رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 28 - الجمعة 2/5/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثامن والعشرون
تم النشر الجمعة
2/5/2025
من أجل خاطرها..
عرابة الحفني.. ١٩٤٢..
ثلاث ليالِ مرت في سلام منذ وطأت أقدامه أرض العرابة، وهو قابع هنا في تلك الحجرة المنعزلة عن باقي الدار، والتابعة للحاصل الذي يخزن فيه الغلال والمحاصيل.. وبعض الكراكيب والمعدات القديمة.. كانت حجرة مهملة لا تجذب زائر، ولا حاجة فيها لطالب، يدفعه ليغامر بدخوله إليها رغبة في بعض الغلال، أو لجلب بعض الحاجات الضرورية.. الغرفة المثالية بامتياز لستر هارب مثله، لا رغبة لديه في معرفة مخلوق بمكان تواجده، حتى تهدأ الأحوال.. وييأس مطارديه في الإمساك به أو الزهد في الهرولة خلفه..
لكن على عكس المتوقع، وكما تأتي الريح دوما بما لا تشتهيه السفن، انتفض اللحظة من فوق مرتبته القطنية النظيفة التي تم وضعها في ذاك الركن القصي، حين أدرك تلك الحركة المريبة حول دار آل حفني.. عبق المكان برائحة الخطر التي أصبح صدره قادرا على تمييزها بسهولة منذ أن خاضت أقدامه معترك السياسة والنضال الوطني.. لذا ما كان في إمكانه الانتظار حتى يتأكد من يقين ظنه، وسلامة حدسه.. فهرول باتجاه أحد النوافذ المتهالكة، وعلى عكس المتوقع، لم يتسلل مبتعدا عن الدار، حتى يحتمي بين الزراعات المحيطة بها، فقد تأكد أن الجنود الإنجليز قد بدأوا في الانتشار بالمكان، وحول الدار، ما دفعه ليتعلق بأحد افاريز النوافذ، ليصعد نحو الطابق الثاني.. الذي ما أن وصله، حتى سار في حرص ليقفز في إتجاه سطح الدار، ومنه لسطح واسع، تسلل نحو أحد حجراته، ليجد موضعا يكون صالحا للاختباء فيه، مع صعوبة كشفه.. كانت تلك الغرفة التي وطأها اللحظة مثالية، لكن ما أن خطت أقدامه داخلها، حتى لمحته هذه الفتاة وصرخت.. ما حثه ليندفع من موضعه لموضعها في خطوة سريعة..فتعثر في أحد الأطباق الخوص الموضوعة بطريقه، وقد وصل لحظتها ليجذبها ليسقطا معا أرضا، محاولا السيطرة مطبقا على صرختها الثانية، التي كادت أن تطلقها..
كان سقوطهما على عكس الشائع.. أن يسقط كمهاجم وهو يسيطر على حركتها من عليائه، لكن قوة مقاومتها.. مع حادثة تعثره الغير متوقع.. جعلا الوضع كارثيا.. وهو يتمدد أرضا يد تحاصر خصرها تحاول إعاقة حركة ذراعيها اللتان يعوق حركتهما بحصار يده، وكف يده الآخرى تكمم فاها، وهي تقاتل في بسالة، حتى استطاعت أن تحرر إحدى كفيها لتضغط بتلك الكف الحرة على كفه التي تطبق على فمها، لتضغط بأسنانها في عضة قوية، جعلته يجز على أسنانه ألما غير قادر على التعبير عنه، دافعا بشكل لا إرادي كفه عن فمها.. ليكون لها الحرية في الاستغاثة من جديد.. لكن هذه المرة ليس بصرخة كانت مكتومة ذعرا من الأساس، لكنها كانت قوية على اسماعه المرهفة لأي صوت من شأنه تهديد أمانه: حرامي.. حرامي..
أكد في محاولة لاسكاتها: أنا مش حرامي صدقيني.. أنا..
وفي محاولة لإثبات حسن نيته، تركها تمضي.. همت بالاندفاع نحو حافة سور السطح صارخة تطلب النجدة.. لكن تركه لها بهذه الطريقة جعلتها تتنبه قبل أن تقدم على الاستغاثة.. تستدير في اتجاه ذاك اللص، الذي وقف في قلة حيلة.. فما عاد من هناك لمكان آخر يلجأ إليه.. إلا أن يكون تحت رحمة هذه الفتاة التي ظهرت له من العدم..
فصرخة آخرى منها.. كفيلة بضياع كل محاولاته السابقة في الفرار.. والسقوط حتميا بين يدي الإنجليز التي قد تعني موته متعفنا بين قضبان معتقلاتهم..
ترددت الفتاة في الاستجابة لدافع الاستغاثة حين تطلعت نحو اللص الذي هاجمها بهذه الشراسة، متسائلة في تعجب لهيئته التي لا توحي مطلقا أن ذاك الذي يقف أمامها قد يكون لصا: أنت مين يا راچل أنت!
أكد فضل في صراحة: أنا ضيف ابوكي.. وأمانته اللي كان في الحاصل محبوس من تلات أيام..
نظرت الفتاة لفضل نظرة متمهلة، قبل أن تهرول نحو سور السطح متطلعة نحو الباحة الأمامية للدار، وما يحاوطها.. لتجد جنود الإنجليز منتشرين حولها في إحكام.. ما جعلها تدرك أن هذا الشاب لا يمكن أن يكون لصا.. حثها ذلك لتهرول نحوه دافعة إياه في سرعة نحو أحد أسوار السطح أمرة: تعالى معايا بسرعة، ياللاه هِم..
هرول فضل خلفها.. لتدخل الفتاة لقلب الحجرة التي كان لديه النية في التستر بها، لكنها فتحت في أحد أركانها طاقة صغيرة مشيرة لخارجها أمرة من جديد: ياللاه.. نط من هنا.. هتنزل على سجف الزريبة، هم لسه جالبينها من شوية.. مظنيش هايرچعوا لها تاني.. أخفى فيها لحد ما نشوفوا ايه اللي بيچرا تحت..
زعق صوت من ناحية الدرج المفضي للسطح حيث تقبع بصحبته: يا ست فوز.. فينك كده!.. الدنيا مجلوبة في دوار العمدية.. وعساكر الانچليز دهسوا الدار.. وچايبن على هنا.. أني غلوبت أنادم عليكي.. إنتي فين بس!..
أمرت الفتاة في صرامة: هِم.. چايين على هنا..
أطاع فضل في عجالة، محاولا الخروج من الطاقة الضيقة نحو الخارج، قافزا على سقف الزريبة، الذي تحمله لحسن الحظ، قبل أن يتعلق بأحد اعمدته الخشبية المكونة لهيكله، متسسللا نحو أحد الأركان المنزوية.. ليقبع هناك بين الأغنام والماعز.. التي استقبلته بلا مبالاة، غير عابئة بوجوده بينها..
صعد عساكر الإنجليز نحو السطح الذي كان عليه لتوه، وبدأوا في البحث والتنقيب عنه من جديد.. عاث العساكر الفساد في الحجرة التي هرب من طاقتها الضيقة.. التي عملت الفتاة على اخفائها في ذكاء.. دافعة بصحبة خادمتها التي لم تعي سببا لمطلب مخدومتها العجيب مع كل هذه الأجواء الملبدة بالذعر.. إحدى الخزانات الفارغة لتستر تلك الطاقة.. حين ظهر أول جندي انجليزي على عتبة السطح.. لتظهرا على عتبة الحجرة مدعيتين الصدمة، متخذتا أحد الأركان مهربا.. حتى انتهى الجنود من قلب الحجرة مبعثرين محتوياتها بلا طائل.. ثم الرحيل.. المتبوع ببثقة قوية من فم الفتاة في حنق على أفعالهم.. اندفعت الفتاة بعد أن تأكدت من نزول العساكر لأسفل.. متطلعة نحو الباحة الأمامية للدار، لتجد العمدة عدنان الحفناوي يقف في ثبات مع الضابط الانجليزي الذي كان يقود حملة التفتيش، مؤكدا في عزم: جلت لك يا ميچور، مفيش عندينا الكلام ده، واللي بلغ ده مؤكد له غرض.. إحنا لا يمكن أبدا نخالف الأوامر.. ونعادي السلطة..
هز الضابط الانجليزي ذا الوجه الأحمر والشعر البرتقالي رأسه في عدم اقتناع: تمام عمدة .. تمام.. جوود..
وضع الضابط كابه الميري مشيرا نحو عسكره أمرا بالاخلاء والرحيل، مندفعا نحو عربته التي سارت على الطريق الغير معبد تتأرجح قليلا وخلفها عربات الجنود..
ليتنفس عدنان الحفناوي الصعداء حامدا شاكرا لطف الله.. وهو يمر داخل داره.. متنهدا في راحة.. وهو يهتف مستدعيا خفيره: روح يا واد طمن الضيف إن الحمد لله كله تمام.. والانچاس غارو..
سأل الخفير في بلاهة: ضيف مين يا عمدة!..
هتف عدنان في حنق: يا واد الضيف اللي شيعتك تنبهه، وتبعده عن الحاصل جبل ما البعدة دول يهلوا على هنا!..
هتف الخفير مقرا: لا هو أني مجلتلكش يا عمدتنا!.. أني رحت ملجتهوش هناك من اساسه!..
انتفض عدنان كمن لدغه عقرب، متسائلا في قلق: ملجتش مين يا مشندل!.. والله أنت اللي يتكل عليك يبيع ضناه.. غور.. اوعى كده من جدامي.. بدل ما أفرغ فيك كام ظرف م المدعوجة اللي ملهاش عايزة..اللي اللي على كتافك...
هتف الخفير معترضا: ليه كده بس يابا العمدة!.. وحياة عيالي ملاجيت الضيف مطرحه.. يعني هعرف مطرحه واعزه عليك برضك!..
صرخ عدنان من غباء خفيره: غور يا بغل من جدامي.. لأصور جتيل النهاردة..
واندفع في اتجاه الغرفة الملحقة بالحاصل، ليتأكد بنفسه أن خفيره صادق، وان الضيف غير موجود بالحجرة أو حتى يعرف له موضعا آخر.. ليطمئن على حاله..
ما جعله يتساءل في اضطراب: يكون راح فين!.. طب هجول ايه لأبوه.. ضيعت الأمانة يا عدنان يا حفناوي!..
هتف عامر بن عدنان في قلق حين أدرك ما كان يدور في دوار والده وهو غائب ولم يحضر إلا لتوه، متسائلا في اضطراب: ايه في يا حچ عدنان! الضيف راح فين!..
قالها وهو يتطلع للغرفة الشاغرة، ليؤكد والده: معرفش يا عامر يا ولدي.. الغفير بيجول إنه لما چه ينبهه ملجاهوش م الأساس.. والعساكر الانچليز مسبوش خرم إبرة منكتهوش فوجاني تحتاني.. يبجى راح فين!.
هتف عامر مطمئنا: طب ارچع أنت ارتاح.. وأني هاخد الكام غفير ونطلع ندورو عليه، ما بروب يكون عرف إن العساكر هنا، خدها من جصيرها وبعد عن الدار واتخبى فالزرعة..
اطمن .. ارتاح أنت بس.. وأني مش راچع إلا لما ألجاه..
همس عدنان: يطمن جلبك يا ولدي.. ده أمانة يا عامر.. فوش أبوك.. مترچعش إلا به سالم..
هز عامر رأسه مؤكدا.. زاعقا يجمع الخفراء.. تاركا واحد ليصحب العمدة عدنان حيث القاعة الرئيسية بقلب الدار.. مندفعا للبحث عن فضل الله سعد رسلان.. ضيف والده.. وابن أكثر أصدقائه ثقة ومحبة.. فقد روى له والده العديد من الحكايات عما كان من مواقف بين العائلتين.. تعكس الكثير والكثير من الصلات والثقات منذ زمن سحيق..
ما أن اطمأنت فوز أن الأمور قد استقرت.. وطالعت بنفسها رحيل رطل السيارات العسكرية الذي كان يملأ ساحة منزل عمها بالعساكر المحاصرين له.. مبتعدا.. حتى قررت النزول نحو موضع اختباء ذاك الضيف.. دخلت الزريبة.. فصهلت الفرس التي كانت تعشق، معتقدة أنها جاءت لتهديها بعض السكر.. ربتت على جبهتها الكهرمانية في محبة، هاتفة تعتذر: أني مش چيالك النهاردة، چاية للضيف..
وكأن الفرس قد وعت ما قالته صديقتها.. فصهلت من جديد تهز رأسها في تفهم.. لتنادي فوز في صوت خفيض: يا حضرة الحرامي.. تجدر تخرچ.. خلاص.. الدار أمان..
كان فضل الله يتابعها من على مقربة من بين أجساد الخرفان المتلاحمة، مبتسما لتعاملها مع الفرس في سلاسة وحزم عجيب، لينهض مظهرا نفسه، وهو يسمعها للمرة الثانية تؤكد: يا حضرة الحرامي.. ما جلنا خلاص.. أظهر وبان عليك الامان.. هم ماشفهومش وهم بيسرجوا.. هيشوفوهم دلوجت وهم بيتحاسبوا..
قهقه على أقوالها.. فانتفضت تستدير نحو الصوت الرجولي الذي جاء من موضع ما خلفها.. تتطلع نحوه في نظرة تحمل لوما صريحا، ما دفعه ليؤكد: أنا مش حرامي.. أنا ضيف والدك..
هتفت تقاطعه مؤكدة: أنا معرفلكش اسم.. وظهرت كيف الحرامية وولاد الليل.. كنت ضيف بجى.. كنت عفريت.. أني مليش صالح.. المهم إنك بجيت في أمان.. وأمانة عمي مضاعتش.. واتعمل معاك الواچب.. عن إذنك..
هتف فضل متعجبا: عن إذنك ايه!. انتي رايحة فين! طب حتى راجبي لي الطريج.. لچل ما ارچع الحاصل من تاني..
تطلعت فوز نحوه في ضيق: بجولك ايه.. أني آخرى چاب كده.. هشتغل لك ناضورچية..
طلب فضل: طب حتى وصليني لوالدك.. اجصد عمك.. مش العمدة عدنان الحفناوي يبجى عمك برضك!..
أكدت فوز: أيوه.. تعال.. خلونا نكسب فيك ثواب للآخر..
ابتسم فضل هاتفا: كتر خيرك..
أشارت إليه ليتبعها.. خرجا من الزريبة.. واستدارا دورة كبيرة حتى وصلا لمدخل الدار الخلفي.. والتي ما أن خطت داخل بهوها.. حتى استقبلها عامر الذي كان يهم بالمغادرة بحثا عن ضيف والده الضائع، زاعقا في اعتراض: إحنا مش جلنا ياچي ميت مرة.. متاچيش الدوار إلا بالملس!.. الرچالة والخلج داخلة خارچة وإنتي عاچبك جعدتك كده!..
انتفض عدنان محذرا: ما جلنا بلاه الحديت ده يا عامر.. خليها على راحتها.. فوز تعمل اللي يلد عليها..
زعق فؤاد مجددا، وهي تقترب من موضعهما: ما جلعكم الماسخ ده فيها، هو اللي مخليها فاردة جلوعها ومش عاملة لحد إعتبار.. جال إيه ورايدة تكمل علام فالچامعة.. ما بكفايانا روح وچاي.. ايشي توجيهية وايشي بكالوريا.. ايه.. هتبجى سفيرة!..
تنبه عامر الثائر من ذاك الغريب الذي جاء في أعقابها.. لينتفض عدنان الحفناوي في فرحة: كنت فين يا واد الغالي! خلعت جلبي عليك.. رحت فين يا فضل يا ولدي!
أكد فضل في أدب: خدتها من اصيرها لما حسيت بوجود الإنجليز وهربت عشان مسببش لكم مشكلة كبيرة لو لجوني هنا.. والبركة في الآنسة فوز.. هي ال..
أكد عامر في حنق: اسمها فايزة..
هز فضل رأسه محرجا، مكملا دون أن يأت على ذكر اسم منقذته: هي ساعدتني استخبى لحد ما العساكر راحوا.. أنا ازعچتكم.. ولازما أمشي..
أكد عدنان في صرامة: لاه.. تمشي فين! طب ده هنا بجي المكان الأمان اللي تستنا فيه أكتر م الأول.. الانچليز عرفوا إنك مش هنا.. وخلاص معدش حد فيهم هيرچع على هنا تاني.. أني هنجل مكانك.. لمكان تاني.. بس مش راح تمشي من هنا إلا لما أبوك يبعت يجول رايد أمانتي.. ساعتها بس ترچع على كفوف الراحة.. جبل كده.. لاه..
هم فضل بالاعتراض: يا حچ عدنان.. أنا بس مش عايز اسبب أي..
قاطعه عدنان في حزم: خلصنا.. هتخرچ من هنا.. لما أبوك يأمر.. غير كده.. بجينا الحديت فالحكاية دي..
ثم أشار لولده أمرا: خده يا عامر ع الاوضتين اللي فوج السُطح.. اهو يبجى بعيد عن الرچل الرايحة والچاية.. وانضف برضك من الحاصل وجرفه..
هتفت فايزة مؤكدة: الاوضتين جلبهم العساكر يا عمي..
أمرها عدنان في هدوء: طب اطلعي يا فوز خدي البت نعناعة، ونضفوهم.. وادونا خبر..
وأشار لفضل أمرا: ياللاه.. على بال ما نتغدوا.. يكونوا وضبوا لك الاوضة فوج..
زعق عامر أمرا الخدم بإعداد الطعام.. وعيناه لا تفارق محيا ابنة عمه المتمردة .. التي غادرت لتوها.. والتي أفسدها الدلال على حد زعمه.. يستشيط غضبا من كونها لا تتستر كما يجب خلف ملس كما يفعل نساء العرابة.. بل إنها تصر على ارتداء أزياء بنات البندر.. متشبهة بالسافرات منهن.. غير عابئة باحتجاجه.. يدعمها دلال أبيه لها.. وخضوعه لكل رغباتها.. وذاك ما كان دوما يقلقه..
❈-❈-❈
الرسلانية.. ١٩٤٢..
ظهر ظل القادم يدنو من موضع اختبائه، فتيقن بلا أدنى شك أنه الشخص المراد، ما دفعه لجذبه ما أن أصبح في متناول يده، ليصبح مستترا مثله خلف هذا الدغل من الأشجار في آخر النجع، على الجانب الآخر من أرض البركة.. متسائلا في نبرة تشفي: مسكوه الإنجليز!.. صح!..
هتف عزام نافيا: وهم لجيوه من أساسه.. عشان يمسكوه!..
تطلع نعيم لعزام في عدم تصديق، هاتفا في تأكيد: لا.. هو هناك.. فضل واد سعد رسلان هناك.. أنا شفته بعيني وأبوه بيهربه مع مصباح.. وعرفت إنه مستخبي في دار عمدة عرابة أبو حفني.. عدنان الحفناوي.. يبقى إزاي يعني الإنجليز ملقوش فضل عنده!..
أكد عزام في لا مبالاة: وأنت بتسألني أني!. أسأل روحك.. مش أنت اللي جايل لي روح بلغ عن مكانه والانچليز هيدوك عكمة كبيرة.. اديني تبعت كلامك ولا خدنا أبيض ولا أسود..
هتف نعيم حانقا: وهم كانوا لقيوه ومخدتش مكفأتك!.. بس يا ترى راح فين!..
سأل عزام في فضول: بس مجلتليش يا خواچه، أنت شاغل بالك ليه بفضل واد سعد رسلان!.. ايه عازتك فيه!..
لم يرد نعيم، فما كان ليكشفه مخططه لأي من كان، فهو لا يطلع هؤلاء الحمقى على ما يدور برأسه أبدا.. فقط هو يستغل غباءهم في تحقيق مراده، وتنفيذه مخططه.. هم فقط أدوات لا أكثر.. يخبرهم ما يرغب في معرفتهم إياه.. بما يحقق الفائدة القصوى.. ويحجب عنهم ما قد يكون فيه خراب مخططه.. لذا.. تطلع نعيم من جديد نحو عزام ولم يفصح بحرف، ما دفع عزام ليبتسم في خبث ابتسامة صفراء، جعلت منه ظلا آخر لنعيم بكل شروره.. هاتفا في نبرة تقطر دهاءً لا يتفق مطلقا وحداثة سنه، فهو يصغر مختار خاله.. بعدة سنوات: بجولك ايه يا خواچه!.. ما تيجي دوغري وتجولي ليه أني اللي تدلني على سكة فضل وتجولي روح بلغ الانچليز عشان تاخد المكافأة اللي حطينها.. مبلغتش أنت ليه!.. وأنت وأني نعرفوا زين إنك جيحة وبتموت ع المليم!..
صمت نعيم لبرهة، قبل أن ينطق مقرا: عايز الحق ولا ابن عمه يا عزام أفندي!..
أكد عزام: معلوم عايز الحج..
أقر نعيم في نبرة احترافية مدعيا الصدق: أنا أخاف أحط نفسي مع سعد بيه.. لكن أنت من الحرانية.. چدك وهدان بيه الحراني، چوز أخته.. يعني حتى لو عرفوا مش هيضروك كرامة لچدك نسيبهم.. لكن أنا راجل غلبان أروح فيها ورا الشمس، وإن كان ع الفلوس.. لو كنت أنت خدتها.. كان هينوبني م الحب جانب .. ولا ايه!..
أكد عزام: معلوم.. يعني كان هيبجى لك الحلاوة.. بس برضك اشمعنى أني! .. مخفتش أروح اجول.. وتروح فيها!..
ابتسم نعيم في ثقة: عيب يا حبيبي.. أنا ليا نظرة في الناس الجدعة اللي تعرف تدور على مصلحتها.. خليك معايا تكسب.. وخصوصا إني عارف إنك عريس جديد.. ونسايبك مش أي حد.. ده أنت واخد بت العمدة سلمان النجدي.. يعني الحسب والنسب كله.. ولولا جدك وهدان بيه مادد يده فالحكاية.. وكمان نسبه مع بيت رسلان.. يمكن ما كنتش طلت الجوازة دي.. متزعلش مني.. أنا كده صريح حبتين مع اللي بحب لهم الخير.. وأنا عارف إنك عاوز يبقى معاك مال وأرض.. من حر مالك.. بعيد عن جدك وهدان.. اللي بقى معاه بدل الواد .. اتنين.. يعني حتى بعد عمر طويل.. نصيب امك من ورثه ده لو طالت منه حاجة هي واخواتها البنات.. هيبقى فتفوتة قصاد كل العز اللي ولاد توحيد غرقانين فيه.. ومن الفتفوتة دي أنت هتنول ايه من أمك!.. ولا حاجة.. يبقى أعمل لروحك.. عشان تبقى قيمة قصاد الكل ولا الحوجة لجدك البيه ولا ماله ولا عياله.. ولاد توحيد.. توحيد اللي لعبت على جدك وخدته من حضن بناته الغلابة اللي طلعوا م المولد بلا حمص واترموا في جوازات حكيانة عشان يخلص منهم .. واتخطف من مراته.. ستك شفاعات.. المسكينة .. اللي يمكن قتلوها.. وراحوا يتبلوا عليها .. قال هربت.. طفشت.. فشروا.. ستك كانت ست الستات.. لكن ربك ع الظالم..
تطلع عزام نحو نعيم في تيه، هامسا بعد كل هذه الحقائق التي كانت تنساب على مسامعه فتغزي حقدا راقدا بعمق صدره نحو أخواله.. أولاد توحيد: أنت عرفت منين كل اللي جلته ده!..
أكد نعيم في نبرة مستكينة مدعيا الحزن: كنت عايش وسطهم وشفت بعيني الظلم والقهر اللي داقته الست شفاعات منهم.. يمكن أمك وخالاتك كانوا صغار .. ميوعوش.. لكن أنا شفت بعيني.. منهم لله.. هو اللي هينتقم منهم.. ويرجع لكم حقكم اللي بقى في جوف ولاد توحيد..
هز عزام رأسه متفهما، كأنه يستوعب درسا جديدا في كتاب الحياة.. لكن على يد مدرس فاجر.. كان يلقنه الكذب دفعة واحدة بكل احترافية وبمنتهى الضلال.. يسقيه الحقد بملعقة من زيف.. ليجد الغل في نفس عزام أرضا خصبة لتمد جذوره في حشاها.. خالقة نعيم آخر.. قد يكون أكثر خطرا من نعيم ذاته..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٤٢..
اندفع مختار نحو باب السراي، ومنه إلى غرفة الاستقبال في انتظار خاله.. الذي هل ما أن أدرك وصول ابن أخته.. هاتفا بعد الترحيب به: وعيت للي چرا لواد خالك يا مختار!..
هز مختار رأسه مؤكدا: ايوه يا خالي.. وچيت چري أول ما سمحوا ليا باجازة عشان اطمن إنك اتصرفت..
هتف سعد متعجبا: أني لسه چيالي خبرية إنهم راحوا يفتشوا عليه في عرابة أبو الحفني.. بس هنا في حاچة مش مظبوطة.. هو مين بلغ إن فضل كان مع العيال بتوع التفجيرات.. ومين اللي عرف مكان ما خبيته وراح بلغ برضك!..
أكد مختار في قلق: كده يبقى في حد مركز مع فضل يا خالي.. الموضوع فعلا غريب.. فضل بعيد عن أي شبهة لأن معروف هو ابن مين.. وكمان متمسكش قبل كده ف أي موضوع مشابه نقول له تاريخ ومعروف عندهم.. يعني أصلا مش منطقي أن الإنجليز يدورو عليه بالشكل ده لدرجة إنهم يوصلوا هنا للسرايا وكمان مكان ما أنت فكرت تداريه.. يا ترى مين اللي ورا فضل كده!..
همس سعد مستنتجا: هيكون مين غير واد حرام عايز يضر خالك، أو يشبهه ويچيب له مصيبة لغرض في نفسه..
هتف مختار: اتعشم إن دخول الألمان مصر، والمعارك بين الإنجليز والألمان في العلمين اللي شغالة دي.. تلهيهم شوية عن فضل واللي زيه..
دخلت أنس الوجود مستأذنة، تسأل في قلق: أي أخبار عن فضل الله يا باشا!.. أنا عايزة اطمن على الولد..
أكد سعد لها في هدوء محاولا ألا يثير قلقها أكثر من اللازم، وخاصة وقد جاء فضل لليلة ورحل فجأة، ثم حدث بعدها زيارة الجنود الإنجليز بحثا عنه، ما زاد من قلق البرنسيسة على ولدها: فضل بخير، متجلجيش يا برنسيسة.. كام يوم كده الدنيا تهدا.. وكله يبجى تمام.. وتلاجيه جصادك..
تنهدت أنس في قلة حيلة، وهمست بأعين دامعة: فضل تأثر كثيرا بما عشناه في أزمير.. عاش بقلب الخطر.. رأى الموت والدم والخراب.. وشاهد أمام عينيه ناس عزيزة ترحل وناس حقيرة تعيش على أجسادهم.. سمع معنى كلمة حرية.. ورأى الشباب هناك تموت من أجلها وهو بعد طفل لم يدرك معناها.. فضل عاش الكابوس قبل أن يفتح عيون طفولته على الحلم.. فقرر أن يأتي بالحلم متطوعا عن الجميع.. فضل يعتنق الحلم يا سعد باشا. وأنا لا أخشى عليه من أن يحلم.. أنا فقط أموت ذعرا من أن يخذله الحلم.. يوما ما..
ساد الصمت.. ولم يكن باستطاعة كل من سعد أو مختار النطق بحرف أمام منطق البرنسيسة.. الذي ما كان هناك من كلام يمكن أن يقال بعده..
❈-❈-❈
عرابة الحفني ١٩٤٢..
كان الضجر قد بلغ منه مبلغا كبيرا، خمسة أيام وهو قابع هنا في هذه الغرفة، يصله الطعام بمواعيده.. كل وجبة من أصناف شتى.. ما لذ وطاب.. حتى الظهور خارج الحجرة للسطح الواسع غير مسموح به في فترة النهار، مخافة أن يلمحه أحدهم فكان خروجه يقتصر على فترة الليل .. بعد غروب الشمس مباشرة حيث السواد الحالك حولك.. ولا بصيص من نور يضيء تلك العتمة التي تغلف عالمه.. إلا ذكرى واحدة فقط.. كان يذكرها فيبتسم.. فيخرج لسطح الدار حين يعم الظلام.. ويبدأ في تخيل وجوده.. وجود نيكوس.. ذاك القائد اليوناني الذي كان يكرهه كراهة التحريم حين كان طفلا.. يراه فيركض ذعرا نحو صدر أمه التي كانت دوما ما تحذره من اللعب في البهو حين وجوده.. بهو قصر جده الذي احتله هو وعساكره.. ذاك القائد الذي رأى بعينيه ذات مساء.. نظرة محبة ولطف.. كانت كفيلة بأن يقترب منه بلا خشية، لتبدأ أولى لحظات صداقتهما التي أثرت فيه كثيرا.. ولازالت محفورة بوجدانه حتى هذه اللحظة.. حتى أنه في لحظات الصفاء والراحة.. كان ينسى الحرب.. ينسى أنه الغازي وفضل المحتل.. يتذكر فقط أنه إنسان.. فيظهر ذاك الجانب من نفسه.. الذي لم يظهره لمخلوق سواه.. وكان يرقص..
نعم يرقص.. ذاك الرقص اليوناني التقليدي.. بتلك الحركات المنتظمة للقدمين واليدين.. كان نيكوس يترك الجرامفون مفتوحا.. صوته يتسرب نحو الحديقة من نافذة حجرة المكتب.. ويبدأ في الأمر لفضل بلغته التركية المميزة: هيا يا فضل.. لنرقص.. الرقص لغة خاصة جدا.. لا يفهمها الكثيرون.. دعني أعلمك مفرداتها يا صغير.. هيا.. دع نفسك للموسيقى واتبع هوى قلبك..
كان فضل صغيرا.. لم يكن يعي أو يدرك ما يقصد.. لكنه كان سعيدا يحاكي حركاته وينفذ أوامره.. ويتبع ريتم الموسيقي.. ويقلد الحركات.. وها هو اللحظة يشعر بالوحشة ويعترف أنه يفتقد ذاك الرجل كثيرا..
وقف فضل على باب الحجرة متطلعا للسماء الصافية ونجومها الساطعة بتلك الليلة اللطيفة الريح.. وسار نحو قلب السطح.. واغمض عينيه وبدأ في الاستمتاع لموسيقى نيكوس تأتيه من ماض سحيق قارب على العشرين عاما تقريبا.. وبدأ في تقليد رقصة نيكوس.. فاردا ذراعيه بامتداد جسده.. وتحريك أقدامه بخطوات محسوبه ومدروسة.. وشرع في الرقص..
كانت نعناعة خادمة فوز.. قد أعدت طعام العشاء للضيف.. وصعدت بالصينية للسطح حتى تضعها أمام حجرته مثل كل وجبة.. تطرق الباب.. تخبره بأنها أحضرت الطعام.. وتترك الصينية على الاعتاب وترحل.. وهذه المرة لم تكن استثناء.. إلا أن الخادمة ما أن أصبحت على مشارف السطح حتى لمحت ظلا يتراقص ما كاد أن يفزعها ويسقط الصينية من يدها.. عادت نعناعة هابطة الدرج مندفعة صوب حجرة سيدتها فوز.. صارخة في صوت مكتوم: إلحجي يا ستي.. إلحجي الضيف!..
انتبهت فوز متطلعة لتلك المخبولة التي دخلت عليها تحمل صينية طعام الضيف بهذا الشكل المذعور، ما حثها لتسأل في تعجب: ماله الضيف يا نعناعة!
أكدت نعناعة في خوف: باينه ملبوس يا ستي!. ده بيعمل حركات مچانين فوج السطح..
كررت فوز: حركات مچانين! كيف يعني!.. والله ما حد اتچنن غيرك يا مخبلة..
حزنت نعناعة: طب اطلعي واوعيله لحالك.. أني مش طالعة للمچنون ده.. وادي صينية الوكل.. أني چتتي مش خالصة..
قهقهت فوز على أقوال نعناعة، لكن الفضول غلبها لتعرف ما الذي كانت تقصده تلك المخبولة بالضبط.. فنهضت في عجالة، مندفعة نحو السطح.. الذي ما أن أوشكت على وصول عتباته.. حتى توقفت تتلصص على ما يجري.. لتتأكد أن نعناعة لم تكن تهزي.. وأنا فضل بالفعل يقوم بحركات لرقصة يونانية قديمة.. ظنت خادمتها حين رأتها أنه قد صار مجذوبا.. ظلت فوز تتطلع لذاك الذي يرقص اللحظة على أوتار خاصة جدا داخلها.. ما توقعت أن يصل لمكمنها مخلوق.. مأخوذة به تماما وكأنه اعارها أذنيه لتستمع معه لموسيقى نيكوس عبر خيط الوهم.. لتتوحد كليا معه بهذا الشكل الذي جعلها تنتفض كأنها كانت في سبات عميق تحلم فيه برؤى وردية حالمة .. وذلك حين هزتها نعناعة عدة مرات.. مذعورة من أن تكون سيدتها قد أصابها مس من ذلك المجذوب الراقص.. تقهقرت فوز في هدوء حتى لا يدرك فضل أنها كانت هنا تشهد عرضه التوحدي مع عالم الخيال.. عائدة لحجرتها لا تنطق حرفا.. ولم تفق إلا على سؤال نعناعة ربما للمرة الثالثة: يا ستي الأكل برد، مين هيطلعه له!..
أكدت فوز لنعناعة: إنتي..
انتفضت نعناعة رافضة: لاه، والنبي يا ستي بلاها أني.. خلي أي..
أمرتها فوز مقاطعة: مفيش حد غيرك هيطلع يحط الصينية بتاعت الاكل كيف كل مرة.. وخدي..
تركت نعناعة موضعها تلعن حظها، غير قادرة على مخالفة أوامر سيدتها، منتظرة عودتها وقد تركتها واتجهت نحو مكتبة بأحد أركان الحجرة الواسعة.. وضعت إحدى الكتب على حافة الصينية .. مستطردة لمخدومتها: خبطي على بابه وجوليله الاكل چه، وسيبي الصينية واوعي الكتاب ده يوجع منك.. ده أهم من الأكل.. واعية!..
هزت نعناعة رأسها متفهمة، وحملت الصينية من جديد لأعلى، طرقت بابه فانتفضت حين فتح فضل الباب على عجل، لترد نعناعة بأحرف مهتزة رعبا: صينية العشا..
أشارت بكفها نحو الصينية الموضوعة أرضا، وركضت كالمجنونة نحو الأسفل.. ابتسم فضل على أفعالها الغير مبررة بالنسبة له.. حمل الصينية للداخل تاركا إياها على إحدى الطاولات فهو بالفعل لم يكن جائعا.. لكنه لمح على طرف الصينية وهو يكاد أن يهم بتركها جانبا غلاف لكتاب ما.. مد كفه في هوادة يتناوله متعجبا.. ليجد أنها رواية.. "عودة الروح".. ل توفيق الحكيم.. تعجب.. كان اقتراح من هو وضع رواية له على صينية الطعام الليلة بالذات!.. ولم يخطر بباله إلا اسما واحدا.. فوز.. وتذكر كيف نهره ابن عمها بجلافة.. مؤكدا على نطق اسمها الحقيقي.. فايزة.. ف فوز ذاك من الواضح أنه لقب دلالها الذي كان مقصورا على الأقارب والأحباء.. فابتسم.. وقد تيقن أن لا عامر ابن عمها ولا أبيه العمدة عدنان أصحاب اقتراح بمثل هذه.. هذه ماذا!.. لم يجد الوصف المناسب.. لكن على أي حال.. كان ذاك جيدا.. فهو يشعر بالضجر وعليه أن يمضي الوقت فيما يخفف من وطأته على نفسه..
تطلع للرواية في حماس.. فهو لم يكن يقرأ إلا كتب السياسة والقانون بحكم دراسته واهتماماته.. لكن لا بأس.. لم لا يجرب.. تمدد على إحدى الآرائك وبدأ في المطالعة.. لتغرقه الرواية في تفاصيلها منذ الصفحة الأولى..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
كان النوم على الأريكة متعبا بحق، كان عليه حين شعر بالنعاس ليلة البارحة، أن ينهض نحو غرفته لينام على فراشه الوثير ليرتاح بعد أيام من الانهاك والركض هنا وهناك.. لكن بدلا عن ذلك ظل يستمع لجرامفون جدته وأم كلثوم تتعجب من حاله.. حتى تجاهل سؤالها السهل الممتنع.. ما دام تحب بتنكر ليه!.. وراح في سبات عميق متجاهلا الإجابة أو ربما هاربا منها..
كان الصبح قد شق صفحة السماء منذ قليل، ونسمة الهواء العليلة القادمة من النيل متسللة من بين شروخ جدران السور التي خلفها الزمن.. كفيلة بجعله راغبا في الاستلقاء مجددا.. اغمض عينيه وقرر أن يلقي كل مهامه الجسيمة خلف ظهره لبضع دقائق آخرى.. يسلم فيها للنعاس أمره.. إلا أن نظراتها المتحدية له أمس.. اشتعلت في قلبه جزوة الغضب مجددا.. كانت كلماتها نصال حادة غرزتها بلا رحمة بخاصرته.. ولا رفاهية في إظهار الألم أو التعبير عن الوجيعة.. تقلب رغبة في طرد صورة عينيها الكحيلتين بعيدا عن مخيلته التي تستفرز قلبه ليلين لهاتين النجلاوتين.. تسامحا ورأفة.. ما دفعه ليزفر في ضيق هامسا لنفسه في حسرة.. راح النوم.. ياللاه السلامة..
ومع ذاك النداء القادم من بوابة السراي في نبرة قلقة، دفع النوم بعيدا عن جفتيه اميالا مضاعفة.. فقد انتفض جالسا حين هل مدثر، متسائلا في اضطراب: ملجيتش الواد سالم يا حبيب! مچاش هنا لمحمود!..
هتف حبيب متعجبا: هو الواد مش معاك من امبارح!..
أكد مدثر: رچعت دورت عليه فالنچع كله ملجتهوش.. فين لما عترت فيه نايم في دارهم.. جلت تمام .. اسيبه نايم وبعد الفچر اعدي عليه اطمن.. راحت عليا نومة.. عديت دلوجت ملجتهوش موچود فالدار..
هتف حبيب: ما يمكن راح هنا ولا هنا.. ما هو بايت ليلته في دارهم.. هيروح فين دلوجت!..
هتف مدثر مذعورا: معرفش.. يا ريتني كنت خدته يبيت ف داري.. ع الأجل كان هيبجى تحت عيني..
أكد حبيب: ده مش وجت يا ريتني.. ياللاه بينا ندورو ع الواد.. لو أمه ربنا نفخ في صورتها وجالت اشوف ولدي.. هنجول لها ايه!..
تحرك مدثر مسرعا نحو البوابة، يتبعه حبيب مهرولا.. فإذا بصوت ينادي في هدوء: حبيب بيه!..
اكمل مدثر خطواته للخارج، بينما توقف حبيب وقد أدرك من تكون صاحبة الصوت متسمرا موضعه ولم يستدر لمواجهتها.. بل هي من اسرع الخطى حتى أضحت قبالته، تسأله في اضطراب: ممكن اجي معاكم!..
رفع حبيب ناظريه إليها في تحفز: تاچي معانا فين! لهو إحنا رايحين المولد!.. إحنا رايحين..
قاطعته أنس الوجود مؤكدة معرفتها: ايوه.. رايحين تدورو على سالم.. أنا عارفة.. فممكن أ..
قاطعها حبيب بدوره، محيدا ناظريه عن مواجهة نظرات عينيها التي ما زالت على حسنها وروعة طلتها حتى بعد أن زالت عنها كحلها الذي أربك ثباته الليلة الماضية.. وها هو يفقده مجددا مع انتفاء السبب.. يبدو أنه أمام هاتين العينين.. تتعدد الأسباب.. والتيه واحد.. مؤكدا في سخرية: لاه.. ميمكنش.. ولما يبجى يغلب الرچالة.. تبجى تتصدر الحريم وتنزل تدور.. وتنادي.. عيل تايه يا ولاد الحلال..
هم بالمغادرة، فمدثر يقف بانتظاره على جمر.. إلا أن أنس الوجود استوقفته متسائلة في نبرة متحشرجة: هتلاقيه يا حبيب بيه!.. أوعى ترجع من غيره!.. عشان خاطري..
كانت كلماتها الأخيرة تلك.. هي من أثقل كاهلي فؤاده عن حمل المزيد من التحامل ضد كلمات الأمس.. فسقط كل غضب وحنق تجاهها، وعلت رايات التسامح والتغاضي دروب صدره.. واعلنت ساعات الرحمة ميقات الغفران .. ليهز رأسه في إيجاب.. غير قادر على الإتيان بكلمة من شأنها فضح مظاهرة الفوضى الحلوة التي تتعالى هتافاتها في ميادين روحه.. مندفعا خلف مدثر مهرولا لخارج السراي.. بحثا عن سالم.. من أجل خاطرها..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
كان لقاء البارحة عجيبا، لم يكن يصدق أبدا ذاك المثل الشعبي القائل" إن الحي مسيره يتلاقى".. وها قد وجدها.. بعد أن فقد الأمل في ذلك.. فمنذ رحلت هاجر فجأة عن الإسكندرية هي وأبيها.. والذي لم يخبر أحدا عن موضع انتقاله.. وهو يحاول أن يجدها.. كانت صدمة رحيلها قاسية على قلبه الغض الذي ذاق الحب للمرة الأولى حين وقع ناظريه على هذه الفتاة التي طلت من جوف بيتهم العتيق، تحمل صينية صغيرة عليها غذاء والدها المتواضع.. خطفت قلبه الغر لحظتها ولم تعده.. يذكر أنه بكي ليال بطولها شوقا لمحياها ورغبة في نظرة وحيدة لها .. كم كان قاسيا على نفسه فراقها بهذا الشكل المباغت! فهي لم تعطي أي ملاحظة عن رحيل .. حتى تجعله يلتمس لها العذر على ما خلفته من آثار بروحه يحاول مداوتها حتى اللحظة.. بعد كل هذه السنوات.. وهو في هذه السن.. لكنه وعلى الرغم من ذلك يعذرها.. فقد كان قرار والدها.. وربما هي نفسها لم تخطر بقراره.. والداها ذاك القاسي الذي فقد زوجته وطفله الأصغر في حادث ما لا يذكر تفاصيله.. ذاك الحادث الذي جعله يزداد قسوة وشدة في تربية هاجر.. والتي كانت كالزهرة الرقيقة التي يُخشى عليها من أثر الندى..
اقترب جمال من موضع جلوس هاجر باستقبال المشفى، ملقيا التحية في اضطراب لم يكن من عاداته: صباح الخير.. لسه مفيش أخبار!..
أكدت هاجر بأعين مرهقة لم تزعق طعم النوم منذ جاءها خبر الحادث: لا، مفيش جديد.. وأكيد لو فاق.. المستشفى هتبلغ عشان تيجي تاخد أقواله.. فمتتعبش نفسك يا جمال بيه و..
قاطعها جمال مؤكدا: أنا مش جاي عشان المحضر والاستجواب، أنا جاي ليكي إنتي..
تطلعت هاجر نحو جمال في تشوش، ما حثه ليستطرد: جاي عشان اشوفك لو محتاجة حاجة.. هو إحنا مش كنا جيران زمان ولا ايه!.. والجار للجار.. والجيران لبعضها.. ولا هم غيروا المثل من غير ما حد يبلغني ولا ايه!.
ابتسمت هاجر مؤكدة: لا لسه زي ما هو..
تردد جمال قبل أن يعرض: طب ممكن كجار قديم.. اعزمك على فنجال قهوة في كافتيريا بره المستشفى..
همت هاجر بالرفض، لكن جمال أبطل حجتها هاتفا: بصي، هأكد على مكان وجودنا، وهخلي العسكري يقعد على باب المستشفى، ولو في اي حاجة، هيجي جري يبلغنا.. كده كله تمام!..
ابتسمت هاجر مؤكدة: تمام..
نهضت تسير جواره، وهو يلقي بنظرات جانبية تجاهها، كانت داخليا هي هاجر التي عرفها وعشق طلتها لسنوات في الخفاء ما أن أدرك قلبه معنى الهوى.. لكن خارجيا.. تغيرت كثيرا.. بالتأكيد تبعا لظروف كثيرة هو لا يعلم عنها شيئا.. وها هو يحاول استكشافها.. ومعرفة كل تفصيلة مهما كانت بسيطة.. متسائلا في محاولة لصرف ذهنه عن التفرس في محياها الصبوح على الرغم من الارهاق البادي على قسماته: هو فين الأخ مندور!
أكدت هاجر باسمة: قصدك ممدوح.. راح شغله يستأذن عشان يرجع يقعد معايا..
هتف جمال شاعرا بنغزة ما داخله: ممدوح .. مندور.. مش فارقة.. خليه فشغله.. وخلينا احنا في شغلنا..
تطلعت نحوه هاجر متعجبة، ليستطرد جمال مفسرا: ايوه، القضية.. حادثة نصير بيه! .. هي دي مش شغلي!..
هزت هاجر رأسها متفهمة بلا اقتناع، لكنها لم تعقب وهما يجلسا بالمقهى الفخم المقابل للمشفى، وهتف جمال: أنا هطلب فطار!.. أنا مفطرتش وأكيد انتي كمان، ما انتي سهرانة طول الليل فالاستقبال!..
أكدت هاجر في هدوء: لا، عايزة قهوة، مليش نفس أفطر.. عايزة أي حاجة تفوقني..
همس جمال بتلقائية: تفوقك من ايه يا هاجر!..
تطلعت هاجر نحوه، وكأنه بكلمة بسيطة ربما عفوية لم تكن مقصودة من الأساس، يقرأ كل ذاك الإرباك والفوضى التي ترتع داخلها..
استطرد جمال يسأل هامسا، وبجدية على غير عادته: الدنيا خدتك على فين يا بنت عم حمزة السروجي!..
دمعت عيناها وهو يذكرها باصلها الذي تحاول أن تهرب منه، أو حتى تتنكر له، لكنها دوما ما تجد نفسها تحن لتلك الأيام التي كانت فيها مجرد طفلة بضفيرتين تركض في أريحية حافية القدمين بقلب حارتهم العتيقة بكوم الدكة.. مسقط رأس سيد درويش.. كما أخبرها أبوها ذات يوم.. وهو متكئ على إحدى ركبتيه، يملس على ذراع خشبية لكرسي فخم، فيضيف عليها لمعانا وبريقا يزيدها فخامة..
همست هاجر أخيرا: الدنيا خدتني فحتة بعيدة أوي عن حارتنا يا جمال.. بعيدة لدرجة إني لحد دلوقت مش عارفة أنا فين.. رجلي هناك فحارة الشرفا، وراسي فوق في فيلا نصير الراوي..
لمس جمال معاناتها بإحساس مرهف تعجبه في نفسه، احساس اربكه شخصيا، حتى أنه حاول المزاح لإخراج نفسه وإخراجها من هذا الجو العجيب المشحون بالمشاعر المركبة، هاتفا في مزاح كعادته: طب كده عرفنا الرجلين فين والراس فين.. اعرف بقى فين بقية الجتة حضرتك.. ده مهم أوي فسير القضية!..
تطلعت هاجر نحوه لبرهة، قبل أن تستوعب ما يعينه بمزحته، فانفجرت ضاحكة ضحكة مجلجلة، ما كانت تخرج أبدا في حضرة نصير، أو أي من كان، ضحكة صافية.. لم تطلقها حنجرتها منذ زمن لا تذكر عدد سنواته، قفز قلب جمال من بين ضلوعه فرحا لسعادتها، هاتفا في النادل الذي كان يقف على مقربة في انتظار مطلبهما: بقولك ايه يا بني، هات الفطار اللي عندك كله.. الليلة دي باينها عيد!..
ما دفع هاجر لاستكمال ضحكاتها على أقوال جمال الغير منطقية والتي تنعش قلبها وتزيح عنه غبار سنوات من الكبت.. والاهمال..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
ساعات خلت من البحث عن سالم ولم تسفر عن إيجاده في أي من الأماكن المتوقع وجوده فيها.. بات ليلته بدارهم حقا كما أكد مدثر، لكن بعدها ما عرف مخلوق أين تراه يكون!.. لم تطأ أقدامه السراي ولم يره محمود كما كان يتوقع حبيب.. ولم يكن مع أي من أصحابه.. ولم يكن له أقرباء بالنجع من الأساس قد يلجأ إليهم عند الحاجة.. كان وحيدا ليس له من البشر إلا أمه.. وسيرة أبيه العائب.. التي جرت عليه كل هذه الحواديت المساخة التي لا أصل لها..
دخل أوان صلاة العصر.. ولم يبين لسالم أثر..
تنهد حبيب وهو يدفع باب دار الشيخ معتوق، هاتفا بالتحية: السلام عليكم يا شيخنا.. چاهز اخدك في طريجي للچامع!..
أكد الشيخ معتوق: ايوه يا حبيب، چاهز أها.. بس مجلتش، لجيتوا الواد!..
أكد حبيب وهو ينتقض ممسكا بعضد الشيخ معتوق، يصطحبه للخارج، لإقامة شعائر صلاة العصر، نافيا: لاه يا شيخنا، الواد فص ملح وداب.. جلبنا النچع فوجاني تحتاني مهواش موچود.. تجول الأرض انشجت وبلعته.. طب هيكون راح فين بس!.. أني خايف الواد يكون عمل فنفسه حاچة بعد اللي سمعه عن أمه.. ما هي واعرة برضك عليه يا سيدنا..
هز الشيخ معتوق رأسه مؤكدا على كلام حبيب هامسا: ايوه.. واعرة جوي.. ربنا يعينه على شر نفسه..
هتف حبيب لائما حاله: هي غلطتي برضك.. كان لازما اطمن ع الواد أول ما حطيت رچلي فالنچع.. كل اللي كان فبالي إنه مع مدثر.. ومسألتش.. كان المفترض اخليه مع محمود.. هو الوحيد اللي بيعرف يهدي سالم.. وسالم بيحبه وبيسمع كلامه.. كانت فين راسي وجتها!..
ربت الشيخ معتوق يد حبيب مؤكدا وهما على أعتاب المسجد: بكفاياك لوم لحالك.. هتلاجيه.. خلونا نصلوا.. وربك عنده العفو.. جول يا رب..
هتف حبيب متضرعا: يا رب..
انتهت الصلاة.. ليمد الشيخ معتوق كفه متحسسا موضع حبيب خلفه بالصف الأول.. ليندفع حبيب متلقيا كفه، مؤكدا: أني هنا يا سيدنا..
أمر معتوق في جدية: جوم دلوجت.. الواد عند أمه.. الواد ساب الدنيا كلها.. وراح يدور على حضن أمه.. هِم يا حبيب.. هِم..
لثم حبيب ظاهر كف شيخه، مندفعا للخارج كالممسوس، تبعه مدثر مهرولا.. حتى إذا ما وصلا لبوابة السراي، حتى اندفع للداخل.. أمرا أنس الوجود في عجالة: تعالي معانا.. لجينا سالم..
نهضت أنس من بين مجلسها مع منيرة والجدة صفية تضع شالها، بينما اندفع حبيب في اتجاه حجرتها يحضر مفاتيح العربة، ليندفعا سويا للخارج نحو العربة بصحبة مدثر.. ومنه لخارج النجع نحو المشفى.. التي ما أن وصلوا باحتها الخارجية حتى لمحوا سالم جالس على عتبات الدرج الأمامي.. فاندفعت نحوه أنس وتبعها مدثر .. ومن خلفهما جاء حبيب بعد أن صف العربة جانبا..
وما أن وعى سالم لوجود أنس حتى هتف باكيا: محدش راضي يدخلني لأمي.. أني بدي أشوفها.. هم ليه حايشنها عني..
دمعت عينى أنس مؤكدة: مين قال!.. تعالى معانا واحنا نخليك تشوفها.. وهي كويسة.. و..
هل سرور على أعتاب المشفى فوقعت عيناه عليهم ما دفعه ليهتف مهللا: الحمد لله إنكم هنا، ده أني كنت هشيع حد يچيبكم..
هتف مدثر في ذعر: ايه في! نچية بخير!..
أكد سرور في اضطراب: نچية فالعمليات!.. لسه مدخلينها حلا.. ادعولها.. بيحاولوا يوجفوا النزيف.. ربنا معاها..
صرخ سالم في ذعر: أمي.. ودوني لأمي..
لم يكن سرور قد وعى وجود سالم في غمرة اضطرابه، فما كان ليفصح عن تلك المعلومات لو كان مدركا لوجود الصبي احتراما لقلقه على أمه.. لكنه لم يتنبه لوجوده بحق.. وما أن أدرك وقع التصريح على الصبي المسكين حتى انتفض راكضا خلفه ما أن اندفع سالم نحو قلب المشفى.. حتى يلحق به ليطمئنه ويهديء من روعه.. وكذلك لحقت بهما أنس الوجود.. بينما تنبه حبيب لذاك الارتطام القوى الذي حدث جانبه.. فإذا به مدثر الذي ما تحمل مجرد احتمال فقد نجية.. فسقط فاقدا الوعي.. ليهتف حبيب باسمه في لوعة..
يتبع...