رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش اقتباس الفصل 1 - الثلاثاء 19/11/2024
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
اقتباس
الفصل الأول
تم النشر الثلاثاء
19/11/2024
❈-❈-❈
هبط الدرج في تؤدة، لا رغبة لديه اليوم في أي جدال أو مواجهات، فقد خارت همته بالفعل، لكنه لم يكن بذاك الذي يُظهر ما بداخله للأعين المتربصة لاقتناص الوجع على قسمات وجهه، لتفرح بعض القلوب متشفية، لن يعطيهم الفرصة أبدا وأن كان يموت كل لحظة داخليا، وهو الذي تعلم منذ نعومة أظفاره أن يتألم في صمت، ويموت كالنخل صالبا عوده، حتى ولو أكل الوجع منسأة صبره وجلده.
توقف للحظات عند ذاك الحائط العريض، الذي يضم في نظام مدروس صور فوتوغرافية متعددة لجدوده وصورة واحدة لأبيه متصدرة المشهد، صورة باللون الأبيض والأسود، رفض والده أن يلتقطها المصور يومها بالألوان، حتى تكون مثل مثيلتها لأبائه وأسلافه.
جال بناظريه على الصور في عزة، وزفر في قلة حيلة، محاولا الاعتذار لهم عن خطأ لم يرتكبه، بل أخطاء عدة، لا علم له بمن ارتكبها، لكنه يدفع هو اليوم، ثمنها غاليا من سمعة العائلة وتاريخها العريق ..
أنتزع من خواطره المحزنة عنوة وقد انتفض متوجها بكليته نحو خفيره شبل، الذي اندفع لداخل السراي صارخا في ذعر: غيتنا يا بيه، إلحج المحصول! الشونة ولعت فيها النار.
لم يرد عليه بكلمة للحظة مأخوذا، لكنه استعاد صوابه سريعا أمرا خفيره في عجالة: لِم الرچالة كلهم على هناك، ياللاه إرمح، وأنا چاي وراك، هِم بسرعة..
واندفع لخارج الدار وخفيره في عقبه، لينفذ ما أمره به، توقف للحظة عند الأعتاب حتى يأتيه السايس بفرسه، وما أن هم بالتحرك، إلا وهتفت جدته الطاعنة في العمر والجالسة على كرسيها العتيق، تسند ذقنها المتغضن فوق كفيها وقد اعتلى أحدهما الأخر محتضنا رأس لعصا ابنوسية قيمة، تتطلع للأفق في انتظار ما لا يأتي، مؤكدة بنبرة متحسرة، دون أن توجه ناظرها إليه: جُلت لك فتحت على روحك طاجة چهنم، طاطي للريح لچل ما تعدي على خير، متبعتش كلامي..
وتنهدت في حزن مستطردة: مش هيسيبوك فحالك يا ولدي..
هتف حبيب في نبرة صلبة كلها تصميم : متخلجش اللي يخليني اطاطي راسي، يبجى أروح أنجبر أحسن، متجلجيش يا ستي أني كدها .. ولو هم فتحوا عليا طاجة چهنم، والله ما حد هيتحرج فيها إلا هم ..
هزت العجوز رأسها على أمل، ولم تعقب بحرف، ليأمرها في لطف: ادخلي چوه يا ستي، الدخان هيملى الچو دلوجت، وهيتعب صَدرك ..
تطلعت إليه للمرة الأولى منذ بدأت حديثها، هاتفة في شجن: ما يتعب، هو بعد وچيعة الجلب فيه ايه تاني يتعب يا ولدي .. معادش.. كله محصل بعضه .. روح يا اللاه إلحج اللي تجدر عليه..
هتف مناديا على نبيهة، أمرا إياها بالدخول بجدته للداخل، حتى يكون مطمئنا عليها، جاءه فرسه، فاندفع معتليا إياه في قفزة محترفة، وهو يضع طرف عمامته متلثما، حتى لا يؤثر عليه الدخان الذي بدأ يقترب، معبقا الهواء برائحة الغل والرغبة في الإذلال والتعالي..
اندفع في طريقه، يقسم انه لن ينحن مهما حدث، لكنه بغتة، شد لجام فرسه في قوة، محجما إياه عن التقدم مارا بالجسر عندنا طلت تلك العربة الصغيرة على بدايته وها هي تتوقف في منتصفه تماما بلا حراك..
زفر في ضيق، مشيرا لقائدها الذي لم يتبينه، بأن يتقدم حتى يسرع لموضع الحريق، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن على الرغم من محاولة سائق العربة التقدم بالسيارة، إلا أنها أبت في تصميم، ولم تتحرك قيد انلمة، ما دفعه رغما عنه، لترك الزمام لفرسه، ليندفع في اتجاه العربة، ليشهق ركابها في صدمة لفعلته..
تخطى السيارة بالفرس قافزا في سهولة، ونزل الفرس على مقدمة الجسر من الجانب الأخر في كل سلاسة، مستطردا اندفاعه لحال سبيله..
لكن قائدة العربة،أخرجت رأسها من نافذة سيارتها، متطلعة لذاك الذي قام بأكثر الأفعال حماقة من وجهة نظرها، وصرخت في انبهار مخلوط بنبرة حانقة، موجهة كلامها لرفيقها، الجالس جوارها يشمله الذهول بدوره: شوفت المجنون ده عمل ايه!؟
أكد ممدوح بلا مبالاة بعد أن هدأت حدة ذهوله: أديكِ قولتي بنفسك، مجنون .. يعني أنتِ مش فاكرة لولو قالت إيه عن الناس دي!
هتفت هي مؤكدة: عندك حق..
واستطردت في فضول وهي تعيد ناظرها إلى الطريق الذي اندفع نحوه ذاك الملثم: بس يا ترى ايه اللي مخليه يجري بفرسه كده!؟ أكيد في حاجة مهمة ..
أكد رفيقها بنفس اللامبالاة : ولا مهمة ولا حاجة، مش لسه قايلين إنه مجنون، سيبك بقى من الأخ المعتوه ده، وياللاه بينا، خلينا نوصل ونرتاح.. الطريق كانت فعلا طويلة قوي، وكمان لسه ورانا حكاية كبيرة..
تطلعت إلى العربة وهتفت به: هو أنت مخدتش بالك أن العربية عطلت، ما أنا حاولت اتحرك عشان هو يعدي ومعرفتش..
هتف رفيقها في حنق : أهي كملت ..
ترجلت من العربة في اتجاه بداية الجسر، ليهتف بها رفيقها: على فين !؟
أكدت في فضول قاتل : عندي فضول أعرف الدخان اللي بدأ يملا الجو ده جاي منين ؟ شكله له علاقة بالمجنون إياه..
هتف رفيقها في حنق: ملناش دعوة، خلينا في موضوعنا، وبلاش فضولك ده اللي دايما مودينا ف داهية..
تجاهلت ممانعته، واندفعت في اتجاه الطريق الذي سلكه ذاك الفارس، ليتبعها رفيقها في غيظ، ولم يكن من الصعب عليهما الوصول، وقد وجدت كثير من الرجال والنساء على حد سواء، مندفعين في الاتجاه المطلوب دون أي حاجة منها للسؤال.
كان الحريق مشتعلا، والجميع يحاول على قدر استطاعته اخماده، اندفعت في تهور كعادتها لتساعد، إلا أن رفيقها أحكم قبضته على معصمها محذرا: أنتِ رايحة فين! مالنا إحنا واللي بيحصل، خلينا فحالنا يا أنوس.. إحنا جايين هنا لهدف محدد، بلاش ندخل فاللي ملناش فيه ..
جذبت معصمها من كفه، مؤكدة في حزم: إيه دخل مساعدة الناس فاللي جايين عشانه!
واندفعت تحمل أحد الدلاء، لتقذف بالماء نحو الحريق، الذي بدأ يخمد قليلا، لكن ما زالت ألسنة لهيبه تتأرجح كأنها تخرج لهم لسانها مستهزيئة بقدراتهم المحدودة على حصارها.. بينما وعت هي لبعض الرجال تتناول أجوال من الداخل، يسلمها لهم شخص يندفع بحمار معصوب العينين، في اتجاه الحريق في جسارة، ويخرج به، ظهره محمل بعدة اجولة مسلمها لهم.. ليعاود الكرة.. لم يكن ذاك الشخص، إلا المجنون الملثم الذي تخطى عربتها في قفزة واحدة بفرسه منذ بضع دقائق..
لا تعرف كم مر من الوقت، وهم على ذاك الوضع، لكن كل ما يهم اللحظة، أنهم استطاعوا السيطرة على النيران، التي خمدت بفضل الله، ولم يبقى منها إلا اثر من أدخنة خانقة، عبقت الأجواء، وملأت الحناجر والصدور..
شعرت ببعض اختناق، فقررت ترك موضعها، والابتعاد قليلا، وهي تسعل في قوة، تنبه هو لذاك الذي يقترب من موضعه، حيث جلس يأخذ قسط من الراحة، وقد أزاح عن وجهه لثامه، يحاول أن يلتقط أنفاس من هواء نقي، بعيدا عن الأدخنة الخانقة..
تطلع إليها، وعقد حاجبيه في تعجب، لكن ما أن رفعت وجهها وسقط ناظره على قسماتها، إلا وانتفض واقفا، لا يصدق ما تراه عيناه اللحظة قبالته، معتقدا أنها صورة من ماض سحيق، تطل اللحظة من خلف غمام الغيب.. لتصبح أيامه أكثر إرباكا مما هي عليه بالفعل..
يتبع...