رواية جديدة كيان مستغل مكتملة لشيماء مجدي- الفصل 1 - الجمعة 17/1/2025
قراءة رواية كيان مستغل كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية كيان مستغل
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة شيماء مجدي
تم النشر الخميس
17/1/2025
الفصل الأول
صرخة مدوية اهتزت على إثرها أرجاء البيت كافةً، ممَ أفزع جميع العاملين به، وأوقع قلوبهم، وعلى عجالةٍ من أمرهم، والهول قد ملأ وجدانهم توجهوا نحو مصدر الصوت، الذي تعرفوا على صاحبته، فور وقوع صدى الصراخ –الذي تكرر بتزايدٍ مرعبٍ- على سمعهم، وهي الابنة الوحيدة للأسرة مالكة البيت، والتي تدعى بـ"كيان".
دلفوا بخطواتٍ تهرول داخل الغرفة القابعة بها، التي انتقل إليها والدها منذ بداية غيبوبته، التي مر عليها بضعة أيامٍ، ومنذ حينها وقد رفضت رفضًا قاطعًا ذهابه لأي مشفى، وطلبت من طبيبه الخاص أن يتولى الإشراف على حالته من البيت، وهي بدورها ستوفر له كل ما يحتاج، من أجهزة طبية، أدوات، أدوية، وغيرها من المستلزمات المطلوبة، وذلك راجعًا لخوفها الشديد من البقاء في المشفى من ناحية، ومن ناحية أخرى لرغبتها في التواجد معه في سائر الأحيان دون تقييد، وتحملت هي المسئولية التامة لتلك المجازفة.
ولكن ما فعلته، وما تكبدته الآونة الأخيرة ليستعيد والدها وعيه وعافيته، لم يكن كافيًا لتأخير أجله الذي كان نافذًا. لم تتوقف عن الصراخ الذى صاحبه تشنجات عصبية أصابت سائر جسدها، آبيةً أن يبعدها أى أحد عن جثمان والدها، الذى فارق الحياة لتوه بسكتةٍ قلبية. ظلت تصرخ وتناديه بصوتٍ تقطع وكأن أحبالها الصوتية قاربت على التمزق، مع اقتناع –تحاول أن تنفي به الخبر الصادم- بأنه سيستمع لندائها، ويفيق من نومته المؤقتة كما خيل لها عقلها الرافض للحقيقة الحاتمة.
ظلت تدفع بكل من يقترب منها بعصبيةٍ مهيبة، وتصرخ به بجنونٍ عارم، حتى شعر الطبيب بخطورة الحالة التى وصلت لها، فقد قاربت على انهيارٍ عصبي حاد، ومن المحتمل أن يتضخم الوضع إن لم يتدخل في الحال. على الفور أمر ممرضتيه أن تتوجهان إليها وتحكمان الإمساك بها، امتثلتا لأمره، وبينما كانت هى لا تكف عن الصراخ ومحاولة إفلات جسدها منهما، قبض الطبيب على أحد ذراعيها بقوة لكي لا تستطيع سحبه منه، وحقنها سريعًا بإبرة طبية، تخلل عن طريقها لوريدها المهدئ شيئًا فشئ.
شعرت حينئذٍ باسترخاءٍ بكامل جسدها، تسبب في عدم قدرتها على الحراك، حتى صوتها لم يعد ينفذ عبر سمعها رغم أنها تشعر بخروج الكلمات من بين شفتيها التي كانت تهسهس بصوتٍ انخفض حتى سكن تمامًا، مع السحابة الضبابية التب ظهرت أمام عينيها، ممَ جعل جفنيها ينهالان لأسفل رويدًا رويدًا، ولم تستمع سوى لصمتٍ ساد بالمكان من حولها أفقدها شعورها بعدها بكل شيء.
بعد عدة ساعات بدأ مفعول المهدئ في الزوال، وبدأت هي تفتح عينيها ببطءٍ، وكأنها تستيقظ من نومٍ طويل، أخذت تتنقل بنظرها بأرجاء الغرفة وهى تائهة، قامت من نومتها لتجلس على الفراش وهى تشعر بدوارٍ بالغ وصداع شديد يكاد يفتك برأسها، وضعت يدها تتحسس جبهتها وهى شاعرة بتألمٍ بالغٍ في مفترق أنحاء جسدها، وبعد مضي الوقت واختفاء تأثير المخدر بشكل تام، تداركت كونها بغرفتها.
أحست بوخزة بقلبها، مع استعادة ذهنها للحدث المهيب، قامت بوضع يدها فوق موضوع قلبها، محاولة تهدئة دقاته الهادرة بعنف، وهي تقنع نفسها بأنه حلمًا بل كابوسًا تجسد في منامها، ووالدها الحبيب ما يزال بخير وعلى قيد الحياة. لم تكَد تنهض من فوق الفراش حتى تذهب إليه لتؤكد لنفسها ظنونها الواهية، إلا ووجدت والدتها تلج الغرفة، بهالة سوداء قبضت قلبها، ارتدائها لذلك اللون بعث في نفسها الخوف، كما أن احمرار وجهها الذي يشير إلى بكاءٍ قد توقفت عنه لتوها ضاعف من وتيرة تنفسها عن الطبيعي، واختلجها شعور بأن قلبها سيخرج من موضعه من كثرة وجيبه، فكل ذلك يشير إلى حقيقة ستكسرها إلى الأبد.
فاقت من تيهها عند شعورها بيد والدتها التى وضعت فوق ذراعها، والتي أتبعها صوتها المبحوح وهي تتسائل:
-بقيتي كويسة دلوقتي يا كيان؟
ابتلعت بوجلٍ مع إحساسٍ بغصة استقرت بحلقها الجاف، تكاد تخنقها ممَ يتضح لها، وقالت برغبةٍ فى تكذيب كل ما يجول بفكرها من توقعات مخيفة، سائلةً بصوتٍ مهزوز:
-بـ.. بابا مجرالوش حاجة.. صح؟
ربتت "سُمية" على ذراعها بأسيٍ وحزنٍ بالغٍ طغى على ملامحها، وأجابتها:
-أقرأيله الفاتحة يا حبيبتى واترحمى عليه، هو مش محتاج غير كده دلوقتي.
توسعت عيناها باتساعٍ شديد، وهزت رأسها بعدم تصديقٍ، تهاوت الدموع من طرفيها وبحركة متعجلة –تخشى أن يكون قد فات الآوان- نهضت راكضة للخارج، متوجهة إلى غرفة والدها، الذى تم غسله وتكفينه، فكل ما ترغب به الحين –بعد تأكيد موته القاسي- هو رؤية وجهه فقط، واحتضانه للمرة الأخيرة.
دلفت الغرفة باندفاعٍ فاجأ المتواجدين، التي لم ترَ أيا منهم، فقد كان نظرها موجهًا نحو الفراش، الذي وجدته ما يزال ممددًا عليه، بخلاف أنه الحين ملفوف بشرشف أبيض اللون، أخفى كل معالم جسده ووجهه الجميل، عندما وقعت حدقتيها عليه وهو بتلك الهيئة، تهاوت على الأرض كأنما قد شلت قدميها من المنظر، اتكأت على الأرض بذراعيها وراحت تبكي بقهرٍ، فقد فارقها والدها، حبيبها، صديقها الوحيد، ورفيق أيامها، ظلت تبكي وجسدها ينتفض بقوة نتيجةً لشهقاتها القوية، مما قطع نياط قلب الواقفين، يتابعون بصمتٍ آسفٍ انهيارها العظيم.
قامت بصعوبةٍ بالغة متحاملة على رجفة قدميها التي تجعلها لا تقوى على الحراك خطوة واحدة، سارت نحو الفراش وهى تدفع نفسها بخطوات مهزوزة، وما إن اقتربت من جانب السرير حتى ارتمت فوق صدره وانهارت باكية بصوت هادرٍ، قابضةً على كفنه تهز جسده وهى دافنة رأسها بصدره، تقول بنحيب:
- قوم يا بابا عشان خاطري، قوم يا بابا انت مش هتموت وتسيبني، انا مش هعرف اعيش من غيرك، قوم يا بابا..
بحثت عن يده ولكن تعثر عليها الإمساك بها من أسفل الكفن، حينها ازداد نحيبها وهي تردد:
-انت قولتلي إنك هتفضل ماسك في ايدي طول العمر متخلفش بوعدك معايا، انا ماليش اصحاب غيرك، ماليش حد غيرك عشان خاطري يا بابا متسيبنيش، متسيبنيش يا بابا.
انهمرت دموع جميع من بالغرفة من كلماتها المؤثرة، ولكن أحدهم تحرك نحوها عندما وجدها تحاول فك الكفن من عند موضع الرأس، استوقفها ممسكًا بيديها متكلمًا بهدوءٍ ولينٍ، محاولًا تهدئتها، ومنعها قائلًا:
- مينفعش يا بنتي، هو خلاص اتكفن اللي بتعمليه ده حرام.
أدارت وجهها نحوه، رمقته بعينيها الحمراوتين الغارقتين بالدموع، وقالت بترجيٍ متوسل وعبراتها لم تتوقف عن الانهمار:
-هشوف وشه بس.. عشان خاطري سيبني اشوف وشه، عايزه ابوس دماغه واشوف ملامحه لآخر مرة.
حاول ردعها قدر الإمكان، ولكن بلطف حتى لا تعود لطور اهتياجها، هو يعلم أنه لا مانع شرعًا من الدخول على الميّت وكشف وجهه لتقبيله وتوديعه؛ سواء في ذلك الأقارب والأحباب، بل هو من هدي السنة النبوية المشرفة، وفعل السلف الصالح رضوان الله عليهم. ويستوي في ذلك وقوع التقبيل قبل التكفين وبعده، ما لم يترتب عليه مفسدة؛ كحدوث جزعٍ أو فزعٍ ممن يدخل عليه، أو تغير جسد الميت أو وجهه لمرضٍ أو غلبة دمٍ أو نحوه؛ سدًّا للذريعة وخوفًا من سوء الظن به ممن يجهل حاله. لذلك هو يخشى من تبعات رؤيتها لوجهه، فحينها أما ستفزع من رؤيته، إما ستمتنع عن تركه والسماح لأحد بأخذه، احتوى ذراعيها بقبضة من يديه، ورفعها من فوق الفراش برفق، حتى لا تُعند وتتشبث بجثمان والدها، وخلال ذلك كان يقول بصوتٍ حنون:
-قومي يا بنتي معايا وادعيله بالرحمة.
مسكت يده بضعفٍ محاولةً إبعادها عن أحد ذراعيها، ونظرها لا يبتعد عن والدها الذى لا يظهر منه شيء، ثم تكلمت بوهن:
-هبوس دماغه طيب من فوق الكفن.. مش هاجي جنبه والله هبوسه واحضنه بس.
فك الرجل حصاره لجسدها، وترك ذراعيها بقلة حيلة، عاودت حينها الإنحناء نحو جسد أبيها، وجلست برويةٍ بجانبه اقتربت منه بجسدٍ يرتجف واحتضنته بقوة ودموعها لا تكف عن الانسدال، عقلها يعجز عن تصديق أنه بات جسدًا بلا روح، قربت شفتيها من جبينه، وطبعت قبله مهزوزة فوق القماش، أغمضت عينيها وظلت متكئة بشفتيها فوق جبهته لدقيقة، محاولة الشعور بدفء حضنه، بعد لحظات ابعدت وجهها وقالت له بخفوت، كأن ما تقوله سر من الأسرار التي تجمعهمها من صغرها، مهسهسة:
-هتوحشني اوي..
تحكمت بصوتها المهزوز والغصة التي تخنفها وتابعت بألمٍ:
-بس انا هفضل فكراك وهقرألك قرآن على طول، هفضل مستنية اليوم اللي هجيلك فيه ونرجع مع بعض تاني..
رفعت جسدها بصعوبة عنه وودعته بقولها:
-مع السلامة يا حبيبي.
قبلت جبينه مرة أخرى ثم قامت من جواره، حينها أتى رجلان من خلفها، وانتشلا جثمانه من فوق الفراش، وعاونهما اثنان آخران في وضعه بداخل الصندوق الخاص بالموتى، المسمى بالتابوت، لم تتحمل رؤية ما يحدث، شهقت ببكاءٍ مرير، وبينما تضع يدها على فمها حتى تتحكم بنحيبها المصدوم من رؤية جسده المفارق للحياة بين أياديهم، التفتت مغادرة الغرفة بأكلمها.
❈-❈-❈
دون استئذانٍ مسبقٍ دلف حجرة الاجتماعات، ممَ تسبب في قطع الاجتماع المقام في الداخل، وجعل التفاجؤ يعلو وجوه الجميع، خاصة ابنه الذي يترأس الجلسة، ظهرت على وجهه علامات غضب يخالطه الاستغراب، خاصة عندما وجده تكلم بنبرة عالية، موجهًا الحديث للموظفين وهو يتوجه بخطواته نحوهم، قائلًا:
-الاجتماع انتهى، كله يروح على مكتبه.
بعد نهوض الموظفين وخروجهم أجمعين، عاد ابنه بظهره على المقعد الذى يرأس الطاولة الكبيرة، التى يجلس حولها الموظفون، أثناء حضورهم الاجتماعات التى يقيمها، كونه المدير العام وابن مالك الشركة، ينظر لوالده بهيمنته وغروره الموروث منه، بعينيه الرماديتين، منتظرًا أن يخرج ما بجعبته، فإنهائه للاجتماع من المؤكد أن ورائه سببٍ كبيرٍ لا يتطلب إرجائه لبعض الوقت، قابله والده بنظرات مبهمة، ووجه جامد يخلو من المشاعر لم يفهم من خلاله شيئًا كعادته الغامضة، ولكنه أفصح عن الأمر الجلل بعد لحظاتٍ، حينما قال له بغتةً بثباتٍ غريب:
-عمك مات..
اعتدل الأخر فى جلسته بصدمةٍ، واتسعت عيناه وهو يردد:
- مات!
تجاهل صدمته الواضحة، وتابع على نفس المنوال المتسم بالجمود:
-قوم معايا عشان نحضر الدفنة ونبقى موجدين من بدري عشان ناخد العزا.
زالت صدمته اللحظية وأومأ له برأسه بالإيجاب، حينها استطرد والده وهو يشرع في المغادرة:
-اخلص يلا مفيش وقت، انا هستناك فى العربية
غادر الغرفة بعد ذلك آخذًا خطواته نحو المصعد في نهاية الردهة، من ينظر إلى هيئته الصلبة تلك، لن يتوقع أنه قد تلقى منذ قليل نبأ وفاة شقيقه الأصغر، وأنه ذاهب الآن لدفنه، وأخذ عزائه، فتلك التعبيرات الصلبة مجردة تمامًا من جميع المشاعر الإنسانية، وليست غريبة على واحدٍ مثله، اختلق عداوة دامت لسنوات مع شقيقهِ، "نوح الراشدي" صاحب الخمسين عامًا، ذو جسد يتنافى تمامًا مع عمره، فما يزال محتفظًا بقوته الجسمانية، وصحته البدنية، ملامحه التي تتسم بالجمود الدائم، مع نظرة ثاقبة تجعله بهيئة شديدة الحدة، يملك بعض شركات الإلكترونيات، توقف عن مباشرة أعماله بنفسه، بعدما تولى ابنه الإدارة كاملة.
بداخل المرآب، حيث تصطف سيارته الفخمة، سار بخطوات مهيبة، حينما بات على مقربة منها تقدم إليه سائقه، مسرعًا في فتح باب مقعده الخلفي، جلس به منتظرًا انتهاء ابنه، ونزوله إليه، حتى يذهبان سويًا لبيت أخيه الذي وافته المنية.
في الأعلى قبل نزوله، توجه إلى مكتبه لأخذ متعلقاته الشخصية، "راغب نوح الراشدي" الأبن الأكبر لـ"نوح الراشدي" وذراعه الأيمن بالعمل، حيث أنه قد أعطى له إدارة شركاته، وسلمه حرية التصرف بهم مؤخرًا، وذلك لدهائه وحنكته فى الإدارة، رغم صغر سنه الذي لم يتجاوز الثلاثة وثلاثين عامًا.
التقط سترة حُلته الرسمية، الموضوعة فوق ظهر مقعده، ارتداها بهدوء ثم هندم ملابسه جيدًا، فهو من هؤلاء الذين يهتمون بالمظاهر الخارجية للغاية، ورث عن والده غروره وهيمنته الطاغية، عيناه المقاربتان للون الرمادي ضيقتا الحجم تعطيه سحرًا خاصًا، مع بشرته الخمرية، وخصلاته بنية اللون، ولحيته المشذبة دائمًا بنفس اللون، تجعلنه كمن لا يشوبه شائبة.
في طريقه للمصعد أخبر مساعدته الخاصة بأن تقوم بإلغاء باقي اجتماعات اليوم، وترجئ أي موعد ليوم آخر، ثم سار بخطواتٍ واثقة، بجسده السامق عريض المنكبين، وقامته الفارعة، التي تعطي له هيئة تخطف الأنظار.
دلف المصعد، ضاغطًا على ذر النزول لأسفل، حيث ينتظره والده بالمرآب، ليتوجهان للقيام بواجب العزاء، لا يظهر عليه أي أمارات حزن أو تؤثر بعدم علمه بذلك النبأ، فأسرته لم تكن على علاقة طيبة سواء بعمه أو أسرته، أو بالأحرى لم يكن بينهما أي اختلاط بالأساس، وهو منذ الصغر كان واضعًا جام اهتمامه بدراسته، وبعدها انتقل ذلك الاهتمام إلى عمله، فلم تكن العائلة ضمن أولوياته من قبل، كل ما يسعى له مكانته الاجتماعية، وتليها نزواته الشخصية، التى ينغرس بها فى الخفاء، كونه متحفظًا لا يحب كثرة الأحاديث المتفرقة حول حياته أو شئونه الخاصة.
التقطت عيناه خلال سيره نحو سيارته، سيارة والده المنتظرة في الخلف، أخرج هاتفه من جيبه وأجرى مكالمةً به، فُتح الخط أثناء دلوفه السيارة، فتكلم "راغب" قائلًا له وهو يدير المحرك:
-بابا انا هاجي بعربيتي، خلي السواق يطلع يلا انا خارج من الجراج خلاص.
في الناحية الأخرى كان والده مشتاطًا من عدم إخباره بنيته فى الذهاب بسيارته الخاصة من البداية، وجعله ينتظر تلك المدة دون فائدة ترجى، أنهى المكالمة دون رد، ثم أخبر سائقه بأن يتحرك.
سارت السيارتين متجاورتين، فى وجهتهما لبيت "بكر الراشدي"، وكل واحد منهما يخامره شعور يختلف عن الآخر، فـ"راغب" لم يكن يشغله سوى تأدية الواجب، من أجل الصورة الظاهرية أمام الجميع،إرضاءً لمظهرهم الاجتماعي، الذى لا يكترث لشيءٍ سواه، بينما كان "نوح" في واديٍ آخرٍ، تدور برأسه أمور عدة، يرى أنه قد جاء وقتها المحتوم، التي عن طريقها سيحصل على كل ما سعى إليه مسبقًا، فموت أخيه لن يجعله يقبل بالخسارة، أو الارتضاء بالأمر الواقع.
❈-❈-❈
في تلك اللحظة التي تم حمل الجثمان للخروج من الفيلا، كان من العسير على أي أحدٍ من المتواجدين منعها من الركض خلف النعش، فقد أصابتها حالة من الهلع من تطرق فكرة أنه ذاهب الآن بلا رجعة، لن يتسنى لها رؤيته مرة ثانية، فراق أبدي لا سبيل بعده للقاء آخر، فقد ظلت تهرول حتى الحديقة وهى تصرخ من بين نحيبها:
-بابا متسيبنيش..
تعركلت في الهواء من ركضها المتلهوج، وتابعت بعد أن تحكمت في خطاها:
-مش هقدر اعيش من غيرك عشان خاطري متمشيش يا بابا.
خلال تفوهها بتلك العبارات الناشجة، شعرت بأحدٍ قد أحكم ذراعيه حول جسدها من الخلف، مقيدًا حركتها لعدة لحظاتٍ وهي على نفس منوالها الصارخ، حتى ازدادت المسافة بينها وبين النعش، حينئذٍ التفت له بذعرٍ بعد أن تداركت تقيده لها، وحدقت به بعينيها الحمراوتين التى اختفت رماديتيها خلف دموعها المنهمرة بقوة فوق وجنتيها، وجدته "راغب" ابن عمها، نظراته الثابتة ومسكته القوية توحي بعدم تركه لها، حينها شعرت بدقات قلبها تهدر في صدرها، وكأن حياتها قد باتت على المحك، فقد قارب النعش على الخروج من البوابة الخارجية، حاولت دفعه والفكاك من حصاره وهي تتلوى بجسدها، قائلة بصراخ ونبرة يظهر بها تأثير عويلها السابق:
-سيبني، ابعد عني خليني اروح وراه..
فرقت النظرات المرتعدة بينه وبين عصبة الرجال الحاملين جثمان والدها، وهي تتابع بجنون:
-ابعد عني هياخدوه ويمشوا..
لم يرخِ ذراعيه عنها، بالرغم من حركاتها التي بدأت تزداد عنفًا، وحينما يأست في تركها، حولت نظرها للحشد الضئيل الذي خرج لتوه من البوابة، وهتفت صائحةً:
-سيبوه متاخدوهوش مني، متمشوش استنوا..يا بابا..
ازداد جنونها حينما اختفوا من أمام مرمى بصرها وتشنج جسدها بصورة بالغة وهي تصرخ:
- سيبني سيبنــــــي.. يا بـــاابــــاا.
عجزها عن إزاحة ذراعيه جعلها تزداد في هوجائها، وتلويها بجسدها، ومن بين صراخها ونشيجها القوي استمعت لصوته الأجوف بنبرته الجامدة وهو يقول بجانب أذنها:
-اللي بتعمليه ده مش هيرجعه هو خلاص مات.
وقوع عبارته الأخيرة على سمعها كانت قاسية، وصادمة في نفس الآن، فكأنما تتلقى خبر وفاة والدها للمرة الأولى، تيبس جسدها وكأنه قد شل في موضعه، وزاغ نظرها في الفراغ تحاول تدارك تلك الحقيقة التي تنكرها كلما صدقها عقلها، حينئذٍ ظن أن طريقته جاءت بنتائج مرجوة، ونجح في إعادتها إلى رشدها، مما جعله يطنب:
-فوقي يا كيان وبطلي اللي بتعمليه ده، ابوكي مات.
تكراره لذلك النبأ الصادم كان بمثابة انتشالها من السكون وإلقائها إلى حافة الجنون، فأومأت برأسها بنفيٍ بحركاتٍ هيسترية، وتوسعت عيناها بصدمةٍ تكاد تكون أكبر من صدمتها الأولى عند تلقيها الخبر، انهارت بين يديه أكثر من ذي قبل، وظلت تصرخ إلى حدٍ فجعه، وأعجزه عن التحكم فى صراخها أو تشنجات جسدها، ولكنه ظل محكمَ الإمساك بها، خشيةً من تركها بعد أن وصلت إلى تلك الحالة.
بعد أن أخذ جسدها كافيته من الإجهاد، واستنفزت أعصابها بانهيارها الحاد، خارت طاقتها تمامًا، ومعها جسدها الذي ارتخى شيئًا فشىء بين ذراعيه، وعندما وجده قد سكن بين يديه، تدارك كونها قد فقدت الوعي، حينها ثبت أحد ذراعيه خلف ظهرها، وأنزل الآخرأسفل ركبتبها ثم استقام بعد حملها بشكل كامل، وسار بها إلى الداخل، حتى يصعد إلى غرفتها.
في الداخل كان البيت فارغًا، لم يكن به غير بعض العاملين المتواجدين بالمطبخ، لم يجد في طريقه للأعلى أحدًا ليستفسر منه عن موضع غرفتها، ولكنه توجه مباشرة نحو الدرج، محاولًا تذكر أثناء صعوده، مكان الغرفة، فهو لم يأتِ لزيارتهم طوال حياته سوى مرات تُعد، ولم يصعد لغرفتها إلا مرة واحدة حينما كانت طفلة.
في الطابق الثاني، سار وهو يحملها في الردهة الطويلة التي تفضي بثلاث غرف، بعدما كاد يدلف إحداها، تذكر الغرفة التي تخصها، وعرج بجسده نحوها، بينما كانت الأخرى بين يديه، ساكنة تمامًا، لا يصدر منها لا صوت ولا حركة. بعد أن دلف بها الغرفة توجه مباشرة صوب فراشها، وضعها عليه بتمهلٍ ورفق، ثم رفع الغطاء ووضعه فوق جسدها المستكين، على النقيض مع حالتها الثائرة منذ دقائق.
بعد أن دثرها تحت الغطاء، كان ما يزال منحنيًا بجذعه نحو جسدها الممد على الفراش، جذب نظره احمرار وجنتيها وآثار دموعها المنسالة على وجهها، بتلقائية غير محسوبة رفع يده وكفكف عبراتها، وعن ذلك القرب الشديد وقعت عيناه على شفتيها المنتفختين إثرًا لبكائها منذ قليل، ابتلع بعد أن استحضر في ذهنه خيالات غير مباحة، وللغرابة وجد أنه لا يستطيع إبعاد مرمى بصره عنها، وكأنها تدفعه بسكونها الفريد –الغير إرادي- لفعلٍ محرمٍ، ودون تحكمٍ وجد نفسه يستجيب لشيطان رأسه، ودنا أكثر من وجهها، وعند اللحظة الفارقة أوقفه عن تجسيد ما دار في رأسه صوت رنين هاتفه المعلن عن تلقية مكالمة.
فاق على صوته الذي صدح بغتةً، كأنما جاء في اللحظة المناسبة ليمنع حدوث فعل مشين. ابتلع وهو يبتعد وقد تثاقلت أنفاسه بعض الشيء، وأخرج هاتفه من جيب بنطاله، وجد المتصل والده، فتح المكالمة ووضع الهاتف فوق أذنه، مجيبًا بصوت مهزوزٍ قليلًا:
- أ. أيوه يا بابا.
جاءه صوت والده المتكلم بحنقٍ، متسائلًا:
-انت فين يا راغب؟
انزعج قليلًا من حدة سؤاله، ولكنه رد عليه بصوت فاتر موجزًا:
-فى الفيلا.
صاح والده به فى غضبٍ سائلًا إياه:
- بتعمل ايه عندك؟
قلب عينيه بملل من طباع أبيه المتحكمة التى أصبحت تثير حنقه، وأجابه فى النهاية بعد زفرة حانقة:
-كيان كانت بتصرخ ومنهارة وفاجأة اغمى عليها وهي هنا لواحدها، فاضطريت اطلعها وافضل معاها.
تكلم الآخر بنبرة لانت بعض الشيء ولكن يشوبها الأمر:
-تمام خلاص خليك انت عندك وهنخلص واجيلك.
أنهى المكالمة وهو يشعر بالبغض على تلك المعاملة التى سأم منها، فهو ليس بصغير كي يتتبع خطواته هكذا، ويطالب بلائحة أسباب لأفعاله، وضع الهاتف في جيبه وكاد يغادر الغرفة، إلا أن عيناه عاودت النظر إليها ثانيةً، ولكن تلك المرة اختلفت نظرته، فقد كانت تحمل قليلًا من الشفقة التي شعر بها نحوها، فكلماتها، وانهيارها، وعدم وجود أحد بقربها ليشد أزرها استنتج من خلالهم سبب وصول حالتها إلى ذلك الحد المؤسف من موت والدها، فحتى والدتها تركتها وذهبت مع البقية لتشييع الجنازة، ورفضت مجيئها بحجة صراخها المتواصل، وخوفًا من تأزم حالتها وقت دخوله القبر، وحينها لن يكون بمقدور أحد السيطرة على الوضع، لربما محقة في أسبابها، ولكن كيف تترك ابنتها في حالة انهيار وتصم أذنيها عن بكائها، وتغمض العين عن هرولتها! حرك وجهه ببعض الأسف ثم بدأ في السير صوب الباب ليغادر الغرفة نزولًا لأسفل، فلم يعد لوجوده بالغرفة معها بدًا، كما أن وجوده مقتصرًا على أخذ العزاء، وحينما ينتهي سيغادر على فوره.
❈-❈-❈
بعد مرور أيام العزاء، وخلو البيت من الزوار، عاد كل شيء كما كان، وبينما كان الهدوء يعم المكان، طرق مرتين على باب غرفتها، ونظراته تتفقد مجيء أحدٍ في الجوار، فُتح الباب بعد عدة لحظات، وقابلته بزيها الأسود المعتاد، لم تتفاجأ من مجيئه، كأنما كانت في انتظاره، ابتعدت قليلًا سامحةً له بالدلوف، وأغلق هو الباب خلفه، تتبع خطواتها حتى منتصف الغرفة وهو يقول بهدوء به لمحة من الغموض:
-أكيد مش هتفضلي حابسة نفسك فى الأوضة كده يا سُمية.
قابلته بابتسامة مقتضبة وتكلمت وهي تحيد بنظرها لأسفل:
-انا مش حابسة نفسي، انت عارف ان مينفعش اعمل غير كده.
تعجب من حالتها الغريبة، وتحاشيها النظر له، وقبل أن يفسر الأمر من منظور آخر، وجدها تابعت بإيضاحٍ:
-عشان ابان الزوجة الأصيلة اللي حزنت على فراق جوزها.
مع نهاية ردها، رفعت له نظراتها ورمقته بنظرةٍ خبيثة، وابتسامة تتلاعب بلؤمٍ على شفتيها، حينها ارتسمت على شفتيه أخرى مشابهة لخاصتها، واقترب منها وحاوط خصرها، قربها إليه وهو يقول بخبثٍ مماثل:
-وهو فى زوجة أصيلة زيك.
وعن إيحاءٍ مقصود ببعض المرح أطنب:
-ده انتي الأصل بذات نفسه.
ضحكت بخفوت كي لا يصل صوتها للخارج، ثم تمتمت متسائلة بترقبٍ:
-حد شافك وانت جاي؟
أومأ بالإنكار وهو يقترب ليقبل شفتيها، بينما ابتعدت هي بتمنعٍ مصطنع، ووضعت يدها فوق فمه قائلةً بدلالٍ:
-بلاش هنا عشان كيان، ممكن تيجي في أي وقت.
جاب بيده بظهرها وهو يقربها إليه أكثر، وتكلم أمام شفتيها بأنفاسه الساخنة هامسًا:
- كيان مش بتخرج من اوضتها من ساعة موت بكر، والوقت متأخر زمانها نايمة أصلا.
استجابت للمساته التى أججت رغبتها، وجعلتها تخنع له في لحظتها، رفعت ذراعيها وحاوطت عنقه، ثم همست بأنفاسٍ لاهثة:
-وحشتني أوي يا نوح.
لم يرد عليها ليعبر عن اشتياق مماثل، ودنا منها مجسدًا ما جاء لفعله، بالوقوع معها في واحدة من العلاقات الجسدية المحرمة، الغارقين في بئرها السحيق منذ أعوامٍ مضت، ارضاءً لهوى نفسيهما، ولنيل مساعٍ مشتركة بين كليهما.
تم النشر الخميس
17/1/2025
الفصل الأول
صرخة مدوية اهتزت على إثرها أرجاء البيت كافةً، ممَ أفزع جميع العاملين به، وأوقع قلوبهم، وعلى عجالةٍ من أمرهم، والهول قد ملأ وجدانهم توجهوا نحو مصدر الصوت، الذي تعرفوا على صاحبته، فور وقوع صدى الصراخ –الذي تكرر بتزايدٍ مرعبٍ- على سمعهم، وهي الابنة الوحيدة للأسرة مالكة البيت، والتي تدعى بـ"كيان".
دلفوا بخطواتٍ تهرول داخل الغرفة القابعة بها، التي انتقل إليها والدها منذ بداية غيبوبته، التي مر عليها بضعة أيامٍ، ومنذ حينها وقد رفضت رفضًا قاطعًا ذهابه لأي مشفى، وطلبت من طبيبه الخاص أن يتولى الإشراف على حالته من البيت، وهي بدورها ستوفر له كل ما يحتاج، من أجهزة طبية، أدوات، أدوية، وغيرها من المستلزمات المطلوبة، وذلك راجعًا لخوفها الشديد من البقاء في المشفى من ناحية، ومن ناحية أخرى لرغبتها في التواجد معه في سائر الأحيان دون تقييد، وتحملت هي المسئولية التامة لتلك المجازفة.
ولكن ما فعلته، وما تكبدته الآونة الأخيرة ليستعيد والدها وعيه وعافيته، لم يكن كافيًا لتأخير أجله الذي كان نافذًا. لم تتوقف عن الصراخ الذى صاحبه تشنجات عصبية أصابت سائر جسدها، آبيةً أن يبعدها أى أحد عن جثمان والدها، الذى فارق الحياة لتوه بسكتةٍ قلبية. ظلت تصرخ وتناديه بصوتٍ تقطع وكأن أحبالها الصوتية قاربت على التمزق، مع اقتناع –تحاول أن تنفي به الخبر الصادم- بأنه سيستمع لندائها، ويفيق من نومته المؤقتة كما خيل لها عقلها الرافض للحقيقة الحاتمة.
ظلت تدفع بكل من يقترب منها بعصبيةٍ مهيبة، وتصرخ به بجنونٍ عارم، حتى شعر الطبيب بخطورة الحالة التى وصلت لها، فقد قاربت على انهيارٍ عصبي حاد، ومن المحتمل أن يتضخم الوضع إن لم يتدخل في الحال. على الفور أمر ممرضتيه أن تتوجهان إليها وتحكمان الإمساك بها، امتثلتا لأمره، وبينما كانت هى لا تكف عن الصراخ ومحاولة إفلات جسدها منهما، قبض الطبيب على أحد ذراعيها بقوة لكي لا تستطيع سحبه منه، وحقنها سريعًا بإبرة طبية، تخلل عن طريقها لوريدها المهدئ شيئًا فشئ.
شعرت حينئذٍ باسترخاءٍ بكامل جسدها، تسبب في عدم قدرتها على الحراك، حتى صوتها لم يعد ينفذ عبر سمعها رغم أنها تشعر بخروج الكلمات من بين شفتيها التي كانت تهسهس بصوتٍ انخفض حتى سكن تمامًا، مع السحابة الضبابية التب ظهرت أمام عينيها، ممَ جعل جفنيها ينهالان لأسفل رويدًا رويدًا، ولم تستمع سوى لصمتٍ ساد بالمكان من حولها أفقدها شعورها بعدها بكل شيء.
بعد عدة ساعات بدأ مفعول المهدئ في الزوال، وبدأت هي تفتح عينيها ببطءٍ، وكأنها تستيقظ من نومٍ طويل، أخذت تتنقل بنظرها بأرجاء الغرفة وهى تائهة، قامت من نومتها لتجلس على الفراش وهى تشعر بدوارٍ بالغ وصداع شديد يكاد يفتك برأسها، وضعت يدها تتحسس جبهتها وهى شاعرة بتألمٍ بالغٍ في مفترق أنحاء جسدها، وبعد مضي الوقت واختفاء تأثير المخدر بشكل تام، تداركت كونها بغرفتها.
أحست بوخزة بقلبها، مع استعادة ذهنها للحدث المهيب، قامت بوضع يدها فوق موضوع قلبها، محاولة تهدئة دقاته الهادرة بعنف، وهي تقنع نفسها بأنه حلمًا بل كابوسًا تجسد في منامها، ووالدها الحبيب ما يزال بخير وعلى قيد الحياة. لم تكَد تنهض من فوق الفراش حتى تذهب إليه لتؤكد لنفسها ظنونها الواهية، إلا ووجدت والدتها تلج الغرفة، بهالة سوداء قبضت قلبها، ارتدائها لذلك اللون بعث في نفسها الخوف، كما أن احمرار وجهها الذي يشير إلى بكاءٍ قد توقفت عنه لتوها ضاعف من وتيرة تنفسها عن الطبيعي، واختلجها شعور بأن قلبها سيخرج من موضعه من كثرة وجيبه، فكل ذلك يشير إلى حقيقة ستكسرها إلى الأبد.
فاقت من تيهها عند شعورها بيد والدتها التى وضعت فوق ذراعها، والتي أتبعها صوتها المبحوح وهي تتسائل:
-بقيتي كويسة دلوقتي يا كيان؟
ابتلعت بوجلٍ مع إحساسٍ بغصة استقرت بحلقها الجاف، تكاد تخنقها ممَ يتضح لها، وقالت برغبةٍ فى تكذيب كل ما يجول بفكرها من توقعات مخيفة، سائلةً بصوتٍ مهزوز:
-بـ.. بابا مجرالوش حاجة.. صح؟
ربتت "سُمية" على ذراعها بأسيٍ وحزنٍ بالغٍ طغى على ملامحها، وأجابتها:
-أقرأيله الفاتحة يا حبيبتى واترحمى عليه، هو مش محتاج غير كده دلوقتي.
توسعت عيناها باتساعٍ شديد، وهزت رأسها بعدم تصديقٍ، تهاوت الدموع من طرفيها وبحركة متعجلة –تخشى أن يكون قد فات الآوان- نهضت راكضة للخارج، متوجهة إلى غرفة والدها، الذى تم غسله وتكفينه، فكل ما ترغب به الحين –بعد تأكيد موته القاسي- هو رؤية وجهه فقط، واحتضانه للمرة الأخيرة.
دلفت الغرفة باندفاعٍ فاجأ المتواجدين، التي لم ترَ أيا منهم، فقد كان نظرها موجهًا نحو الفراش، الذي وجدته ما يزال ممددًا عليه، بخلاف أنه الحين ملفوف بشرشف أبيض اللون، أخفى كل معالم جسده ووجهه الجميل، عندما وقعت حدقتيها عليه وهو بتلك الهيئة، تهاوت على الأرض كأنما قد شلت قدميها من المنظر، اتكأت على الأرض بذراعيها وراحت تبكي بقهرٍ، فقد فارقها والدها، حبيبها، صديقها الوحيد، ورفيق أيامها، ظلت تبكي وجسدها ينتفض بقوة نتيجةً لشهقاتها القوية، مما قطع نياط قلب الواقفين، يتابعون بصمتٍ آسفٍ انهيارها العظيم.
قامت بصعوبةٍ بالغة متحاملة على رجفة قدميها التي تجعلها لا تقوى على الحراك خطوة واحدة، سارت نحو الفراش وهى تدفع نفسها بخطوات مهزوزة، وما إن اقتربت من جانب السرير حتى ارتمت فوق صدره وانهارت باكية بصوت هادرٍ، قابضةً على كفنه تهز جسده وهى دافنة رأسها بصدره، تقول بنحيب:
- قوم يا بابا عشان خاطري، قوم يا بابا انت مش هتموت وتسيبني، انا مش هعرف اعيش من غيرك، قوم يا بابا..
بحثت عن يده ولكن تعثر عليها الإمساك بها من أسفل الكفن، حينها ازداد نحيبها وهي تردد:
-انت قولتلي إنك هتفضل ماسك في ايدي طول العمر متخلفش بوعدك معايا، انا ماليش اصحاب غيرك، ماليش حد غيرك عشان خاطري يا بابا متسيبنيش، متسيبنيش يا بابا.
انهمرت دموع جميع من بالغرفة من كلماتها المؤثرة، ولكن أحدهم تحرك نحوها عندما وجدها تحاول فك الكفن من عند موضع الرأس، استوقفها ممسكًا بيديها متكلمًا بهدوءٍ ولينٍ، محاولًا تهدئتها، ومنعها قائلًا:
- مينفعش يا بنتي، هو خلاص اتكفن اللي بتعمليه ده حرام.
أدارت وجهها نحوه، رمقته بعينيها الحمراوتين الغارقتين بالدموع، وقالت بترجيٍ متوسل وعبراتها لم تتوقف عن الانهمار:
-هشوف وشه بس.. عشان خاطري سيبني اشوف وشه، عايزه ابوس دماغه واشوف ملامحه لآخر مرة.
حاول ردعها قدر الإمكان، ولكن بلطف حتى لا تعود لطور اهتياجها، هو يعلم أنه لا مانع شرعًا من الدخول على الميّت وكشف وجهه لتقبيله وتوديعه؛ سواء في ذلك الأقارب والأحباب، بل هو من هدي السنة النبوية المشرفة، وفعل السلف الصالح رضوان الله عليهم. ويستوي في ذلك وقوع التقبيل قبل التكفين وبعده، ما لم يترتب عليه مفسدة؛ كحدوث جزعٍ أو فزعٍ ممن يدخل عليه، أو تغير جسد الميت أو وجهه لمرضٍ أو غلبة دمٍ أو نحوه؛ سدًّا للذريعة وخوفًا من سوء الظن به ممن يجهل حاله. لذلك هو يخشى من تبعات رؤيتها لوجهه، فحينها أما ستفزع من رؤيته، إما ستمتنع عن تركه والسماح لأحد بأخذه، احتوى ذراعيها بقبضة من يديه، ورفعها من فوق الفراش برفق، حتى لا تُعند وتتشبث بجثمان والدها، وخلال ذلك كان يقول بصوتٍ حنون:
-قومي يا بنتي معايا وادعيله بالرحمة.
مسكت يده بضعفٍ محاولةً إبعادها عن أحد ذراعيها، ونظرها لا يبتعد عن والدها الذى لا يظهر منه شيء، ثم تكلمت بوهن:
-هبوس دماغه طيب من فوق الكفن.. مش هاجي جنبه والله هبوسه واحضنه بس.
فك الرجل حصاره لجسدها، وترك ذراعيها بقلة حيلة، عاودت حينها الإنحناء نحو جسد أبيها، وجلست برويةٍ بجانبه اقتربت منه بجسدٍ يرتجف واحتضنته بقوة ودموعها لا تكف عن الانسدال، عقلها يعجز عن تصديق أنه بات جسدًا بلا روح، قربت شفتيها من جبينه، وطبعت قبله مهزوزة فوق القماش، أغمضت عينيها وظلت متكئة بشفتيها فوق جبهته لدقيقة، محاولة الشعور بدفء حضنه، بعد لحظات ابعدت وجهها وقالت له بخفوت، كأن ما تقوله سر من الأسرار التي تجمعهمها من صغرها، مهسهسة:
-هتوحشني اوي..
تحكمت بصوتها المهزوز والغصة التي تخنفها وتابعت بألمٍ:
-بس انا هفضل فكراك وهقرألك قرآن على طول، هفضل مستنية اليوم اللي هجيلك فيه ونرجع مع بعض تاني..
رفعت جسدها بصعوبة عنه وودعته بقولها:
-مع السلامة يا حبيبي.
قبلت جبينه مرة أخرى ثم قامت من جواره، حينها أتى رجلان من خلفها، وانتشلا جثمانه من فوق الفراش، وعاونهما اثنان آخران في وضعه بداخل الصندوق الخاص بالموتى، المسمى بالتابوت، لم تتحمل رؤية ما يحدث، شهقت ببكاءٍ مرير، وبينما تضع يدها على فمها حتى تتحكم بنحيبها المصدوم من رؤية جسده المفارق للحياة بين أياديهم، التفتت مغادرة الغرفة بأكلمها.
❈-❈-❈
دون استئذانٍ مسبقٍ دلف حجرة الاجتماعات، ممَ تسبب في قطع الاجتماع المقام في الداخل، وجعل التفاجؤ يعلو وجوه الجميع، خاصة ابنه الذي يترأس الجلسة، ظهرت على وجهه علامات غضب يخالطه الاستغراب، خاصة عندما وجده تكلم بنبرة عالية، موجهًا الحديث للموظفين وهو يتوجه بخطواته نحوهم، قائلًا:
-الاجتماع انتهى، كله يروح على مكتبه.
بعد نهوض الموظفين وخروجهم أجمعين، عاد ابنه بظهره على المقعد الذى يرأس الطاولة الكبيرة، التى يجلس حولها الموظفون، أثناء حضورهم الاجتماعات التى يقيمها، كونه المدير العام وابن مالك الشركة، ينظر لوالده بهيمنته وغروره الموروث منه، بعينيه الرماديتين، منتظرًا أن يخرج ما بجعبته، فإنهائه للاجتماع من المؤكد أن ورائه سببٍ كبيرٍ لا يتطلب إرجائه لبعض الوقت، قابله والده بنظرات مبهمة، ووجه جامد يخلو من المشاعر لم يفهم من خلاله شيئًا كعادته الغامضة، ولكنه أفصح عن الأمر الجلل بعد لحظاتٍ، حينما قال له بغتةً بثباتٍ غريب:
-عمك مات..
اعتدل الأخر فى جلسته بصدمةٍ، واتسعت عيناه وهو يردد:
- مات!
تجاهل صدمته الواضحة، وتابع على نفس المنوال المتسم بالجمود:
-قوم معايا عشان نحضر الدفنة ونبقى موجدين من بدري عشان ناخد العزا.
زالت صدمته اللحظية وأومأ له برأسه بالإيجاب، حينها استطرد والده وهو يشرع في المغادرة:
-اخلص يلا مفيش وقت، انا هستناك فى العربية
غادر الغرفة بعد ذلك آخذًا خطواته نحو المصعد في نهاية الردهة، من ينظر إلى هيئته الصلبة تلك، لن يتوقع أنه قد تلقى منذ قليل نبأ وفاة شقيقه الأصغر، وأنه ذاهب الآن لدفنه، وأخذ عزائه، فتلك التعبيرات الصلبة مجردة تمامًا من جميع المشاعر الإنسانية، وليست غريبة على واحدٍ مثله، اختلق عداوة دامت لسنوات مع شقيقهِ، "نوح الراشدي" صاحب الخمسين عامًا، ذو جسد يتنافى تمامًا مع عمره، فما يزال محتفظًا بقوته الجسمانية، وصحته البدنية، ملامحه التي تتسم بالجمود الدائم، مع نظرة ثاقبة تجعله بهيئة شديدة الحدة، يملك بعض شركات الإلكترونيات، توقف عن مباشرة أعماله بنفسه، بعدما تولى ابنه الإدارة كاملة.
بداخل المرآب، حيث تصطف سيارته الفخمة، سار بخطوات مهيبة، حينما بات على مقربة منها تقدم إليه سائقه، مسرعًا في فتح باب مقعده الخلفي، جلس به منتظرًا انتهاء ابنه، ونزوله إليه، حتى يذهبان سويًا لبيت أخيه الذي وافته المنية.
في الأعلى قبل نزوله، توجه إلى مكتبه لأخذ متعلقاته الشخصية، "راغب نوح الراشدي" الأبن الأكبر لـ"نوح الراشدي" وذراعه الأيمن بالعمل، حيث أنه قد أعطى له إدارة شركاته، وسلمه حرية التصرف بهم مؤخرًا، وذلك لدهائه وحنكته فى الإدارة، رغم صغر سنه الذي لم يتجاوز الثلاثة وثلاثين عامًا.
التقط سترة حُلته الرسمية، الموضوعة فوق ظهر مقعده، ارتداها بهدوء ثم هندم ملابسه جيدًا، فهو من هؤلاء الذين يهتمون بالمظاهر الخارجية للغاية، ورث عن والده غروره وهيمنته الطاغية، عيناه المقاربتان للون الرمادي ضيقتا الحجم تعطيه سحرًا خاصًا، مع بشرته الخمرية، وخصلاته بنية اللون، ولحيته المشذبة دائمًا بنفس اللون، تجعلنه كمن لا يشوبه شائبة.
في طريقه للمصعد أخبر مساعدته الخاصة بأن تقوم بإلغاء باقي اجتماعات اليوم، وترجئ أي موعد ليوم آخر، ثم سار بخطواتٍ واثقة، بجسده السامق عريض المنكبين، وقامته الفارعة، التي تعطي له هيئة تخطف الأنظار.
دلف المصعد، ضاغطًا على ذر النزول لأسفل، حيث ينتظره والده بالمرآب، ليتوجهان للقيام بواجب العزاء، لا يظهر عليه أي أمارات حزن أو تؤثر بعدم علمه بذلك النبأ، فأسرته لم تكن على علاقة طيبة سواء بعمه أو أسرته، أو بالأحرى لم يكن بينهما أي اختلاط بالأساس، وهو منذ الصغر كان واضعًا جام اهتمامه بدراسته، وبعدها انتقل ذلك الاهتمام إلى عمله، فلم تكن العائلة ضمن أولوياته من قبل، كل ما يسعى له مكانته الاجتماعية، وتليها نزواته الشخصية، التى ينغرس بها فى الخفاء، كونه متحفظًا لا يحب كثرة الأحاديث المتفرقة حول حياته أو شئونه الخاصة.
التقطت عيناه خلال سيره نحو سيارته، سيارة والده المنتظرة في الخلف، أخرج هاتفه من جيبه وأجرى مكالمةً به، فُتح الخط أثناء دلوفه السيارة، فتكلم "راغب" قائلًا له وهو يدير المحرك:
-بابا انا هاجي بعربيتي، خلي السواق يطلع يلا انا خارج من الجراج خلاص.
في الناحية الأخرى كان والده مشتاطًا من عدم إخباره بنيته فى الذهاب بسيارته الخاصة من البداية، وجعله ينتظر تلك المدة دون فائدة ترجى، أنهى المكالمة دون رد، ثم أخبر سائقه بأن يتحرك.
سارت السيارتين متجاورتين، فى وجهتهما لبيت "بكر الراشدي"، وكل واحد منهما يخامره شعور يختلف عن الآخر، فـ"راغب" لم يكن يشغله سوى تأدية الواجب، من أجل الصورة الظاهرية أمام الجميع،إرضاءً لمظهرهم الاجتماعي، الذى لا يكترث لشيءٍ سواه، بينما كان "نوح" في واديٍ آخرٍ، تدور برأسه أمور عدة، يرى أنه قد جاء وقتها المحتوم، التي عن طريقها سيحصل على كل ما سعى إليه مسبقًا، فموت أخيه لن يجعله يقبل بالخسارة، أو الارتضاء بالأمر الواقع.
❈-❈-❈
في تلك اللحظة التي تم حمل الجثمان للخروج من الفيلا، كان من العسير على أي أحدٍ من المتواجدين منعها من الركض خلف النعش، فقد أصابتها حالة من الهلع من تطرق فكرة أنه ذاهب الآن بلا رجعة، لن يتسنى لها رؤيته مرة ثانية، فراق أبدي لا سبيل بعده للقاء آخر، فقد ظلت تهرول حتى الحديقة وهى تصرخ من بين نحيبها:
-بابا متسيبنيش..
تعركلت في الهواء من ركضها المتلهوج، وتابعت بعد أن تحكمت في خطاها:
-مش هقدر اعيش من غيرك عشان خاطري متمشيش يا بابا.
خلال تفوهها بتلك العبارات الناشجة، شعرت بأحدٍ قد أحكم ذراعيه حول جسدها من الخلف، مقيدًا حركتها لعدة لحظاتٍ وهي على نفس منوالها الصارخ، حتى ازدادت المسافة بينها وبين النعش، حينئذٍ التفت له بذعرٍ بعد أن تداركت تقيده لها، وحدقت به بعينيها الحمراوتين التى اختفت رماديتيها خلف دموعها المنهمرة بقوة فوق وجنتيها، وجدته "راغب" ابن عمها، نظراته الثابتة ومسكته القوية توحي بعدم تركه لها، حينها شعرت بدقات قلبها تهدر في صدرها، وكأن حياتها قد باتت على المحك، فقد قارب النعش على الخروج من البوابة الخارجية، حاولت دفعه والفكاك من حصاره وهي تتلوى بجسدها، قائلة بصراخ ونبرة يظهر بها تأثير عويلها السابق:
-سيبني، ابعد عني خليني اروح وراه..
فرقت النظرات المرتعدة بينه وبين عصبة الرجال الحاملين جثمان والدها، وهي تتابع بجنون:
-ابعد عني هياخدوه ويمشوا..
لم يرخِ ذراعيه عنها، بالرغم من حركاتها التي بدأت تزداد عنفًا، وحينما يأست في تركها، حولت نظرها للحشد الضئيل الذي خرج لتوه من البوابة، وهتفت صائحةً:
-سيبوه متاخدوهوش مني، متمشوش استنوا..يا بابا..
ازداد جنونها حينما اختفوا من أمام مرمى بصرها وتشنج جسدها بصورة بالغة وهي تصرخ:
- سيبني سيبنــــــي.. يا بـــاابــــاا.
عجزها عن إزاحة ذراعيه جعلها تزداد في هوجائها، وتلويها بجسدها، ومن بين صراخها ونشيجها القوي استمعت لصوته الأجوف بنبرته الجامدة وهو يقول بجانب أذنها:
-اللي بتعمليه ده مش هيرجعه هو خلاص مات.
وقوع عبارته الأخيرة على سمعها كانت قاسية، وصادمة في نفس الآن، فكأنما تتلقى خبر وفاة والدها للمرة الأولى، تيبس جسدها وكأنه قد شل في موضعه، وزاغ نظرها في الفراغ تحاول تدارك تلك الحقيقة التي تنكرها كلما صدقها عقلها، حينئذٍ ظن أن طريقته جاءت بنتائج مرجوة، ونجح في إعادتها إلى رشدها، مما جعله يطنب:
-فوقي يا كيان وبطلي اللي بتعمليه ده، ابوكي مات.
تكراره لذلك النبأ الصادم كان بمثابة انتشالها من السكون وإلقائها إلى حافة الجنون، فأومأت برأسها بنفيٍ بحركاتٍ هيسترية، وتوسعت عيناها بصدمةٍ تكاد تكون أكبر من صدمتها الأولى عند تلقيها الخبر، انهارت بين يديه أكثر من ذي قبل، وظلت تصرخ إلى حدٍ فجعه، وأعجزه عن التحكم فى صراخها أو تشنجات جسدها، ولكنه ظل محكمَ الإمساك بها، خشيةً من تركها بعد أن وصلت إلى تلك الحالة.
بعد أن أخذ جسدها كافيته من الإجهاد، واستنفزت أعصابها بانهيارها الحاد، خارت طاقتها تمامًا، ومعها جسدها الذي ارتخى شيئًا فشىء بين ذراعيه، وعندما وجده قد سكن بين يديه، تدارك كونها قد فقدت الوعي، حينها ثبت أحد ذراعيه خلف ظهرها، وأنزل الآخرأسفل ركبتبها ثم استقام بعد حملها بشكل كامل، وسار بها إلى الداخل، حتى يصعد إلى غرفتها.
في الداخل كان البيت فارغًا، لم يكن به غير بعض العاملين المتواجدين بالمطبخ، لم يجد في طريقه للأعلى أحدًا ليستفسر منه عن موضع غرفتها، ولكنه توجه مباشرة نحو الدرج، محاولًا تذكر أثناء صعوده، مكان الغرفة، فهو لم يأتِ لزيارتهم طوال حياته سوى مرات تُعد، ولم يصعد لغرفتها إلا مرة واحدة حينما كانت طفلة.
في الطابق الثاني، سار وهو يحملها في الردهة الطويلة التي تفضي بثلاث غرف، بعدما كاد يدلف إحداها، تذكر الغرفة التي تخصها، وعرج بجسده نحوها، بينما كانت الأخرى بين يديه، ساكنة تمامًا، لا يصدر منها لا صوت ولا حركة. بعد أن دلف بها الغرفة توجه مباشرة صوب فراشها، وضعها عليه بتمهلٍ ورفق، ثم رفع الغطاء ووضعه فوق جسدها المستكين، على النقيض مع حالتها الثائرة منذ دقائق.
بعد أن دثرها تحت الغطاء، كان ما يزال منحنيًا بجذعه نحو جسدها الممد على الفراش، جذب نظره احمرار وجنتيها وآثار دموعها المنسالة على وجهها، بتلقائية غير محسوبة رفع يده وكفكف عبراتها، وعن ذلك القرب الشديد وقعت عيناه على شفتيها المنتفختين إثرًا لبكائها منذ قليل، ابتلع بعد أن استحضر في ذهنه خيالات غير مباحة، وللغرابة وجد أنه لا يستطيع إبعاد مرمى بصره عنها، وكأنها تدفعه بسكونها الفريد –الغير إرادي- لفعلٍ محرمٍ، ودون تحكمٍ وجد نفسه يستجيب لشيطان رأسه، ودنا أكثر من وجهها، وعند اللحظة الفارقة أوقفه عن تجسيد ما دار في رأسه صوت رنين هاتفه المعلن عن تلقية مكالمة.
فاق على صوته الذي صدح بغتةً، كأنما جاء في اللحظة المناسبة ليمنع حدوث فعل مشين. ابتلع وهو يبتعد وقد تثاقلت أنفاسه بعض الشيء، وأخرج هاتفه من جيب بنطاله، وجد المتصل والده، فتح المكالمة ووضع الهاتف فوق أذنه، مجيبًا بصوت مهزوزٍ قليلًا:
- أ. أيوه يا بابا.
جاءه صوت والده المتكلم بحنقٍ، متسائلًا:
-انت فين يا راغب؟
انزعج قليلًا من حدة سؤاله، ولكنه رد عليه بصوت فاتر موجزًا:
-فى الفيلا.
صاح والده به فى غضبٍ سائلًا إياه:
- بتعمل ايه عندك؟
قلب عينيه بملل من طباع أبيه المتحكمة التى أصبحت تثير حنقه، وأجابه فى النهاية بعد زفرة حانقة:
-كيان كانت بتصرخ ومنهارة وفاجأة اغمى عليها وهي هنا لواحدها، فاضطريت اطلعها وافضل معاها.
تكلم الآخر بنبرة لانت بعض الشيء ولكن يشوبها الأمر:
-تمام خلاص خليك انت عندك وهنخلص واجيلك.
أنهى المكالمة وهو يشعر بالبغض على تلك المعاملة التى سأم منها، فهو ليس بصغير كي يتتبع خطواته هكذا، ويطالب بلائحة أسباب لأفعاله، وضع الهاتف في جيبه وكاد يغادر الغرفة، إلا أن عيناه عاودت النظر إليها ثانيةً، ولكن تلك المرة اختلفت نظرته، فقد كانت تحمل قليلًا من الشفقة التي شعر بها نحوها، فكلماتها، وانهيارها، وعدم وجود أحد بقربها ليشد أزرها استنتج من خلالهم سبب وصول حالتها إلى ذلك الحد المؤسف من موت والدها، فحتى والدتها تركتها وذهبت مع البقية لتشييع الجنازة، ورفضت مجيئها بحجة صراخها المتواصل، وخوفًا من تأزم حالتها وقت دخوله القبر، وحينها لن يكون بمقدور أحد السيطرة على الوضع، لربما محقة في أسبابها، ولكن كيف تترك ابنتها في حالة انهيار وتصم أذنيها عن بكائها، وتغمض العين عن هرولتها! حرك وجهه ببعض الأسف ثم بدأ في السير صوب الباب ليغادر الغرفة نزولًا لأسفل، فلم يعد لوجوده بالغرفة معها بدًا، كما أن وجوده مقتصرًا على أخذ العزاء، وحينما ينتهي سيغادر على فوره.
❈-❈-❈
بعد مرور أيام العزاء، وخلو البيت من الزوار، عاد كل شيء كما كان، وبينما كان الهدوء يعم المكان، طرق مرتين على باب غرفتها، ونظراته تتفقد مجيء أحدٍ في الجوار، فُتح الباب بعد عدة لحظات، وقابلته بزيها الأسود المعتاد، لم تتفاجأ من مجيئه، كأنما كانت في انتظاره، ابتعدت قليلًا سامحةً له بالدلوف، وأغلق هو الباب خلفه، تتبع خطواتها حتى منتصف الغرفة وهو يقول بهدوء به لمحة من الغموض:
-أكيد مش هتفضلي حابسة نفسك فى الأوضة كده يا سُمية.
قابلته بابتسامة مقتضبة وتكلمت وهي تحيد بنظرها لأسفل:
-انا مش حابسة نفسي، انت عارف ان مينفعش اعمل غير كده.
تعجب من حالتها الغريبة، وتحاشيها النظر له، وقبل أن يفسر الأمر من منظور آخر، وجدها تابعت بإيضاحٍ:
-عشان ابان الزوجة الأصيلة اللي حزنت على فراق جوزها.
مع نهاية ردها، رفعت له نظراتها ورمقته بنظرةٍ خبيثة، وابتسامة تتلاعب بلؤمٍ على شفتيها، حينها ارتسمت على شفتيه أخرى مشابهة لخاصتها، واقترب منها وحاوط خصرها، قربها إليه وهو يقول بخبثٍ مماثل:
-وهو فى زوجة أصيلة زيك.
وعن إيحاءٍ مقصود ببعض المرح أطنب:
-ده انتي الأصل بذات نفسه.
ضحكت بخفوت كي لا يصل صوتها للخارج، ثم تمتمت متسائلة بترقبٍ:
-حد شافك وانت جاي؟
أومأ بالإنكار وهو يقترب ليقبل شفتيها، بينما ابتعدت هي بتمنعٍ مصطنع، ووضعت يدها فوق فمه قائلةً بدلالٍ:
-بلاش هنا عشان كيان، ممكن تيجي في أي وقت.
جاب بيده بظهرها وهو يقربها إليه أكثر، وتكلم أمام شفتيها بأنفاسه الساخنة هامسًا:
- كيان مش بتخرج من اوضتها من ساعة موت بكر، والوقت متأخر زمانها نايمة أصلا.
استجابت للمساته التى أججت رغبتها، وجعلتها تخنع له في لحظتها، رفعت ذراعيها وحاوطت عنقه، ثم همست بأنفاسٍ لاهثة:
-وحشتني أوي يا نوح.
لم يرد عليها ليعبر عن اشتياق مماثل، ودنا منها مجسدًا ما جاء لفعله، بالوقوع معها في واحدة من العلاقات الجسدية المحرمة، الغارقين في بئرها السحيق منذ أعوامٍ مضت، ارضاءً لهوى نفسيهما، ولنيل مساعٍ مشتركة بين كليهما.
يتبع...