رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 11 - 1 - الثلاثاء 21/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الحادي عشر
1
تم النشر الثلاثاء
21/1/2025
وصال
الرسلانية ١٩١٦..
جلست مكحلة تتطلع إليهن في انتظار مطلبهن، كانت تدرك بفطنتها التي خبرتها من أيام عمرها الطويل، أن في الأمر امرأة تشغل بال كل واحدة منهن، فما كان ذاك الغل المطل من أحداقهن إلا حقد امرأة على امرأة منافسة، نالت ما لا يجب عليها، لتهمس أخيرا في دهاء: مين المرا اللي عليها العين والنية!..
تنهدت شفاعات في نفاذ صبر، وهي تجذب وليدتها الثالثة في ضيق بعيدا عن صدرها، معترضة على كثرة رضاعها، ما دفع الصغيرة للبكاء في قهر ما أن نزُع من فمها مصدر غذائها، ما جعل شفاعات تعاود إلقامها ثديها مجددا في حنق لتخرسها، هاتفة بها في نبرة ساخطة: انتي مبتشبعيشي يا ملكومة!.
وما أن همت شفاعات بالحديث، إلا وعاجلتها فُتنة هاتفة لمكحلة: سعد بيه رسلان!..
شهقت مكحلة في صدمة: يا مري! واعرة دي يا ست فُتنة!
هتفت شفاعات مستطردة: ومش لحاله، وأخته الفجرية كمان!..
هتفت مكحلة في ذعر: باااه باااه!.. ولاد الرسلانية كلياتهم، دي غفلجت.. بس كيف طيب!
هتف فُتنة في حنق: كيف دي.. تصريفتك إنتي، ملناش بها صالح، اومال إحنا مشيعينلك ليه! ونسة!..
هتفت مكحلة في تردد: طب وهو حد هيجدر يچيب لي جطّرهم! ومين يستچرا ياخد حتى شعرة من دار الرسلانية! ولا خدام ولا عبيد هيفكروا يخونوا عهدهم ولو عشمتيهم بإيه، مش محبة لاه، بس خوف م اللي ممكن يچراله!.
تطلعت فُتنة نحو شفاعات، وقد أدركت أن ما تؤكده مكحلة لحق، وأن دخول دار الرسلانية وأخذ شعرة منها بغير وجه حق لهو درب من مستحيل، فما من مخلوق قادر على الدخول لدار الرسلانية وإحضار أي ما كان من داخلها دون علمهم.. فكيف سيتم الأمر إذن!
قاطعت مكحلة أفكارهن المضطربة، لتبعث الأمل من جديد في رغباتهن: بس في طريجة تانية، أجدر اسوي اللي ريدينه من غير طلبات، بس دي هتبجى أچرتها عالية، وطلبها واعر.. ايه جولكم!..
هتفت فُتنة في ضيق: هتاخدي اللي يملا عينك الفارغة دي! يا ولية هتموتي ع الدنيا وانتي رچل بره وكلك چوه!..
قهقهت مكحلة بلا تحفظ، مؤكدة في نبرة تقطر جشعا: يا ست فتنة، وهو كل ليلة هياچيني زباين متريشين كده! خلوني أخد حسنتي، ولكم طلبكم يتجضا، بس يا ست شفاعات، أني مش هجدر أعمل حاچة لبت الرسلانية إلا لما تبجى فداركم، هنا..
هتفت شفاعات في حنق: هنا كيف يا مخبلة! أني رايدة رجلها تنجطع عن المچي من أساسه.. تجوليلي لما تاچي! ياچي ويحط عليكي يا بعيدة،
هتفت مكحلة باسمة كأن كل ما يقال لا يمت لها بصلة: يا بتي، ما مش هجدر أوصل لحاچة من ريحتها اخدها، وتانيها، لما تبجى هنا هتكون تحت يدك، وتخلي المحروس چوزك يعمل فيها ويسوي، وأنتي بعيد لا لكي يدك فحاچة، ولا منعتيله چوازة، وتتشفي فيها على حياة عينك.. إيه جولك!..
نهضت فُتنة لإحضار المال من صندوق معدني بإحدى صناديق متاعها، لتهمس شفاعات في غل بالقرب من أذن مكحلة قبل أن تعود فُتنة مدافعة عن أخيها: مش عايزاها لا هو ولا هي يتهنو، من أول ليلة ليها هنا فالدار يا مكحلة، من أول ليلة، مش رايده يمسها من أساسه..
هتفت مكحلة بنبرة تتدعي التعاطف: خبراها النار اللي فحشاكي يا بتي، حرجة المرا على چوزها وعرة جوي، واللي تجولي عليه نافذ، بس يدكم ع المعلوم..
قدمت فُتنة واضعة بعض المال في كف مكحلة الممدود في لهفة، فاطبقت عليه أصابعها العجفاء في عجالة، ودفعت بهم لجوف صدر جلبابها الشاحب السواد، مبتسمة ابتسامة مخيفة مظهره سنها الذهبي على جانب فمها المتغضن، هامسة: كده يبجى حطوا في بطنكم بطيخة صيفي، وليا الحلاوة لما تظبط..
هتفت فُتنة في سخرية: بس تظبط يا حزينة وانتي تاخدي كدهم تاني..
نهضت مكحلة في صعوبة لوجع مفاصلها، وقد أخذتها الحماسة لتنهي ما عزمت عليه، رغبة فالمزيد من المال، تاركة شفاعات خلفها تدفع عنها الطفلة المتعلقة بصدرها في حنق، وما عادت تعبأ ببكائها، ونار الغيرة تأكل صدرها وهي تسمع صوت زوجها يأمر الرجال وينهي فيهم، وهم يعملون على تجهيز الطابق العلوي للعروس الجديدة سليلة الحسب والنسب، كان يعمل في حماسة عجيبة وكأنه عريس للمرة الأولى، رفعت كفيها داعية في قهر: منك لله يا خواجه، أشوف فيك يوم اسود يا نعيم الكلب، أنت اللي كبرتها فدماغه، جُطعت الأرض ع اللي عايزها.. آه يا وچع جلبي.. هموت م الجهر يا فُتنة..
لم تعقب فُتنة بحرف، على عكس ما كان رأيها سابقا، فما أن علمت برغبة سعد في الزواج من البرنسيسة، حتى دبت نار الغيرة بقلبها، أضحت متعاطفة مع شعور شفاعات بالغل والحقد على العروس الجديدة.. أي كانت.. عروس سعد أو عروس أخيها.. فكلتيهما نالتا ما لا تستحق.. وعليهما دفع الثمن غاليا.. وقفت تتطلع من خلف خصاص النافذة على ذاك الهرج الحادث بالخارج، لتشتعل نفسها بالمزيد من الحنق والثورة المكبوتة، فقد كان النجع يتهيء لذاك الحدث الجلل، زواج أولاد الرسلانية دفعة واحدة، ويا له من حدث!..
❈-❈-❈
الرسلانية نهاية ١٩١٦..
على مسافة أميال، اصطف العبيد والخدم بالكلوبات على جانبي الطريق من مدخل نجع رسلان وحتى دار سعد، ومن دار سعد حتى دار وهدان الحراني، كانت الرسلانية ليلتها كقطعة من شمس النهار، فما يحدث هو حدث استثنائي في تاريخها، زواج سيدها من ابنة البشوات، وزواج أخته من ذاك الذي ارتضه زوجا على الرغم من دناءة أصله.. كانت ليلة على قدر روعتها إلا أنها قد جمعت من المتناقضات الكثير..
مُدت الطبالي على مدد الشوف، وعاش الفقراء والمساكين ليلة لم يحلموا بها في أبهى وأروع أحلامهم، ذاك الطعام الشهي الذي ما زار بطونهم منذ دهور طويلة، وهذا البزخ الذي ذاقوه وقد حُرموا منه منذ نعومة أظفارهم.. حتى أن الأنوار وكل تلك الزينات والأعلام التي أمتدت بطول النجع وعرضه، جذبت فقراء النجوع المجاورة لتتحول الرسلانية لملجأ كبير لهؤلاء المعوزين، والذين امتلأت بهم الساحات وقد ملأوا أحشائهم حتى فاضت.. شاعرين بتخمة لم يخبروها يوما، فالطعام الذي أمر بإعداده سعد وكل تلك الذبائح التي نُحرت، قدم مثلها بالمقابل وهدان الحراني في تأكيد منه على فرحته الغامرة بالنسب العالي.. فكان الطعام وافر ليكفي إطعام مديرية بأسرها..
تعالت أصوات المداحين والصهبجية، وكان وصول الغوازي وفرقهن حتى قاعات الحريم له وقع آخر في نفوس أهل النجع، فما يشهدونه اللحظة سيظل عالقا في ذاكرة صغيرهم قبل كبيرهم، وستظل ذكرى هذه الليلة تروى لسنوات طويلة قادمة..
كانت ليلة زفاف سعد رسلان واحدة من الليالي الاستثنائية التي مرت على المديرية كلها، وقد حضر للحفل رجالات من أكابر الصعيد وبهواته، والمأمور وبعض رجال السياسة، والذين تم استقبالهم على أكمل وجه، وأرقى حال.. لتكون الأبهة عنوان الليلة بحق..
وصل موكب أُنس الوجود خارج النجع، كما أخبر الخدم المهرولين سعد، وتحضر كذلك مركب توحيد، لتخرج عروس دار الرسلانية في عربتها المزينة كأميرة، يسبقها سعد بفرسه الشهباء حتى دار الحرانية، التي كان وهدان يقف على بوابتها في انتظار ذاك الموكب الملكي الذي تقدمه سعد بكل هذه الفخامة، مندفعا نحوه في لهفة ما أن ترجل سعد من على فرسه، تلاقت الأكف في سلام قوي، وتبادل كلاهما الأحضان في مودة، وهمس سعد بجوار إذن وهدان في هوادة: خلي بالك من توحيد، لو كدرتها فليلة، متلومش إلا حالك..
ابتسم وهدان هامسا: دي فعنايا يا سعد بيه..
فتح سعد باب العربة، ومد كفه لتوحيد حتى تترجل في وجل لا تقدر على رفع ناظريها خجلا لتلتقي بعيني أخيها، الذي انحنى في حنو مقبلا جبينها، جاذبا إياها في لطف نحو موضع عربسها، ليتناول وهدان كفها في لهفة، جاذيا إياها بدوره لداخل داره صوب قاعة الحريم، وعينى سعد تتابع أخته في اضطراب، وقلبه يبتهل أن تكون هذه الدار خير عوض لها عن دار أبيها، ولا تلقى فيها إلا كل محبة وتقدير، كما عاشت دوما مكرمة ومنعمة..
دخل سعد دار الحرانية للمرة الأولى، وجلس يعقد قران أخته توحيد في هدوء، متمنيا مع كل كلمة ينطقها أن يكون وهدان زوج تنعم توحيد معه بالراحة والهناء الذي تستحقه، أنهى سعد العقد واستأذن عندما أخبره أحد خدمه باقتراب موكب البرنسيسة من الدار، فامتطى صهوة جواده، واندفع صوب داره، وهو يتلقى التهنئة والمباركات من كل صوب وحدب.. والكثير من الرحمات للوالد والدعوات له بصلاح الحال والذرية الصالحة..
تصلب سعد على عتبة داره، وهو يرى موكب أنس الوجود يقترب وأمامه العوالم والغوازي.. يحفه الخدام والحرس.. وتحرسه مشاعل العبيد وكلوبات النور.. فكان أشبه بموكب قطر الندى الذي سمع عنه في الأساطير وحكايات الرباب..
وصلت العربة حتى عتبة الدار حيث يقف، هبط رستم باشا من العربة بصحبة ألفت زوجته، وأخيرا هلت هي، بثوبها الأبيض وعليه تلك العباءة السوداء، وقلنسوتها تغطى محياها عن الأعين، احتضن رستم كف أنس في رقة، يسير بها حتى موضع سعد الذي كان مأخوذا كليا بقطعة القمر التي تدنو من موضعه، والتي ستصبح بعد لحظات زوجته بحلال ربه..