-->

قصة قصيرة جديدة الزجاجة التي حملت الرسالة لسارة عبد المنعم - الأربعاء 31/7/2024

 

قراءة قصة الزجاجة التي حملت الرسالة كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



قصة قصيرة الزجاجة التي حملت الرسالة

قصة جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة سارة عبد المنعم

تم النشر يوم الأربعاء

31/7/2024


يصطدم إبراهيم بزجاجة على الشاطئ، لم ينتبه لها في البداية حتى تعرقل بها، زجاجة تبدو غريبة، لم يشهد مثلها قط، وكأنها من مكان آخر؛ بل عالم غير عالمه، ولا يدري كيف يقوم بفتحها؟، إلا أنه فعل ذلك في النهاية، ليُفاجأ برسالة داخلها، قام بحملها، وبدأ في قراءة محتواها:

(لو وصلتك الزجاجة، فها أنت ذا تقرأ رسالتي، التي تشهد على مقدار حبي العظيم لك، ولكن مع الآسف كان من طرف واحد، فأنت لم تحبني قط، رفضتني كما فعلت أمي، وإن أردت معرفة الحكاية كاملة، ستدلك رسالتي على مكان المذكرات الخاصة بي).

توجه إبراهيم إلى المكان المنشود، فتحت له إمرأة كهل الباب، استغربت عند رؤيته، يبدو غريبًا، فما الذي أحضره إلى بيتها؟، وهي مسنة تعيش وحدها، ينظر لها إبراهيم في استنكار قائلًا:

-هل من المعقول بأنكِ صاحبة الرسالة؟

السيدة في عدم فهم قائلة:

-عن أي رسالة تتحدث؟

فقام إبراهيم بإخراج الزجاجة، ووضع ما بداخلها بين يديها، فانتفضت فزعة، تعرف تلك الزجاجة جيدًا، فقد أهدتها إلى ابنتها الراحلة منذ سنوات، لتتعلق العجوز بياقة قميصه قائلة:

-من أنت؟، ومن أين أحضرت هذه الزجاجة؟

يُحاول إبراهيم تهدأتها، ثم ما لبث أن قرأ لها الرسالة، فاستكانت بعد ثورة، وهدأت أنفاسها، وهي تدله على مكان الصندوق المذكور في الرسالة، لم تتخيل قط بأن ابنتها قد تترك لها رسالة، وتأتيها عن طريق غريب في أحد الأيام، أخرج إبراهيم دفتر المذكرات، وقبل أن يقوم بفتحه، أحضرت له السيدة مشروب الليمون الفريش، وهي تقول:

-لقد كانت مريم تحبه، وفي كل مرة أعددته لأجلها، كانت تسعد بشدة باستثناء هذه المرة، فهي لم تعد موجودة معنا.

إبراهيم في استنكار:

-هل صاحبة الرسالة ليست موجودة هنا؟

فهزت السيدة كريمة رأسها في إيجاب قائلة:

-وهل يعود الميت يا بني؟

ارتبك إبراهيم، وشعر بالدوار، وكأن الأرض لم تعد مستقرة تحته، ليسألها في خوف قائلًا:

-غير معقول، هل ماتت صاحبة الرسالة حقًا؟

-نعم يا بني.

-وكيف حدث ذلك؟

-ماتت غرقًا، وكانت معاها حينها هذه الزجاجة.

انتاب إبراهيم مشاعر مختلطة، وخالجه الشك، فلمَّ أخذتها الابنة معها؟، هل كانت تشعر باقتراب الأجل أم أن الأمر حدث بفعلها؟، ولكن كيف تهون النفس على صاحبها بهذه الطريقة؟، استنكر إبراهيم فعلها، وما لبث أن استعاذ من الشيطان، فلا يجدر به أن يظن السوء بمن تحتاج الدعوات الآن.

لم تنته التساؤلات داخل رأسه، بل زادت أكثر، ليقول لها في غير تصديق:

-الأمر لا يبدو بصدفة، وإلا لمَّ أرشدتني ابنتك مريم إلى مكانك، وطلبت مني إخراج دفتر المذكرات، وقراءة ما به أمامك.

السيدة كريمة في حزن:

-من أنت يا بني؟، وماذا تريد مني؟

لم يعرف إبراهيم بمَّ يُجيبها، فساد الصمت بينهما للحظات، ثم ما لبثت أن قطعته السيدة كريمة بسؤال آخر قائلة:

-هل كنت تعرف مريم؟، لا أظن بأنك كنت تعرفها.

-لا والله، لم ألتق بها قط، وظننت حين قرأت رسالتها بأنها على قيد الحياة.

-عن أي رسالة تتحدث يا بني؟

ينظر إليها إبراهيم في استغراب، فقد أخبرها من قبل، ولكن يبدو بأن مصابة بالزهايمر، فيصعب عليها تذكر الأشياء، عرضت عليه الجلوس ليستريح، ثم ما لبثت أن طلبت منه القراءة، فاعتدل في جلسته، وبدأ القراءة قائلًا:

-أمي الغالية، صديقتي الوحيدة في هذه الحياة، أنتِ بمثابة النور الذي يضيء حياتي، ولكن لا أدري لمَّ كنت تعاملينني بهذه الطريقة؟، أعلم بأنه حين تصلك رسالتي، سأكون قد فارقت الحياة، وأنا آسفة لكوني قررت الانسحاب، والذهاب بعيدًا عنك حيث لا ألم ولا عذاب و…

ترقرقت العبرات في عيني السيدة كريمة، وعصفت بها الذكريات السيئة من كل اتجاه، وظهرت في خيالها بعض الأحداث، وكأنها تحدث في اللحظة الحالية، فتوقف إبراهيم رأفة بها، فعرضت عليه البقاء معها حتى يُنهي قراءة المذكرات، ثم ينصرف أو يبقى إن شاء، فهي تعيش وحدها في ذلك البيت الفسيح، لم يجد إبراهيم أمامه سبيلًا للرفض، الأمر يُثيره بشدة، ويريد أن يكتشف حقيقة ذلك اللغز، فهل حقًا كانت هي السبب في موت ابنتها أم أن الأمر مجرد قضاء وقدر، مر الليل ببطء، فهكذا يكون حال المنتظر، يترقب قدوم النور؛ كي يُكمل حكايته معها، فوجئ بطرق خفيف على الباب، وحين فتح في قلق، وجد السيدة كريمة أمامه، وقد أحضرت له الطعام، وقنينة مياة وكوب من العصير الطازج، يبدو بأنها صاحبة كرم هذه السيدة، فكيف كانت قاسية في حق ابنتها؟

العديد من التساؤلات تُثار في عقله، ولا يكف ضجيجها، لا يعرف حدًا لإخمادها، ولكن بعد مرور ساعات طوال، ما لبثه أن تخطفه النوم، ليستيقظ في منتصف النهار، يفتح عينيه في فزع، وينظر حوله في استنكار، فهل من المعقول بأنه نام كل هذه الساعات؟، ولم يشعر بنفسه.

-هل أنت بخير يا بني؟

-نعم، أنا بخير، ولكني لا أصدق بأنني نمت كل هذه المدة.

فضحكت السيدة كريمة في مزح قائلة:

-ماذا إن كنت أنا من  وضعت لك المنوم في العصير الذي تناولته بالأمس؟

إبراهيم في استنكار:

-غير معقول، هل أنتِ تتحدثين بجدية؟

علت صوت ضحكاتها، فقد كانت تمزح معه، وما لبثت أن أحضرت له طعام الغداء، ليكمل قراءة المذكرات لها بعد انتهائه من تناوله، وبالفعل بدأ في القراءة قائلًا:

-أمي، لقد كنت أخافكِ، فأنتِ لم تسمعيني قط، ولم تمنحينني ولو فرصة واحدة للفهم.

ينظر إليها في حدة، لا يصدق بأن تلك الملامح البريئة قد حملت كل هذه القسوة لابنتها، إلا أنه استطرد قائلًا:

-لقد أغرمت بمحمد ابن خالتي يا أمي، أحببته حبًا عظيمًا، إلا أنه كان مثلك قاسيًا، فلم يشعر بي، ولأجل ذلك كان لا بد لي أن أفعل ذلك.

انهارت السيدة كريمة في البكاء، فتوقف إبراهيم، لا يستطيع أن يُكمل، وهي على هذه الحالة، لتقول له في ضعف:

-ساعدني يا بني، وأحضر لي أرجوك الدواء من غرفتي بالأعلى، ستجده على المكتب هناك.

صعد إبراهيم على عجل، وقلبه ينتفض من الخوف، تلك السيدة تخفي سر عظيم، ويبدو بأنها تسحبه إلى لعبتها، فكيف تأمن عجوز مثلها لشخص غريب لا تعرفه؟، وتسمح له بالإقامة في بيتها، إلا أنه أخذ يهز رأسه في قوة؛ ليبعد عنها ضجيج تلك الأفكار السيئة، ثم هرول إلى الأسفل باتجاهها، ويحمل في يديه الدواء، الذي ساوره الشك حين رآه، يبدو غريبًا، لم يسبق له أن رأى مثل تلك العلبة من الدواء، لتُجاوب السيدة كريمة على سؤاله قبل أن يتلفظ به، قرأته بين عيناه، فقالت:

-هذا الدواء خلطة يعدها لي الطبيب الخاص بي، ولا يتوفر مثلها في الصيدليات، فلا تشغل بالك.

بدا على إبراهيم الإنهاك، فقد جلس جوارها لساعات حتى هدأت حالتها، ثم استأذن منها وانصرف حين أسدل الليل ستاره في الأرجاء، فأرسلت إليه الطعام في غرفته مع كوب العصير وقنينة المياة كالأمس، ليستيقظ في اليوم التالي في نفس الساعة، نهض على عجل، وتناول معها الغداء، ثم بدأ في القيام بمهمته، يُكمل قائلًا:

-لقد كان محمد حب حياتي منذ الصغر، وأنتِ كنت مصدر أماني واطمئناني، فكيف طاوعك قلبك لتمزيق فؤادي بذلك الشكل!؟، أمَّا علمت بأنني أحبه يا أمي؟، أمَّ علمت بأنه حب حياتي، فلم فعلت ذلك يا أمي؟

رسمت مريم قلوب مكسورة، ويبدو بأنها استخدمت دمائها في ذلك، لتوحي لها بمدى ألمها، إلا أنها ما لبثت أن انهارت ثانية، ولا يدري إبراهيم كيف تستدعي كل هذه الدموع دفعة واحدة؟، فشك في الأمر إن كانت حقيقية أم مصطنعة؟، فصعد إلى الأعلى، ومرت عشرة أيام على هذا الوضع، ينام حتى منتصف النهار، وتنهار السيدة عند تساؤلات ابنتها التي أخذت تتكرر في كل رسالة، فمتى يصل إلى الصفحة الأخيرة، ويعلم الحكاية، اقترب وأخيرًا من ذلك، فقرر هذا اليوم عدم تناول الطعام أو شرب العصير الذي تحضره، فحين نام، سمع صوتًا بالخارج، استيقظ على عجل، فوجد السيدة كريمة تبكي جوار صندوقًا كبيرًا، وتقول من بين دموعها:

-سامحيني يا ابنتي أرجوكِ، فو الله لقد حدث الأمر رغمًا عني، اضطررت إلى ذلك حين علمت بحبك لمحمد، لا أطيق مجرد التفكير بأنك قد تبتعدي عني، فقد تعلقت بكِ بشدة، وانتظرت سنوات عجاف حتى مَّن الله علي بابنة، ورغم ذلك لم أستطع أن أكون لكِ أمًا جيدة، قسوت عليكِ، ولم أسمع لكِ ظنًا مني بأن هذه الطريقة المثلى في التربية، ولم أتخيل قط بأن الحصاد سيكون أليمًا بذلك الشكل.

يقترب إبراهيم من الصندوق في هدوء، وحين نظر إلى ما داخله، تسمر في مكانه، وكأن أعضائه قد شلت، فلم يستطع الحراك، لتقول له السيدة كريمة في ألم:

-لماذا جئت إلى هنا يا بني؟، ولمَّ قرأت الرسالة؟، فهي لم تكن لك، ولكن يبدو بأن حظك العاثر هو من جاء بك إلى هنا.

كانت السيدة كريمة تحبس ابنتها مريم في ذلك الصندوق، فحين علمت بحب مريم الشديد لمحمد، خشيت أن يُبادلها الشعور، ويتقدم للزواج منها، فحبستها منذ ذلك اليوم، لم تستطع النجاة من هواجسها، وسيطرت عليها المخاوف، فقيدت ابنتها جوارها، تقوم بإطعامها بنفسها، وتضع لها المنوم بعد كل وجبة؛ كي لا تصدر صوتًا، وهكذا كانت تفعل معه حتى يذهب من هناك، إلا أنه شك في الأمر؛ ليكتشف الفاجعة الكبرى، إلا أنه ما لبث أن سقط مغشيًا عليه، فهذه المرة كانت أكثر نصحًا منه، ووضعت المنوم في قنينة المياة، تعلم أنه ولا بد أن ينتابه العطش، وقد فعل ذلك حين استيقظ من نومه عند سماع الصوت.

قبل عدة سنوات…

تزوجت كريمة حديثًا من محمد ابن خالتها، الذي هامت عشقًا به، ولم تتخيل الحياة من دونه، ولطالما خشيت من اعتراض والدتها، ويا ليتها حقًا فعلت، لتتحول فرحتها بعد أيام إلى حزن عميق، تركها زوجها ورحل، فهو لم يحبها قط، ولكن أصبح هناك روحًا تنبض بأحشائها، تغلبت على الحزن لأجلها، بل أصبحت تعيش بفضلها، كادت أن تموت كمدًا، وتبدل الحال حين علمت بحملها، سيكون لها مولودًا من الشخص الذي أحبته، حتى وإن رحل، ولم يعد له وجود في حياتها، إلا أنها لا تنساه أبدًا، فالمحب لا يعرف للكره سبيلًا، لتقول من بين دموعها قائلة:

-يا ليتك اعترضتِ على زواجنا يا أمي، فكم كنت أخشاك وأخشى الحديث معكِ، أنتِ لم تمهليني أبدًا أو تعطيني فرصة لأفعل ذلك، فكان لا بد لى من إخفاء هذه الرسالة عنكِ.

مرت شهور الحمل على عجل، لم تشعر كريمة بمرور التسع شهور، وأنجبت طفلة جميلة أسمتها مريم، وقر الله عينيها بها، فقد كانت نسخة طبق الأصل من والدها، لتقول لها في امتنان قائلة:

-الحمد لله على قدومك يا أغلى ما رأت عيناي، كيف لي حقًا أن أعيش دون وجودك؟، فقد كنت خير هبة رزقتني السماء إياها.

لا تؤل جهدًا في تربيتها، أصبحت تعني لها كل شيء، بل ترى الحياة من خلال نظراتها، تكبر أمام عينيها، وتزداد المسئوليات، لتقول لها والدتها في حزن:

-تزوجي يا ابنتي؛ كي يقوم أحدهم بمساعدتك في تربية ابنتك.

كريمة في استنكار:

-وكيف لي أن أفعل ذلك؟، تعلمين بأنني متزوجة يا أمي.

والدتها في ألم:

-عن أي زوج تتحدثين يا ابنتي؟، ذلك العاق الذي تركك بعد زفافك بأيام.

-هو أب ابنتي يا أمي، ويكفيني بأن لدي ابنة منه.

- أ لهذه الدرجة أنتِ تحبينه؟

لم تستطع كريمة جدال والدتها، فهي تخشاها منذ الصغر، شديدة في معاملتها، ولكم ضربتها وآلمتها، ولم تعطها فرصةً للحديث، فحدثت كريمة نفسها قائلة:

-توقفي يا كريمة، ولا تقولي شيئًا لأمك، أ لا ترين تلك الجروح والندبات التي سببتها لكِ والدتك؟

فقاطعت والدتها سيل الأفكار المتدفق في عقلها، تأمرها في حدة قائلة:

-سأقوم بتزويجكِ رغمًا عنكِ يا كريمة، فذلك الشخص الذي تنتظريه، لا يستحق تقديرًا منكِ.

كريمة في صوت خفيض قائلة:

-هو أب ابنتي يا أمي، ولا أريد لشخص غريب أن يقوم بتربيتها.

غضبت والدتها، وبدا ذلك جليًا في كلماتها، تقول لها في شدة:

-لست أجادلكِ؛ بل أخبرك بقراري.

علمت كريمة بأنه لا جدوى من الحديث، فعقدت العزم على الرحيل، وكتبت إليها برسالة، خبأتها داخل زجاجة قد أهداها لها محمد، ولم تدر بأنها ستكون تذكارًا منه، فهي لم تستطع أن تكرهه، المحب لا يكره أبدًا.

-سنكون بخير يا ابنتي، لا تخافي يا حبيبة ماما، فأنا والله لن أتركك، سأخبئك بين عيناي، وأسأل الله أن يعوضني بكِ.

تركض كريمة بأقصى سرعتها بعيدًا عن المكان الذي ترعرعت فيه، وشهدت فيه أيام طفولتها ما بين سعادة وشقاء، قررت التخلي عن كل شيء، والبدء من جديد في بلدة أخرى، لا تضطر فيها إلى الزواج بغير حبيبها، الذي بادرها بالفراق، تحمل بين يديها قطعة منه، وتعدها في حنان قائلة:

-أقسم لكِ يا ابنتي بأنني لن أفارقك قط، وسأفعل كل ما بوسعي لأجل سعادتك، سأستمع إليكِ دومًا، ولن أكون نسخة من والدتي، فكم هي قاسية، ولا تعرف سوى التعنيف، يا ليتها كانت حنونة مثلي، فأنا لن أسمح لشبح الحزن أن يقترب منكِ.

انتقلت كريمة من مدينة القاهرة إلى الإسكندرية، حيث ذهبت إلى البحر عند وصولها، وألقت بالزجاجة فيه، تودع ماضيها، وتلقي بذكرياتها الأليمة داخله، وهي تنظر إليه نظرة ذات معنى، وهي تقول من بين دموعها:

-إلى اللقاء يا ماضي الأليم، في أمان الله يا رسالتي، لعل البحر يحملك يومًا إلى الشخص المناسب.

تُقبل ابنتها في حنان، وتغرق وجهها الصغير بالدموع، تقول لها في ألم:

-سامحيني يا ابنتي، فكم تمنيت أن يكون لي أبًا، ولكن ماذا فعل؟، وقد تركنا من أهداكِ إلي، فرغم ما فعله بي، إلا أنكِ ستظلين أجمل هدية منحني الله إياها.

صمتت للحظات، فقد أوقفتها العبرات، ثم أكملت قائلة:

-سأكون أنا أمك وأبيك، ولن أسمح لكِ أبدًا بالابتعاد عني، فأنتِ ابنتي وحبيبتي وصديقتي، وكل شيء في الحياة بالنسبة لي يا مريم.

استطاعت كريمة أن تُوفر لنفسها مسكنًا من راتبها، الذي تتاقضيه من عملها كسكرتيرة في شركة أحدهم، وكانت تأخذ ابنتها معها، وتتركها مع زوجة الحارس بالخارج، وتعطيها جزء من راتبها؛ كي تهتم بها، ونبهتها إلى ذلك زميلتها في العمل قائلة:

-يبدو بأنك في حاجة ماسة إلى ذلك العمل، ولأكون صادقة معكِ لن يحتملك صاحب العمل، إن رأكِ في هذه الحالة، فلا مكان للعواطف هنا، وإن علم بوجود ابنتك، قد يتسبب ذلك في فقدانك وظيفتك.

كريمة في حزن:

-وماذا أفعل؟، أين أتركها، وليس لدينا أحدًا هنا؟

-دعيها مع زوجة الحارس، واعطيها أجرًا من راتبك، فلا تخسرين العمل، وتكون ابنتك في أمان أمامك.

استجابت كريمة لنصيحتها على الفور، وبالفعل رحبت زوجة الحارس، فمرحبًا بمصدر رزق جديد، فهي تعين زوجها على المعيشة، تضم كريمة ابنتها مريم إلى صدرها في نهاية كل يوم عمل قائلة:

-أ تعلمين بأنك الشيء الوحيد الذي ينير حياتي؟، ولا أمل لي من دونك.

تمر السنوات الواحدة تلو الأخرى، فكبرت مريم ووقفت على قدميها لأول مرة، تخطو بخطوات غير ثابتة، وكادت أن تسقط، لتنقذها والدتها في الوقت المناسب:

-رويدًا رويدًا يا أميرتي الصغيرة، أعدك بأنني دومًا سأدفع الضرر عنكِ، وسأفعل ما أراه في صالحك.

يعود بها الوقت إلى الزمن الحالي، فقال لها إبراهيم في حدة:

-وهل ما تفعلينه بها الآن في صالحها؟

أجابته في حدة:

-بالطبع، نعم، فأخبرني ما الذي دفعك للقدوم إلى هنا؟، وكيف استطعت الوصول إلي، فقد ألقيت بهذه الرسالة منذ سنوات عديدة مضت، فلمَّ جئت لتجدد الشجن، وتعيدها إلي؟

-لعل الله أراد لكِ ولابنتي النجاة، فأنتِ لست في حالة طبيعية، وما من أم عاقل تفعل ذلك بابنتها.

هي في غضب:

-وماذا تفعل الأمهات العاقلات، تسيء إلى ابنتها، وتحدجها بنظرة نارية، وتقسو عليها بأبشع الكلمات.

-لا تغضبي أرجوكِ، وفكِ قيدي، فأنا لا أنوى سوى الخير لكما، ابنتك بحاجة إلى طبيب، وأنتِ كذلك، فاسمحي لي بمساعدتك.

تتذكر مريم الوقت الذي قامت فيه بإلقاء الرسالة، وذكرها لعنوان البيت القديم في القاهرة، المكان الذي لم تتوقع أبدًا أن تعود إليه، إلا أنها ما لبثت أن فعلت ذلك حين علمت بمرض والدتها، فظلت جوارها ترعاها حتى فاضت روحها إلى بارئها، وفي الصندوق الذي حمل مقتنياتها خبأت ابنتها مريم بعيدًا عن الأنظار، كبرت وأصبحت عروسًا، وتقدم لخطبتها العديد من الشبان، وشعر قلبها بالانجذاب نحو أحدهم، لتقتل والدتها الأحلام في مهدها؛ كي لا تتكرر قصة الأم مع ابنتها، فذلك الغائب لم يعود أبدًا، ولا تدري إن كان حيًا على قيد الحياة.

-فكي قيدي أرجوكِ.

-كي تقوم بإيذائي أنا وابنتي.

-أنتِ هي صاحبة الرسالة.

-نعم، أنا هي، وقد كتبتها لأمي، ومحمد هو حبيبي وابن خالتي، ذلك الماجن الذي غدر بي، فلم أر سلامًا قط حتى رأيت ابنتي وأسميتها مريم، الاسم الذي وقعت به الرسالة، فكم أحب ذلك الإسم، لسورة مريم في قلبي عظيم المكانة، ومنها أستمد القوة.

-أنتِ هكذا تؤذين ابنتك.

-ومن أنت لتقول ذلك؟

-لعل الله أرسلني إليكما في الوقت المناسب، فلا تفكري بي السوء أبدًا، لست سوى شخص يتمنى الخير لكما، فأرجوك أسرعي، قد يصيب ابنتك مكروهًا، انظري إلى حالتها وقد شحب وجهها، وبهتت ملامحها، يبدو عليها التعب الشديد.

تحبس السيدة كريمة ابنتها مريم في الصندوق منذ سنوات، وتتولى هي أمر إطعامها وشرابها، تُقيدها في مكانها، ولا تسمح لها بالحركة، فتخشبت مفاصلها، وغزا الألم كل أجزاء جسدها من تلك الوضعية، فهي تحبها حبًا شديدًا، ولا تتخيل حياتها دونها، أثر فراق زوجها كثيرًا عليها، وخشيت أن تفعل هذا ابنتها أيضًا، رفضت كل الخُطاب، واستأثرت بها لنفسها، ليرسل الله إليها إبراهيم رحمة بها، فهي لا تعي ما تفعله، تبدو أقرب إلى الجنون من هيئتها وتصرفاتها، إلا أن إبراهيم استطاع أن يُقنعها، ليأخذ ابنتها إلى المستشفى، ويتم حجزها هي أيضًا للكشف عن مدى صحة عقلها؛ وكي لا تؤذي أحدًا آخر، فكم آلمها الحب، وهتك بقلبها الغدر، واستوطن روحها الخوف، فاضطرت إلى فعل ذلك، كان ذلك هو الحل الوحيد أمامها، وإن بدا في نظر الكثيرين الشر بذاته.


تمت بحمد الله

لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة