-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 9 - 1 - الثلاثاء 14/1/2025

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل التاسع

1

تم النشر الثلاثاء

14/1/2025

وحدها الدموع.. 


القاهرة أواخر ١٩١٥.. 

وصل سعد للمحروسة على عجل حين جاءه استدعاء رستم باشا، كان يسابق الريح أملا في سماع ذاك الجواب الشافي الذي انتظره لأشهر طوال، لكن ما أن أصبح داخل غرفة مكتب رستم باشا، حتى عاجله رستم بالإجابة التي كان بانتظارها سماعها: الصراحة يا سعد بيه، الجواب جاء من الوالد على طلبكم بالرفض، أنا متأسف جدا، مفيش ف أيدي حاجة أعملها..

هز سعد رأسه متفهما، لكن شيء ما داخله قد كُسر حرفيا، يكاد يقسم أنه سمع صوت انسحاق فؤاده، ساد الصمت لبرهة، قبل أن يسأل سعد في نبرة مهزوزة: طب هو سبب رفض الباشا ايه! اللي يجول عليه أعمله، لو جال هات نچمة م السما، والله لأمد يدي واطولها.. 

تنهد رستم في حزن واضح، مؤكدا لسعد: كاظم باشا يهمه أن تتزوج أّنس الوجود بشخص له مركز مرموق وعرق تركي أصيل.. هذا ما يهم والدنا يا سعد بيه، الأمر مش سهل إصلاحه، ولا في أي حاجة تعيبك، دي قناعات والدنا للأسف.. ولولا أحوال الحرب، لكان أمر بعودة أنس لإسطنبول فالحال.. 

انتفض سعد مذعورا: رچوعها!.. 

أكد رستم في صدق: آه يا سعد بيه، لأن أُنس اختنا كان مقدر لها مجرد إجازة طويلة في مصر ثم الرجوع لإسطنبول.. لكن ظروف الحرب قطعت طرق السفر زي ما أنت عارف وده أطال بقاءها مش اكتر.. لكن رجوعها كان مرتب له.. 

ساد الصمت، ليهمس رستم باشا مؤكدا في نبرة تقطر تقديرا: طبعا رد والدنا لن يقلل من احترامي وتقديري لك ولن يؤثر على شراكتنا سعد بيه.. وأنت مرحب بك في ضيافتنا دايما.. 

هز سعد رأسه ممتنا، ونهض وقد شعر باختناق يطبق على صدره: معلوم يا باشا، ربنا يديم المعروف، استأذن أني.. 

أذن له رستم باشا بالرحيل على مضض، لكن استشعاره رغبة سعد في البقاء وحيدا، جعلته يترك له حرية الانصراف، وقد أدرك أن حال سعد لا  تختلف كثيرا عن حال المسكينة أخته، التي ما أن جاءها رد أبيها على طلب سعد، وهي في حالة من الحزن والتيه لم يفلح أحد في إخراجها منها.. 

هرول سعد على غير عادته الرزينة مغادرا القصر، رغبة في الاختلاء بنفسه، يستشعر خيبة أمل تثقل كاهليه، ولاح منه نظرة نحو الشرفة الغالية التي كانت دوما موضعها حين يقرر المغادرة، فيحظى بنظرة لمحياها تكون زاد لروحه حتى يحين لحظة وصل آخرى يجود بها الزمان على غير موعد، لكن حتى هذه النظرة للطلة التي عشق، وبها القلب تعلق، ضن بها الزمان على قلبه الذي يتلوي شوقا بين جنبات صدره، فها هي شرفتها خالية منها، وما من مصبر له على الفراق إلا طيف توهمه لمحياها، تراها ترفضه بدورها، وتراها تستشعر أنه ليس ذاك الزوج المناسب مثلما يرى والدها!.. هل يعقل أن يكون ذاك الشعور الطاغي الذي يكتنف روحه في صحبتها، مجرد شعور زائف من طرفه وحده، يعيش فيه وهم جميل، أرجعه لطول فترة بقائه بلا امرأة في حياته!.. ذاك الخاطر الأخير كان أكثر وجعا وقهرا على قلبه من رفض أبيها.. ما جعله يأمر السائق بالانطلاق على عجل، لا رغبة لديه في التطلع من جديد نحو شرفتها، يضغط بكل ما أوتي من قوة على قمة عصاه الابنوسية الفخمة، يخرج بعض ما يعتمل داخله من صراعات، كان أقصاها بحق، ظنه في أن يكون أقل من مناسب في نظرها.. 

غادر، كانت تعلم أنه سيفعلها، سيرفع الطرف نحو شرفتها وها قد فعل، رفع ناظره نحو شرفتها الموصدة تماما فما وجدها هناك، وهي ما كانت بقادرة على أن لا تنهل منه نظرة أخيرة تعلمها أنه ما زال يحمل بعض من رغبة في وصالها، وها قد أدركت أنها على حق، وحازت بتأكيد أنه هناك، يتطلع بنظرة حسرة نحو شرفة حجرتها، وهي التي تسللت لحجرة آخرى تطل على البوابة الرئيسية للقصر التي يغادر منها في كل مرة يكون بصحبة أخيها، حيث تنتظره سيارته فيلقي بتلك النظرة التي تأسرها لبرهة قبل أن يغادر.. 

بكت وبكت.. فقد كان مقدار الحسرة على رحيله أكبر قدرا من أن تعبر عنه كلمات، وحدها الدموع هي التي كانت سلواها فيما وجدت من حزن فاق حد الوصف.. كانت تعتقد أنها ذاقت العشق وعذاباته مرة، حين حرمها والدها من الاقتران بنوري، لكن ذاك الوجع المتسرب الذي يؤصل جذوره نحو أعماق روحها على فراق سعد.. ما صادفته يوما.. وكأن أحدهم ينتزع روحها من جسدها انتزاعا، رويدا رويدا باستمتاع سادي، حتى تشعر بذاك الخواء الرهيب بحشاها.. ما دفعها لتصرخ في ألم مضنِ، صرخة هزت أركان قصر أخيها، الذي جاء مهرولا صوب موضع سقوطها أرضا بلا حراك، أمرا باحضار الحكيم على وجه السرعة، صرخة خرجت من روحها رأسا لتستقر بصدر سعد، الذي وضع كفه بألم على موضع فؤاده متوجعا، فتنبه السائق الذي سأل في قلق: أنت بخير يا سعد بيه! 

اعتدل سعد في محاولة منه للظهور كما أعتاد الجميع على رؤيته بمظهر الصلابة.. مؤكدا أنه بخير، حتى يظل وحده الذي يدرك أي وجع يعانِ، ما دفعه بلا قدرة على المواربة، على الاستدارة قليلا ملقيا نظرة أخيرة على شرفة حجرتها التي تبتعد اللحظة عن مجال ناظريه، لعله يجود منها بنظرة أخيرة، تكون له ترياق لذاك الحزن الذي بدأ ينشر خيوطه كعنكبوت بجنبات روحه.. محتلا نفسه.. وكفه لا تزال على موضع خافقه، الذي كان الاضطراب يسيطر على نبضاته المسروقة.. 

❈-❈-❈

الرسلانية مطلع ١٩١٦.. 

انقطعت تماما عن زيارة مقام الشيخ السماحي، لا تعرف لم قررت ذلك، هل كانت تعاقب نفسها، أم تعاقب ذاك الذي تجرأ وفكر في نسبهم الشريف!.. 

هي لم تعد تدرك ما عليها فعله، وهل رضاها وحدها بذاك النسب، يجعل منه أمرا مفروغا منه!..

وهل لو علم سعد بالأمر سيكون رد فعله هينا!.. وهل سيقبل بذاك النسب من الأساس!.. الأمر أصعب من أن تستطيع تقديره بمفردها، وما من مخلوق تأمنه على ذاك السر الخطير.. يكاد التفكير المضني ان يقضي على ما بقى من تعقلها، دافعا بها لحافة الجنون، وقلبها ذاك الأحمق الذي تعلق بذاك المبتهل، كان وحده صراعا آخر لا قبل لها به، صراعا ما خبرته يوما وما كان على خاطرها أن يعيشه قلبها الذي ما تعلق يوما بمخلوق.. كيف حدث ذلك في غفلة منها!.. وهل يمكن أن يورد القلب صاحبه مورد التهلكة بهذا القدر من الاندفاع وعدم القدرة على السيطرة في شطحاته ورغباته المتهورة!.. تلك الرغبة التي دفعتها بكل هذه الجرأة لتعود من جديد لزيارة المقام، وقد قررت أن تضع النقاط على الأحرف وليكن ما يكون.. 

ظهر أخيرا شبح المبتهل في زيارتها الرابعة، رأته قادم من خلف الجميزة الضخمة يدنو من المقام في حذر، وعلى وجهه لثامه الذي لا يفارقه، تركته يدعو بذاك الدعاء المحبب لقلبها، وكأنما تنهي عطش سنوات طوال من الظمأ لكلمات غزل تروي بها أرض قلبها الشراقي، وهل هناك كلمات غزل أكثر روعة من دعاء أحدهم وابتهالاته من أجل وصالها!.. 

أنهى وصلة الابتهال وشرب قلبها حتى ارتوى، وحانت لحظة الحقيقة، فخرجت من خلف موضع تسترها في هوادة لتقف قبالة ناظريه، ما دفعه ليحذو حذوها، مقتربا خطوة في جرأة رافعا بعض من لثام وجهه عن محياه، هامسا في نبرة تحمل الكثير من التوقير: ست توحيد! كيفك!.. 

همست بنبرة مرتبكة، وهي التي كانت تعتقد أن نبرة صوتها ستخرج بقدر من السيطرة والقوة التي اعتادتها: زينة!.. نحمده على كل حال.. 

همس في تردد: مكنش فبالي إن دعوتي دي تستچاب فيوم، أني فرحتي مش سيعاني وربنا العالم.. 

همست تحاول أن تستجمع بعض من رباطة جأشها: بص يا وهدان!.. اللي أنت بتعمله ده لا.. 

هتف مقاطعا إياها، مؤكدا في نبرة فاضت صدقا: اللي بعمله ده من غلبي وجلة حيلتي يا ست الناس.

همست توحيد مرتبكة: ست الناس! 

أكد وهدان هامسا: ايوه.. ست الناس كلهم، وتاچ راسي، أنتي واعية لحالك يا ست توحيد!.. وأني مهما كبرت، أني فين چنبك.. أني من يوم ما وعيت فالنچع ده، وأني شايفك نچمة فوج ما في يد مخلوج يجدر تطولها، لكن أني عيني مشيفاش غيرك، آه اتچوزت.. لكن واحدة على كدي، واحدة ترضى بحالي، وأنتي لساتك بعيدة جوي عن إني اطولك.. أبعد من نچوم السما، لكن دعوتي كنها صابت.. أني رايد الوصل يا ست الناس.. 

كان ذاك المجهود الذي بذلته توحيد للسيطرة على شتات نفسها بعد كل ما قاله وهدان ليس بهين، وهمست بصوت متحشرج تأثرا: ملكش عندي إلا طريج واحد، سعد أخوي.. خد موافجته.. ونشوف.. 

هتف وهدان: سعد بيه مش هيوافج، صدجيني.. شايفني مش كد المجام.. 

هتفت توحيد وهي تجمع أطراف ملسها متعجلة خوفا من أن يراها أحدهم: ده اللي عندي، رايدني يا ابن الناس، كلم سعد أخوي.. 

هرولت توحيد مبتعدة عن المقام، تكاد أن تنكفيء على وجهها لتعجلها في المغادرة، لا خشية أن يفضح أحدهم أمرها بقدر ما هو اضطراب لذاك الحدث الأعظم الذي زلزل كيانها، أن يعترف لها أحدهم بمحبتها منذ زمن بعيد، لهو الجنون بعينه.. إنها محبوبة ومعشوقة ومرغوبة أخيرا.. ولتوها استشعرت كم هو أمر رائع أن تكون امرأة، وهي التي لعنت كونها أنثى آلاف المرات، ولعنت حظها العثر دون عن كل الفتيات، فإذا بالحظ يطرق باب قلبها أخيرا.. ويكون لها نصيب في رزق وافر من معسول الكلام الذي لطالما اشتهته أذناها، وطاق له قلبها البكر.. 


الصفحة التالية