رواية جديدة كيان مستغل مكتملة لشيماء مجدي- الفصل 3 - الخميس 30/1/2025
قراءة رواية كيان مستغل كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية كيان مستغل
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة شيماء مجدي
الفصل الثالث
الفصل الثالث
تم النشر الخميس
30/1/2025
رغم حالتها التي يرثى لها، التى لازمتها طوال الشهر الماضي، نتيجةً لفراق والدها الغالي، إلا أنها حاولت بكل جهدها، وما تبقى من طاقتها التي اُستهلكت في موجة حزنها، أن تتماسك، وتلملم شتاتها، حتى تستيطع أن تتخطى تلك المحنة، وترأب صدع قلبها بمفردها، فلا يوجود في حياتها مِن بعدهِ، مَن يشد أزرها، ويعيدها لسابق حالها. جلست على المقعد الخشبي، المتواجد بحديقة منزلها، الذي اعتادت أن تجلس عليه في السابق، بتلك البقعة رفقة والدها، عندما كانا يتسامران سويًا بأحاديث عدة، أو يبقيان في الهواء الطلق ليستمتعان بالشعور بلطافة كل نسمة. فتحت دفترها الصغير نسبيًا، التي اعتادت أن تبوح له بمكنوناتها، عندما يجتاحها شعور باحتياج صديقًا –لم يحالفها الحظ بالحصول عليه- تخرج له ما يختلج نفسها، حتى من كانت تشعر بالألفة معه في الحديث، وتفتح له قلبها، فقدته فقدان أبدي، لا سبيل به لعودة، أو لقاء أخير.
بقلمها الأسود التي لطالما أحبت أثر حروفها بلونه، بدأت تخط كلماتها به، في صفحة جديدة، بيضاء كروحها، لا تعلم عددها، من كثرة ما خطته من مواقف عدة، مشاعر، ومكنونات، لم تخرج إلا له، فهي لم تكن من الذين يستطعون التعبير عما يختلج صدرهم بسهولة، لذا كان ذلك الدفتر الصغير، أفضل من يتقبل كل ما يبدر منها، فلا يكل من احتضان أحرفها، التى تارة ما تخرج بتواتر سريع، كأنها تتسابق مع الزمن، وتارة ما تكن واهية، إذا تكونت من ورائها جملة كاملة، لن تعطي معنى مفهوم، سوى بداخل قلبها، الذي يشبه صفحه النقية، لم تشُبه شوائب الحياة الغابرة.
مرحبًا دفتري العزيز، في البداية أود أن أخبرك بمدى اشتياقي، لم ابتعد عنك في السابق لكل تلك المدة، ولكن اعذرني عزيزي، لقد كنت افتقد القدرة على الحديث حتى إلى نفسي، وأنا أعلم أنك خير من يعذر، كما أعلم أنك افتقدت كلماتي الكثيرة، وحكاوي المريرة، أجل المريرة، فأنا لم اكتب لك يومًا ذكري سعيدة، أو حدث هز قلبي فرحًا، حتى أنني الحين، آتية إليك بأكثر الأحداث قهرًا، وهو وفاة والدي الحبيب، لا أريد أن أسرد عليك ما مررت به الأونة الماضية، لكي لا أتذكر الحالة المؤسفة التي وصلت لها، ولكني أريد بكتابتي أن أعود إلى سابق عهدي، حتى لو لم يكن فيه سعادتي، ولكن يكفي أنه يكمن به بناء كياني الفريد.
أغلقت دفترها بعد أن شعرت باكتفائها، فما تزال غير قادرة على نبش أوجاعها، لذلك وضعته بجوارها، وأغمضت عينيها وهى تسحب نفسًا عميقًا، محاولة الاسترخاء، ونفض الأفكار المهلكة، والذكريات القاسية عن ذهنها، عن طريق تلك النسمات الرقيفة الهادئة، التي تلفح بشرة وجهها، مخلفة هدوءً غريبًا بداخلها، طاردًا تلك الزوبعة من الشتات الذهني، الذى أصبح لا يفارق رأسها مؤخرًا.
❈-❈-❈
تذرع الحجرة جيئةً وذهابًا، والغل الدفين بداخلها قد اعترى سائر قسماتها بقوة، انقطاعه عن زيارتها، أو الاتصال بها تدعو للريبة، وتزيد شكوكها التي ساورتها حول وجود مخطط يرتب له خفيةً من ورائها، فهي تعرفه جيدًا، لا يهمه سوى مصالحه، حتى وإن تعارضت مع مصالح الجميع، وهي بغابئها ظنت أنها قد حصلت عليه بعد كل ذلك العمر، وأن المصلحة باتت مشتركة باشتعال شرارة حبها في قلبه، وبذلك ستنال حبها القديم، وكذلك السلطة والمال، وفي الأخير اتضح أنها كانت تركض خلف وهمٍ كبير.
أين اشتياقه العارم، وحبه المزعوم؟ هل كان يدعيهما فقط، حتى يصل إلى غايته، بالحصول على حقه في أموال زوجها كما ادعى لسنوات؟ وعندما وجد أن لا فائدة ترجى منها في ذلك الأمر، ألقاها من حياته كجرذ بغيض منفر. جلست على المقعد الملحق بالمرآة، وهي تفرك يديها بغليل بالغ، وتعض على شفتها وهي تحاول استجماع نفسها، حتى تستطيع التفكير بتريث، للتهيؤ لمواجهة أي موقف غادر، فهي باتت لا تأمن له، وفي نفس الآن تعجز عن تخمين ما يرتب له. لا يوجد حل أمامها غير التظاهر بالغباء، والاتصال به بحجة الاطمئنان عليه كالسابق، وجهت نظرها نحو هاتفها الموضوع فوق طاولة مجاورة لمرآة التسريحة، وعلى الفور نهضت عن المقعد وتوجهت لالتقاطه، أتت برقمه ثم وضعته على أذنها، انتظرت لعدة لحظات تآكل الغيظ خلالها بأعصابها، وقبل أن تنتهي مدة المكالمة، آتاها رده، بصوتٍ فاترٍ على غير العادة، ضاعف من غليلها، ولكنها كبحت ما يساورها من شعور بالبغض، وكلمته بلهجة متغنجة بعض الشيء:
-ايه يا نوح، فينك؟ عايزه اشوفك.
رد عليها بنفس نبرة الصوت الجافة، مرددًا:
-أنا كمان عايز اشوفك.
لم تعبر جملته عن أي اشتياق، أو طيف لهفة، فتساءلت ونيران الغضب تنهش بها من أسلوبه الغريب:
-أجيلك؟
رد عليها نافيًا بكلمات مختصرة:
-لأ انا اللي هاجي.
أغمضت عينيها محاولة التحكم بأعصابها التي تلفت من ذلك الغموض الذي يغلف كلماته، ثم قالت مستفسرة بانفعال مكتوم:
-هتيجى امتى؟
أجابها بلهجة واجمة وكأنه يرغم نفسه على التحدث إليها:
-بالليل يا سمية هاجي.
بعد ذلك أنهى معها المكالمة ببضع كلمات مقتضبة، ممَ دفع اليقين بداخلها حول انعواجه عن اتفاقاتهما الماضية، صرت على أصنانها بغضبٍ بالغٍ، وألقت الهاتف فوق السرير بغل، وهى تنظر أمامها بوعيدٍ له، فإذا تعدى على مصلحتها، وأثر كل الغنيمة لنفسه، فحينها ستجعله يندم أشد الندم.
❈-❈-❈
في المجمع الرياضي، بداخل النادي التي تشترك به، تسير بخطواتها الخيلاء، وجسدها شديد الرشاقة، التي تتهافت عليه الفتايات قبل الرجال، تنظر في الأرجاء، بعينيها الساحرتين، رمادية اللون، التى ورثتها هي وشقيقها عن والدهما، باحثةً عن ضالتها، وما إن وجدت هدفها، حتى أشرق وجهها، واتسعت ابتسامتها سرورًا، ثم هتفت بنبرة صوت مرتفعةً وهي تعجل فى سيرها:
-فارس.
على صدى ندائها باسمه، التفت إليها وهو يحمل بإحدى يديه زجاجة ماء، كان يرتشف منها، حيث إنه قد أنهى لتوه أحد دروس الفنون القتالية. أغلق الزجاجة ووضعها جانبًا، وقد ارتسمت على ثغرهِ ابتسامة جذابة وهو يقول بنبرة رخيمة:
-لينا، ازيك عاملة ايه؟
ابقت بسمتها مزينة شفتيها الرفيعتين، ومظهرة نواجذها وهي تجيبه برقة تخلب الأنفاس:
-Fine. (بخير.)
ثم ما لبثت أن تساءلت، بعد أن هدأت لهفتها قليلًا:
-وانت اخبارك ايه؟
هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يجيبها:
-تمام..
خصها بنظرةٍ لطيفة وهو يضيف بشيء من الغزل:
-وبقيت تمام أكتر لما شوفتك.
اندفعت الحرارة لوجنتيها، إثرًا لتدفق الأدرينالين في عروقها، وشعرت في تلك اللحظة، مع غزله الصريح، أنه قد آن أوان الإفصاح، عمَ تضمره في نفسها، ولكنها بحاجة لدفقة من الجرأة. من هيئتها المترددة، شعر "فارس" برغبتها في التفوه بشيءٍ، لذا تساءل باشتفاف:
-هو في حاجة عايزه تقوليها؟
فاجأها سؤاله، فكأنما قرأ تعبيراتها، أو ربما هي من تفضحها نظراتها، ولكنها وجدت أن أرجاء الاعتراف أكثر من ذلك يستهلك طاقتها، فتشجعت لتهز رأسها بالإيجاب، وقالت له:
-بصراحة آه..
ثم قالت بعد أن تنفست بتلجلجٍ:
-ممكن نتكلم مع بعض شوية؟
تلبكها وهي تعيد خصلاتها الشقراء بيدها للخلف، جعله يضيق عينيه عليها باستغراب، فهي شديدة الغطرسة، وواثقة في ذاتها إلى حدٍ لا يجعلها تتوتر عند التحدث لأي من كان، كما أن تجاهلها للجميع دفعهم لرؤيتها في إطار متعالٍ، ولهذا استرعى اهتمامه رغبتها فى الجلوس رفقته بالتحديد، وشغل فضوله ما تود الحديث فيه، لذا ابتسم ابتسامة هادئة، وهز رأسه بموافقة، مردفًا:
-آه طبعا مفيش مشكلة..
ثم أشار إلى ملابسه المليئة بالعرق، نتيجةً للحركة الزائدة، والمجهود الذي يبذله أثناء التمارين، وأخبرها:
-استنينى في الـcafe, وانا هغير واجيلك.
أومأت له برأسها وقالت بحماسٍ لم تستطع أن تواريه:
-okay, l'll wait you. (.حسنا، سأنتظرك)
انتظرت بداخل الجزء المخصص لإعداد المشروبات في النادي، على طاولة جانبية، عمدت على أن تكون في زاوية بعيدة عن الطاولات المشغولة، وبعد مضي عدة دقائق لم تتجاوز العشرة، رأته آتيًا من بعيد، بهالته المميزة، وجسده الرياضي مفتول العضلات، انفرج وجهها ببسمة تلقائية، واتبعت تقدمه نحوها بعينين متوهجتين. تنحنح جاليًا، بصوته بعد أن جلس على المقعد المقابل لها، ثم تساءل بتصقيل لبق:
-ها يا ستي عايزه تتكلمي في ايه؟
عضت على باطن شفتها السفلى، وهى تناظره بارتباكٍ من عينيه المرتكزة عليها في انتظار، وقالت متسائلةً:
-طيب تشرب ايه الأول؟
لم يخفَ عنه توترها، رغم محاولتها في إخفائه، وهذا ما جعله يزداد تعجبًا، ولكنه نحى ذلك التفكير جنبًا عن ذهنه، ورد عليها بلطافة:
-ممكن ليمون.
بعد أن أملى "فارس" طلبهما على النادل، رمقها بنظرة ترقب، جعلتها تشعر بتلوٍ بسيط في معدتها، استعجبت له، ولترددها السخيف، فأين جراءتها، وثقتها المعهودة؟ حثت نفسها على الثبات، ودفعت نفسها بعد لحظات لإخباره دفعة واحدة دون مقدمات:
- فارس بصراحة i like you (أنت تعجبني)..
صمتت للحظة قبل أن تقول ببعض الخجل الفطري:
-و.. i want us to be together (أريد أن نصبح معًا)..
ثم سألته وهي تتفحص تعبيراته:
-ايه رأيك؟
قابل اعترافها بصدمة صامتة، نجح في طمسها، حتى يحافظ على هيئته الرزينة، الثابتة، التي أعجبت بها، ومن هنا فطن إلى نوعيتها المفضلة في الرجال، فكل من تهافت عليها، وأظهر إعجابه بفتنتها الطاغية، كانت لا تعطي له بالًا، وفي بعض الأحيان كانت تظهر رفضها بتعجرف شديد، ولكونه كان على النقيض، ثقيلًا، غامضًا، ولم يأخذ خطوة نحوها في التعرف عليها، أو الإطراء على جمالها، شغلها أمره وآثار إعجابها. عندما طال صمته، فسرته على نحوٍ آخر، وظنت في وجود فتاة بحياته، بالرغم من تحريها عن ذلك الأمر، وتأكدها من كونه أعزب، لا تجمعه صلة بأي امرأة، ولكن عقلها لم يعطِ لها استنباطًا آخرًا وتكلمت بنزقٍ:
-لو في حد في حياتك ممكن تعتبرني ماتكلمتش، و..
اختنق صوتها قليلًا وهي تتهرب بنظراتها عنه، مضيفةً:
-It's ok, I'm not narrow minded. (لا بأس، أنا لست ضيقة الأفق)
انتظر حتى انتهت، وبينما ينظر إلى داخل عينيها، أردف بجدية:
-موافق.
تفاجأت من رده، وتراقصت البسمة على شفتيها وهي تتساءل بغير تصديقٍ:
-sure? (متأكد؟)
أومأ بتريثٍ وأجابها بابتسامة هادئة، مؤكدًا:
-sure.
قطع التواصل البصري بينهما إحضار النادل طلبهما، أنزل الكأسين على الطاولة، أمام كل منهما على حدا، ثم غادر بتأدبٍ، حينها تمكنت من التعبير عن سعادتها دون تقييد، بنظراتها التي التمعت بفرحةٍ، فاجأته أكثر من تصريحها بإعجابها به، وكأنها لم تكن تتخيل أن يبادلها شعورها، أو يوافق على عرضها، الذي إن عُرض على أي رجل آخر، لرآه ثمينًا، بل لا يقدر بثمنٍ، ولكنه أتاه على طبقٍ من فضة، وبدون أن يبذل أى مجهود يذكر في التقرب إليها كغيره، وهذا في حد ذاته، ما جعله يفقد جزءً من الشغف نحوها، ولكنه لن ينكر إعجابه الكبير بها، الذي دفعه للموافقة، حتى يتمكن من اكتشافها، والتمتع ببعض اللحظات الشغوفة مع واحدة مثلها، تحت إطار الارتباط دون قيود، أو شروط يُطالب فيمَ بعد بتنفيذها.
❈-❈-❈
الوقت الفاصل بين الحين وموعد مجيئه مساءً يتحرك ببطء، أو ربما ذلك ما بدا لها من تكرار تحديقها في الساعة كل بضعة دقائق، أرادت برؤيته أن تقطع الشك باليقين، وتحاول جذبه في الحديث بطريقتها اللئيمة، لتتمكن من سلب حقيقة ما يرتب له من وراء ظهرها، فكل ما يهمها الآن أن تضمن حقوقها، فغايتها انحصرت بعد موت زوجها، على وضع يدها على أمواله، وأملاكه، فهذا هدفها من البداية، ومن أجله فعلت كل ما بوسعها، من مؤامرات، وألاعيب، حالفها الحظ في كل مرة في نجاحها، إلا الأخيرة تلك، لم تتوقع أن يغدر بها ويكتب كافة أملاكه لابنته، لم يكتفِ بتضييق الخناق عليها في حياته، فقد حرم عليها أن يكون لها كيان مستقل برفضه في توليها أي منصب في شركاته، متحججًا بعدم رغبته في خروجها لسوق العمل، وترك شئون البيت، وإهمال ابنتهما..
ابنتهما التي سعى لإلحاقها بكلية الاقتصاد والإدارة كي تتمكن من إدارة شركاته عن دراية بعد إتمامها لتعليمها الجامعي، وهذا ما أكد لها أن رفضه كان نابعًا من سببٍ آخر، وليس لحججه الواهية، حتى عند طلبها بفتح حساب مالي باسمها، كان يأتيها رده بأن لا حاجة لذلك، فكل تلك الأموال ستكون لها بعد مماته، لقد تلاعب بها طوال تلك السنوات، وبفعلته الأخيرة بحرمانها من حقها الشرعي في أن ترث فيه، أفنى أي ذرة ندم بداخلها حيال ما اقترفته بحقه. أحتدت ملامحها بشكلٍ مريبٍ وتفكيرها المشابه للأبالسة لا ينفك عن دفعها لطرقها اللئيمة. أرادت أن تسبق "نوح" بخطوة، فلربما نجحت خطتها في استمالة "كيان" باللين، وجعلتها تتنازل لها طوعًا، دون ضغطٍ أو إجبارٍ لا تضمن أن يأتي بنتائج مرجوة، دلفت الغرفة الخاصة بابنتها، دون أن تأخذ إذنًا، أو تنبهها لدخولها، فتفاجأت "كيان" وهي جالسة في الشرفة بوجودها خلفها، عندما سألتها:
-انتي هتفضلي قاعدة في اوضتك كده؟
التفت بجسدها لها وعلى وجهها –الذي فقد حيويته- التفاجؤ، ورمقتها من موضعها بنظرة مستغربة وعلقت بتساؤلٍ:
-عايزاني اعمل ايه؟
تقدمت بخطواتها لتصير مقابلةً لها، وأخبرتها:
-تنزلي، تخرجي، تعملي اي حاجة، بدل مانتي مبتعمليش حاجة كده.
رغبتها في مغادرة الغرفة كانت شبه معدومة، فتركها للفراش يكلفها طاقة مضنية، فماذا عن النزول ومخالطة الأخرين؟ ظهر الرفض على وجهها، وردت عليها بوجوم:
-مش عايزه اروح في حتة.
مخالفتها لكلمتها دائمًا ما كانت تستثير أعصابها، حتى وإن كانت غير محقة في الأمر الذي تمليه عليها، كالحين انفعلت وهي تخبرها:
-انا امك وخايفة عليكي اسمعي الكلام.
بالرغم من ارتعاشة جسدها من صوتها الهادر، إلا أنها لم تستطع كبح اعتراضها وردت عليها باستياء يشوبه الحزن:
-يا ماما لوسمحتي قدري شعوري، انا بحاول اتعافى من موت بابا، وأقلم نفسي على الوضع الجديد، سيبيني على راحتي ارجوكي.
ازداد غيظها ممَ اعتبرته كلامًا فارغًا، وباستخفاف لحزنها الذي ما يزال نابضًا داخل قلبها الجريح، علقت:
-بابا بابا بابا، ما كفاية بقى من الاسطونة دي، هو اول واحد يموت.
اتسعت عينا "كيان" من صوتها الصادح، وعصبيتها مجهولة السبب وهي تضيف باستنكار:
-هتفضلي حابسة نفسك وتعيطي عليه علطول؟
استهانتها بمشاعرها، والاستخفاف بألم الفراق الذي يضنيها إلى الحين جعلها تشعر بألمٍ مضاعف في قلبها، كأنما قد اعتصرته كلماتها، رأت أن إبداء الأسباب لن يفيد، فمهما وصفت لها شعورها، لن تتعاطف معها، أو تقدر حزنها العظيم، وبغصة تمزق حلقها طلبت منها:
-لوسمحتي سيبيني لواحدي.
غلت الدماء في عروقها من فشل محاولتها الأولى، في التقرب منها، وظهر الاستهجان على ملامحها ممَ رأته حزنًا مبالغًا فيه، وحتى لا تتداخل معها في شجارٍ مع تبادل الردود فيما بينهما، قالت لها بسئم:
-براحتك، انتي دماغك ناشفة وانا تعبت منك.
غادرت الغرفة بعد ذلك، حتى أنها لم تحاول أن تطيب خاطرها بعد رؤيتها للعبرات المتكومة في عينيها، إتيانها ضاعف من أحزانها، وجعلها تدرك وحدتها بعد رحيل والدها، فإن كان هو الذي موضعها، لما كان تركها دون أن يخفف ممَ يُثقل قلبها، من همومٍ سببها الأكبر هو عدم وجوده.
عدم الاختلاط بها، وانزوائها على نفسها بغرفتها، لم يجعلاها تسلم من قسوتها، وسموم عباراتها، وكأنها ليست ابنتها، وما يسيء لها يفضي إليها، ولكن أين ذلك؟ وهي التي دومًا ما تتسبب في إيذائها نفسيًا قبل أن يكون بدنيًا بفظاظتها، وسلاطتها الدائمة.
في أوقات حزنها الشديد إما كانت ترتمي في أحضان والدها، أو تلوذ بدفترها، والحين لم يبقَ لديها سوى الدفتر، الذي يحتضن أوجاعها، حتى وإن لم يستطع مواساتها، أو درأ الأذى عنها كوالدها الحبيب، عادت إلى الداخل، وبعد أن أحضرته، توجهت نحو الأريكة المقابلة للفراش، جلست عليها وهي تأتي بصفحة جديدة، تلي الأخيرة التي لم تكتب بها الكثير، وبدأت في السرد، بقلمها الأسود.
ها أنا آتية إليك بسيل من كلماتٍ، أعي أنها لا تعني لأحدٍ على الإطلاق، ولكني أيقن أنك ترحب بكل حرفٍ بها، وتشتاق لسواد قلمي الحالك، كحياتي التي انتقصت لأهم فردًا بها، بل محور حياتي كلها، التي باتت فارغة، محض تراهة بعد غيابه، لقد فقدت رغبتي في البقاء بها، فالعيش دون دافعٍ لا يوجد له معنى، والوحدة تقتل ألف مرة، وعدم وجود مصدر للأمان يخلف الوَحشة، والحنين يتآكل بالقلب بكل وخزة، ومع كل ذلك مطالَب أن أتجاوز تلك المرحلة القاسية، المستنزفة لكل ذرة بروحي، وتدمر كياني، لست أدري هل سأتمكن من البقاء رفقة كل ذلك الإفك، الشر، والقسوة، أم سينهار صمودي الواهي، وأضحى بين رفات الموتى، بجسدٍ لا يربطه بالحياة سوى أنفاسي..
قاطع كتابتها المؤسفة صوت رنين هاتفها، تركت الدفتر والقلم من يدها، وتوجهت لأخذه من فوق وسادة فراشها، وبينما تمسح العالق من عبراتها، رأت أبغض اسم تنير به شاشة الهاتف، امتلأ وجهها بالنفور من مجرد قراءة اسمه، ومررت إبهامها على الشاشة رافضة اتصاله، أطفأته وداخلها ينبض بشعورٍ متعِب، يختلط به الكره بالخوف، وقبل أن تلقي الهاتف فوق الفراش لتعود إلى دفترها، رن الهاتف مجددًا، ولكن تلك المرة معلنًا عن وصول رسالة، علمت قبل أن تعود لفتحه من كون المرسل نفس الشخص، ولكنها ودت أن تعرف فحواها، وبالطبع صدق حدسها، واسمه المدون بـ"هادي" على هاتفها ظهر مجددًا بإشعارٍ على حسابها بأحد برامج التواصل الاجتماعي، ومن الخارج دون أن تفتح الرسالة، تمكنت من قراءتها، وقد كان سؤال متبرم منه يلومها فيه:
-برضه مش عايزه تردي عليا يا كيان؟
ازداد نفورها، وكأن لومه يثير اشمئزازها، بدلًا من عاطفتها، وألقته تلك المرة من يدها وكل ما بها ينضخ بالكراهية، شعور أول مرة يدمغ بقلبها المتسامح، لمن كان ينبغي أن يكون واحدًا من أحبائها.
❈-❈-❈
ها قد أتت فرصته على طبق من فضة، للحصول على مسعاه، في أخذ حقه الذي ظل سنوات يحارب لاستعادته. فتح أحد العاملين الباب الداخلي بفيلة أخيه، استقبلته مدبرة المنزل بترحيبٍ عندما رأته، قائلةً باحترام:
-أهلا يا نوح بيه البيت نور..
هز لها رأسه كردٍ صامتٍ على ترحيبها، في حين أضافت هي:
-حالا هبلغ سمية هانم بوجود حضرتك.
لم تكَد تتحرك حتى أوقفها صوته القائل:
-استني يا كريمة..
التفت له بعد أن استجابت لأمره، حينها أخبرها
-تعالي عايزك.
سارت نحوه الخطوات القليلة، الفاصلة بينهما، وتساءلت بابتسامة رسمية:
-خير يا نوح بيه أؤمرني.
بملامحه الجامدة أخبرها:
- متعرفيش سمية إني هنا..
رمقته بنظرة متعجبة، بينما أضاف هو بأمرٍ:
-عرفي كيان بس إني عايزها، وابعتيهالي أوضة الصالون.
أومأت له برأسها وقالت بانصياعٍ وهى تشرع في التحرك:
-حاضر يا نوح بيه.
بقى منتظرًا نزولها في الداخل لقرابة العشر دقائق، حتى تملك منه الضجر، وظن لوهلة في عدم مجيئها، ولكن قبل أن يصدق ذلك الظن رآها دالفةً من باب الغرفة، متشحة بثوب أسود مكون من بنطالٍ تعلوه بلوزة متسعة بعض الشيء، تعجب من عدم خلعها لذلك اللون، على الرغم من انقضاء الأربعين يوم، ولكن على ما يبدو أن حزنها لم يلتئم بعد، فوجهها ما يزال شاحبًا، محفور به كل معالم الشجن. اغتصبت بسمة صغيرة شفتيها بالكاد تُرى، ولا تدري هل عدم قدرتها على الابتسام في وجهه لحزنها، أم راجعًا للقطيعة التي كانت بينه وبين والدها، والشجارات التي كانت قائمة بين كليهما. حتى إنه لم يفعل كالبقية ويظهر تعاطفًا لوفاة والدها، أو يواسيها بكلمات معزية، لهذا استعجبت مجيئه حينما بلغتها "كريمة"، ولكن لم يكن هناك حل يعفوها عن مقابلته. مدت يدها له بعد أن صارت قبالته، وقالت بترحيبٍ هادئ:
-ازيك يا uncle. (عمي)
ابتسم لها ابتسامة صغيرة، تلك المرة الأولى التي ترى مثلها على وجهه، وأردف بودٍ بعدما قبل جبهتها:
-ازيك يا حبيبتى..
ابتعد عنها وهو يسألها:
-عاملة ايه النهارده؟
لاحت الدهشة فوق قسماتها، من تلك المحبة المفاجئة، ولكنها رغم ذلك أجابته، بابتسامة مهزوزة بعض الشىء:
-الحمد لله كويسة.
بادلها ابتسامتها بأخرى رغم هدوئها لم تسترِح لها، وأتبعها بقوله بنبرةٍ رخيمة، وهو يشير لها اتجاه المقعد المجاور له:
-طب اقعدي، عايز اتكلم معاكي.
استجابت لطلبه، وجلست على الكرسي المشار عليه، ولكن عقلها لم يتوقف عن التساؤل حول الشيء الذى جاء به لزيارتها، ووسط خضم أفكارها، تكلم بجدية مجيبًا على تساؤلاتها الخفية:
-باباكي قبل مايموت كان موصيني عليكي إني آخد بالي منك لو جراله حاجة..
زوت ما بين حاجبيها باستغراب، فمتى فعل ذلك؟ وهما على خلافات لم تُحل، في حين أضاف "نوح" ليزيد من تخبطها:
-ووصانى وصية مقدرتش آخالفها، أو اعترض على رغبته فيها، ووعدته وقتها ان انفذهاله، ودلوقتي جه وقتها عشان يبقى مرتاح في نومته.
تغلل قلبها الارتياب، ناهيك عن شعورها بالرهبة في حضوره، ولكنها تماسكت حتى تعرف ماهية تلك الوصية، وهزت رأسها متسائلةً:
-وصية إيه دي؟
ليقينه التام بعدم اقتناعها، خاصة إن فاه بالوصية المزعومة مباشرة دون مقدمات، لهذا حاول استمالة قلبها بكلمات زائفة، مرتبة ترتيبًا مسبقًا في عقله الشيطاني، مرددًا:
-بكر قلبه كان حاسس انه مش مطول وكان خايف يسيبك لواحدك من غير راجل تتسندى عليه، عشان كده وصانى انه لو جراله حاجة..
صمت للحظة قبل أن يضيف بحذر:
-أجوزك لراغب.
فغرت عينيها بصدمةٍ هائلة، جعلت وجيب قلبها يزداد كما لو أنه سيخرج من موضعه، وما زاد هلعها دلوف والدتها الغرفة بشكلٍ مفاجئ، بصوتها الهادر، والمستنكر:
-انت بتقول ايه يا نوح؟
التفت كل منهما إلى مصدر صوتها، وجداها واقفةً أمام عتبة باب الغرفة، ونيران الغضب تتطاير من مقلتيها، وقفت "كيان" حينما وقع صوتها على سمعها، وفي تلك اللحظة لم تدرِ أتحتمي في والدتها من ادعاءه الكاذب، أم تبقى محلها وتشاهد النزاع الحامي؟ فاقت من دوامة أفكارها، والتشتت الهائل، على صوت عمها الذي لم يحرك ساكنًا، وبمنتهى الثقة والبرود أردف:
-اللي سمعتيه يا سمية.
تقدمت منه وهي تتآكل الأرض بخطواتها العاكسة لغضبها البالغ، وقفت أمامه وقالت بنديةٍ:
-ومين بقى اللي هيوافق على الكلام الفارغ ده.
أنزل ساقه بهدوء عن الأخرى، ونهض ليقابلها بوجهه الجامد، وقال بفحيح بكلمات ذات مغزى:
-انا مش محتاج موافقة حد، وانتي عارفة كده كويس اوي.
اعتلى السخط ملامحها، وصرخت به برفضٍ قاطع:
-دي بنتي أنا يا نوح، واستحالة اوافق اني اجوزها لابنك.
أعصابها لم تتحمل ذلك المشهد المحتدم، داهم الدوار رأسها، مع الشعور بسحابة سوداء حطت على عينيها، شوشت الرؤية، وجعلتها تفقد الوعي في لحظتها.
منعه من الرد عليها ارتطام جسد "كيان" بالأرض مغشيًا عليها، تفاجأ الاثنان بمَ حل بها، ومع ذلك لم يهدأ انفعالهما، فقد توجه "نوح" إلى جسد ابنة أخيه المسجى جواره، وهي يزفر بغضب، انحنى ليحملها، ثم استقام بجسده وهو يرمق الأخرى بعدائية، انتقلت إليها بعد هجومها، واعتراضها الضاري، أتبعته بنظراتٍ مشتعلة وهو يتحرك بابنتها ليصعد بها لأعلى، كأنما لم يهتز بها جفن من رؤية ابنتها فاقدة للوعي، فكل تفكيرها منحصر على أموالٍ واهية، أنفاسها ظلت تتلاحق بازدياد بالغ، من عصبيتها الحبيسة، التي إن حررتها، ستحرق كل ما يقابلها.
خارج غرفة "كيان"، بعد أن أتى الطبيب لفحصها، بعدما تعذر على الجميع إفاقتها، وقفت مواجهةً له، بملامح تعتليها الشراسة، تشهر إصبعها فى وجهه وهي تقول بخفوتٍ، كي لا يستمع أحد لحوارهما المحتدم:
-انسى يا نوح اني اوافق ان كيان تتجوز راغب.
رمقها من علياه، وانشق ثغره ببسمة جانبية، حاملة لكل معالم اللؤم، ورد عليها بانصياع ماكر:
-وانا موافق..
رمقته بنظرةٍ مستريبة وهو يضيف بجمودٍ قاتل:
-بس وقتها كيان هتعرف الحقيقة
اهتز وجدانها من عبارته الغامضة، ورمشت بأهدابها وهي تسأله بهلعٍ:
-حقيقة ايه؟
دنا منها ليصير وجهه على مقربة شديدة من وجهها، ناظرها بنظرةٍ متحدية، وهو يجيبها بعزمٍ لا يوجد به تراجع:
-انك انتي اللي قتلتي بكر.
يتبع...
تم النشر الخميس
30/1/2025
رغم حالتها التي يرثى لها، التى لازمتها طوال الشهر الماضي، نتيجةً لفراق والدها الغالي، إلا أنها حاولت بكل جهدها، وما تبقى من طاقتها التي اُستهلكت في موجة حزنها، أن تتماسك، وتلملم شتاتها، حتى تستيطع أن تتخطى تلك المحنة، وترأب صدع قلبها بمفردها، فلا يوجود في حياتها مِن بعدهِ، مَن يشد أزرها، ويعيدها لسابق حالها. جلست على المقعد الخشبي، المتواجد بحديقة منزلها، الذي اعتادت أن تجلس عليه في السابق، بتلك البقعة رفقة والدها، عندما كانا يتسامران سويًا بأحاديث عدة، أو يبقيان في الهواء الطلق ليستمتعان بالشعور بلطافة كل نسمة. فتحت دفترها الصغير نسبيًا، التي اعتادت أن تبوح له بمكنوناتها، عندما يجتاحها شعور باحتياج صديقًا –لم يحالفها الحظ بالحصول عليه- تخرج له ما يختلج نفسها، حتى من كانت تشعر بالألفة معه في الحديث، وتفتح له قلبها، فقدته فقدان أبدي، لا سبيل به لعودة، أو لقاء أخير.
بقلمها الأسود التي لطالما أحبت أثر حروفها بلونه، بدأت تخط كلماتها به، في صفحة جديدة، بيضاء كروحها، لا تعلم عددها، من كثرة ما خطته من مواقف عدة، مشاعر، ومكنونات، لم تخرج إلا له، فهي لم تكن من الذين يستطعون التعبير عما يختلج صدرهم بسهولة، لذا كان ذلك الدفتر الصغير، أفضل من يتقبل كل ما يبدر منها، فلا يكل من احتضان أحرفها، التى تارة ما تخرج بتواتر سريع، كأنها تتسابق مع الزمن، وتارة ما تكن واهية، إذا تكونت من ورائها جملة كاملة، لن تعطي معنى مفهوم، سوى بداخل قلبها، الذي يشبه صفحه النقية، لم تشُبه شوائب الحياة الغابرة.
مرحبًا دفتري العزيز، في البداية أود أن أخبرك بمدى اشتياقي، لم ابتعد عنك في السابق لكل تلك المدة، ولكن اعذرني عزيزي، لقد كنت افتقد القدرة على الحديث حتى إلى نفسي، وأنا أعلم أنك خير من يعذر، كما أعلم أنك افتقدت كلماتي الكثيرة، وحكاوي المريرة، أجل المريرة، فأنا لم اكتب لك يومًا ذكري سعيدة، أو حدث هز قلبي فرحًا، حتى أنني الحين، آتية إليك بأكثر الأحداث قهرًا، وهو وفاة والدي الحبيب، لا أريد أن أسرد عليك ما مررت به الأونة الماضية، لكي لا أتذكر الحالة المؤسفة التي وصلت لها، ولكني أريد بكتابتي أن أعود إلى سابق عهدي، حتى لو لم يكن فيه سعادتي، ولكن يكفي أنه يكمن به بناء كياني الفريد.
أغلقت دفترها بعد أن شعرت باكتفائها، فما تزال غير قادرة على نبش أوجاعها، لذلك وضعته بجوارها، وأغمضت عينيها وهى تسحب نفسًا عميقًا، محاولة الاسترخاء، ونفض الأفكار المهلكة، والذكريات القاسية عن ذهنها، عن طريق تلك النسمات الرقيفة الهادئة، التي تلفح بشرة وجهها، مخلفة هدوءً غريبًا بداخلها، طاردًا تلك الزوبعة من الشتات الذهني، الذى أصبح لا يفارق رأسها مؤخرًا.
❈-❈-❈
تذرع الحجرة جيئةً وذهابًا، والغل الدفين بداخلها قد اعترى سائر قسماتها بقوة، انقطاعه عن زيارتها، أو الاتصال بها تدعو للريبة، وتزيد شكوكها التي ساورتها حول وجود مخطط يرتب له خفيةً من ورائها، فهي تعرفه جيدًا، لا يهمه سوى مصالحه، حتى وإن تعارضت مع مصالح الجميع، وهي بغابئها ظنت أنها قد حصلت عليه بعد كل ذلك العمر، وأن المصلحة باتت مشتركة باشتعال شرارة حبها في قلبه، وبذلك ستنال حبها القديم، وكذلك السلطة والمال، وفي الأخير اتضح أنها كانت تركض خلف وهمٍ كبير.
أين اشتياقه العارم، وحبه المزعوم؟ هل كان يدعيهما فقط، حتى يصل إلى غايته، بالحصول على حقه في أموال زوجها كما ادعى لسنوات؟ وعندما وجد أن لا فائدة ترجى منها في ذلك الأمر، ألقاها من حياته كجرذ بغيض منفر. جلست على المقعد الملحق بالمرآة، وهي تفرك يديها بغليل بالغ، وتعض على شفتها وهي تحاول استجماع نفسها، حتى تستطيع التفكير بتريث، للتهيؤ لمواجهة أي موقف غادر، فهي باتت لا تأمن له، وفي نفس الآن تعجز عن تخمين ما يرتب له. لا يوجد حل أمامها غير التظاهر بالغباء، والاتصال به بحجة الاطمئنان عليه كالسابق، وجهت نظرها نحو هاتفها الموضوع فوق طاولة مجاورة لمرآة التسريحة، وعلى الفور نهضت عن المقعد وتوجهت لالتقاطه، أتت برقمه ثم وضعته على أذنها، انتظرت لعدة لحظات تآكل الغيظ خلالها بأعصابها، وقبل أن تنتهي مدة المكالمة، آتاها رده، بصوتٍ فاترٍ على غير العادة، ضاعف من غليلها، ولكنها كبحت ما يساورها من شعور بالبغض، وكلمته بلهجة متغنجة بعض الشيء:
-ايه يا نوح، فينك؟ عايزه اشوفك.
رد عليها بنفس نبرة الصوت الجافة، مرددًا:
-أنا كمان عايز اشوفك.
لم تعبر جملته عن أي اشتياق، أو طيف لهفة، فتساءلت ونيران الغضب تنهش بها من أسلوبه الغريب:
-أجيلك؟
رد عليها نافيًا بكلمات مختصرة:
-لأ انا اللي هاجي.
أغمضت عينيها محاولة التحكم بأعصابها التي تلفت من ذلك الغموض الذي يغلف كلماته، ثم قالت مستفسرة بانفعال مكتوم:
-هتيجى امتى؟
أجابها بلهجة واجمة وكأنه يرغم نفسه على التحدث إليها:
-بالليل يا سمية هاجي.
بعد ذلك أنهى معها المكالمة ببضع كلمات مقتضبة، ممَ دفع اليقين بداخلها حول انعواجه عن اتفاقاتهما الماضية، صرت على أصنانها بغضبٍ بالغٍ، وألقت الهاتف فوق السرير بغل، وهى تنظر أمامها بوعيدٍ له، فإذا تعدى على مصلحتها، وأثر كل الغنيمة لنفسه، فحينها ستجعله يندم أشد الندم.
❈-❈-❈
في المجمع الرياضي، بداخل النادي التي تشترك به، تسير بخطواتها الخيلاء، وجسدها شديد الرشاقة، التي تتهافت عليه الفتايات قبل الرجال، تنظر في الأرجاء، بعينيها الساحرتين، رمادية اللون، التى ورثتها هي وشقيقها عن والدهما، باحثةً عن ضالتها، وما إن وجدت هدفها، حتى أشرق وجهها، واتسعت ابتسامتها سرورًا، ثم هتفت بنبرة صوت مرتفعةً وهي تعجل فى سيرها:
-فارس.
على صدى ندائها باسمه، التفت إليها وهو يحمل بإحدى يديه زجاجة ماء، كان يرتشف منها، حيث إنه قد أنهى لتوه أحد دروس الفنون القتالية. أغلق الزجاجة ووضعها جانبًا، وقد ارتسمت على ثغرهِ ابتسامة جذابة وهو يقول بنبرة رخيمة:
-لينا، ازيك عاملة ايه؟
ابقت بسمتها مزينة شفتيها الرفيعتين، ومظهرة نواجذها وهي تجيبه برقة تخلب الأنفاس:
-Fine. (بخير.)
ثم ما لبثت أن تساءلت، بعد أن هدأت لهفتها قليلًا:
-وانت اخبارك ايه؟
هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يجيبها:
-تمام..
خصها بنظرةٍ لطيفة وهو يضيف بشيء من الغزل:
-وبقيت تمام أكتر لما شوفتك.
اندفعت الحرارة لوجنتيها، إثرًا لتدفق الأدرينالين في عروقها، وشعرت في تلك اللحظة، مع غزله الصريح، أنه قد آن أوان الإفصاح، عمَ تضمره في نفسها، ولكنها بحاجة لدفقة من الجرأة. من هيئتها المترددة، شعر "فارس" برغبتها في التفوه بشيءٍ، لذا تساءل باشتفاف:
-هو في حاجة عايزه تقوليها؟
فاجأها سؤاله، فكأنما قرأ تعبيراتها، أو ربما هي من تفضحها نظراتها، ولكنها وجدت أن أرجاء الاعتراف أكثر من ذلك يستهلك طاقتها، فتشجعت لتهز رأسها بالإيجاب، وقالت له:
-بصراحة آه..
ثم قالت بعد أن تنفست بتلجلجٍ:
-ممكن نتكلم مع بعض شوية؟
تلبكها وهي تعيد خصلاتها الشقراء بيدها للخلف، جعله يضيق عينيه عليها باستغراب، فهي شديدة الغطرسة، وواثقة في ذاتها إلى حدٍ لا يجعلها تتوتر عند التحدث لأي من كان، كما أن تجاهلها للجميع دفعهم لرؤيتها في إطار متعالٍ، ولهذا استرعى اهتمامه رغبتها فى الجلوس رفقته بالتحديد، وشغل فضوله ما تود الحديث فيه، لذا ابتسم ابتسامة هادئة، وهز رأسه بموافقة، مردفًا:
-آه طبعا مفيش مشكلة..
ثم أشار إلى ملابسه المليئة بالعرق، نتيجةً للحركة الزائدة، والمجهود الذي يبذله أثناء التمارين، وأخبرها:
-استنينى في الـcafe, وانا هغير واجيلك.
أومأت له برأسها وقالت بحماسٍ لم تستطع أن تواريه:
-okay, l'll wait you. (.حسنا، سأنتظرك)
انتظرت بداخل الجزء المخصص لإعداد المشروبات في النادي، على طاولة جانبية، عمدت على أن تكون في زاوية بعيدة عن الطاولات المشغولة، وبعد مضي عدة دقائق لم تتجاوز العشرة، رأته آتيًا من بعيد، بهالته المميزة، وجسده الرياضي مفتول العضلات، انفرج وجهها ببسمة تلقائية، واتبعت تقدمه نحوها بعينين متوهجتين. تنحنح جاليًا، بصوته بعد أن جلس على المقعد المقابل لها، ثم تساءل بتصقيل لبق:
-ها يا ستي عايزه تتكلمي في ايه؟
عضت على باطن شفتها السفلى، وهى تناظره بارتباكٍ من عينيه المرتكزة عليها في انتظار، وقالت متسائلةً:
-طيب تشرب ايه الأول؟
لم يخفَ عنه توترها، رغم محاولتها في إخفائه، وهذا ما جعله يزداد تعجبًا، ولكنه نحى ذلك التفكير جنبًا عن ذهنه، ورد عليها بلطافة:
-ممكن ليمون.
بعد أن أملى "فارس" طلبهما على النادل، رمقها بنظرة ترقب، جعلتها تشعر بتلوٍ بسيط في معدتها، استعجبت له، ولترددها السخيف، فأين جراءتها، وثقتها المعهودة؟ حثت نفسها على الثبات، ودفعت نفسها بعد لحظات لإخباره دفعة واحدة دون مقدمات:
- فارس بصراحة i like you (أنت تعجبني)..
صمتت للحظة قبل أن تقول ببعض الخجل الفطري:
-و.. i want us to be together (أريد أن نصبح معًا)..
ثم سألته وهي تتفحص تعبيراته:
-ايه رأيك؟
قابل اعترافها بصدمة صامتة، نجح في طمسها، حتى يحافظ على هيئته الرزينة، الثابتة، التي أعجبت بها، ومن هنا فطن إلى نوعيتها المفضلة في الرجال، فكل من تهافت عليها، وأظهر إعجابه بفتنتها الطاغية، كانت لا تعطي له بالًا، وفي بعض الأحيان كانت تظهر رفضها بتعجرف شديد، ولكونه كان على النقيض، ثقيلًا، غامضًا، ولم يأخذ خطوة نحوها في التعرف عليها، أو الإطراء على جمالها، شغلها أمره وآثار إعجابها. عندما طال صمته، فسرته على نحوٍ آخر، وظنت في وجود فتاة بحياته، بالرغم من تحريها عن ذلك الأمر، وتأكدها من كونه أعزب، لا تجمعه صلة بأي امرأة، ولكن عقلها لم يعطِ لها استنباطًا آخرًا وتكلمت بنزقٍ:
-لو في حد في حياتك ممكن تعتبرني ماتكلمتش، و..
اختنق صوتها قليلًا وهي تتهرب بنظراتها عنه، مضيفةً:
-It's ok, I'm not narrow minded. (لا بأس، أنا لست ضيقة الأفق)
انتظر حتى انتهت، وبينما ينظر إلى داخل عينيها، أردف بجدية:
-موافق.
تفاجأت من رده، وتراقصت البسمة على شفتيها وهي تتساءل بغير تصديقٍ:
-sure? (متأكد؟)
أومأ بتريثٍ وأجابها بابتسامة هادئة، مؤكدًا:
-sure.
قطع التواصل البصري بينهما إحضار النادل طلبهما، أنزل الكأسين على الطاولة، أمام كل منهما على حدا، ثم غادر بتأدبٍ، حينها تمكنت من التعبير عن سعادتها دون تقييد، بنظراتها التي التمعت بفرحةٍ، فاجأته أكثر من تصريحها بإعجابها به، وكأنها لم تكن تتخيل أن يبادلها شعورها، أو يوافق على عرضها، الذي إن عُرض على أي رجل آخر، لرآه ثمينًا، بل لا يقدر بثمنٍ، ولكنه أتاه على طبقٍ من فضة، وبدون أن يبذل أى مجهود يذكر في التقرب إليها كغيره، وهذا في حد ذاته، ما جعله يفقد جزءً من الشغف نحوها، ولكنه لن ينكر إعجابه الكبير بها، الذي دفعه للموافقة، حتى يتمكن من اكتشافها، والتمتع ببعض اللحظات الشغوفة مع واحدة مثلها، تحت إطار الارتباط دون قيود، أو شروط يُطالب فيمَ بعد بتنفيذها.
❈-❈-❈
الوقت الفاصل بين الحين وموعد مجيئه مساءً يتحرك ببطء، أو ربما ذلك ما بدا لها من تكرار تحديقها في الساعة كل بضعة دقائق، أرادت برؤيته أن تقطع الشك باليقين، وتحاول جذبه في الحديث بطريقتها اللئيمة، لتتمكن من سلب حقيقة ما يرتب له من وراء ظهرها، فكل ما يهمها الآن أن تضمن حقوقها، فغايتها انحصرت بعد موت زوجها، على وضع يدها على أمواله، وأملاكه، فهذا هدفها من البداية، ومن أجله فعلت كل ما بوسعها، من مؤامرات، وألاعيب، حالفها الحظ في كل مرة في نجاحها، إلا الأخيرة تلك، لم تتوقع أن يغدر بها ويكتب كافة أملاكه لابنته، لم يكتفِ بتضييق الخناق عليها في حياته، فقد حرم عليها أن يكون لها كيان مستقل برفضه في توليها أي منصب في شركاته، متحججًا بعدم رغبته في خروجها لسوق العمل، وترك شئون البيت، وإهمال ابنتهما..
ابنتهما التي سعى لإلحاقها بكلية الاقتصاد والإدارة كي تتمكن من إدارة شركاته عن دراية بعد إتمامها لتعليمها الجامعي، وهذا ما أكد لها أن رفضه كان نابعًا من سببٍ آخر، وليس لحججه الواهية، حتى عند طلبها بفتح حساب مالي باسمها، كان يأتيها رده بأن لا حاجة لذلك، فكل تلك الأموال ستكون لها بعد مماته، لقد تلاعب بها طوال تلك السنوات، وبفعلته الأخيرة بحرمانها من حقها الشرعي في أن ترث فيه، أفنى أي ذرة ندم بداخلها حيال ما اقترفته بحقه. أحتدت ملامحها بشكلٍ مريبٍ وتفكيرها المشابه للأبالسة لا ينفك عن دفعها لطرقها اللئيمة. أرادت أن تسبق "نوح" بخطوة، فلربما نجحت خطتها في استمالة "كيان" باللين، وجعلتها تتنازل لها طوعًا، دون ضغطٍ أو إجبارٍ لا تضمن أن يأتي بنتائج مرجوة، دلفت الغرفة الخاصة بابنتها، دون أن تأخذ إذنًا، أو تنبهها لدخولها، فتفاجأت "كيان" وهي جالسة في الشرفة بوجودها خلفها، عندما سألتها:
-انتي هتفضلي قاعدة في اوضتك كده؟
التفت بجسدها لها وعلى وجهها –الذي فقد حيويته- التفاجؤ، ورمقتها من موضعها بنظرة مستغربة وعلقت بتساؤلٍ:
-عايزاني اعمل ايه؟
تقدمت بخطواتها لتصير مقابلةً لها، وأخبرتها:
-تنزلي، تخرجي، تعملي اي حاجة، بدل مانتي مبتعمليش حاجة كده.
رغبتها في مغادرة الغرفة كانت شبه معدومة، فتركها للفراش يكلفها طاقة مضنية، فماذا عن النزول ومخالطة الأخرين؟ ظهر الرفض على وجهها، وردت عليها بوجوم:
-مش عايزه اروح في حتة.
مخالفتها لكلمتها دائمًا ما كانت تستثير أعصابها، حتى وإن كانت غير محقة في الأمر الذي تمليه عليها، كالحين انفعلت وهي تخبرها:
-انا امك وخايفة عليكي اسمعي الكلام.
بالرغم من ارتعاشة جسدها من صوتها الهادر، إلا أنها لم تستطع كبح اعتراضها وردت عليها باستياء يشوبه الحزن:
-يا ماما لوسمحتي قدري شعوري، انا بحاول اتعافى من موت بابا، وأقلم نفسي على الوضع الجديد، سيبيني على راحتي ارجوكي.
ازداد غيظها ممَ اعتبرته كلامًا فارغًا، وباستخفاف لحزنها الذي ما يزال نابضًا داخل قلبها الجريح، علقت:
-بابا بابا بابا، ما كفاية بقى من الاسطونة دي، هو اول واحد يموت.
اتسعت عينا "كيان" من صوتها الصادح، وعصبيتها مجهولة السبب وهي تضيف باستنكار:
-هتفضلي حابسة نفسك وتعيطي عليه علطول؟
استهانتها بمشاعرها، والاستخفاف بألم الفراق الذي يضنيها إلى الحين جعلها تشعر بألمٍ مضاعف في قلبها، كأنما قد اعتصرته كلماتها، رأت أن إبداء الأسباب لن يفيد، فمهما وصفت لها شعورها، لن تتعاطف معها، أو تقدر حزنها العظيم، وبغصة تمزق حلقها طلبت منها:
-لوسمحتي سيبيني لواحدي.
غلت الدماء في عروقها من فشل محاولتها الأولى، في التقرب منها، وظهر الاستهجان على ملامحها ممَ رأته حزنًا مبالغًا فيه، وحتى لا تتداخل معها في شجارٍ مع تبادل الردود فيما بينهما، قالت لها بسئم:
-براحتك، انتي دماغك ناشفة وانا تعبت منك.
غادرت الغرفة بعد ذلك، حتى أنها لم تحاول أن تطيب خاطرها بعد رؤيتها للعبرات المتكومة في عينيها، إتيانها ضاعف من أحزانها، وجعلها تدرك وحدتها بعد رحيل والدها، فإن كان هو الذي موضعها، لما كان تركها دون أن يخفف ممَ يُثقل قلبها، من همومٍ سببها الأكبر هو عدم وجوده.
عدم الاختلاط بها، وانزوائها على نفسها بغرفتها، لم يجعلاها تسلم من قسوتها، وسموم عباراتها، وكأنها ليست ابنتها، وما يسيء لها يفضي إليها، ولكن أين ذلك؟ وهي التي دومًا ما تتسبب في إيذائها نفسيًا قبل أن يكون بدنيًا بفظاظتها، وسلاطتها الدائمة.
في أوقات حزنها الشديد إما كانت ترتمي في أحضان والدها، أو تلوذ بدفترها، والحين لم يبقَ لديها سوى الدفتر، الذي يحتضن أوجاعها، حتى وإن لم يستطع مواساتها، أو درأ الأذى عنها كوالدها الحبيب، عادت إلى الداخل، وبعد أن أحضرته، توجهت نحو الأريكة المقابلة للفراش، جلست عليها وهي تأتي بصفحة جديدة، تلي الأخيرة التي لم تكتب بها الكثير، وبدأت في السرد، بقلمها الأسود.
ها أنا آتية إليك بسيل من كلماتٍ، أعي أنها لا تعني لأحدٍ على الإطلاق، ولكني أيقن أنك ترحب بكل حرفٍ بها، وتشتاق لسواد قلمي الحالك، كحياتي التي انتقصت لأهم فردًا بها، بل محور حياتي كلها، التي باتت فارغة، محض تراهة بعد غيابه، لقد فقدت رغبتي في البقاء بها، فالعيش دون دافعٍ لا يوجد له معنى، والوحدة تقتل ألف مرة، وعدم وجود مصدر للأمان يخلف الوَحشة، والحنين يتآكل بالقلب بكل وخزة، ومع كل ذلك مطالَب أن أتجاوز تلك المرحلة القاسية، المستنزفة لكل ذرة بروحي، وتدمر كياني، لست أدري هل سأتمكن من البقاء رفقة كل ذلك الإفك، الشر، والقسوة، أم سينهار صمودي الواهي، وأضحى بين رفات الموتى، بجسدٍ لا يربطه بالحياة سوى أنفاسي..
قاطع كتابتها المؤسفة صوت رنين هاتفها، تركت الدفتر والقلم من يدها، وتوجهت لأخذه من فوق وسادة فراشها، وبينما تمسح العالق من عبراتها، رأت أبغض اسم تنير به شاشة الهاتف، امتلأ وجهها بالنفور من مجرد قراءة اسمه، ومررت إبهامها على الشاشة رافضة اتصاله، أطفأته وداخلها ينبض بشعورٍ متعِب، يختلط به الكره بالخوف، وقبل أن تلقي الهاتف فوق الفراش لتعود إلى دفترها، رن الهاتف مجددًا، ولكن تلك المرة معلنًا عن وصول رسالة، علمت قبل أن تعود لفتحه من كون المرسل نفس الشخص، ولكنها ودت أن تعرف فحواها، وبالطبع صدق حدسها، واسمه المدون بـ"هادي" على هاتفها ظهر مجددًا بإشعارٍ على حسابها بأحد برامج التواصل الاجتماعي، ومن الخارج دون أن تفتح الرسالة، تمكنت من قراءتها، وقد كان سؤال متبرم منه يلومها فيه:
-برضه مش عايزه تردي عليا يا كيان؟
ازداد نفورها، وكأن لومه يثير اشمئزازها، بدلًا من عاطفتها، وألقته تلك المرة من يدها وكل ما بها ينضخ بالكراهية، شعور أول مرة يدمغ بقلبها المتسامح، لمن كان ينبغي أن يكون واحدًا من أحبائها.
❈-❈-❈
ها قد أتت فرصته على طبق من فضة، للحصول على مسعاه، في أخذ حقه الذي ظل سنوات يحارب لاستعادته. فتح أحد العاملين الباب الداخلي بفيلة أخيه، استقبلته مدبرة المنزل بترحيبٍ عندما رأته، قائلةً باحترام:
-أهلا يا نوح بيه البيت نور..
هز لها رأسه كردٍ صامتٍ على ترحيبها، في حين أضافت هي:
-حالا هبلغ سمية هانم بوجود حضرتك.
لم تكَد تتحرك حتى أوقفها صوته القائل:
-استني يا كريمة..
التفت له بعد أن استجابت لأمره، حينها أخبرها
-تعالي عايزك.
سارت نحوه الخطوات القليلة، الفاصلة بينهما، وتساءلت بابتسامة رسمية:
-خير يا نوح بيه أؤمرني.
بملامحه الجامدة أخبرها:
- متعرفيش سمية إني هنا..
رمقته بنظرة متعجبة، بينما أضاف هو بأمرٍ:
-عرفي كيان بس إني عايزها، وابعتيهالي أوضة الصالون.
أومأت له برأسها وقالت بانصياعٍ وهى تشرع في التحرك:
-حاضر يا نوح بيه.
بقى منتظرًا نزولها في الداخل لقرابة العشر دقائق، حتى تملك منه الضجر، وظن لوهلة في عدم مجيئها، ولكن قبل أن يصدق ذلك الظن رآها دالفةً من باب الغرفة، متشحة بثوب أسود مكون من بنطالٍ تعلوه بلوزة متسعة بعض الشيء، تعجب من عدم خلعها لذلك اللون، على الرغم من انقضاء الأربعين يوم، ولكن على ما يبدو أن حزنها لم يلتئم بعد، فوجهها ما يزال شاحبًا، محفور به كل معالم الشجن. اغتصبت بسمة صغيرة شفتيها بالكاد تُرى، ولا تدري هل عدم قدرتها على الابتسام في وجهه لحزنها، أم راجعًا للقطيعة التي كانت بينه وبين والدها، والشجارات التي كانت قائمة بين كليهما. حتى إنه لم يفعل كالبقية ويظهر تعاطفًا لوفاة والدها، أو يواسيها بكلمات معزية، لهذا استعجبت مجيئه حينما بلغتها "كريمة"، ولكن لم يكن هناك حل يعفوها عن مقابلته. مدت يدها له بعد أن صارت قبالته، وقالت بترحيبٍ هادئ:
-ازيك يا uncle. (عمي)
ابتسم لها ابتسامة صغيرة، تلك المرة الأولى التي ترى مثلها على وجهه، وأردف بودٍ بعدما قبل جبهتها:
-ازيك يا حبيبتى..
ابتعد عنها وهو يسألها:
-عاملة ايه النهارده؟
لاحت الدهشة فوق قسماتها، من تلك المحبة المفاجئة، ولكنها رغم ذلك أجابته، بابتسامة مهزوزة بعض الشىء:
-الحمد لله كويسة.
بادلها ابتسامتها بأخرى رغم هدوئها لم تسترِح لها، وأتبعها بقوله بنبرةٍ رخيمة، وهو يشير لها اتجاه المقعد المجاور له:
-طب اقعدي، عايز اتكلم معاكي.
استجابت لطلبه، وجلست على الكرسي المشار عليه، ولكن عقلها لم يتوقف عن التساؤل حول الشيء الذى جاء به لزيارتها، ووسط خضم أفكارها، تكلم بجدية مجيبًا على تساؤلاتها الخفية:
-باباكي قبل مايموت كان موصيني عليكي إني آخد بالي منك لو جراله حاجة..
زوت ما بين حاجبيها باستغراب، فمتى فعل ذلك؟ وهما على خلافات لم تُحل، في حين أضاف "نوح" ليزيد من تخبطها:
-ووصانى وصية مقدرتش آخالفها، أو اعترض على رغبته فيها، ووعدته وقتها ان انفذهاله، ودلوقتي جه وقتها عشان يبقى مرتاح في نومته.
تغلل قلبها الارتياب، ناهيك عن شعورها بالرهبة في حضوره، ولكنها تماسكت حتى تعرف ماهية تلك الوصية، وهزت رأسها متسائلةً:
-وصية إيه دي؟
ليقينه التام بعدم اقتناعها، خاصة إن فاه بالوصية المزعومة مباشرة دون مقدمات، لهذا حاول استمالة قلبها بكلمات زائفة، مرتبة ترتيبًا مسبقًا في عقله الشيطاني، مرددًا:
-بكر قلبه كان حاسس انه مش مطول وكان خايف يسيبك لواحدك من غير راجل تتسندى عليه، عشان كده وصانى انه لو جراله حاجة..
صمت للحظة قبل أن يضيف بحذر:
-أجوزك لراغب.
فغرت عينيها بصدمةٍ هائلة، جعلت وجيب قلبها يزداد كما لو أنه سيخرج من موضعه، وما زاد هلعها دلوف والدتها الغرفة بشكلٍ مفاجئ، بصوتها الهادر، والمستنكر:
-انت بتقول ايه يا نوح؟
التفت كل منهما إلى مصدر صوتها، وجداها واقفةً أمام عتبة باب الغرفة، ونيران الغضب تتطاير من مقلتيها، وقفت "كيان" حينما وقع صوتها على سمعها، وفي تلك اللحظة لم تدرِ أتحتمي في والدتها من ادعاءه الكاذب، أم تبقى محلها وتشاهد النزاع الحامي؟ فاقت من دوامة أفكارها، والتشتت الهائل، على صوت عمها الذي لم يحرك ساكنًا، وبمنتهى الثقة والبرود أردف:
-اللي سمعتيه يا سمية.
تقدمت منه وهي تتآكل الأرض بخطواتها العاكسة لغضبها البالغ، وقفت أمامه وقالت بنديةٍ:
-ومين بقى اللي هيوافق على الكلام الفارغ ده.
أنزل ساقه بهدوء عن الأخرى، ونهض ليقابلها بوجهه الجامد، وقال بفحيح بكلمات ذات مغزى:
-انا مش محتاج موافقة حد، وانتي عارفة كده كويس اوي.
اعتلى السخط ملامحها، وصرخت به برفضٍ قاطع:
-دي بنتي أنا يا نوح، واستحالة اوافق اني اجوزها لابنك.
أعصابها لم تتحمل ذلك المشهد المحتدم، داهم الدوار رأسها، مع الشعور بسحابة سوداء حطت على عينيها، شوشت الرؤية، وجعلتها تفقد الوعي في لحظتها.
منعه من الرد عليها ارتطام جسد "كيان" بالأرض مغشيًا عليها، تفاجأ الاثنان بمَ حل بها، ومع ذلك لم يهدأ انفعالهما، فقد توجه "نوح" إلى جسد ابنة أخيه المسجى جواره، وهي يزفر بغضب، انحنى ليحملها، ثم استقام بجسده وهو يرمق الأخرى بعدائية، انتقلت إليها بعد هجومها، واعتراضها الضاري، أتبعته بنظراتٍ مشتعلة وهو يتحرك بابنتها ليصعد بها لأعلى، كأنما لم يهتز بها جفن من رؤية ابنتها فاقدة للوعي، فكل تفكيرها منحصر على أموالٍ واهية، أنفاسها ظلت تتلاحق بازدياد بالغ، من عصبيتها الحبيسة، التي إن حررتها، ستحرق كل ما يقابلها.
خارج غرفة "كيان"، بعد أن أتى الطبيب لفحصها، بعدما تعذر على الجميع إفاقتها، وقفت مواجهةً له، بملامح تعتليها الشراسة، تشهر إصبعها فى وجهه وهي تقول بخفوتٍ، كي لا يستمع أحد لحوارهما المحتدم:
-انسى يا نوح اني اوافق ان كيان تتجوز راغب.
رمقها من علياه، وانشق ثغره ببسمة جانبية، حاملة لكل معالم اللؤم، ورد عليها بانصياع ماكر:
-وانا موافق..
رمقته بنظرةٍ مستريبة وهو يضيف بجمودٍ قاتل:
-بس وقتها كيان هتعرف الحقيقة
اهتز وجدانها من عبارته الغامضة، ورمشت بأهدابها وهي تسأله بهلعٍ:
-حقيقة ايه؟
دنا منها ليصير وجهه على مقربة شديدة من وجهها، ناظرها بنظرةٍ متحدية، وهو يجيبها بعزمٍ لا يوجد به تراجع:
-انك انتي اللي قتلتي بكر.
يتبع...