسده للخلف مبتعدًا عن الشاشة، شعرت بتلبك يغزوها حينما أكمل:

-        إلى أين ذاهبة؟ كنت انتظرك، تعالي هنا لنتحدث قليلًا..

 

مررت عينها عليه وعلى المقعد الذي يشير له كي تجلس ثم سارت بتوجس واستجابت بصمت جالسة جواره..

-        كيف تشعرين الآن؟

-        جيد

اجابت باقتضاب مبتلعه ريقها الجاف في ترقب لحديثه.. حتى تابع بينما ينهض ويختفي عن أنظارها بغرفة داخلية ثم عاد حاملًا صينية بها على ما يبدو فطور ووضعه أمامها وهي في أوج استغرابها قائلًا:

-        تناولي افطارك أولًا..

 

لم تجادله فقد كانت جائعة بالفعل لتشرع في تناول الطعام بشهية كبيرة على خلاف عادتها.. نظرت له بجانب عينها وهي تقضم من الشطيرة ثم ابتلعت ما في جوفها قائلة بخفوت:

-        تحدث.. أسمعك

-        غدًا صباحًا.. علينا أن نتوجه لمبنى النيابة العامة لغلق كافة التحقيقات والقضايا العالقة والتي ما إن تنتهي سنسافر على الفور..

 

توقف الطعام في حلقها وتجمدت ناظره له، فلم تتوقع أن يتم الأمر بهذه السرعة، لكن ماذا يهمها في ذلك لقد مضت في الأمر وانتهى.. لذلك أردفت بنبرة جاهدت كي تبدو عادية:

-        وما المطلوب مني؟

-        ألن تسألي عن شيء؟!

-        لو كان هناك شيء من المفترض أن أعرفه أخبرني إياه.

-        هناك شيء واحد أريد أن معرفته أنا أولًا!!

 

تركت الطعام لتوليه كامل انتباهها ليتبع:

-        ما قلتيه بالأمس.. عن أنك تريدين البقاء معي برغم كل شيء.. هل هذا صحيح.. أريد التأكد أنه لم يصدر عنك في عدم وعي.. صدقيني مازالت الفرصة امامك في حين غيرتي رأيكِ، من جديد أسألك، هل تريدين البقاء معي؟!.. ألا زلتِ تحبيني؟؟

-        لقد سبق وأجبت عن ذلك أمس..

-        أرغب بسماعها وأنتِ بكامل وعيك!!


 

طالت نظرتها الشاردة عنه وطال صمتها.. ثمة فراغ بعينها لم يستشف منه أي شيء حتى يأس من اجابتها وفهم رفضها عدم رغبتها لينهض تاركًا إياها قبل أن يصدر عنه ردة فعل تفسد الأمر أكثر مما هو عليه.. إلا أنها فاجأته وأومأت في بطء متمتمه بالإيجاب، ومتحاشية أن تتلاقى الأعين فتفضح ما في قلبها، وفي المقابل كان أدهم يكافح ليحتوي شعورة تلك اللحظة ويسيطر على نبضات قلبه المتسارعة ليردف على الفور بنبرة لا تخلو من الأمر:

-        إذًا ستبدئين علاجك بمجرد أن نصل وهذا أمر لن أقبل بالجدال فيه، لم أحبذ مطلقًا الصورة التي رأيتك عليها بالأمس!!.. أما الآن، فأكملي فطورك واجهزي ثم ألحقيني بالأسفل.

 

أملى عليها كل هذا وهو ينتظر منها أن ترفع وجهها وتبدي أية فعل لكنها اكتفت بإكمال طعامها كما أمرها ليستدير ذاهبًا، حتى تذكر شيء فعاد لها قائلًا:

-        آه.. شيئًا أخير.. ريم.. ستسافر معنا!!

 

 يتبع 



روايتنا الحصرية كاملة