رواية نابغة بعصر الأغبياء - للكاتبة أسماء المصري - الفصل 36 - 2 الثلاثاء 9/7/2024
قراءة رواية نابغة بعصر الأغبياء كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية نابغة بعصر الأغبياء
للكاتبة أسماء المصري
الفصل السادس والثلاثون
2
تم النشر يوم الثلاثاء
9/7/2024
لم تتعجب ولم تلقي بأسئلتها الفضولية على مسامعه عندما طلب منهم التوجه لمسقط رأس الفرعون سيتي حتى تفلح تعويذته؛ فتحركوا جميعا للسفر لجنوب مصر حيث معبد أبيدوس الجنائزي أحد أكثر الأماكن المقدسة بالنسبة لها.
وصلوا بعد مرور يوم ونصف يوم لاضطرارهم للسفر بالسيارة و لبعد المسافة أيضاً عن القاهرة ولكنها لم تهتم سوى لأمر واحد فقط وهو إيجاد حبيبها وعشيقها ومحاولة إقناعه بالموافقة على تقديم نفسها كقربان حتى لا يفني هو وعالمه.
وصلوا لبوابة المعبد فنظرت لأسوارة المتهدمة ودرجاته الباهتة وحديقته التي طمست عبر السنين، فنظرت حولها وأخذت تتذكر حياتها وطفولتها التي قضتها بهذا المكان.
أغلقت عينيها واسترجعت ذكرياتها عندما تقابلت معه لأول مرة بحفل تتويجه وهو يمشي بتمتخر أمامها حاملاً صولجانه ممسكا بطرف عبائته الطويله وتلك النظرة التي رمقها بها والتي كانت بداية كل شيئ بدأ بينهما.
انتبهت لصوت والداتها وهي تناديها هاتفة:
-دورثي ابنتي، لماذا تقفين هكذا؟
التفتت فوجدت والدها يبتسم لها وهو يعقب على حديث زوجته:
-لابد أنها تسترجع ماضيها بهذا المكان هانده.
أومأت له مبتسمة واقتربت منه تحدثه بحب وهي تحتضنه:
-نعم أبي، فهنا قضيت طفولتي وشبابي، وهنا وقعت بالحب، وهنا أيضاً وقعت ببئر الهاوية.
سحبتهم معها للداخل ولكنها انحنت قبل أن تدلف للمعبد و خلعت حذائها فنظروا لها بدهشة ولكنها ابتسمت قائلة:
-إنها من عاداتنا أن نخلع الأحذية.
ضحكوا وفعلوا مثلها ولم يغفل عن تصرفهم هؤلاء السياح الذين كانوا بالمكان بوقتها.
دلفت ورفعت رأسها لأعلى ناظرة للسماء وقالت مبتسمة لذكرياتها:
-أعمدة المعبد كانت تبدو أطول من ذلك، وكان هناك حديقة خضراء بالناحية الغربية ولكني لم أجد اي أثرا لها بهذا الزمن.
اقترب منها أحد المرشدين السياحيين عندما استمع لحديثها واستأذنها باحترام:
-هل تسمحين لي؟
أومأت له فعرف عن نفسه مصافحا إياها ومن معها قائلاً:
-أنا بيتر فورد، أعمل كمرشد سياحي هنا منذ أكثر من خمس سنوات.
ابتسمت له قائلة بترحيب:
-مرحبا سيد فورد، أنا دورثي لويز ايدي وهذان والداي أيدي وهانده، وذاك صديق العائلة السيد دان وايت.
صافحهم جميعا باحترام والتفت ينظر لها بتسائل:
-عفوا فقد سمعتك تتحدثين دون قصد عن الأعمدة وعن حديقة تابعة للمعبد، ولكن اردت تصحيح معلوماتك فربما اختلط عليكِ الأمر.
نظر لها مبتسما وقال:
-لا يوجد حديقة تابعة لمعبد أبيدوس ولا أعمدة البهو كانت أكثر طولا، هي كذلك منذ زمن طويل فوزراة اﻵثار المصرية تعمل بمساعدة الباحثين البريطانيين على ترميم والحفاظ على تلك اﻵثار لذا...
قاطعته بعد أن شعرت بالضجر من حديثه:
-حسنا حسنا، أظن أنني قد اختلط علي الأمر، واﻵن استأذنك فقد تعبت فكما ترى بطني المنتفخ هذا يجعل قدماي تؤلمني كثيرا من الوقوف.
أومأ لها باحترام وابتعد عن مرمى بصرها و لكنه عاد ونظر لها من بعيد هامسا بتمتمة:
-دورثي لويز أيدي! هذا اﻻسم ليس بغريب علي مطلقا، من أين أعرفه يا ترى؟
❈-❈-❈
تحركوا للخارج وجلسوا على درجات السلم فهمس دان بحذر:
-لابد أن ننتظر للمساء حتى يبتعد الزائرين عن المكان فأنا لن أستطيع إلقاء التعويذة بوجود كل هؤلاء.
زفرت بحزن ووافقت وهي تقول بتذمر:
-أتمني أن لا نضيع وقتا أكثر فلا أظن أن مولاي سيتي يملك الكثير منه.
بدأوا بالتجول بالمكان لتضييع الوقت، حتى جاء المساء وغادر الجميع ودلفوا للداخل على أطراف أصابعهم حتى لا يراهم اﻷمن المسؤول عن حراسة المكان، فور وصولهم للمذبح الخاص بالمعبد والذي ينتصف بهوه أخرجت دورثي زيا فرعونيا وارتدته وصعدت فوق ذلك الحامل الرخامي المعروف بالمذبح وتمددت عليه وابتسمت لوالديها هامسة لهما بحب:
-تمنيا لي بالتوفيق.
بكت هانده وربت أيدي على كتفها وبدأ دان بإلقاء التعويذة حتى أغلقت عينيها ولم تفتحها إﻻ عندما ساد الهدوء حولها.
التفتت فوجدت نفسها داخل المعبد وفوق المذبح كما لو أنها لم تغادر ولكن مهلا، فالجدران تبدو حديثة جداً واﻻلوان زاهية، والأعمدة كما كانت تتذكرها بالفعل، فاعتدلت بجسدها ونزلت لتلامس قدميها الحافيتين الأرض الرخامية الباردة وتحركت للخارج لتبحث عن حبيبها، ولكنها تفاجئت بذلك الصوت الذي تعلمه جيدا:
-عودة حميدة بنترشيت.
التفتت وانحنت رأسها باحترام وخضوع هاتفة:
-مولاي الملك رعمسيس.
اقترب منها وأشار لها لتقف ففعلت على الفور ونظرت له فوجدت حدقتيه ملونتين بالون الأحمر دليل على حزنه الشديد وربما بكاؤه أيضاً فتوجست خوفا وهتفت بهلع:
-أين مولاي سيتي؟ هل هو بخير؟
حاول إمساكها ولكنه لم يفلح فقال بحزن:
-تعالي معي علك تقنعيه بالموافقة.
دلفت لتلك الغرفة التي بنيت خصيصا له بداخل المعبد من أجل إتمام مراسم التعاويذ فوجدته على فراشه ويحيط به الكهنة والسحرة من كل جانب فهرعت ناحيته وارتمت بجسدها عليه تحتضنه ففرحت عندما استطاعت أن تلمسه حتى وإن كان لمرة أخيرة.
فتح عيناه عندما شعر بجسدها يحتضنه ولف ذراعيه حولها وهي تهمس باشتياق:
-مولاي وحبيبي، كم افتقدتك؟
نظر لها باشتياق وبسمته ارتسمت على وجهه ونظر لبطنها المنتفخ بشدة وقال بتعجب:
-هل تغيبت لمدة كبيرة قيثارة الحب لدرجة امتلاء بطنك لهذه الدرجة؟
حاولت أن تتصنع اﻻبتسام فهي لم يفت عليها شكله المتضرر بشكل كبير ونحافته الشديدة لدرجة أنه أصبح يشبه مومياؤه كثيراً، فردت وهي تقبله:
-اشتقت لك حد الألم مولاي وحبيبي سيتي.
مسح بيده على وجنتها وربت عليها مواسيا:
-حسنا حبيبتي لا بأس لا تحزني.
اعتذرت باكية:
-أنا حقا آسفة على ما قلته لك بآخر لقاء لنا حبيبي، لم أكن أعلم أن ابتعادك يعني هلاكي.
ابتلع ريقه بصعوبة بالغة ورد مؤكداً:
-وأنا قد سُحبت مني الحياة بابتعادك عني قيثارة الحب.
ترجته وتوسلته هاتفة بانهيار باكٍ:
-أتوسل إليك، بكل نبضة من قلبي نبضت لأجلك مولاي أن توافق على إلقاء تعويذة إنقاذك.
رد وهو ينظر لمقلتيها ماسحا عبراتها بإبهامه:
-وأعيش دونك قيثارة الحب! لا أظنني أستطيع فأنا إن خُيرت ما بين الموت وأنا أرى هذا العشق الخالص بعينيك وبين الحياة دونك لما ترددت لحظة باختيار الموت حبيبتي.
بكت بانهيار وهي تتوسله:
-أنت تعذبني مولاي، ألم يكفيك ما عشته من عذاب طوال تلك السنوات؟ ألا يوجد حدا لعذابي؟
حاول التحدث فصرخت به بحدة:
-طوال حياتي وأنا أتعذب بعشقك وبابتعادك عني وأنا الكاهنة بنترشيت عشيقة الملك، وأيضاً وأنا دورثي لويز أيدي الفتاة المجنونة التي قضت طفولتها بالمصحات النفسية.
انهارت وهي تردف:
-لماذا لا ترأف بي وتنهي عذابي؟ هل تريد مني أن أعيش وأربي نطفتك تلك بمفردي بعد أن فقدت الصغير سيتي؟ وها أنا أتجرع مرارة افتقاده هو أيضاً! ألن ترأف بي أبدا!
دمعت عينيه وهي تصرخ به:
-أنت لا تحبني، فإن كنت تفعل ما تألمت بهذا الشكل الخاطف للأنفاس، إن أحببتني لم تكن لتوافق على عذابي وابتعادك عني أبدا.
انتحبت حزنا وتضرعت توسلا:
-ارأف بي مولاي ووافق على تنفيذ تلك التعويذة حتى أرتاح من آﻻمي وأشعر بالسكينة ولو مرة واحدة قبل النهاية.
حاول الاعتدال بجسده ليقترب منها تلك الجاثية أرضا بجوار فراشه، ولكنه لم يستطع من وهن جسده فنطق متألما:
-قيثارة الحب، اقتربي.
رفعت وجهها وفعلت على الفور وهي تكفف عبراتها بظهر يدها ورمقته بنظرات راجية فقال:
- أنا أعيش فقط لأجلك، ولا يوجد معنى للحياة دونك فأنتِ إن لم تعي هذا إلى اﻵن فهذا لأنك لا زلت طفلة بالرغم من وصولك عقدك الثالث، ولكن استمعي لي جيداً فأنتِ لن تقدمي نفسك وحدك كقربان ولكنك ستقدمين ذلك الجنين الذي بداخلك أيضاً، فتعقلي بنترشيت رجاءً وأزيلي تلك الفكرة المجنونة من رأسك الصغير هذا.
وضع راحته خلف أذنها وداعب مؤخرة رأسها وهو يضيف:
-فعلتِها من قبل وسخيت بنفسك وبجنينك لأجلي، ولن أكون أنانيا لأتركك تفعليها مجددا فحديثك معي آخر مرة كان صحيحا؛ فأنا تعاملت بأنانية مفرطة معك وها أنا أتخلى عن الأنانية والحياة لأجلك أنتِ.
بكت وهي تنظر لابتسامته التي يحاول رسمها على وجهه وعندما همت بالحديث قاطعها رمسيس الذي هتف بلهفة:
-هل أنتِ على استعداد لتقديم روحك وروح جنينك لانقاذه بنترشيت؟
أومأت دون تردد فأضاف:
-إذاً أنا لدي الحل بعيداً عن خسارتكما لبعضكما البعض.
رمقه والده بنظرة محتارة وسأل:
-ماذا تقصد؟
أجابه بتأكيد:
-أليس كل ما توده أنت وهي أن تظلا سويا؟
أومأ له صامتا فابتسم رمسيس وأكد:
-وهذا ما أنوي فعله.
مثولها أمامه بهذا الشكل جعله يبتسم بالرغم من ضعف جسده وهي تنظر له بلهفة وحب مبتسمة ابتسامة واسعة وبطنها المنتفخ أمامها فأغلق عينيه باستمتاع متذكرا لحظاتهما بذلك العصر وتلك الهيئة وهذا المكان تحديداً عندما أنشأ لها تلك الحجرة السرية التي تتصل بجناحه الملكي ووضع بها ثرواته، ولم تعلم هي أنه خبأ مومياؤها بداخل نفس الحجرة.
اقتربت منه أكثر وأكثر ووضعت راحتها على وجهه بحنان وقالت بصوت رقيق:
-مولاي، سنجتمع من جديد ولن يفرقنا شيئا تلك المرة أعدك بذلك.
زفر أنفاسه المشتاقة لها وسألها بحيرة:
-كيف تنويان فعلها قيثارة الحب؟ الأمر ليس بتلك السهولة والمعبود حورس قد استطاع تدمير المعبود ست لذلك قد دمر كل قوته وسحره ومعه دمر قوتي فلم تعد لي طاقة حتى للتنقل عبر الأزمنة أو تلبس الأجساد.
ابتلعت ريقها وأجابته:
-أي ما كان الثمن سأدفعه لاجتمع بك مولاي وحبيبي.
تركته وتوجهت لمكان العرش الذي يجلس عليه الملك رمسيس الثاني وانحنت باحترام وتوقير هاتفة:
-مولاي.
قال لها بصوت جاد:
-هل اقتنع أخيراً؟ فتلك المراسم لا يمكن فعلها دون موافقته.
أومأت له والبسمة تتسع لأذنيها مؤكدة:
-لقد وافق أخيراً، ولكن...
صمتت ونظرت له بحيرة، فحرك رأسه بمعني هاتِ ما عندك فقالت:
-كيف سنفعلها وأنا لم أجد إلى اﻵن أحدا قد يوافق على استبدال نفسه وجسده طواعية....
قاطعها ساخرا ومرددا:
-طواعية!
ضحك عاليا وترك عرشه واقترب منها منحنيا لها على ركبة ونصف ورفع وجهها بسبابته هامسا:
-من قال إننا نريد متطوعين؟ هل نختار عروس النيل من بين متطوعات؟ أو نسأل الجنود أولا قبل تجنيدهم إن كانوا موافقين أم لا؟ فما بالك بشخص سيضحي بحياته من أجل أعظم فرعون عرفه التاريخ بل وسيعرفه العالم.
لمعت عينيها وهي تنظر له بخوف ورفض قائلة:
-أنا لن اكرر مأساة إمام مرة أخرى وبعدها...
قاطعها هادرا:
-اصمتي ولا تتحدثي بحضرتي قبل أن ائذن لكِ.
أطرقت رأسها ونظرت للأرض، فوقف مستقيما وأخبرها بهدوء معاكس لثورته اللحظية منذ وهلة:
-أنا قد أبرمت اتفاقا مع المعبود حورس ولن أتراجع عنه اﻵن بسبب ترددك اللعين هذا.
دمعت عيناها فقد ذكرها حديثه بحبيبها وتذمره الدائم من ترددها ولكنها استمعت له يكمل حديثه:
-ستقدمين قربانين، أحدهما سيعمل لصالح المعبود حورس بمملكته الضائعة، والأخرى ستقُدم هبة للنيل.
نظرت له بحيرة وذهول وهو يومئ برأسه مؤكدا لها:
-نعم بنترشيت، إنها فتاة وستُقدم كعروس للنيل وهبة له.
سألته بارتباك:
-ألم يكن اﻻتفاق على أن يكون القربان خادم له الى الأبد؟
أومأ لها ووضح:
-ولكن الأمر معقد أكثر اﻵن بنترشيت.
بكت وجلست على درجات السلم أسفل عرشه وسألته:
-كيف ستُقدم رضيعة كعروس وهبة للنيل؟
رد بإيضاح:
-أظنها ستعيش ككهانة مثلك تماما حتى تصل للبلوغ ووقتها ستُقدم هبة للنيل.
اغلقت عينيها بأسى وحزن فها هي ستضطر للتخلي عن ابنتها كما فعلت مع ابنها فقط للتواجد معه، فهل يمكن للعشق أن يستمر بعد كل هذه التضحيات؟ هل ستنظر له بنفس اللهفة والحب كما كانت تفعل قديما؟ هل يمكن أن تظل كما هي تعيش معه بسعادة وهي تعلم أن ابنها سيربى بعيدا عنها وربما لن يعرف أبويه ابدا، وابنتها ستغرق بالنيل بمجرد بلوغها؟
ظلت شاردة وهي تنظر للملك ببكاء وعينيها تزرف العبرات بغزارة فاقترب منها رمسيس وربت على كتفها وقال لها بصوت هادئ ورقيق:
-تستطيعين تعويضها وإنجاب غيرها فهي لن تذهب هباءً قيثارة الحب ولكنها ستكون جزءا من عالمنا وتراثنا فلا تحزني.
أغلقت عينيها بأسى وفتحتها فوجدت نفسها قد عادت للحاضر ووالديها يقفان أمامها وبجوارهما المعالج الروحاني دان وايت الذي ابتسم لها وربت على كتفها قائلا:
-لقد مكثتِ كثيرا هناك ، ارجو أن تكوني قد وجدتي حلا!
رفعت وجهها تنظر له بحيرة وأخبرته:
-لابد أن نجد بديل لإمام حتى يستطيع مولاي سيتي أن يحتل جسده، هذا هو الحل الوحيد.
وافقها هامسا:
-لا تقلقي دورثي سنجد هذا الشخص.
تذمرت باكية:
-الوقت غير كافيا ومولاي بدأ الفناء.
لم يكونوا على دراية أن هناك من يتلصص عليهم منذ أن بدأت المراسم واستمع لكل حديثهم فتمتم بداخل نفسه:
-دورثي لويز ايدي، اﻵن تذكرتك.
يتبع..
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة أسماء المصري من رواية نابغة بعصر الأغبياء ، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية