رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 12 - 3 - الجمعة 24/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثاني عشر
3
تم النشر الجمعة
24/1/2025
القاهرة ١٩٩٠..
انتهى ذاك الاجتماع الذي زاد انعقاده عن الثلاث ساعات أخيرا، كان التفاوض على تلك الصفقة قد بدأ يدخل في سكة مسدودة لولا احترافية نصير الراوي المعهودة، لكانت الصفقة في خبر كان..
تنهد نصير بالمقعد الخلفي لسيارته الفارهة في راحة وهو يفك بعض من وثاق رابطة عنقه، فاتحا الزر الأول بقميصه الناصع البياض، متطلعا للخارج عبر النافذة الشفافة التي تماثل لون الكهرمان، والعاكسة لأشعة الشمس، والمانعة لتطفل الأعين..
متابعا ما يحدث بالخارج عبر طرقات المدينة واحيائها، حتى إذا ما خرجت العربة مبتعدة عن ضجيج المرور وزحامه، حتى تنفس الصعداء محيدا ناظره عن النافذة، متطلعا نحو هاجر التي كانت تجلس جواره في صمت مبتهل، لا ترغب في تعكير صفوه ولحظات راحته بعد تلك المعركة التي أدارها باحترافية في الاجتماع المنصرم.. متسائلا في هدوء مريب: أخبار صحبتك أُنس ايه!..
تعجبت هاجر، وسألت في اضطراب: أُنس!.. آه.. كويسة.. كويسة..
ابتسم متسائلا من جديد: اتبسطت في الشاليه!
شهقت هاجر في صدمة، كيف تسنى له معرفة ذلك! تمالكت أعصابها وبدأت في استجماع المبررات لترد مفسرة، لكنه وفر عليها، هامسا في تعجب: هاجر! أنا معنديش مشكلة من وجود صاحبتك المقربة في الشاليه!.. أنا مشكلتي الحقيقية.. إنتي مبلغتنيش ليه!..
زاد اضطراب هاجر، قبل أن ترد موضحة: كنت خايفة ترفض، وهي كانت متعشمة أوي، وأنت عارف أُنس صاحبة عمري، يمكن تكون صديقتي الوحيدة، ومقدرتش أقول لها لأ، وخفت من رفضك..
همس نصير متعجبا: رفضي! وهرفض ليه يا هاجر! معقول بعد السنين دي كلها معايا، ولسه معرفتيش نصير الراوي!.. ولا عارفة معزتك عنده!..
ساد الصمت ولم تعقب هاجر التي كان قلبها يرقص طربا لسماعه كلمات نصير، التي تؤكد على غلاوتها وقدرها عنده، لتتنبه حين أكد في ابتسامة ذوبتها: أصدقاءك مرحب بهم في أي وقت يا هاجر..
هزت رأسها ممتنة، والسعادة ترتع بين جنبات روحها لتقديره..
❈-❈-❈
حين احتدمت الأحداث، انطلقت بالفعل رصاصتان، واحدة من سلاح الخفير شبل، مدافعا عن سيده وهذه طاشت بفعل الرصاصة الآخرى التي انطلقت من سلاح ميري نحو كف عزت الموجهة نحو حبيب، فأصابت كفه إصابة طفيفة كانت مقصودة باحترافية الغرض منها ترك عزت لسلاحه والذي نفضه بعيدا بالفعل وتلوى متوجعا فطاشت رصاصة شبل المصوبة نحوه.. ليأتي دكتور سرور مهرولا ما أن وصله ما يجري، ليجد عزت مصاب الكف، فاصطحبه لدار أبيه، تاركا حبيب يستقبل ذاك الضابط الهمام الذي ظهر في الصورة في اللحظة المناسبة تماما..
هتف حبيب في تقدير: يا مرحب يا حضرة الظابط، والله حضورك عدل الكفة، ولحج حاچات كتير كانت ممكن تودينا فحتة منرچعش منِها..
هتف سراج في رزانة: كان لازم أدخل بأجل الخساير يا.. حبيب بيه! سمعت الغفير بينادي باسمك لما جري يطمن عليك، صح كده!
أكد حبيب في أريحية: مظبوط، واسم الكريم ايه!
أكد سراج في تباسط: سراچ الحفناوي..
تطلع حبيب نحوه متعجبا: أنت صعيدي! لهچتك بتجول كده! ومن نواحينا كمان.. الباشا منين!
أكد سراج باسما: أنا اسكندراني وليا أصول صعيدية، الوالد بقى كان متمسك باللهجة جدا، واحنا خدناها عنه، لكن لا عمري زرت الصعيد ولا زرت النجع اللي منه أصولنا، لأن والدي منزلش مسقط رأسه هنا فالصعيد من زمان، يمكن من سني كده..
ابتسم حبيب هاتفا: طولة العمر له.. أنت لازما تتغدا معانا النهاردة..
هتف سراج معتذرا: لاه، لازما أرچع النجطة، وأشوف واد العمدة، ولو فيه محضر اكيد هنحتاچك عشان نجفله..
هم حبيب بالحديث، إلا أن أنس اندفعت لداخل المندرة، لا تدرك أن حبيب لديه رفقة، كانت رغبتها في الاطمئنان عليه أكثر قدرا من حرصها.. تنبه سراج لوجودها، وتعرف عليها من فوره، هاتفا في نبرة بها بعض الشك: آنسة أنس! ايه أخبارك.. وأخبار ال..
أشارت له أنس بطرف خفي ألا يستطرد في سرد تفاصيل واقعة إسكندرية في وجود حبيب، ليتفهم سراج الأمر سريعا، مغيرا مجرى الحديث، هاتفا لأنس: صدفة سعيدة إننا نتجابل هنا!
هتف أنس وهي تقترب تمد كفها لمبادلته التحية: فعلا يا سراج بيه، صدفة سعيدة وغريبة.. شكل حضرتك اتنقلت هنا جديد!..
هم سراج بالرد على سؤالها، لكن حبيب قاطعه، وقد وصل معدل الحنق عنده لمستوى خطر، محاولا كبته على قدر استطاعته، هاتفا في نبرة حاول أن يغلفها بالهدوء الحذر: هو إنتي تعرفي سراچ بيه يا أستاذة!
أكدت أنس في هدوء مصطنع: آه، سراج بيه صديق العيلة..
همس حبيب ساخرا: برضك! ده أصدقاء العيلة كَتير ما شاء الله.. ربنا يزيد ويبارك..
سألت أنس: حضرتك بتقول حاجة يا حبيب بيه!
أكد حبيب: لاه، كنت بمسك في سراچ بيه ينورنا ع الغدا، بس الظاهر ملناش حظ نتأنسوا به..
هتف سراج وهو يهم بالخروج من المندرة: معلش يا حبيب بيه فرصة تانية..
وابتسم لأنس في أدب جم: فرصة سعيدة يا آنسة أنس..
ردت أنس: أنا الأسعد، سلامنا لجمال بيه..
أكد سراج راحلا: يوصل بإذن الله..
ما أن غاب سراج خارج بوابة السراي، حتى هتف حبيب زاعقا في غضب هادر، موجها حديثه لأنس التي كانت في سبيلها للصعود لحجرتها: وجفي عندك، هو إيه اللي بيحصل ده! كيف تدخلي عليا هاچمة كده وأني جاعد مع راچل غريب! هي ايه! سويجة!
هتفت أنس في صدمة: سويقة! أنا مسمحلكش تكلمي بالأسلوب ده! وأنا لما دخلت مكنتش اعرف إن في حد معاك..
علا صوت حبيب حانقا: وهتعرفي منين وانتي حتى مخبطيش ع الباب تستأذني جبل ما تدخلي هچم كده!.. ومن غير إحم ولا دستور، دي مش أصول يا أستاذة يا بتاعت المنطق والأصول!..
هتفت أنس زاعقة بدورها: لا.. حاسب على كلامك، أنا بفهم فالأصول كويس أوي، واللي حصل ده مكنش مقصود، ومش هسمح بأي تجاوز في حقي تاني يا حبيب بيه، مفهوم! ..
صرخ حبيب ثائرا: أنا متچاوزتش حدودي، إنتي اللي اتچاوزتي حدودك وإنتي داخلة تسلمي على الراچل، وتتحدتي معاه فوچودي، وكمان يطلع معرفة جديمة، وصديق العيلة ما شاء الله، وأني واجف ايه! مفيش أي احترام ولا تجدير لوچودي!..
دي مش عمايل ناس بتفهم فالأصول والمفروض.. ولا اتربت عليهم من الأساس..
ساد صمت حاد، أحد ضراوة وفتكا من نصل سيف ماضِ، وكلاهما يتطلع للآخر في نظرة حملت الكثير من المشاعر المختلطة المتضاربة، حتى قطعت هي ذاك الصمت، جاذبة نفسها بعيدا في اتجاه الدرج، مندفعة كالصاروخ نحو حجرتها، التي انتفض متنبها لفداحة قوله، حين أغلقت هي بابها بكل هذا العنف، تاركة إياه يكاد يمسك السماء بيديه ثورة، لكنه اندفع في اتجاه قلب السراي، لتستوقفه جدته صفية متسائلة: الزعيج ده كان مع مين يا حبيب!
هتف حبيب محاولا أن يبدو طبيعيا: متخديش فبالك يا حچة، وخشي ارتاحي، أني طالع اطمن على منيرة..
اتخذ من منيرة حجة حتى لا يضطر للمكوث مع جدته لحظة، فنظرة واحدة منها لمحياه كفيلة بقراءة دواخله، وجعله يعترف بكل ما يعتمل بصدره..
ياليته يدرك كنه ذاك الشعور الذي يرتع هناك في عمق حشاه، متمددا كثعبان أرقط، برز برأسه، وأظهر أنيابه منذ لحظات حين رآها تمد يدها لتحية رجل غريب، متباسطة معه في الحديث والسلام!..
طرق باب حجرة منيرة، لتفتح هي الباب بعد أن مسحت دموعها عن خديها، ليهمس لها مطمئنا: عدت على خير يا منيرة، وحجك چه جدام الخلج كلها، كيف ما جل بأصله وجال اللي جاله جدام الناس كلها برضك، ربك عادل.. ولعله خير..
اومأت منيرة برأسها موافقة، ليغادر موضعه أمام باب حجرتها في طريقه لباب حجرته، ليتناهى لمسامعه صوت محمود العذب مرتلا بعض آيات القرآن الكريم، توقف لبرهة مستمعا لعل تلك النيران المستعرة بجنبات روحه تهدأ ولو قليلا، تنهد أخيرا في راحة، مكملا الرواق سيرا نحو غرفته، التي ما أن دخلها حتى دفع بعصاه وعباءته جانبا في عنف، خالعا عنه عمامته وجلبابه، مندفعا للحمام، ربما حمام دافىء يزيح عنه ذاك الثقل الذي يؤرق فؤاده..
دس نفسه في فراشه، فلابد من أن يساعده ذاك الحمام الذي أطال فيه المكوث على الخلود للنوم سريعا، تدثر جيدا، ووضع إحدى الوسائد فوق رأسه وكأنما يقطع الطريق على أي أفكار أو خواطر من التسلل لعقله راغبا في بعض الراحة والقليل من صفاء البال، لكن كيف له ذلك ونظراتها الغضبي التي تحولت لنظرة لوم تقف مصلوبة أمامه اللحظة تكاد تجلده بسوط من عتاب، مشعرة إياه بذنب يضج مضجعه، جاعلا النوم يهرب فارا منه، تقلب في الفراش على أمل واهن بأن يرحمه النعاس ويزور أجفانه..
تناهى لمسامعه صوت جرامفون جدته بالأسفل، وأم كلثوم تتغنى في وله: إزاي إزاي إزاي، أوصف لك يا حبيبي إزاي! قبل ما أحبك كنت إزاي!..
نفض حبيب الغطاء عنه، مجيبا على سؤال أم كلثوم ساخرا: والله كنت زي الفل وتمام، مش باللي أني غرجان فيه ده!..
نهض متنهدا في قلة حيلة، فقد أدرك أن الليلة ستمر بلا نوم، جاذبا عباءته التي كانت معلقة على المشج قريبا من موضعه، مندفعا للأسفل ليجلس بالتعريشة، فربما بعض من هواء الليل المنعش والمحمل بلسعة من برودة خفيفة، يجعل النوم يشفق عليه فيأتي زائرا لبضع ساعات..
تمدد على أريكته المفضلة، وما أن وضع إحدى وسائدها بأحد جوانبها، والتي اتخذها موضع لراحة رأسه، حتى وقع ناظره على نافذة حجرتها، كان نورها مضاء، ترى كيف هو حالها بعد كل هذا الصراع الأحمق الذي دار بينهما!.. لا، هذا يكفي، فهو لم يهرب منها إليها.. زفر في ضيق، وتحول بجسده ليعطي ظهره للنافذة، لا دخل له بحال صاحبتها، جاذبا العباءة حول جسده للحصول على المزيد من الدفء، فإذا به يتنبه أنها العباءة التي كانت يوما دثار لها في طريقهما من بيت نجية، وعلى عكس ما كان يدفعه هاجس ما داخله من دفع العباءة بعيدا، تلحف بالعباءة أكثر، شاعرا أن بقايا عطرها المخبأ بالثنايا والذي لا يكاد يكون ملحوظا إلا لقلب عاشق يتلمس أثر المحبوب ليدثر قلبه، فينتشر الدفء المقدس باعثا جسده على الاسترخاء أخيرا.. ليطرق النعاس باب وعيه..
❈-❈-❈
تسلل ذاك الشبح الملثم من بين أعواد القصب محدثا صوت يؤكد أن هناك جسد ما يجاهد في هدوء للوصول إلى وجهته دون أن يدرك وجوده مخلوق..
توقف لبرهة ملتقطا أنفاسه ما أن مر بذاك الغيط رجل ما، والذي توقف لوهلة مستشعرا أن أعين ما تلاحقه أو ربما تطارده فهتف في اضطراب، محاولا أن يدفع الخوف من أن يتملك من قلبه: مين هناك!..
كان نداءه مدعاة للسخرية، كان أشبه بنداءات خفراء الدرك قديما قبل انتشار الكهرباء والمدنية، كان نداء للاطمئنان أكثر من كونه لحفظ الأمن، فقد كان مجرد كلمة سر بين الخفراء المنتشرين بربوع النجع حتى يرد كل منهم على الآخر، لتأكيد اليقظة في ساعات الخدمة الليلة، معتقدين أن ذاك النداء قد يرهب من تسول له نفسه العبث بأمن النجع وهم على رأس منظومته الأمنية..
لم يتلق الرجل جواب إلا الصمت بالطبع، ما دفعه ليكمل طريقه مهرولا، تاركا ذاك القابع بغيط القصب ينتظر موضعه متصلبا حتى اطمئن تماما من عودة السكون، فبدأ في التحرك مجددا لينهي ذاك الغيط الواسع الذي يفصله عن مبتغاه، وصل أخيرا وتحين الفرص حتى يخرج مهرولا نحو الدار الصغيرة الكائنة على طرف الطريق، يتلفت في قلق يمنة ويسارا ليتأكد أن ما من مخلوق قد لمح طيفه، وبدأ في الطرق على الباب في سرعة، طرقات قوية عميقة لا تحدث ضجيجا بقدر ما تسمع أصحاب الدار لينهضوا من نومهم في مثل هذه الساعة المتأخرة، زاد الطرق حدة لتهتف نجية من خلف الباب في اضطراب: مين!
همس الشبح الملثم: افتحي..
ذاك الصوت ليس غريبا عليها، لكن بعض من حذر جعلها تسأل من جديد: أنت مين!
هتف الرجل من خلف الباب في حنق: افتحي وانتي تعرفي..
واربت نجية الباب قليلا، وتطلعت من الجزء المشرع لصاحب الصوت الذي لم يعطها فرصة للتعرف على هويته، حيث أنه دفع باب الدار في قوة ليصبح بالداخل، تقهقرت هي في ذعر من ذاك الملثم، الذي ما أن دفع عنه لثامه بعيدا زافرا في ضيق، حتى شهقت نجية في صدمة عندما طالعها محياه..
يتبع...