رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 13 - 4 - الثلاثاء 28/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثالث عشر
4
تم النشر الثلاثاء
28/1/2025
نهضت من نومها على غير عادتها متأخرة، مددت جسدها في تكاسل، وما أن بدأت في استعادة بعض من وعيها، حتى مدت يدها بطول ذراعها تحاول أن تلمس جسده الذي كان يغمرها الليل بطوله بدفء حضوره.. لكنها انتفضت مستعيدة كامل وعيها تتطلع حولها في تيه..
انتفضت باحثة عنه بالدار، لا أثر لوجوده وكأنه ما كان هنا من الأساس، طالعها سالم ولدها وهي على حال التيه تلك متعجبا، وهو يدخل للدار حاملا بعض من اكواز الذرة العامرة، وعودين من القصب، متسائلا: ايه في! صباح الخير الأول، بتدوري على حاچة ضيعالك!
تطلعت نجية نحوه في اضطراب، متسائلة بنبرة مهزوزة: هو أنت موعيتش ل.. هو مش كان هنا!..
تطلع لها سالم في قلق: انتي زينة! هو مين ولا ايه اللي كان هنا ده!.. أني صحيت لجيتك نايمة جلت طالما مصحتيش لحالك اسيبك تاخدي راحتك، وأروح أني للأستاذة، أهي رچعت من السفر..
همت بأن تسأل ولدها، هل كانت بالفراش بمفردها أم كان معها أبوه! لكنها أدركت فداحة ما كانت في سبيلها للافصاح عنه، فابتلعت تساؤلها، هامسة بعقل لاه: سلم لي ع الأستاذة، وهم روح ومتعوجش عليا وتسبني لحالي..
هتف سالم مقترحا: طب ما تاچي معاي! دي بتحبك وبتحب جعدتك!..
هتفت نجية في عجالة: لاه، أني مش فايجة، روح أنت وسلملي عليها، وأني ابجى أروح لها فوجت تاني..
هتف سالم متسائلا: طب ولو سألتني عليكي أجول لها ايه!
هتفت نجية في نفاذ صبر: بوووه، جول لها أي حاچة، روح دلوجت..
خرج سالم تاركا أمه تبحث حولها عن أثر يؤكد وجود ضاحي البارحة بالدار ما وجدت، حتى أنها في غمرة الشوق، لم تعي أنه ما أحضر معه حقائب كما هي عادة القادمين من سفر بعيد، غابوا فيه أعوام بلا خبر.. تراه أين ذهب! .. أو هل كان هنا من الأصل يا نجية! تكاد أن تفقد عقلها من كثرة الاسئلة التي تدور برأسها بلا إجابات تشفي غليلها للحقيقة!..
❈-❈-❈
علت ضحكاتها كالعادة، حين يكون سالم بالقرب، فهو قادر على إخراج الضحكات من أعماق قلبها بحكاياته الطريفة، وحواديته التي لا تنضب..
كانت تجلس على أريكتها المعتادة وسالم يجلس أرضا بالقرب منها، يشوي الذرة على تلك الركوة في احترافية، يقلب كوز الذرة الذي أوشك على النضج على أحد جوانبه، حتى إذا ما انتهى، وضعه بين عدة وريقات خضراء من عروشه، لتكون واقيا لها من سخونته الحارة، مقدمه لها في فخر، أمرا في محبة: دوجي يا أستاذة، أحلى كوز درة من يدي..
تناولت أنس عطيته، هاتفة في نبرة داعمة: ايه الشطارة دي كلها يا سالم!.. استنى كده ادوق! ..
قضمت قضمة صغيرة في حرص، فقد كانت سخونة الذرة عالية، وهمست في أحرف مهزوزة لعدم قدرتها على الكلام وهي تمضغ الحبات الساخنة في استمتاع: حلو أوي، تسلم ايدك.. بس فين الكوز بتاعك، هو أنا هاكل لوحدي ولا ايه!
أكد سالم باسما: ايوه، تكليهم لحالك، أني هشويهم لك وتكليهم كلهم..
قهقهت أنس معترضة: هاكل أربع كيزان حتة واحدة يا سالم! لا مقدرش، هتاكل معايا وإلا مش هكمل! ..
هتف سالم مهادنا: طاب حاضر، كلي طيب، وأني بشوي الباجيين أهو.. ونحلي بالجصب..
أكدت أنس باسمة: ده مفيش دلع كده يا سالم!..
هتف ذاك الصوت الذي كانت تتجنب صاحبه، بنبرة باسمة يسأل: وأني مليش ف الجلع ده نصيب يا سالم!
أكد سالم في احترام: وه يا حبيب بيه! ده أنت لك الحلو كله!.. مش صح يا أستاذة!
سأل سالم سؤاله، ما دفع أنس لتنهض على عجل بلا إجابة، وما أن هم حبيب بايقافها حتى هتف سالم متسائلا في نبرة فضولية: هي الأستاذة ايه مكدرها!.. دي كانت بتضحك وزي الفل!..
عادت أنس على حين غرة، بعد أن قطعت نصف المسافة نحو مدخل المضيفة، جاذبة اكواز الذرة من يد سالم، الذي كان قد انتهى من شيهم، لتهرول عائدة من جديد نحو المضيفة التي غابت داخلها اللحظة وحبيب يتطلع نحو موضع غيابها في تيه، ما استفاق منه إلا حين هتف سالم متخابثا وهو يلقي التحية على حبيب مغادرا: طاب يا حبيب بيه، أني طالع لمحمود، وهسيب عودين الجصب هنا، ولو الأستاذة رچعت على هنا تاني، نادم لي أچي، أو صالحها أنت بيهم بجى.. أني مسامح..
هم حبيب بضرب سالم على قفاه معاتبا، لكن سالم اندفع مهرولا نحو مدخل السراي، وضحكاته تعلو في مرح، حتى حبيب اتسعت ابتسامته لأفعال ذاك الشقي، الذي أدرك بفطنته أن شيء ما يحدث بينهما..
تنهد حبيب في قلة حيلة، فها هي تعلن عن غضبها بذاك الصمت القاتل، وذاك التجاهل الذي يمزقه، ليتها تأخذ بثأرها وتجادله، أو تزيح عن نفسها بعض من ثقل حزنها، وتلمه ببعض من عتاب، فيطيب هو خاطرها وينتهي الأمر..
نهض من موضعه مثقلا بالهم، ولم يجد له موضع إلا حجرة جدته، ليجالسها قليلا، ربما تزيح بفطنتها بعض مما يعان، طرق الباب ودخل دون أن تأذن، فهو يعلم أنها قد لا تسمع طرقاته وصوت الجرامفون عالِ بهذا الشكل، فجدته بدأ سمعها يضعف قليلا، وذاك أحد أسباب رفعها صوت جهاز موسيقاها عاليا عن الحد المعتاد..
اقترب من موضع جلوس جدته صفية التي كانت منشغلة بحياكة شال من صوف وردي، فما تنبهت لوجود حبيب إلا حين انحنى مقبلا هامتها، لتهمس في ود: أنت هنا يا حبيب! محستش وأنت داخل عليا.. كنت سرحانة مع الأغنية بصحبة الغاليين، لينا ذكريات كتير معاها..
ابتسم حبيب متسائلا في تردد: هو صحيح يعني، كيف ما سمعنا، الحكاية كانت واعرة كده بين چدي سعد وستي أنس الوچود!..
اتسعت ابتسامة صفية، متطلعة نحو وجه حفيدها في محاولة لسبر غور نفسه، وقراءة ما خلف ذاك السؤال العجيب، الذي ما خطر يوما على مخيلة حبيب أن يسأله، على الرغم من أن حكايتهما كانت مضربا للأمثال، فقررت أن تشاكسه قليلا، حين استشعرت أنه يستحي أن ينطق كلمة عشق في مضمون كلماته، متسائلة في تخابث: حكاية إيه!..
هتف حبيب متعجبا: حكايتهم يا ستي!
هتفت صفية مراوغة: ايوه حكاية ايه، ما هم كانت حكاويهم كتيرة!
همس حبيب في تردد: حكاية لجاهم، وعشجهم، والحاچات دي، كانت صح!.
اتسعت ابتسامة صفية مؤكدة: ايوه صح، حكايتهم كانت حكاية عچب.. لولا العيبة لكانوا غنوها ع الربابة يا ولدي..
تنهدت صفية وهي تضع كفها المتغض على قلبها، هامسة بأعين دامعة: بوووه ع العشج وعمايله يا وليدي، جلتها جبل سابج لأختك منيرة، وبجولهالك من تاني يا حبيبي، ابتلاء ولاد رسلان كان دايما في جلوبهم، اوعى على جلبك.. وچع الجلب واعر، وطيبه أوعر.. ويا بخت اللي يصفاله زمانه ويوافج هواه النصيب، يا بخته وسعده!..
أكدت أم كلثوم في قوة: وإن مر يوم من غير لقياك، ما ينحسبش من عمري..
همست صفية في وله: أهي جالتها الست، سامع.. واااه يا ولدي، وهو العمر ايه إلا أيام في كنف حبيب يصفا لك ويصون ودك..
تطلع حبيب نحو جدته في تيه، لا يصدق كيف لها أن تصف شعورا يعربد بدواخله بهذا الوضوح.. وكأنها أدركت أن قلبه يفتقد الأنس، وأين عساه أن يجده إلا مع صاحبة الاسم، وحاملة اللقب للوجود كله!..
نهض حبيب يحاول أن يمحو أثر تأثره لكلمات جدته، هاتفا في نبرة حاول أن يكسوها مرحا: كفاية كده أم كلثوم، ده خطر على صحتك، اختار لك أني على ذوجي..
قهقهت صفية لأفعال حفيدها الغير معتادة، وتطلعت نحوه وقد أدركت بفطنتها، وعيون خبرتها، أن ذاك الرجل الفخم الصالب العود قبالة ناظريها عاشق حد النخاع، وأن قلبه قد أصابه سهم الهوى وهو يكابر، تعرفه وتحفظ طبعه، وتحفظ خلجات روحه كما تحفظ خطوط كفها، على قدر فرحتها بهذا الاكتشاف، على قدر خشيتها ورعبها مما هو قادم، وتساءلت في نفسها، يا ترى، كيف سيكون ابتلاء قلبك يا حبيب! ..
علا صوت الجرامفون بالأغنية التي صدحت مقدمتها الموسيقية، فابتسمت صفية ابتسامة هادئة في محاولة لإخفاء صراعات نفسها، لينحن حبيب مقبلا هامتها وهو يغادر الغرفة نحو التعريشة من جديد، جلس وصوت الجرامفون يعلو بالموسيقى، وعيناه منصبة على النافذة، وصوت سيد مكاوي يترنم معاتبا في حنو: متسبنيش أنا وحدي، متسبنيش أنا وحدي.. أفضل احايل فيك، متخليش الدنيا تلعب بيا وبيك.. خلي شوية عليا وخلي شوية عليك..
جلس حبيب متسلطنا مع الأغنية، يترنم بمقاطعها في شجن، إلا أنه تذكر أمرا، فهتف مستدعيا نبيهة، والتي حضرت على عجل، ليسألها في اهتمام: طلعتي الغدا للأستاذة يا نبيهة!
هتفت نبيهة مؤكدة: خبطت عليها كذا مرة ملجتهاش فاوضتها جلت ب رُب تكون راحت هنا ولا هنا..
هتف حبيب ممتعضا: يا بت إحنا داخلين ع المغرب، برضك كده! انچري روحي شوفيها فين وحطي لها الغدا..
برطمت نبيهة كعادتها، وغابت بعض الوقت، لتعود مؤكدة من جديد: خبطت على بابها محدش رد، وجُلت يمكن عند الست منيرة، ملجتهاش هناك كمان..
انتفض حبيب مذعورا، تراها أين ذهبت! اندفع نحو المضيفة ومنها لحجرتها، طرق الباب من جديد، ربما تكون قد عادت من حيث كانت، لكن لا إجابة، دفع الباب في حذر، لكن لا أحد بالحجرة، بل لا أثر لها من الأساس، فقد جمعت حاجياتها كلها، هل رحلت!.. جال يناظره في أرجاء الغرفة مضطربا، ليتأكد له صدق ظنه، فها هي على الطاولة هناك، رسالة منها تحت المزهرية، اندفع يفضها في عجالة، وعيناه تجري على الأسطر في لهفة:
حبيب بيه..
معدش له لزوم لا قاعدة ولا حساب ع الأرض وايرادتها، ولا حتى معرفة حق أمي بالمظبوط، أنا واثقة بوجودي أو عدمه هاخد حقي تمام، يا ريت تقدره وتبعته ع الحساب البنكي ده.. وشكرا على حسن الضيافة..
أنس الوجود ..
اندفع كالمجنون ما أن قرأ رسالتها، ألن تكف عن أفعالها الهوجاء، وتصرفاتها الرعناء! كيف لها أن ترحل هكذا دون أن تخبر أحدا، وكيف لها أن تخرج للطريق في مثل هذه الساعة وحيدة دون أن يكون معها مرافق يحفظ أمنها حتى يطمن على وصولها لوجهتها!..
ما أن خرج من المضيفة في اتجاه بوابة السراي، حتى أرتفعت أصوات طلقات نارية، لم يكن عيارا واحدا عابرا، أو حتى عدة أعيرة انطلقت دفعة واحدة تعبيرا عن الفرحة كما هي العادة، لكنه تبادل لإطلاق النيران، الأعيرة لا تنقطع ما دفعه ليصرخ متسائلا في ذعر: ايه في يا شبل! الحرب جامت!.. مين اللي بيضرب نار ده!
هتف شبل في قلق: ده باينها غفلجت يا بيه! الضابط الجديد والكام عسكري معاه، والعيال أمات دجون اللي هربانين ف الچبل، نزلوا يخدوا اللي يخدوه، والضابط وجف لهم، واهي العركة جامت..
صرخ حبيب في ذعر: وااه، طاب خليك واعي للبوابة، وجول لرچب يفتح عينه ع الزريبة..
هتف شبل زاعقا في قلق: على فين يا حبيب بيه! الدنيا والعة بره! ..
لم يرد حبيب على سؤال شبل، الذي اندفع في اتجاه العركة المشتعلة، لا يعلم أين تراها تكون اللحظة! .. أخرج سلاحه، وبدأ في إطلاق أعيرته النارية، حتى وصل لقلب الصراع، ما بين السفح المفضي لصعود الجبل، بالقرب من دار نجية أم سالم، وقع ناظره اللحظة على سراج، الذي كان يستبسل في الدفاع عن مقدرات أهل النجع، التي كان هؤلاء الخونة يسحبونها ورائهم نحو الجبل، لتكون مؤنة لهم بعد أن نفدت خزائنهم، لكن عدة هؤلاء وأسلحتهم كانت الأكثر عددا والأعلى تطورا، وعدد أفراد الشرطة لا يقارن أمام عددهم، فكانت نتيجة المعركة محسومة، لتأتي تلك الطلقة من خبير، هلل مكبرا حين سقط سراج على إثرها مدرجا في دمائه، ليندفع حبيب نحوه، صارخا باسمه..
يتبع...