-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 29 - الثلاثاء 6/5/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل التاسع والعشرون


تم النشر الثلاثاء

6/5/2025

وللقدر حسابات آخرى 

عرابة الحفني..١٩٤٢..

مر على حال فضل الله في العرابة ما يزيد عن الشهر.. وكانت صينية العشاء هي ملاذه الوحيد في هذه الوحدة التي عاشها.. فقد كانت ينتظرها بفارغ الصبر ليتفاجأ بالرواية الجديدة التي ترسلها فوز مع خادمتها على صينية طعام العشاء.. فيتناول الرواية متجاهلا الطعام ويغرق بين الصفحات.. حتى أنه بات ينتظر نعناعة الخادمة فيستقبلها متلهفا .. منتزعا الرواية من فوق الصينية تاركا نعناعة تضع الصينية بما تحويه من اطايب كيفما تريد.. كانت الروايات والأوراق هي وسيلة التواصل بين فضل وفوز.. فما كان لها أن تصعد للسطح مرة آخرى وذاك الشاب الغريب يرابط بالأعلى.. ما حرمهما فرصة اللقاء مجددا.. لكنه لم يعدم طريقة يتواصل بها معها.. فقد كان يكتب انطباعه عن الرواية في ورقة قصيرة واضعا إياها بين طيات الصفحات.. تاركا لها ملاحظة بما يرغب في قراءته من أقلام لكتاب كانت المرة الأولى التي يتعرف فيها على ابداع أقلامهم.. والليلة لم تكن استثناءً.. فقد جاءت نعناعة بصينية الطعام لتضع فوز رواية الليلة على حافة الصينية تاركة الخادمة تصعد بها لحجرة فضل كما المعتاد.. لكن ما هي إلا دقائق حتى عادت نعناعة بالصينية لم تمس.. والرواية موضعها على حالها.. سألت فوز في تعجب: ايه اللي رچعك! إياكِ تجوليلي ممسوس ولا راكبة عفريت الم..

قاطعتها نعناعة مؤكدة: يا ستي مهواش فوج م الأساس.. 

هتفت فوز متعجبة: مهواش فوج كيف يعني! ده مينفعش يروح لا هنا ولا هنا.. روحي كده اسألي بصنعة لطافة شوفي ايه في!.. 

هزت نعناعة رأسها في إيجاب، مندفعة تبحث لإجابة عن سؤال سيدتها.. تراه أين ذهب ذاك الغريب!.. 

هرولت نعناعة لداخل الحجرة بعد أن غابت لفترة بسيطة لتأتيها بالخبر اليقين.. لقد رحل.. انتفضت فوز في ذعر: مشي! راح فين!.. 

أكدت نعناعة: الغفير بيجول لي أهله بعتوا يخدوه بعد ما الدنيا هديت.. وبعد الفجر عمك العمدة بعت معاه اللي يسلم له طريجه لحد الرسلانية.. 

هزت فوز رأسها في تيه.. لا تعلم لمَ أثر خبر رحيله عليها بهذا الشكل!.. كانت تدرك أنه عاجلا أم آجلا هو راحل .. فما جاء ليبقى.. عابر على سبيل قلبها الذي لم يمهد دربه لأي سالك من قبل.. ذاك القلب العصي الذي كان يقسم أنه لن يدع للهوى أمرا على خفقاته.. فما الذي جرى!.. ولم ها هنا بذاك التجويف الذي يحتل صدرها .. تشب نار بلا سبب! .. تستعر بلا حطب!.. كادت أن تنفجر باكية.. لكن بعض من كبرياء منعها من البكاء قبالة خادمتها التي لن تدرك سبب نحيبها.. فآثرت أن تصرفها.. متطلعة نحو الرواية التي تناولتها من على حافة صينية الطعام.. والتي لم تنل حظها في أن تكون بين كفيه.. يقلب صفحاتها وتكشف له أسرارها.. تاركة إياها فوق الطاولة تتطلع صوبها بنظرات تغشاها الدموع.. ما عاد باستطاعتها البقاء وحيدة بالغرفة التي شعرت أن جدرانها تكاد أن تطبق على صدرها ضيقا.. فتركت الغرفة مندفعة نحو الدرج المفضي للسطح.. تطلعت إلى حيث كان يرقص إذا ما شعر بالضجر والوحدة.. ثم مدت خطاها نحو أعتاب الغرفة التي وقفت عندها تتطلع داخلها في وجل وكأن أنفاسه ما زالت قابعة بالداخل.. 

دفعت نفسها للدخول تتفحص كل تفصيلة تركها خلفه وكأنها بعض من بقاياه تحمل طيف من روحه.. سقطت نظراتها على الرواية التي كان لها الحظ في أن تكون آخر ما لامسه ها هنا.. مدت كفها تتناولها حتى تهبط بها حيث مكتبتها الصغيرة.. لكن ورقة ما سقطت من بين طيات صفحاتها بالقرب من قدميها.. تطلعت للورقة البيضاء الملقاة بالأسفل في تيه.. وانحنت تلتقطها في آلية.. ما هذا!.. ربما مدونة يكتب فيها بعض من.. لم يكتمل الخاطر في ذهنها حين فضت الورقة فإذا بها رسالة.. نعم.. رسالة قصيرة لم تتجاوز السطرين.. لكنها تحمل معنى لها دلالات كبرى.. جلست وبدأت في القراءة بصوت متحشرج تأثرا:" إلى فوز.. أقصد فايزة.. ممتن جدا لكل اللي عملتيه معايا هنا.. ولكل الروايات اللي كانت سلوتي الوحيدة في وحدتي.. والامتنان الأكبر للقدر اللي جمعنا من غير ميعاد.. واللي أنا عارف إنه هيجمعنا تاني.. برضو من غير ميعاد.. امتى وازاي.. معرفش.. 

إلى لقاء قدري آخر.. فضل الله".. 

طافت الدموع بعينيها حتى صارت الرؤية ضبابية قبالة ناظريها.. ضمت الرسالة في حرص مودعة إياها جيب ردائها.. قبل أن تلقي نظرة أخيرة نحو معالم الغرفة التي زينها يوما محياه، لتغادر وهي تحتضن روايتها، في انتظار ما قد يجود به القدر يوما ما إذا ما صدق حدس فضل.. وجاءت ريح العمر أخيرا بكل ما لسفن القلب من اشتهاء..

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٤٢..

دخل نعيم داره، يتلمس بعض من راحة من سفره الطويل، حيث كان هناك بالإسكندرية يحاول أن يقايض على بعض البضائع لجلبها هنا للنجع للبيع، وقد ساعده بنيامين زوج سارة ابنته الكبرى، في الحصول عليها بسعر ممتاز لم يكن يتوقعه، ليتناهى لمسامعه زعيق مكتوم الصوت قادم من غرفة ابنته الصغرى، الحبيبة استير.. ما الذي يجري!.. اقترب لعله يتبين بعض من تلك الكلمات الهامسة على الرغم من كونها شديدة اللهجة.. ليتفاجأ بما يسمع.. كاد أن يدفع باب الحجرة صارخا لهول ما وصله من كلمات رحيل زوجته مع استير.. لكنه نحى العاطفة جانبا، وسار مبتعدا عن الباب نحو غرفته، التي ما إن دفعت رحيل بابها حتى كادت تسقط فزعا حين وجدت نعيم يجلس على ذاك المقعد المتهالك بالركن القصي منها.. تفاجأت رحيل بوجود زوجها، فهي لم تدرك بوصوله من الإسكندرية، فهتفت في ضيق: طب مش اللي يجي يقول!.. قلبي كان هيوقف وأنت قاعد لي فالضلمة كده!.. 

لم يعر نعيم بالا لاعتراضات رحيل، هاتفا في نبرة صارمة لم تكن من عاداته: إنتي مخبية عني ايه إنتي وبنتك!.. 

ارتجت الكلمات على لسان رحيل، وشملها الاضطراب لبرهة قبل أن تجلس على طرف الفراش منكسة الرأس، غير قادرة على التعبير، هاتفة ما أن تمالكت نفسها: بتك وقعتنا في مصيبة كبيرة.. استير حامل يا نعيم.. استير حامل من ايزاك الندل.. اللي مقدرش يستنى لحد ما يجمعهم بيت واحد.. ده فرحهم كان خلاص.. كمان شهرين!.. ليه كده يا استير!.. تعملي فينا كده ليه!.. 

هتف نعيم في هدوء مخالف تماما لحدث جلل مثل هذا: نعجل من جوازهم.. ونلم الموضوع.. 

هتفت رحيل في حسرة: وهو فين ايزاك عشان نلم الموضوع!.. الندل سافر وسابنا في المصيبة دي وهرب.. 

ساد الصمت لبرهة قبل أن يهمس نعيم بصوت خفيض استدعى القلق، ما دفع رحيل لتنظر نحوه بنظرة جانبية كلها ترقب: قومي روحي لبنتك.. وسبيني اقعد مع نفسي.. 

انتفضت رحيل مندفعة في اتجاه زوجها، انحنت تتكيء بالقرب من ركبتيه، متسائلة في قلق: ناوي تعمل ايه في بنتك يا نعيم!.. البت كانت بتحبه وريداه.. 

همس نعيم ساخرا: بتحبه!.. ما ياما قلت لها الست لما تنزع قلبها بتتوازن ولما تحكم عقلها.. بتعرف تاخد حقها صح.. وتكون مالية العين.. لكن أول ما تركن عقلها وترجع قلبها مكانه.. كل حاجة بتخرب.. وده اللي حصل مع بتك.. 

هتفت رحيل: طب ما أنا حبيتك وده اللي مشاني وراك مغمية!.. 

هتف نعيم متكما: يا ريت ما مشيتي.. وكنا ارتحنا كلنا.. قومي روحي لبتك.. واهو يمكن يكون اللي حصل ده في مصلحتها.. مصلحتنا كلنا.. 

همست رحيل في نبرة متوترة: أنت ناوي على ايه يا نعيم!.. أنا بخاف لما تقعد لوحدك مع دماغك..

تطلع نعيم نحوها متعجبا: دماغي دي راس مالي يا رحيل.. فالعالم اللي إحنا عايشين فيه ده، قدامك طريقتين عشان تعرفي تعيشي وتخدي حقك، يا دراعك.. يا دماغك.. وطالما الدراع وشغل التجرمة ملناش فيهم وغشامة مش جايبة همها.. وعملة براني بعد الصحة ما تروح والعمر يولي.. يبقى خلينا فالدماغ.. دي المكسب الصح.. والعملة الأصلي اللي ما تصديش أبدا.. 

تطلعت رحيل نحو زوجها في تشوش وعدم إدراك لما تحمله كلماته من معانِ، ما دفعها لتنفيذ أمره والنهوض مغادرة الحجرة.. تاركة نعيم وحيدا بصحبة أفكاره الجهنمية.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٤٢.. 

بعد أن استقر الأمر، وبات فضل الله في أمان، واطمأن الجميع على حاله الذي كان يقلب حياة الأسرة رأسا على عقب.. دفع مختار أمه وأبيه للذهاب لخاله سعد.. لطلب صفية للزواج.. كان الأمر أشبه بحلم جميل يتحقق حين أعلنت خطبة مختار لصفية.. لتزيد من أواصر المحبة بين العائلتين.. آل رسلان والحرانية.. 

اندفعت وداد ذات الثلاثة عشر عاما.. آخر عنقود الجمال المصفى من آل رسلان.. والتي ورثت كثير من ملامح أمها أنس الوجود الشكلية.. فكانت نسخة مصغرة منها تمشي على قدمين.. نحو غرفة أختها الكبرى، توقفت أمام الباب وطرقته في رقة كما أكدت عليها صفية مرارا، فما كان مسموح لها اقتحام الغرفة دون استئذان.. لتدفع وداد الباب مهرولة نحو صفية ما أن سمحت لها الأخيرة بالدخول.. هاتفة في عجالة: صفية.. صفية.. تعالي معايا بسرعة.. 

تطلعت صفية نحو أختها الصغرى في تعجب، متسائلة: اجي فين!.. سبيني أخلص قراية الرواية اللي ف ايدي يا وداد.. 

هتفت وداد في إصرار: عشان خاطري.. تعالي معايا بس ومش هتندمي.. 

زفرت صفية في قلة حيلة، تاركة الرواية جانبا، تتبع أختها الصغرى التي كانت تمسك بكفها تجذبها خلفها في اصرار، حتى إذا ما وصلا للحديقة، اتخذت الطريق صوب جانبها الخلفي، الذي ما أن وصلته حتى طل مختار مرتديا بدلته العسكرية منتظرا في تأهب.. توقفت وداد متطلعة نحو أختها التي اخذتها صدمة وجود مختار، وقد كان مسافرا منذ مدة طويلة ولم ينزل لإجازة منذ خطبتهما.. وهتفت في نبرة شقية: مش قلت لك مش هتندمي! عشان تبقي تسمعي كلام أختك الصغيرة بعد كده!.. 

ما زالت صفية على اضطرابها فلم تفه بحرف.. فقط تسمرت موضعها تتطلع لذاك الذي نال من عشقها ما يفيض عن إدراكها.. وخاصة حين ارتفعت قهقهاته مجيبا على لوم وداد الشقي: لكِ هدية زي ما وعدتك يا وداد!.. 

هتفت وداد وهي تلوح راحلة، تاركة العاشقين لحالهما: أكيد.. أنت وعدتني.. 

اتسعت ابتسامة مختار، وحاد بناظره نحو صفية التي لم تنطق حرفا منذ وقعت نظراتها على محياه، ليهمس هو في عشق: مفيش حمدالله بالسلامة حتى.. اسمع بها صوتك اللي وحشني!.. 

دمعت عينى صفية وهمست: حمد الله بالسلامة.. چيت امتى!.. 

أكد مختار: لسه حالا.. لازم تكوني أول حد أشوفه بعد الغيبة دي!.. زي ما كنتي دايما أول حد أشوفه لما أنزل اجازة.. 

ارتبكت صفية متسائلة في محاولة لتغيير الموضوع: طب أنت مدخلتش السرايا ليه!.. بدل الوقفة هنا فالجنينة!.. 

همس مفسرا: سألت عن خالي سعد، مصباح جاللي في مصر، بيتفج على مكنة ري للأرض.. وكمان فضل مش موچود.. وكان لازم اشوفك ب أي طريقة.. فملجتش جدامي إلا وداد تچيبك عشان عيني تتملى منك لو دجايق بعد الغياب ده كله.. وإلا كان هيچرالي حاچة.. 

هتفت صفية في ذعر: بعد الشر عنك.. 

نكست صفية نظراتها خجلا، وهتف مختار في عشق: صفية!.. 

رفعت ناظريها صوب وجهه، ليقابل نظراتها بآخرى تحمل قدر من الهوى لا يستهان به، وهمس معترفا: بحبك.. 

تطلعت صفية نحوه بنظرات تقطر تيها، قبل أن تندفع نحو الداخل، تكاد ان تتعثر من فرط خجلها.. وهي تستشعر نظراتها تتابعها ما أن اختفت تماما بالداخل.. 

وصلت غرفتها وأغلقت عليها بابها في عجالة، لتقف للحظة تستند عليه تحاول التقاط أنفاسها المنقطعة اضطرابا، ثم اندفعت مهرولة نحو النافذة تتطلع صوب ذاك الذي كان يعلم أنها بالنافذة، على الرغم من أنها تتطلع من خلف أستارها التلية.. فلوح نحوها.. لتشهق في رقة، ثم تنتفض لطرقات الباب.. واندفاع وداد دون أن تسمح لها.. لكنها ما كانت في حال مناسب لمعاتبتها.. وخاصة حين اقتربت أختها واضعة صندوق صغير بين كفي أختها الولهانة، هاتفة في لوم: هو أنا هفضل مرسال بينكم كده كتير!.. خدي يا وداد ادي ده لصفية، طب ما هي صفية كانت معاك تحت!.. امتى تتجوزوا بقى ونخلص!.. 

غادرت وداد حجرتها أختها متأففة، لتتطلع صفية للصندوق الذهبي الصغير بين كفيها، وقلبها يترنح فرحا بين جوانحها، مدت أصابع رقيقة مرتعشة نحو الصندوق لتفتحه في وله، ليسطع داخله سلسال يحمل قلب صغير من الذهب الخالص، وقطعة من حلواها المفضلة.. توقفت أمام مرآتها ووضعت السلسال حول جيدها.. وفتحت الحلوى تلوكها بتلذذ، وهي تضع إبرة الجرامفون فوق إحدى الأسطوانات.. لتهمس أم كلثوم في وجل: 

روحي وروحك في امتزاج.. في الحب من قبل الوجود..

كاس الفراق مالوش علاج.. والعشق من طبعه الوعود..

❈-❈-❈

القاهرة.. ليلة رأس السنة.. ١٩٤٣..

الاحتفال برأس السنة الميلادية كان على أشده، الضحكات تتعالى، والخدم في حركة دؤوب بين المدعويين بقصر رستم باشا كاظم.. رجالات السياسة والحكم في أبهى حلة.. كان الحفل (بال ماسكيه).. أي باستخدام أقنعة الوجه.. فلم يكن يعرف الحضور بعضهم البعض في كثير من الأحيان.. فقد كانت الأقنعة المستخدمة في الحفل كفيلة باخفاء معالم وجه صاحبها بشكل كبير.. الفرقة الموسيقية كانت تبدع في عزف بعض الالحان الغربية الراقصة.. ما دفع الكثيرين إلى الانضمام لحلبة الرقص في حماس.. 

اقتربت الساعة منتصف الليل تقريبا.. وبدأ كل شريك في الاحتفاظ بشريكه بالقرب.. فعند انطفاء الأنوار.. تكون لحظة شاعرية.. ليهمس كل حبيب بما يعتمل بصدره لحبيبه في قبلة تكون أروع بداية لعام جديد.. 

وقفت إلهام بأحد الأركان تتطلع للجميع في انبهار تام.. عيونها في اتساع تتشرب كل شاردة وواردة.. تهيم مع الموسيقى وتتطلع للشركاء في هيام.. فقد كانت هذه هي حفلتها الأولى التي تحضرها.. بلغت الثامنة عشرة أخيرا.. وذاك كان كافيا لتسمح لها أمها ألفت هانم.. وأبوها رستم باشا.. بحضور ذاك الحفل الذي كانت تشاهده كل عام بنفس تملأها الحسرة.. داعية أن تصل الثامنة العشرة سريعا حتى يتسنى لها المشاركة أخيرا.. وها هي هنا.. بقلب الحفل الذي تمنت حضوره منذ كانت ابنة العاشرة.. حلم تحقق.. فصار قلبها من حبوره يكاد أن يطفو فوق غمام دخان السيجار الكوبي الذي عبق البهو الواسع لقصر أبيها.. 

كانت تقف في تيه، تحاول استيعاب كل ما يجري حولها، حتى أنها لم تنتبه لذاك الذي أقترب بحلة رسمية مقتربا منها حتى إذا ما وقف قبالتها، انحنى في تأدب مادا كفه نحوها.. مطالبا في نبرة ابحة: تسمحيلي بالرقصة دي!.. 

لم يكن أحد قد دعاها للرقص منذ بداية الحفل إلا مرة وحيدة كانت من أخيها بهجت، بتحريض من أمها.. والذي انشغل بعدها كالعادة مع سُلة من رجال المضاربات والبورصة في ركن قصي بالقاعة.. تاركا إياها وحيدة بلا رفيق.. لذا ما كان منها إلا الموافقة بهزة رقيقة من رأسها.. كانت كفيلة ببجذبه كفها التي وضعتها بحضن كفه، ليسيرا نحو قلب حلبة الرقص.. والموسيقا تعزف لحنا رومانسيا رخيما على عكس ما كانت عليه منذ بعض الوقت.. وضع كفه حول خصرها في رقة، وشرعا في التمايل برقة.. وهي ترفع رأسها تتطلع للأعلى صوبه من موضعها في محاولة لاستكشاف هوية ذاك الفارس.. والذي همس متسائلا: دراسة الأدب الفرنسي ممتعة.. مش كده!.. 

هزت إلهام رأسها في إيجاب مشوش، متسائلة بدورها في براءة: عرفت إزاي إني بدرس أدب فرنسي!.. 

ابتسم الفارس المجهول مستطردا: وفأول سنة كمان!.. 

همست إلهام في رقة: ايوه.. صحيح.. 

زاد تفرسها في عيني فارسها، وهمست في تيه: أنا أعرفك!.. حاسة إني سمعت الصوت ده قبل كده! .. أنت مين!.. 

همس فارسها مع ابتسامة: خمني!.. جايز يكون اتقابلنا قبل كده!.. أصل القدر له تصريفات عجيبة.. ناس شفتهم مرة وكنت فاكر إن عمرك ما هتقابلهم تاني.. ويبقوا فجأة في حياتك.. جزء مهم فيها.. وناس كنت فاكر إن عمرك ما هتفارقهم.. وفجأة.. يبقى بينك وبينهم أميال وأميال.. حتى ولو كانوا لسه جنبك.. 

همست إلهام في اضطراب: أنت بتقول ألغاز.. بس كلام جميل.. بس أنا متأكدة إني أعرفك.. 

أنت.. 

همت بالنطق، لكن العد التنازلي لإعلان بداية العام الجديد عند بلوغ عقرب الساعات مقترنا بعقرب الدقائق.. الثانية عشرة بتوقيت القاهرة.. ما سبب لها بعض الاضطراب، مخرجا إياها من حالة الانفصال الكامل عن الواقع وهي تتأرجح منتشية بين ذراعيه.. لتُغلق الأنوار لبضع ثواني.. كانت كفيلة بتغيير تقويم عالمها، حين همس فارسها المجهول، وهو يجذبها له من جديد، ملقيا على مسامعه كلمات من حلم: كان ب ودي أخد نصييي بس أخاف على قلبي.. عشان كده كفاية عليا دي.. مؤقتا.. 

جذب كفها ملثما باطنه في رقة، وترك به شيء ما مطبقا كفها عليه وهي في عالم آخر، حتى إذا ما عادت الاضواء تسطع من جديد مع صيحات الفرح والتهاني.. اختفى هو من عالمها.. تبخر كليا.. حتى أنها بحثت حولها تحاول أن تجد منه حتى طيفا.. إلا أن كل ما بقى.. هو تلك القصاصة الصغيرة المطوية بكفها مصاحبة لموضع قبلته الدافئة.. اندفعت راكضة نحو الأعلى حيث حجرتها.. حتى إذا ما أغلقت عليها بابها.. فضت القصاصة لتجد سطر واحدا لا يحمل إلا كلمتان.. "إلى أن نلتقي".. 

ضمت القصاصة لباطن الكف الملثمة مجددا، وتنهدت في عدم تصديق أن ما جرى قد وقع حقيقة.. ولولا تلك القصاصة الغالية بباطن كفها، لظنت أن ما حدث حلم يقظة كسائر أحلامها الورية.. لكن.. ترى من يكون ذاك الفارس المجهول!.. سؤال ما وجدت عليه إجابة شافية.. وما أرهقت نفسها بالبحث من الأساس.. فما أجمل التيه في تلك الخيالات الحلوة التي تعيشها مترقبة لقاء قدري يجمعه بها مجددا.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٤٣..

ما عادت تبعات الحرب العالمية الثانية على مصر وحالتها الاقتصادية والاجتماعية خافيا على كل ذي فكر.. وما عادت اتفاقية ١٩٣٦ وبنودها المجحفة لمصر أمرا يمكن السكوت عنه.. وللمرة الأولى يضغط الإنجليز على الملك فاروق ليضع حزب الوفد بقيادة النحاس باشا في سدة الحكومة .. وذاك ما أثار حفيظة الشارع المصري وبدأت الحركات الطلابية والجماعات السرية في التحرك.. وقامت المظاهرات من هنا وهناك مطالبة بإلغاء تلك الاتفاقية المشؤومة على مصر والعمل على بحث قضية الاستقلال التام والسير قدما في تنفيذها على أرض الواقع.. 

ولم يكن اليوم استثناءً.. فقد اتفق فضل وبعض من أفراد جماعته على الخروج في مظاهرات من شأنها تحريك المياه الراكدة.. والدفع بالحكومة لبحث قضية الاستقلال.. 

خرجت المظاهرات الفرعية من عدة أماكن بقلب القاهرة.. لتتجمع في مظاهرة واحدة ضخمة تتجه إلى وسط البلد.. والتي ما لاحت بشائرها على مطلع شارع سليمان باشا حتى كانت القوات البريطانية في الإنتظار.. ومع تقدم المظاهرة بدأ الإنجليز في التلويح باستخدام القوة والرصاص الحي.. لكن الأمر خرج عن السيطرة حين اقتربت المظاهرة ولم يبال أفرادها من تهديدات الإنجليز الذين بدأوا في إظهار وجههم القبيح مؤكدين أن التهديدات لم تكن جوفاء.. وبدأ جنودهم بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين ليبدأ الهرج والمرج.. ولعبة الكر والفر.. 

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تشارك فيها النساء في إحدى المظاهرات.. فقد بدأت مشاركة المرأة في الحياة السياسية والحركة الوطنية منذ مظاهرات ثورة ١٩.. ومظاهرة الفتيات تلك لم يكن في الحسبان ظهورها على الساحة في ذاك الوقت الحرج.. لكن ما عاد بالإمكان التصرف حيال وجودها فعليا بقلب الأحداث.. صرخ العديد من الشباب بقلب المظاهرة من أجل حماية الفتيات من وصول أيدي الجنود الإنجليز لهن.. لتنقلب المظاهرة إلى دفاع عن الفتيات.. وحماية حقهن في التظاهر والتعبير عن رأيهن بحرية ما كلف الشباب الكثير.. فقد سقط بعضهم ما بين جريح ومصاب.. 

اشتد الأمر تأزما.. حين وقع ناظره عليها، هل هي حقا!.. سأل نفسه متعجبا من إمكانية حدوث ذلك.. لكن ما دفعه للهرولة صوبها هو اللحاق بها قبل أن تمتد يد ذاك الجندي الأخرق نحوها، جاذبا إياها في الاتجاه المعاكس، دافعا بها نحو ذقاق ضيق على مقربة، ليعود ليتعامل مع الجندي البريطاني الذي صمم على ملاحقتهما، فما كان من فضل الله إلا التخلص منه، قبل العودة إليها جاذبا إياها من جديد حين وصل الجنود الراكضين خلف من فر من المتظاهرين.. ليركضا سويا للبحث عن مأمن آخر يسترهما.. لكن الرصاصات انطلقت من جديد بشكل عشوائي بعد أن فاض كيل العساكر الإنجليز.. 

دفع فضل الله بفايزة مبعدا إياها عن مجال الرصاصات، إلى مدخل إحدى البنايات العتيقة.. لاحقا بها داخل هذا التجويف الضيق، محاوطا إياها بجسده، حتى يمر العساكر الإنجليز بهما دون أن يتنبهوا لوجودهما.. وما أن ابتعدوا بالفعل.. حتى رفعت فايزة نظراتها باتجاه فضل في اضطراب، ليهمس هو باسما: سنة.. وخمس شهور.. وسبع أيام.. القدر ده عجيب أوي يا فوز.. مش كده!. 

هزت فايزة رأسها في إيجاب، على وجهها ابتسامة مترددة، وبعينيها دمعات حائرة.. وما أن همت بالحديث.. حتى ترنح فضل ليسقط بين ذراعيها.. لتصرخ باسمه في لوعة.. وكفها مخضبة بدمائه.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١..

وقف الجميع أمام باب غرفة العمليات، بعد أن استطاع سرور افاقة مدثر، وهرولوا في اتجاه الداخل في محاولة للمساعدة على قدر الاستطاعة ليخرج الطبيب أخيرا هاتفا في نبرة تثير القلق: فقدنا الجنين للأسف والنزيف وقفناه بأعجوبة بس هي محتاجة نقل دم ضروري.. 

هتف حبيب في عجالة: طب ما تنجلولها يا داكتور، وهي دي عايزة سؤال!.. 

هتف الطبيب لسرور: قول لقريبك ع الحال يا دكتور سرور..

أكد سرور: مفيش في بنك الدم بتاع المستشفى أي كياس دم يا حبيب.. هو ده الحال معظم الوجت.. 

هتف الطبيب في عجالة: اسرعوا على أد ما تقدروا.. محتاجين فصيلة (o) حالا.. وبأي شكل.. 

هتفت أنس الوجود مؤكدة: أنا فصيلة دي (o) وتحت أمركم..

هتف حبيب معترضا بلا وعي: لاه.. 

تطلع الجميع نحوه مستنكرين، ما دفعه لجذب سرور جانبا، هاتفا به: بلاها الأستاذة.. دي أمانة وأني أخاف يچرا حاچة.. دي فرجبتي.. 

هتف سرور متهكما، وقد ثبر أغوار نفس حبيب: أمانة.. وفرجبتك! لاه متخافش ع الأمانة يا حنين.. مش هيچرا حاچة .. وعلى ضمنتي.. جال أمانة جال.. اركن على چنب يا حبيب عشان شكلك بجي عفش جوي.. 

ترك سرور حبيب موضعه يغلي حنقا، وما استطاع النطق بحرف، وسرور يشير لأنس الوجود نحو إحدى الحجرات أمرا إحدى الممرضات بمصاحبتها.. للقيام باللازم.. 

غاب حبيب لبعض الوقت ثم عاد ليجد أن الأمر قد انتهى.. اندفع نحو الغرفة في عجالة ليطمئن على حال أنس التي كانت تستقيم لتجلس على الفراش ما دفعه ليقدم لها ذاك الكيس البلاستيكي الذي يحمل.. هاتفا .. بل أمرا: مدي يدك اشربي عصير.. ده كويس ليكي.. 

ابتسمت أنس ولم تعقب، بل إنها وعلى غير العادة نفذت بلا مناقشة.. أخرجت زجاجة العصير وبدأت تشرب لا رغبة منها بل دافعا لا شعوريا لطمأنته أنها بخير.. وأن ما من سوء قد يلحق بها بعد تبرعها بالدم من أجل نجية.. أنهت الزجاجة وتركتها جانبا .. ليهاف حبيب من جديد: خديلك واحدة تانية.. 

ابتسمت شاكرة: لا.. الحمد لله على كده.. متشكرة.. 

أصر حبيب: واحدة تاني.. تعوض اللي راح..

أكدت أنس مبتسمة: يا حبيب بيه ده كيس دم مش برميل يعني!..

هتف حبيب في إلحاح: معلش، بس عشان ارتاح.. 

كانت كلمته تلك كفيلة بجعلها تخرج زجاجة آخرى من العصير لتبدأ في تناولها رغبة في ارضائه.. وحتى يهنأ بالا.. 

وصل هتاف سالم لحجرتها.. ما دفعها لتتهض في عجالة في محاولة لاستطلاع الأمر، فشعرت ببعض الدوار حين نهضت مسرعة بهذا الشكل.. لحق بها حبيب مسندا إياها في قلق، هاتفا في لوم: ايه اللي خلاكي تجومي كده فجأة.. ارتاحي شوية .. 

اجلسها على الفراش، مندفعا نحو الخارج باحثا عن سرور.. ليدرك أن الأمور سارت على خير ما يرام مع نجية التي خرجت من حجرة العمليات نحو إحدى الغرف القريبة..

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩١.. 

وقفت هاجر أمام الحائط الزجاجي لغرفة العناية الفائقة.. متطلعة لجسد نصير المسجي والمرتبط به الكثير من الخراطيم والأنابيب الطبية.. لا تعلم لمَ لم يستفق حتى اللحظة!.. ثلاث ليال مرت منذ الحادثة وما من مؤشر لتحسن الحالة.. 

همس جمال الذي ظهر جوارها متسائلا: لسه زي ما هو!.. 

هزت رأسها في إيجاب، مر الطبيب فنادى جمال يسأله مستفسرا، بعد أن عرف نفسه: هو نصير بيه هيفوق امتى! مش حضرتك قلت الموضوع مش خطير للدرجة دي!.. 

أكد الطبيب: فعلا.. الموضوع مش خطير والعملية كانت ناجحة.. بس أحيانا عدم استجابة المريض بتبقى نفسية...

هتف جمال متسائلا: يعني ايه!.. هو اللي عايز كده!.. 

أكد الطبيب مفسرا: مش بالظبط.. بس بشكل لا واعي المريض أحيانا بيبقى رافض الافاقة عشان ميواجهش ضغوط معينة هو مش عايز يواجها لو فاق.. نوع من أنواع الهروب من الواقع.. 

تفهم جمال ما يقصده الطبيب فشكره متطلعا نحو هاجر، التي كانت نظراتها منصبة على جسد نصير بالداخل.. والدموع تغرق وجهها ما دفع جمال ليهتف متعاطفا: هيفوق ويبقى كويس والله.. إنتي مسمعتيش الدكتور بيقول ايه!.. يعني الموضوع مسألة وقت.. بس هو ايه الضغوط اللي ممكن تخلي واحد زي نصير بيه يرفض الافاقة!.. 

هزت هاجر رأسها نفيا: مفيش.. مكنش في على حد علمي موضوع شاغله الفترة اللي فاتت يخص الشغل.. كان بس موضوع شخصي.. بس معقول هو اللي.. 

قاطعها جمال هاتفا في فضول: موضوع ايه!..

تطلعت هاجر نحوه متعجبة، ما دفع جمال ليهتف مفسرا: لا.. دي مش حشرية على فكرة.. كل حاجة ممكن تفيدنا فالقضية لازم أعرفها.. تعالي اعزمك ع البتاع ده اللي بتحبي تشربيه اللي مبعرفش انطق اسمه.. وتعترفي .. قصدي تقري.. قصدي تحكيلي كل تفصيلة مهما كانت صغيرة.. 

ابتسمت هاجر.. ورافقت جمال للخارج.. بعد أن ألقت نظرة سريعة على جسد نصير.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

ظهر سرور أخيرا، ليحذبه حبيب خلفه نحو غرفة أنس.. هاتفا في حنق: الأستاذة دايخة وكانت هتوجع من طولها.. أني جلت بلاها ونچيب كياس الدم من أي حتة تانية.. 

تطلع سرور نحوه في تعجب وهو يدفع به نحو حجرة أنس الوجود حيث ترقد.. دخل سرور ليطمئن أن الأحوال على خير ما يكون.. مؤكدا على حبيب هامسا بالقرب من مسامعه: بجولك ايه! أنت تاخد أستاذتك وتروح من هنا، أني مش فاضي لكم.. عشان كده بجت چنان رسمي.. 

ولم ينتظر سرور موافقة حبيب على اقتراحه.. بل هتف مؤكدا في نبرته المازحة التي اعتادتها أنس: تجدري تتفضلي يا أستاذة.. لازما تروحي دلوجت.. عشان ترتاحي ونرتاح كلنا.. 

ابتسمت أنس لأقول سرور، وخاصة حين رمق حبيب تلك النظرة الجانبية وبادله حبيب نظرة نارية كادت أن تحرقه لولا هروب سرور من الغرفة.. 

همست أنس متسائلة: نجية كويسة!.. 

أكد حبيب مجيبا: الداكتور طمنا.. واتنجلت أوضتها بعد العملية ما خلصت على خير.. واهو مدثر جاعد مع سالم بره.. 

ساد الصمت لبرهة، قبل أن يستطرد حبيب مقترحا: لازما تروحي عشان ترتاحي كيف ما جال داكتور سرور.. ياللاه.. 

نهضت أنس الوجود في هوادة متسائلة: طب نقعد لحد ما نشوف أخبار نجية ايه!.. 

أكد حبيب في هوادة بدوره: سرور هيبلغنا لو في أي حاچة.. وربنا ما يچيب شر.. المهم ترتاحي دلوجت.. وكويس إني چبت العربية يعني خطوتين بره المستشفى.. تركبيها م الباب لباب السرايا.. 

نفذت بلا جدال ما اقترحه.. وسارا بالسيارة على طريق العودة للنجع، ليتناول حبيب زجاجة من العصير يناولها إياها مطالبا: اشربي دي.. ياللاه.. 

ابتسمت أنس مازحة: يا حبيب بيه الموضوع ما يستاهلش كل ده.. أنا كويسة والله.. والتبرع بالدم ده حاجة صحية مش مضرة خالص بالمناسبة.. 

أكد حبيب: عارف.. بس معلش ريحيني.. خدي دي.. آخر جزازة.. ومتشربيش تاني.. 

ابتسمت تتناولها من يده، هامسة تمازحه: هو أنت كنت ناوي تشربني غيرها!.. لا.. أنا كده هفتح خط انتاج للعصير ده.. وهايبقى فعلا.. من المنتج للمستهلك.. 

قهقه حبيب لقولها.. وساد الصمت وهي تتجرع مشروبها في هدوء تتطلع للطريق قبالة ناظريها حتى وصلا لحدود النجع.. 

فهتفت ترجوه في هوادة: ممكن تركن العربية ونتمشى شوية!..

أوقف حبيب العربة جانبا بالفعل، متطلعا إليها وكأنها فقدت عقلها: نتمشوا فين! جصدي كيف يعني!.. إنتي تعبانة ولازما تستريحي.. 

همست مطالبة في نبرة رقيقة اذابت كل دفاعاته الرافضة: معلش.. ريحني.. أنا هرتاح لو مشيت شوية.. والمسافة من هنا للسرايا مش كبيرة.. 

ساد الصمت لبرهة، قبل أن يهمس حبيب مطالبا بدوره: طب خلونا نعمل اتفاج.. أنا امشيكي لحد السرايا.. ولما نوصولو تاكلي الأكل اللي هخلي نبيهة تچهزه.. ايه جولك!.. 

همست أنس معترضة: بس أنا مش جعانة.. 

أكد حبيب في إصرار: يبجى مفيشي مشي.. 

ساد السكوت لوهلة، قبل أن تهمس أنس الوجود مستسلمة: طيب.. هاكل.. ياللاه بينا.. 

ترجل حبيب من العربة، مؤكدا على موافقته ضمنيا على الاتفاق.. وها هو ينفذ الجزء الخاص به في الاتفاق الثنائي الذي تم عقده منذ دقائق في مباحثات سريعة.. 

شرعا في المسير.. كان يحاول على قدر استطاعته مجاراة خطواتها المتمهلة.. تاركا لها حرية الحديث من عدمه.. فهو قد استشعر رغبتها في الهدوء والسكينة.. سارا بطول الطريق الترابي الطويل ومرا بتلك التلة المرتفعة قليلا، والتي تحمل شواهد عدة كانت المرة الأولى التي تراها منذ قدمت إلى النجع.. فأشارت نحوها متسائلة: ايه اللي هناك ده يا حبيب بيه! 

تطلع حبيب إلى حيث أشارت.. ليتنهد مجيبا: دي الچبانة يا أستاذة.. 

همست متسائلة: يعني ايه!.. 

رد في صوت خفيض: يعني المدافن.. ربنا يديكي طولة العمر في طاعته.. 

ساد الصمت لبرهة قبل أن تسأل من جديد: دي بتاعت مين! الرسلانية ولا الحرانية ولا مين!..

ابتسم حبيب هامسا: الأول.. كانت كلها ملك الرسلانية.. وبعدين بجي الچانب الغربي لينا.. وبعد شوية.. وكيف حال الدنيا.. خالطوا الناس والناس خلطوهم.. وبجي كله على بعضه.. هي الأموات هيفرجوهم كيف العايشين يا أستاذة.. كلهم تحت التراب واحد جصاد ربنا.. 

همست مؤكدة: صدقت.. 

ظهر زفراني من العدم كعادته.. وما انتفضت أنس كعادتها عند ظهوره.. فقد اعتادته على ما يبدو.. حتى أنه بات مفضل لها بأحجيته العجيبة وكلماته المغناة.. ابتسمت له في ود.. ليتقافز حولهما في سعادة.. مترنما ومسبحاته تتراقص على صدره في حبور: 

أفتح بيبان الجلب للعشج ع الآخر..

وجول للحزن والكرب جوم اتاخر..

يا محلى الحبيب..

وهو بعشجه متفاخر..

ده أنا فجلبي لخلي غرام..

لا له أول ولا آخر.. 

وربت على كتف حبيب منبها: واعي لحديتي يا الحبيب!.. افتح بيبان الجلب.. البيبان صدو.. وكل چواب يا عاشج وله رده.. 

وتقافز زفراني مجددا.. حين اندفع مجموعة أطفال من النجع يدفعوه نحو درب ما ليسلكه طواعية برفقتهم.. لتسأل أنس الوجود في تعجب: هم رايحين به على فين!

ابتسم حبيب بعد أن حاول الخروج من الحالة التي وضعه فيها كلام زفراني الأخير.. مؤكدا: رايحين نواحي دوار العمدة لچل ما يچرسوه.. 

ابتسمت أنس متسائلة: يجرسوه.. ليه!..

أجاب حبيب باسما: وهي عادة المصريين ولا هيشتروها يا أستاذة!.. بيخبو مشاعرهم واعتراضاتهم في النكت والاغاني.. ويا سلام بقى لو اللي بيجولهم مچذوب.. حد هياخد على كلام المچاذيب برضك!.. 

اتسعت ابتسامتها حين وعت ما يقصد، وهي تسمع هتافات زفراني المغناة والعيال تردد خلفه: 

دنيا يا دنيا.. ونسيتوا اللي چرا.. 

راچل وملو هدومه.. ف البيت حكماه مرا.. 

قهقهت أنس وقد وعت معنى الكلمات ليشاركها حبيب الضحكات وزفراني يكمل سبابه المبطن.. والعيال يصفقون خلفه مرددين:

وتعالى بص وشوف.. تلاجيه خايف مرچوف..

هي تجابل الضيوف.. وهو يرش المندرة.. 

لتتعالى ضحكات حبيب وأنس مجددا، والخفر يحاولون صرف زفراني والعيال وما أن وعوا لفشلهم في ذلك.. حتى أنهم شاركهوهم الرقص سرا.. في حين كانوا يتظاهرون بصرف زفراني والعيال.. بلا جدوى.. 


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة