قصة قصيرة جديدة بداية النهاية لدعاء رضا - الثلاثاء 16/7/2024
قراءة قصة قصيرة بداية النهاية
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
قصة قصيرة جديدة
من روايات وقصص
الكاتبة دعاء رضا
تم النشر يوم الثلاثاء
16/7/2024
المقدمة....
أعتذر بشدة، وأدرك تمامًا أن الاعتذار لن يصلح ما أفسدته بيدي.. ورغم أن الفشل
ليس دائمًا نهاية، إلا أن الفشل الذي وصلت إليه الآن كان بداية النهاية.
أنا الدكتور عمار السويفي، أكتب هذه الكلمات وأنا على يقين بأنها قد تظل مجهولة لزمن طويل.. لم أكن أتوقع أن طموحي اللامتناهي واندفاعي العميق في دراسة الفيزياء والفلك، واستكشافي لأسرار الكون وتلاعباتي بسرعة الضوء وأبعاد الجزيئات، سيؤديان إلى تلك
الكوارث
الفادحة.
سأدوّن ما حدث، لعلّ يأتي بعد سنوات، من يملك نفس الفضول الذي كان يدفعني، فيقرأ
هذه الكلمات.. ليكون ما آل إليه مصيري عبرةً لمن يتجرأ بخياله إلى عوالم مجهولة،
ليطارد
السراب.
إنها ليست مجرد حكاية عن علم وأبحاث، بل خط رفيع بين العبقرية والجنون.. وبينما أكتب
هذه الكلمات، أحس بثقل الذنب فوق كاهلي، وأتمنى أن يكون هذا التحذير درسًا لكل من
يجرؤ على تجاوز الحدود التي وضعتها الطبيعة.
أنا الدكتور عمار السويفي، الرجل الذي تجرأ على تحدي الكون، وفتح بوابة
الفوضى، لكنه دفع الثمن غاليًا.. إن كانت لديك الجرأة لتعرف ما حدث بعد ذلك، فما
عليك سوى متابعة القراءة.
❈-❈-❈
الفصل الأول:
في ليلة غامضة، بينما كنت منهمكاً في مختبري المتواضع، محاطًا بأجهزة تفوق حدود
المعلوم، حدث ما لم يكن في الحسبان.. شعرت بأن الكون نفسه يهمس في أذني، يكشف لي أسرارًا
لم ترها عين بشرية من قبل.. تلك اللحظة التي يتلاشى فيها الزمن وتندمج
الأبعاد.. كان الكون يفتح أبوابه أمامي، كنت على وشك أن أخترق حاجز الزمن وأعبر
إلى بُعد جديد، ولكن...
وسط ظلام دامس، وجدت نفسي في غرفة غريبة، أضواؤها خافتة، والجدران تبدو وكأنها
تنبض بحياة غريبة.. لم أكن أذكر كيف وصلت إلى هنا، لكن شعوراً بالرهبة تملكني.. فجأة،
اخترق صمت المكان صوت غامض لمخلوق لم أرَ مثله من قبل.. كان يتحدث بلغة لم أفهمها..
كان هذا مخلوق يقترب مني ببطء وحذر، حتى استطعت أن أميز ملامحه المرعبة.. كان
أشبه بهيكل عظمي عارٍ، بشرته مشدودة على عظامه بشكل مخيف، ووجهه مثلثي الشكل، ورأسه
أصلع منتفخ ومسحوب للأعلى، بلون رمادي شاحب كالأموات.. كانت عينيه البيضاويتين السوداوين،
بلا رموش أو حاجبين، وفيهما نقطة مضيئة مخيفة، وكأنها تفتقر إلى الحياة أو الروح.
عندما رأيت وجهه القبيح عن قرب، شعرت بقشعريرة باردة تجتاح جسدي وتحبس أنفاسي..
تحدث بصوت غليظ وبلغة لم أفهمها، لكن الاندهاش كان واضحًا على ملامحه المرعبة.. كان
صوته كالرعد هز كياني، وزاد من إحساسي بالرهبة.
تجمدت من الرعب، وبدأت أنفاسي تتسارع بشكل جنوني.. شعرت بأن قلبي قد يتوقف في
أي لحظة..
بصوت مرتجف، ومن داخل الأسطوانة الزجاجية
التي كنت نائمًا ومسلسلًا بداخلها، كأنني فريسة ضخمة تم العثور عليها، نطقت بصعوبة:
"أنا... أنا لا أفهم ماذا تقول... إن كنت تستطيع فهمي، أرجوك، أخرجني من هنا".
كان ينظر لي باستفهام واندهاش ممزوج بعدم فهم، إلى أن قام بفتح الأسطوانة الزجاجية
واقترب مني أكثر، حتى أحسست بأنفاسه الباردة كالثلج تلامس وجهي.. كان يزمجر بأصوات
غريبة ومخيفة، ويتطلع إلي كزومبي عثر على وجبته التي لطالما اشتهى التهامها.
نظر مطولًا داخل عيني، ثم فجأة اشتعلت عيناه الواسعتان، المخيفتان، بضوء
مخيف، وانبعث منها شعاع قوي اخترق مقلتي.. مما جعلني ذلك أشعر بألم شديد ينفجر في رأسي
كالصاعقة.. صرخت بشدة وأنا أتأوه من شدة الألم الذي كان يغمرني، وكأن كل خلية في رأسي
تتمزق وتتهشم.
وفي لحظة من الصمت المرعب، بدأ الألم يتلاشى تدريجيًا، إلى أن اختفى.
كنت حينها أتنفس بصعوبة بالغة، أحاول جاهدًا العثور على بعض الهواء بعد أن كان
قد أغلق عليَّ تلك الأسطوانة الزجاجية التي لا يوجد بها أي مصدر للتنفس سوى بضع فتحات
صغيرة فوق رأسي، بالكاد يدخل منها الهواء.. لكن ما شتت تركيزي كان ذلك الصوت الغليظ،
الذي تردد في مسامعي.
"أنت من أي فصيلة؟! هل تستطيع فهم ما أقوله الآن؟!" صدمني الصوت،
كان المخلوق يتحدث بلغتي الأم، كما لو أنه أضاء زاوية مظلمة من ذاكرتي.
حاولت الرد وأنا أتأوه من شدة الضيق والخوف، لكن كلماتي عجزت عن الخروج بوضوح،
وكأن لساني قد علق في حلقي.
هززت رأسي بذهول، قبل أن ينظر إلي بحدة ويكرر سؤاله مرة أخرى بنبرة صوت أشد
غلاظة، جعلت قلبي يرتجف، ولساني ينطق مسرعًا بكلمات مهزوزة.
"نعم.. أفهمك! هل تساعدني بفك تلك القيود وإخراجي من هنا؟" وأكملت
بتوسل، "رجاءً.. فأنا لا أستطيع التنفس هنا، ولا أنوي إيذاء أحد، فقط أريد أن
أفهم ما يحدث معي."
المخلوق بدأ برفع الغطاء الزجاجي للأسطوانة بحركة بطيئة ومرعبة، وفجأة بدأ في
فك السلاسل التي كانت متماسكة حول يدي وقدمي، تشبه الحديد في قوتها ولكنها كانت لينة
كالحرير.. كانت كل لحظة تمر تزيد من الضيق والرعب في داخلي، وأنا لم أكن أدري ما الذي
يخطط لفعله هذا الكائن الغريب.. كلماتي كانت تتلعثم من شدة الخوف والتوتر، وأنا أحاول
جاهداً التعبير عن طلبي.
بينما كنت أتنهد، وأحاول بصعوبة النطق، لوح المخلوق بيده، وظهرت فجأة مجموعة
من المخلوقات الأخرى، شبيهة بشكل عام بالمخلوق الأول، ولكن كان لكل منهم سمات مروعة
تجعلهم يبدون أكثر رعباً وغرابة..
حملوني إلى غرفة زجاجية واسعة، كانت هذه المجموعة تتحرك بسرعة متناهية حولي،
ورغم صغر حجمهم بالمقارنة معي، إلا أنهم أظهروا قوة وثباتاً مذهلاً.
وبينما كانوا يفكون ما تبقى من قيودي
بسرعة، شعرت بالتوتر يتصاعد، وأنا محاط بالغموض والشك حول ما سيحدث لي بعد هذا الإنقاذ
الغريب والمخيف.. غلقوا الباب وتركوني وحيداً في تلك الغرفة الزجاجية، محاصراً بين
الجدران الشفافة، وأنا أفكر فيما قد يكون قدري المقبل في هذا العالم المجهول والمثير
للرعب.
في تلك اللحظة، أدركت سبب تقييدي بالسلاسل.. كان المشهد غريبًا وغير معقول..
كيف يمكن أن يخافوا مني إلى هذا الحد؟ صحيح أنني طويل القامة، بجسد رياضي وشعر ناعم
وكثيف، لكن ملامحي كانت هادئة، طبيعية، مثل أي بشر، بل وجذابة أحيانًا.. فما الذي جعلهم
يرون فيَّ وحشًا عملاقًا؟
كانت عيونهم السوداء تلاحقني بنظراتها المخيفة، وكأنها تبحث عن أدنى حركة خطيرة..
بينما عيناي الزرقاوتان اللامعتان برموشها الطويلة، وحاجباي المرسومان بدقة، يعكسان
براءة لا تتناسب مع خوفهم.. كيف يمكن لهذه المظاهر الخارجية أن تسيطر على عقولهم وتدفعهم
لمعاملتي بهذا الظلم؟
لسنا وحدنا كبشر من نخشى ما نجهله، حتى لو كان أفضل منا.. فبالنسبة لجميع المخلوقات،
أي اختلاف يبدو تهديدًا.
❈-❈-❈
الفصل الثاني:
نظرت بقلق حولي، ووجدت نفسي أمام سرير
أبيض دائري معلق في الهواء، أمامه طاولة مستطيلة تحمل تشكيلة متنوعة من الأطعمة، التي
اعتبرتها فواكه وخضروات بحسب تصوري.. يبرز في وسط الطاولة حساء أخضر غامض، محاطًا بمجموعة
من الزجاجات الشفافة المملوءة بسوائل غير مألوفة، تتنوع ألوانها ومذاقها بشكل ملحوظ.
بعدما انتهيت من تناول كل ما كان أمامي من طعام وشراب، حيث كنت أشعر بالجوع
والعطش كما لو أنني لم أتناول الطعام منذ سنوات.. وقبل أن أستوعب هذه التجربة الغريبة،
سمعت صوتًا غليظًا ينطلق من الحائط الزجاجي المواجه لما يبدو كمعمل أو مختبر، ثم
ظهر أمامي نفس المخلوق المخيف..
"إذا انتهيت... أريد التحدث معك"، كانت هذه الكلمات تتردد في أذني،
فاستجابتي كانت تحت تأثير الرعب والحذر.. رغم الفاصل الزجاجي الذي فصلني عن هذا المخلوق
الغريب، كانت رؤيته تثير الرعب في داخلي..
حاولت أن أكبح خوفي وضعفي، وواجهته بشجاعة متمنيا أن أكتشف الحقيقة وراء هذا
اللغز المريب.. " أريد أن أفهم من أنتم ولماذا تحتجزونني هنا.. أعتقد أنني جئت
إليكم تقريبًا بالخطأ..."
قاطعني بصوته المرتفع،
"من أين جئت؟!"،
جاوبته وأنا أحاول جذب الكرسي الأبيض الثقيل الذي كان على بُعد خطوات مني لأجلس
أمامه.. كانت قدماي لا تقوى على حملي، وكنت على وشك فقدان السيطرة على أعصابي وعقلي..،
"جئت من الأرض.. لكن بطريقة ما، أنتم من اختطفتموني، أليس كذلك؟
كان ينصت إلي بذهول، وكأنني مصاب بالجنون
والعته.. ومع ذلك، تابعت الحديث له بكلمات مبعثرة وجمل غير مرتبة محاولا استيعاب
ما يحدث:
"ولكن.. من الواضح لي أنني انتقلت
إلى مجرة ما بالخطأ خلال رحلتي إلى الماضي.. أو ربما صعدت إلى الفضاء! وهل يعقل أن
أكون محتجزًا من قبل الجان؟! لا، وما علاقة الجان بالسفر عبر الزمن!"، كنت أحدث
نفسي كالمجنون، ولكن هذا المخلوق أعاد الهدوء إلى عقلي بما لم أتوقعه، حين قاطعني بنبرة
حادة ومرعبة،
"أنت بالفعل على كوكب الأرض، ولم تصل لأي مجرة أخرى.. ونحن الآن في الوقت
الحاضر، وليس في أي بعد زمني آخر!"
شعرت برعشة تسري في جسدي بينما واصل، "عثرنا عليك قبل خمس سنوات، محاصرًا
في البعد الزمني للعالم، مُصغرًا بحجم الذرات."
لم أتمكن من فهم كلماته بشكل كامل، فالرعب والغموض والاستغراب يسيطران علي،
لكنني أدركت أنني عالق في كون غريب، بلا مفر.
❈-❈-❈
في أعماق حديثي مع ذلك الكائن الغامض، بدأت الحقائق الغامضة تكشف نفسها ببطء..
"الزمكان"، هذا الفضاء المجهول خارج نطاق الكون المألوف، ذلك البُعد الرابع
المجهول بعيداً عن نطاق فهم البشر، حيث يتوقف فيه الزمن والوقت عن العمل..
كان ذلك الكائن يفسح المجال لدهشتي وإثارتي..
بينما لم يكن ادعاؤه بأنني كنت مصغراً إلى حجم الذرة يُثير دهشتي، إذ لقد انطلقت
بنفسي نحو هذه التجربة.. كان ضروريًا لي أن أبلغ سرعة الضوء في الفراغ لأتمكن من العودة
إلى الماضي، وهي أعلى سرعة ممكنة يمكن الوصول إليها في الكون، ولتحقيق ذلك قمت بابتكار
جهاز يصغر حجمي ويدفعني داخل "عالم الكم"، مما يسمح لي بالانتقال إلى أي
مكان وزمان.. ويفتح الأبواب للمغامرات المثيرة والأفكار الغامضة..
ولكن، وجدت نفسي بعيدًا تمامًا عما كنت أراه لذلك.. لم تسر التجربة كما خططت
لها، حيث تجاوزت حدودي وتوقعاتي المسبقة، مما أوقعني في مواجهة واقع غامض ومجهول..
وجعلني أنغمس في مغامرات ومفاهيم معقدة لم أكن مستعدا لها..
صارت الأشياء تدور من حولي.. استندت برأسي على الحائط الزجاجي أمامي، كنت في
حالة من الذهول جعلت الكلمات تخرج مبعثرة دون إدراك لما أنا عليه الآن..
"كيف ذلك؟! أنحن الآن على الأرض؟! ولكن كيف؟! أين البشر؟! ومن أنتم؟! وما
هذا المكان؟! ولماذا تحتجزونني؟!" كانت تدور برأسي العديد من الأسئلة.. هل الأرض
الآن قد تعرضت لغزو خارق للطبيعة؟ وإذا افترضنا أن هذه الكائنات من الفضاء، أين باقي
البشر؟! هل تم نفيهم إلى كوكب آخر، أم تم سجنهم جميعاً واستعبادهم! متى حدث ذلك؟! الأرض
واسعة والبشر كثيرون، كيف سمحوا بذلك؟!
قبل أن أفيق من شرودي، سمعت ما جعلني أصعق وعقلي يتوقف عن التفكير عندما قال
بجدية:
"أي بشر؟... لقد انقرض جنس البشر
منذ أكثر من مائتي عام، ونحن، بفضل العلم والتكنولوجيا، هبطنا إلى الأرض من كوكب تيباغا
منذ ما يقارب العشر سنوات."
أكمل بصوت مشوب بالدهشة: "إذاً، أنت حقاً من جنس البشر! كنت واثقةً من
ذلك منذ أن أخرجناك من ذلك البعد الزمني (الزمكان)." كان يتحدث إلى نفسه بذهول
وهو يهم بالخروج.
وقبل أن يختفي، رمقني بنظرة غامضة وأضاف: "لقد اكتشفناك في حالة سبات عميق،
لم نكن نعلم أن هناك بشر ما زالوا على قيد الحياة في ذلك البعد."
اختفى المخلوق تاركاً إياي في حالة من الهذيان والصدمة.. عقلي لم يستوعب ما
سمعته للتو.. هل يمكن أن يكون ما قاله صحيحاً؟ هل أنا حقاً الناجي الأخير من البشر؟
التفتُّ حولي، فوجدت المكان غارقاً في أجواء من الغموض والغرابة، وكأنني في حلم لا
أستطيع الاستيقاظ منه...
تحركت في الغرفة بخطوات ثابتة، وترددت تلك الكلمات المرعبة في ذهني حتى انتهيت
نائماً فوق ذلك السرير الدائري، مبحلقاً بالسقف.. انتفضت فجأة عندما تذكرت ذلك الفيروس
اللعين، الذي كان بالتأكيد سبباً لهذا الجنون الحتمي الذي يحدث بالفعل، وأنهى معه كل
شيء.
كيف سأبدأ بداية جديدة بعد تلك النهاية المأساوية؟ وكيف يمكن لعقلي أن يستوعب
أنني قد نمت واستيقظت لأجد نفسي في مستقبل يبعد عن حاضري مئات السنين؟ كنت أصرخ وأتخبط
بجميع جدران الغرفة، أحاول أن أفلت من ذلك الكابوس المرعب، لكن دون جدوى... وفي لحظة
من لحظات الجنون، صرخت بأعلى صوتي، آملًا في أن يسمعني أحد، أن يجدني أحد، لكن الظلام
ابتلع صرختي.
❈-❈-❈
الفصل الثالث:
بعد مرور الأيام والأسابيع والشهور، في حين أنني محاصر داخل هذه الغرفة الزجاجية،
كانت الأسئلة تدور في رأسي بلا توقف.. ما هي خططهم لمستقبلي؟ وكيف سأتمكن من الهروب
من هذا السجن الفضائي؟ أتساءل أحيانًا إذا كانوا يخططون لوضعني في متحف عريق، مثل تلك
التي كنا نضع فيها اكتشافاتنا الفريدة من مومياوات وآثار، أو هياكل لحيوانات منقرضة..
هل سأصبح مجرد عرض آخر في مجموعتهم؟
الغموض يكتنف كل شيء، والإثارة ترتفع
مع كل لحظة تمضي، وأنا أحاول جاهداً فهم ما يحدث حولي، مستعيناً بأي معلومة يمكنني
الحصول عليها من "صومي".. المخلوقة التي لا أتحدث مع أحد سواها.
"ما السبب الذي جعلكم تتركون كوكبكم وتستقرون على الأرض؟"، سألتها
بفضول وأنا أتحدث إليها كالعادة.. حكت لي قصتها التي تبكي القلوب، عن دمار كوكبها تيباغا..
"علمنا أن شمسنا تقترب من كوكبنا"، قالت صومي بصوت متقطع، وعينيها
تلمعان بألم الذكريات.. "كنا نراقبها يومًا بعد يوم، وهي تزداد اقترابًا، حتى
كدنا نشعر بحرارتها تلفح وجوهنا.. توقع العلماء أننا لن نستطيع النجاة، وأن كوكبنا
سيحترق بالكامل، مما سيجعل الحياة مستحيلة عليه."
انخفض صوتها، وكأنها تعاني.. بينما كنت استمع بانتباه شديد،
"قررنا البحث عن كوكب بديل يشبه تيباغا على الأقل نسبياً، للانتقال إليه
وإنقاذ جنسنا من الهلاك.. بدأنا برحلات استكشافية في الكون، لكن الكواكب الملائمة كانت
قليلة جدًا.. كنا نعيش في سباق مع الزمن، وكل يوم يمر كان يقربنا أكثر من النهاية المحتومة."
ابتسمت قليلاً، وعيونها لمعت بوميض أمل.. "لكن في أعماق اليأس، ظهرت الثقوب
السوداء.. نعم، تلك الظواهر الغامضة التي خلقتها محاولات البشر لنقل أنفسهم عبر المجرات..
كانت تلك الثقوب بوابتنا إلى النجاة.. بفضلها، استطعنا السفر إلى الأماكن المناسبة
في الكون بسرعة غير مسبوقة."
أخذت صومي نفسًا عميقًا، ثم تابعت. "وهكذا وصلنا إلى الأرض.. وجدناها مثالية
بفضل ظروفها الجوية والبيئية المناسبة.. لقد كانت هذه الأرض بمثابة طوق نجاة لنا، وها
نحن هنا الآن."
في تلك اللحظات، كانت الأفكار تدور في عقلي بسرعة، محاولاً فهم ضخامة الأزمة
التي عاشها هؤلاء المخلوقات، وكيف أنقذوا نفسهم وجنسهم من خلال الاستعداد للهجرة إلى
كوكب جديد، وأدركت مدى قوة الأمل والإرادة في البحث عن حياة جديدة، حتى في أحلك الظروف.
لقد بدأت التعود على صومي، بدأت أشعر براحة أكبر مع هذا المخلوق الوحيد الذي
اتحدث معه..
في لقاءنا الثاني، أخبرتها بجرأه، بحاجتي
للذهاب إلى المرحاض، وشرحت لها أهمية عملية الإخراج بالنسبة للبشر.. صومي استمعت بانتباه،
وعندما بدأت بوصف المرحاض وكيف يبدو، قامت برسمه فورًا بدقة وإتقان لا يُصدق، مما أدهشني
وأبهرني ذكائها الفائق وسرعة تفكيرها.
لم يمر وقت طويل حتى عادت مع ثلاثة مخلوقات أخرى، يحملون صندوقًا زجاجيًا غير
شفاف.. بفتح الصندوق، وجدت داخله مرحاضًا مصغرًا، مصممًا بالتفاصيل الدقيقة التي وصفتها..
كانت تلك اللحظة مدهشة.. كيف تمكن هؤلاء المخلوقات من تصميم شيء بهذه الدقة والتفاصيل
دون أن يروه من قبل؟ هل هناك علم أو تكنولوجيا متقدمة يتمتعن بها؟
وسط أجواء مثيرة من الغموض والاستغراب، تبادلت النظرات بيني وبين الثلاثة..
"ولكن كيف تقومون أنتم بعملية الإخراج طالما لا تملكون مراحيض؟" سألتهم بصوت
مليء بالفضول والدهشة.
توقفوا لحظة، ثم أجاب أحدهم بلغة غريبة، تاركًا لي لغزًا يجب حله.. حاولت فهم
كلماته، لكن باءت محاولاتي بالفشل، مما جعلني أتساءل عما إذا كان هناك جواب سأستوعبه
أو أنني سأظل محاصرًا بالغموض.
وبعد تلك اللحظة، أفادتني صومي بشرح غريب أوضح لي أنهم يتخلصون من نفاياتهم
عبر التعرق، دون الحاجة لاستخدام المراحيض، مما شرح لي الرائحة المقززة التي كنت أشمها
كلما اقترب لي أي منهما.
ولكن مفاجأتي كانت عندما سألت صومي عن سبب عدم فهمي للغة زملائها.. لتخبرني
بالحقيقة المروعة:
"لقد استطعتُ فك شفرات عقلك وترجمتها قبل أن تصل لعقلي عن طريق فيروس أرسلته
إليك لكي نستطيع التواصل"، قالتها صومي بصوتها المزعج.. وقبل أن أنطق بكلمة، تابعت
حديثها وكأنها قرأت أفكاري: "لكي تتواصل مع الجميع هنا، يجب أن يرسل كل تيباغي
نفس الفيروس إلى عقلك.. ولكن عقلك الصغير لن يتحمل سوى فيروس واحد فقط؛ أكثر من ذلك،
سينهار ويدمر.. ولهذا لا تستطيع فهم لغتهم كما لا يستطيعون فهم لغتك."
تلك كانت الصدمة الثانية بعد صدمة انقراض البشرية ونهاية العالم.. هذا يعني
أنني مجبر على بدء حياة جديدة مع مخلوقات تفوقني ذكاءً وقوة.. لا أفهم لغتها ولا تفهمني..
سأقضي ما تبقى من عمري أتحدث لشخص واحد فقط وأتعامل من خلاله.. أي أنني سأظل دائماً
كحيوان سيرك لدى صومي، ولن يستطيع أحد التعامل معي غير مروضتي.
ما أبشع تلك الحياة.. ليتني انقرضت وانتهيت مع عالمي الذي كنت أعيش فيه بفخر
وقوة وعزة نفس، أفهم كل ما يدور حولي.. لقد كان لدي العلم والذكاء اللذان بفضلهما حصلت
على جائزة نوبل في الفيزياء.. كنت سأسيطر على العالم قبل أن ينهار وينقلب علي، ليتركني
وحيداً مع ندمي وفشلي.
❈-❈-❈
الفصل الرابع:
بعد مرور سنة...
بدأت الغرفة تضيق بي أكثر فأكثر، والهواء فيها أصبح ثقيلًا على جهازي التنفسي..
حتى ذلك الأكل اللزج الذي كنت قد بدأت التعود عليه واستساغة مذاقه الغريب، أصبح الآن
يسبب لي الغثيان.. تمنيت الموت يوميًا، فلم أعد أتحمل هذا الضغط والعذاب النفسي.. الأيام
أصبحت تكرارًا مملًا لبعضها البعض، حتى أنني لم أعد أميز الليل من النهار إلا بالصدفة..
لم أر الشمس منذ وقت طويل، لدرجة أنني تخيلت أنها قد انتهت مع عالمي.
في الغرفة الزجاجية، جلست في زاوية منها، اتحدث إلى نفسي بصوت متقطع ومليء بالألم..
الضوء الخافت يعكس وجهي الشاحب وعينيي المثقلتين بالتعب على الحائط الزجاجي
المقابل لي.
أمسكت رأسي بكلتا يداي، أتذكر بصوت مرتعش...
"لقد أخذوا خلاياي، دمي، بولي، نخاعي، شعري، أظافري، وحتى أسناني ولحمي..
وأخشى أن ينتهي بهم الأمر بأخذ عظامي أيضًا.."
ما كنت أحقن به قبل تلك العمليات المريبة كان يشل حركتي فقط، لكنه لم يمنع إحساسي
بالألم.. كنت أشعر بكل شيء، كل قطع، كل وخزة، كأنها نار تحرقني من الداخل.
صمت للحظة وكأن الدنيا توقفت، ثم رفعت رأسي ببطء، لأرى تلك الأجهزة الطبية الغامضة
أمامي.. لا يفصلني عنها سوى حائط زجاجي شفاف.. تسارعت أنفاسي، وأصبحت أكثر غضبًا..
كنت أشعر بتلك الأجهزة الدقيقة وهي تقطع في جسدي، دون أن يكترث أي من تلك المخلوقات
لصراخي أو توسلي! أغيب عن الوعي من شدة الألم، لكنهم يستمرون في تجاربهم عليّ، كأنني
حيوان عاجز، جريح، لا حول له ولا قوة!
نهضت بغضب، أضرب الجدران الزجاجية بقبضتي، وانا أصرخ بصوت مرتجف..
"هل يمكن لأي مخلوق أن يتحمل هذا؟ أن يُعامل كفأر تجارب، بلا اعتبار لإنسانيته؟
ألا ترون صراخي، توجعي؟ لماذا لا ترحمون؟"
"لماذا؟! لماذا تفعلون بي هذا؟! " قولتها بنبرة مليئة بالحزن
واليأس، وانا اتنفس بصعوبة واتراجع للخلف..
جلست ببطء على الأرض، ووضعت رأسي بين يديي من جديد، وأخذت دموعي تنهار بصمت.
.........
كانت الأيام تمر ببطء شديد، كل يوم يمر هو عذاب جديد... متى سينتهي هذا الكابوس؟
متى سأجد الراحة؟ أم أن مصيري قد تحدد بالفعل، وأنا محكوم بالبقاء هنا إلى الأبد، محاصرًا
في هذا الجحيم العلمي؟
في سجني الزجاجي المظلم، بينما أنا جالس على الأرض، أحدق في الفراغ.. دخلت
إلي صومي ببطء، تحمل نظرة قلق وتردد..
نظرت إليها بتبلد، كأنني اكتسبت تناحة ضد الألم والعذاب، وقلت لها بسخرية..
"بعد مرور ثلاث سنوات من المعاناة، عشت فيها ألمًا يوميًا، وذقت فيها مرارة
الإحباط واليأس حتى النخاع... لا أظن أن هناك صدمة أكبر قد تأتي معك!"..
لكن حين جاءت صومي بالصدمة الثالثة، شعرت أن الجنون وصل إلى أبعد حدوده.. ما طلبته هذه المرة كان الفاجعة حقًا.
❈-❈-❈
الفصل الخامس:
"أعلم أن هذا صعب، لكن مقابل حريتك، نطلب منك الزواج من أنثى من مخلوقات
تيباغا... وأن تأتي للعالم الجديد بذرية متطورة تحمل طفرة جينية فريدة."
نطقت بصدمة وذهول..
"ماذا؟! الزواج من أنثى من مخلوقات تيباغا؟ هذا... هذا جنون! لماذا؟"
تحدثت صومي بجدية وحزم..
لقد حاولنا طوال هذه السنوات الثلاثة تحقيق هذا الهدف عن طريق أخذ عينات منك
ودسها بأجنة تيباغية، لكن الأمر كان يفشل دائمًا.. لم يتبق لنا سوى تجربة التكاثر المباشر
لنجاح ذلك."
قاطعتها بصوت مليء باليأس والغضب..
"هل تعتقدون حقًا أنني سأقبل بهذا؟ أن أكون جزءًا من تجربتكم المجنونة؟
أن أخلق هجينًا بين الجنسين، مخلوقًا لا يعرف من يكون؟"
تابعت صومي محاولة اقناعي..
"نحن نتوقع أن يتمتع الهجين بذكاء وقوة المخلوق التيباغي، بالإضافة إلى
شكل وطبيعة الجنس البشري.. هذه الفرصة الأخيرة لنا، وربما لك أيضًا."
لم اتمالك أعصابي وصرخت فيها بغضب، وأنا أضرب احد الجدران الزجاجية بقوة..
"هذا ليس عدلًا! لقد سلبتم مني كل شيء، والآن تريدون أن تسلبوا مني إنسانيتي؟!
"
تراجعت إلى الخلف، وجلست على الأرض، وأنا أبكي بصمت..
"كيف لي أن أوافق على هذا؟ كيف لي أن أجلب إلى هذا العالم مخلوقًا قد يعاني
مثلما عانيت؟"
نظرت لي صومي بلامبالاة، وقالت بنبرة تهديد..
"أنا أعلم أنه طلب صعب، لكن هذا هو السبيل الوحيد لخروجك.. فكر في الأمر...
لقد عانيت كثيرًا، ربما هذه هي فرصتك الوحيدة للنجاة."
رفعت رأسي، ونظرت إليها بعيني المملوءتين بالدموع..
"أفكر في الأمر؟!، أنا لم أعد نفس الشخص الذي دخل هذه الغرفة قبل ثلاث
سنوات.. لقد غيرتم كل شيء فيَّ."
ثم وقفت أمامها وعيني تشتعل بالغضب..
"أريد أن أخرج من هنا! أريد أن أشعر بالهواء النقي، أريد أن أرى الشمس
مرة أخرى! هل هذا كثير؟ هل طلب الحرية كثير؟"
لكنها تجاهلتني تماما، وتركتني احترق بغضبي، بعد أن أعطتني مهله يومان أستعد فيهما للتنفيذ..
صرخت كالمجنون، ثم تحدثت بنبرة مليئة بالتحدي..
"لن أستسلم! سأجد طريقة للخروج، سأبحث عن نقطة ضعف، أي شيء.. هذا المكان
لن يكون قبري.. سأبقى أقاتل، حتى لو كانت آخر أنفاسي."
جلست ببطء، أنظر حولي بنظرة حادة، وقد عاد الهدوء تدريجيًا لصوتي..
"لن تكونوا قادرين على إطفاء نار الأمل بداخلي.. سأبقى هنا، وأنتظر الفرصة
المناسبة، وسأخرج من هذا الجحيم مهما كلف الأمر."
❈-❈-❈
بعد مرور يومين دون توقف عن التفكير حتى في أحلامي، وأنا أتجول في الغرفة بخطى
ثقيلة وبيأس، تغمرني أفكار مصيري المشؤوم.. أشتاق للهواء النقي وللتعامل كإنسان، ليس
ككائن تجريبي،
ولكن بعد تأمل عميق، أدركت أن هذا الزواج
لن يكون أسوأ مما أنا عليه بالفعل.. ربما أستطيع أن أثبت وجودي بين هؤلاء المخلوقات،
وأبدأ من جديد.. ربما أتعلم وأجتهد لأتفوق عليهم بالعلم والذكاء.. وربما أمتلك الإمكانيات
التي تسمح لي بالعودة إلى الماضي البعيد وإنقاذ عالمي من الدمار.
شعرت بشعاع من الأمل يتسلل إلى داخلي، وقطرات من التفاؤل تروي روحي المتعبة
وتطمئنها بأن الشمس ستشرق قريبًا، وستنير حياتي من جديد.
دخلت "صومي" إلى غرفتي للمرة الأولى، حيث كانت تحدثني دائمًا من خلف
الحائط الزجاجي.. بدا وجهها البارد مضيئًا بضوء خافت، وكأنها تحمل أسرارًا لا تُكشف
بسهولة. أخبرتها على الفور بقبولي للعرض، لترد بكلماتها الجامدة المعتادة: "كل
شيء جاهز، والعالم التيباغي خارجًا ينتظر بفارغ الصبر انضمام البشر إليهم".
قبل أن تفتح لي باب زنزانتي، توقفت
ونظرت إلي بعيونها السوداء التي أثارت قلقي،، العيون التي تبدو وكأنها تمتلك قوى خارقة،
وقالت بصوت ينطلق من عمق الظلام: "أستطيع قراءة أفكارك، ومعرفة كل ما تنوي فعله..
وأنا قادرة بسهولة أن أوقفك عن أي فعل أو تصرف يخالف إرادتي"..
ثم انتقلت خطوتين للوراء، رفعت يديها
لأعلى بحركة تبدو وكأنها تستحضر قوى غامضة، وبدأت تحرك أناملها الطويلة والمدببة التي
تشبه أصابع هيكل عظمي.. في تلك اللحظة، شعرت برعشة تسري في جسدي وصداع حاد يهزم عقلي،
بينما بدأت عيناي تنزفان الدماء بشكل مرعب...
بينما الألم يعصف بي، تجاوزت حدود التحمل، حتى أنه تفوق الألم الذي شعرت به
خلال تلك العمليات المؤلمة التي قطع فيها جسدي إلى أشلاء.. صرخت بشدة، لدرجة أنه كادت
تفصل حبال صوتي، وتوسلت لها بصوت مكتوم: "لقد وصلت رسالتك... توقفي... سينفجر
رأسي".
اقتربت مني بحزم، وأنا ملقى على الأرض، أحاول أن أسرق نفسًا قبل أن ينقطع تماما..
نظرت إلي بحزم، وبصوت مريب، قبل أن تفتح الباب الزجاجي، قالت : "لا تخطر ببالك
فكرة، خروجك من هذه الغرفة، أنك تحررت مني... ستظل دائما تحت سيطرتي..."
بينما أسير معها، أسمع صدى خطواتنا يتردد في الفراغ، أشعر بالبرودة تتسلل إلى
عظامي.. أسأل نفسي إن كان هناك خلاص من هذا العذاب، أم أنني سأظل عالقًا في هذا البعد
الزمني، محاصرًا بين الماضي والحاضر، كعقاب أبدي لا فكاك منه.
❈-❈-❈
الفصل السادس:
في سجني الأبيض الجديد، الخالي من
ألوان الحياة، وجميع الأنظار تتجه نحوي.. نَظَرْتُ إلى هذه المخلوقة المخيفة، التي
تقترب مني ببطء، وأنا ملتف بنفسي على الأرض، يائسًا ومرتعبًا.. حاملة إبرة في يد مكشوفة
متعرجة، تستعد لحقني.
"لا تخاف،" تحدثت صومي من أخر الغرفة بصوت هادئ ومريب، وهي تراقب
ما يحدث باهتمام "هذا لن يؤلمك كما تظن، سيكون كل شيء على ما يرام بعد ذلك."
بصوت مضطرب، وأنا أنظر نحوها بعيون ممتلئة بالدهشة والاستغراب، محاولًا جاهدًا
تجنب النظر إلى هذا المشهد المرعب، متجاهلاً الرائحة الكريهة التي تملئ الغرفة.. سألتها
بصوت يرتعش: "لماذا تفعلين هذا؟ ما الذي تريدينه مني؟"
أجابت صومي بابتسامة متجمدة: "أنت تعرف ما أريد.. عليك أن تتقبل الأمر..
هذا هو واجبك."
نظرت بحزن إلى الأرض، شعرت باليأس يتسلل إلى كل خلية من خلايا جسمي، كأنني أغرق
في كابوس جديد، لا أفهم كيف وصلت إلى هنا.
"ليس لدينا وقت للتأمل،" قالتها صومي بنبرة آمرة، "عليك أن تتخذ
خطوة إلى الأمام... لا تخيب آمالي."
نظرت إليها بعينين ممتلئتين باليأس: "لن أستطيع... لا أستطيع التنفس."
❈-❈-❈
في غرفة مظلمة مشبعة برائحة العفن والفساد، تتراءى لي المخلوقة التي أعيش معها،
كأنها ظل هارب من عالم الكوابيس..
كل يوم أجد نفسي مضطرًا للاقتراب منها، مجبرًا على ملامسة هذا الكابوس الحي..
أوامر "صومي" تقرع في أذني، تدعوني إلى الحقن اليومي كأنه طقس مقدس لابد
منه، وكأنما بإمكان تلك الحقنة السحرية أن تقضي على نفوري وتثير في قلبي شرارة من القبول..
لكن الحقيقة المرة هي أن تلك الشرارة لم تشتعل يومًا، بل زادت الحقنة من توتري وقلقي.
"لماذا لم تنفذ المطلوب منك؟" قالتها صومي بغضب وجدية، ثم تابعت
" بعد الحقنة، يجب أن يكون الأمر أسهل عليك."
جاوبتها بصوت مرتعش ومضطرب: "لا شيء يجعل هذا أسهل.. لا الحقنة، ولا أي
شيء آخر.. مجرد النظر إليها يجعلني أشعر بالاختناق".. ابتلعت ريقي بصعوبة ثم تابعت
بتوسل " لماذا عليّ أن أتحمل هذا العذاب؟ لماذا لا تتركيني وشأني؟"
اقتربت منى ببطء، ونظرت داخل عيني بقسوة " لأن هذا هو ما اختارته لك الأقدار..
لن تهرب مني، حتى لو حاولت.. كلما قاومت، كلما زادت قوتي."
تراجعت خطوة إلى الوراء، وعيناي يملأهما الرعب: " لا... لا أستطيع.. في
كل مرة أغمض فيها عيني لأحاول التحمل، تغمرني موجة من الهلع، تلتف حول عنقي كسلسلة
من الأشواك، تمنعني من التنفس..
أحاول أن أتجاهل ملمس جلدها الخشن،
البارد.. أحاول أن أتجاهل تلك الرائحة القاتلة التي تقلب أمعائي، لكن لا شيء ينفع..
كيف يمكن لأي إنسان أن يتحمل هذا؟"
نطقت صومي بجمود: "ستتعلم.. ستتعود.. وإلا، فستظل تعاني إلى الأبد."
قاطعتها بصوت مكتوم، وأنا أتنفس بصعوبة: "لا أريد أن أتعلم. لا أريد أن
أتعود.. أريد فقط أن أستيقظ من هذا الكابوس."
ابتسمت ابتسامة خبيثة، مقززة.. ثم تابعت: " لكنك لن تستيقظ أبدًا. هذا
هو واقعك الآن، سواء أحببت ذلك أم لا."
❈-❈-❈
الفصل السابع:
كنت جالس على الأرض، أحاول استجماع قواي، بينما تتردد أصداء كلمات صومي في رأسي..
فجأة، سمعت صوت خطوات قادمة من الممر المؤدي إلى غرفتي.. ثم دخل مخلوق جديد، يحمل في
يده جهازًا غريبًا.. ينظر إلي بعينين باردتين، ويقترب مني ببطء.
"حان وقت الجرعة التالية"، قالتها "صومي" بنبرة حازمة وجافة..
كانت قد تسللت إلى الغرفة خلف المخلوق الجديد، لكن في غمرة قلقي وتوتري، لم ألحظ حضورها.
رددت وأنا أرتجف وأتراجع زاحفًا على الأرض غير قادر على الوقوف: "لا...
لا أريد المزيد.. لا أستطيع التحمل."
قاطعتني بصوت خالٍ من العاطفة، قبل أن تنصرف وتتركني مع هذا الكائن المريب:
"يجب أن تتعاون.. هذا لمصلحتك."
حاول الكائن حقني بالقوة، لكني قاومته بعنف، واندلع بيننا اشتباك جسدي.. أثناء
الصراع، سقط الجهاز من يد المخلوق الحقير وانكسر على الأرض، محدثًا شرارة كهربائية.
جعلني هذا استغل الفوضى وأهرب من الغرفة، ركضت في الممرات المظلمة، ابحث بيأس
عن مخرج.. مررت بجدران متآكلة وأبواب موصدة، حتى وصلت إلى مخرج يؤدي إلى العالم الخارجي..
ووجدت نفسي في غابة كثيفة، مظلمة بشكل غير طبيعي، وكأنها تعكس الحالة الكابوسية التي
أعيشها.
تنفست الصعداء، لكنني أدركت بسرعة أن صومي لن تتركني أهرب بهذه السهولة.. بدأت
بالسير بسرعة عبر الغابة، أحاول إيجاد طريق للنجاة.. أسمع همسات غامضة تلاحقني، وكأن
صومي تتلاعب بعقلي من بعيد.
ظهر أمامي فجأة مشاهد مرعبة، كائنات غريبة وأصوات مخيفة، كلها تحاول إيقافي..
حاولت ان أقاوم ببطولة، وأتغلب على خوفي، وتابعت طريقي بخطوات متعثرة، بحثًا عن الخلاص.
❈-❈-❈
رغم محاولاتي اليائسة للتصدي والهروب، وجدت نفسي مكبلًا بالألم والإرهاق، وكأن
كل خطوة أخرى كانت مجرد تأكيد على الهزيمة المحتومة.. حاولت التنفس، لكن الهواء كان
يبدو ثقيلاً وممتلئًا بالتهديدات.. نظرت إلى صومي بعينين يائستين، بينما الإبرة تخترق
جلدي.
شعرت بألم حاد وقسوة لا توصف، ولكن
ألمي الجسدي لم يكن سوى جزء صغير من الكابوس الأكبر الذي أعيشه.. مع كل حقنة، كانت
الصورة المشوهة لهذا المخلوق الذي وظفته صومي تتلاشى أمام عيني.. كان يشبه جثة متخشبة،
بملمس قاسي ورائحة نتنة تملأ الغرفة.. كلما اقترب مني لتنفيذ مهمة "الزواج"،
تجددت رائحته النتنة، محركًا أمعاءي بكل حركة.
وفي وسط هذه الفوضى النفسية، أدركت أنني وحدي في هذه المعركة، لا أحد يشعر بما
أشعر، لا أحد يتفهم مأساتي.. مشاعري تتأرجح بين اليأس والخوف، والرغبة العارمة في الهروب،
لكنني مكبل بسلاسل القدر، مجبر على التعايش مع هذا المسخ الذي يحطم كل ما هو إنساني
بداخلي.
لذلك الآن، وأنا على حافة الهاوية، وبعد أن قررت أن الانتحار سيكون رحمة ورأفة
لا أستحقهما أبدًا، وقبل أن تأتي "صومي" لإيقافي ومنعي كالمرات السابقة،
أود أن أعترف بهذا السر الخطير الذي يثقل قلبي ويأكل روحي لدرجة أنه قد أصابني بجنون
الندم...
"أنا الدكتور عمار السويفي، العالم الفيزيائي الذي دفعه الطمع والجشع وعشق
السيادة، والرغبة في التحكم والسيطرة على العالم، إلى اختراع فيروس خطير أصاب العالم
كله بالعقم.. وعندما فشل المصل الذي اخترعته للقضاء على الفيروس، وصارت جميع دول العالم
تتحدث عن انتشار وباء جديد سيؤدي إلى انقراض البشرية يوما ما،
ولكي أصل لهدفي بامتلاك العلاج لأتحكم في العالم بأكمله، ما كان أمامي سوى الرجوع
بالزمن للماضي لتعديل الفيروس لكي يتوافق مع المصل الذي اخترعته لعلاجه.
لكن حدث خطأ ما أدى إلى دخولي ذلك البعد الزمني لأعلق في "الزمكان"
وأختفي من العالم كله قبل أن يهلك وينتهي، بعد عجز الطب والعلم عن العثور على علاج
لذلك الوباء الذي أصاب العالم بسببي، ليصبح البشر مجرد ذكرى لكائنات عاشت على الأرض
وانقرضت منذ أكثر من مائتي عام..
في أعماق قلبي، أعرف أن هذا العقاب هو نتيجة لأفعالي، وأنني محاصر في دورة لا
نهاية لها من الندم واليأس."
وبعد أن وصلت أخيرًا لشاطئ النهاية، أعتذر بشدة وأنا على علم بأن الاعتذار لن
يصلح ما أفسدته بيدي.. ورغم أن ليس كل خطأ نهاية، إلا أن الخطأ الذي ارتكبته كان بداية
للنهاية.
❈-❈-❈
في تلك اللحظة، شعر بيد باردة تمسك بمعصمه وتمنعه من القفز.. فتح عينيه ليجدني
واقفة خلفه، نظرتي مليئة بالسخرية والاحتقار: " هل تظن أنك تستطيع الهروب بهذه
السهولة؟ نحن مرتبطان إلى الأبد."
جاوبني بصوت مرتجف: " أريد فقط أن ينتهي هذا الكابوس.. لا أستطيع التحمل
أكثر يا صومي."
قلت له بعد ان أحكمت قبضتي على يده: "لا يمكنك الهروب من ماضيك.. هذا هو
عقابك، وهذه هي العدالة.. لا مفر لك يا عمار.. هذا هو قدرك."
ثم سحبته بعيدًا عن حافة الهاوية، وأعدته إلى الظلام ليبدأ فصلاً جديدًا من
العذاب الذي لا ينتهي....
لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية..