رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش اقتباس الفصل 20 - الخميس 20/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
اقتباس
الفصل العشرون
تم النشر الخميس
20/2/2025
❈-❈-❈
أزمير ١٩٢٠..
وصلت العربة التي تقلها وولدها إلى وجهتها، وكأنها عادت لنقطة البداية، فقد توقفت العربة أمام قصر أبيها كاظم باشا، فأدركت أن ذاك القائد اليوناني هو الذي اتخذ من قصرهم مقرا لقيادته وكذلك سكنا، القائد نيكوس يانوس، قائد إحدى الفرق اليونانية التي استقرت في أزمير لإحكام السيطرة عليها..
ترجل نيكوس من العربة في رشاقة، لينفض حراس المقر الذين كانوا ملتزمين بمواقعم عند بوابة القصر التي زادها الحرس هيبة، وافقدوا المكان روحه الطيبة التي كانت تملأ المكان مختلطة بذكريات طفولتها وضحكاتها الرنانة لمدعابات والدتها، ومشاكساتها ليلديز رحمهما الله، لمعت عيناها ببريق دمع، حاولت أن تتجنب هطوله وهي تترجل بدورها من العربة بصحبة ولدها، تقف في سكون مكنسة الرأس، لا تقو على رفع ناظريها نحو موطن ذكرياتها، وموضع مقتل أبيها منذ شهور خلت، وقد قررت أن تحاول التعامل مع الأمر بإنكار، إنكار أن كل ما جرى قد وقع بالفعل، وأنها تعيش حياة ليست حياتها، تتقنع فيها دورا ليس حقيقتها، حتى تستطيع التكيف مع حقيقة أنها ستكون خادمة في ذاك القصر عن كونها صاحبته والأحق بسكناه من هؤلاء القتلة، لكن ما جرى لم يكن فالحسبان حين أشار فضل نحو الارجيحة التي يحب، والتي صنعها كاظم والدها لأجله خصيصا، بديلا عن تلك الأرجوحة القديمة التي كانت في يوم ما موضع مرحها وشقاوتها، صارخا في بهجة: جدي، جدي..
انتفضت أنس الوجود جاذبة طفلها نحوها، تحاول أن تسكته، حملته في عجالة، أمرة إياه هامسة في حزم: كف يا فضل، انتهى..
التزم فضل الصمت، ملقيا رأسه على كتف أمه لائما شدتها التي لم تكن معتادة، ونظرت أنس بعد أن ضمنت صمت ولدها نحو القائد نيكوس تبتهل إلى الله في سرها أنه لم يدرك ما كان يعنيه فضل، أو حتى لم يستطع تبين حروفه الصغيرة، فقد علمت أنه يتقن التركية ويتحدثها بطلاقة، ويستطع أن يفهم المقصود، فهي لا ترغب في التخيل .. مجرد التخيل لما قد يكون عليه رد فعل ذاك القائد اليوناني، حين يدرك أن التي تقف قبالة ناظريه اللحظة، هي ابنة كاظم باشا أوغلو، الذي قاومهم صارخا بالجهاد، حتى لا يسلم له مقر إقامته لقواته، وقامت بعد استشهاده حوادث شغب كبرى، اجهدت القوات اليونانية لأسابيع، حتى تستطيع اخمادها وإعادة السيطرة على المدينة من جديد!.
زم نيكوس ما بين حاجبيه وهو يتطلع نحوها وولدها، قبل أن يهتف أمرا: هيا، اتبعيني..
اصطكت أقدام الجنود في حزم حين مر بهم نيكوس ملقيا التحية في المقابل، وهي خلفه تضم طفلها الذي هاله مظهر الجنود وكثرتهم فتشبث بأمه في رهبة، وهي تسير خلف نيكوس تتبعه نحو الداخل، وما أن خطت أقدامها عتبات القصر نحو البهو، حتى كادت أن تشهق في صدمة، فقد غير هؤلاء الحمقى ما كان عليه ترتيب الأثاث والمفروشات.. واضافوا بعضها الذي لا يتوافق مع جو البهو الفخم الذي كان يحمل الطابع العثماني، لكنها أعادت على نفسها ما اعتزمت عليه، أن تنكر أنها صاحبة القصر، وأن تغلق بإحكام على كل ذكرياتها الماضية داخل صندوق أسود تلقيه في غياهب ذاكرتها حتى إشعار آخر.. سارت خلفه حتى غرفة مكتب والدها، التي ولله الحمد ظلت على حالها دون تغيير، توقفت بعد أن سارت لخطوات تاركة إياه يكمل مسيره نحو المكتب الذي رفع غطاء علبة السيجار الفخمة، متناولا واحدا، وبدأ بإشعاله في هوادة، حتى إذا ما بدأ خيط الدخان في الظهور، حتى أخرجها صوت نيكوس القوي من تيه أفكارها، متسائلا وهو يتطلع إليها في نظرة متفحصة: قال ذاك المجرم أنك كنتِ المسؤولة عن إعداد طعامه وغسل ملابسه!..
هزت أنس الوجود رأسها مؤكدة دون أن تنطق حرفا، ما حث نيكوس ليستطرد أمرا: حسنا، فليكن.. دعينا نختبر ذلك.. ستكون شؤون المطبخ والنظافة من مهامك.. ولنرى ما هو قدر مهارتك..
ونهض مقتربا في خطوات أشبه بخطوات فهد كسول، حتى صار أقرب ما يكون منها، متطلعا نحو قدها الذي الذي تلحف برداء الخالة يلديز الذي كان بديلا عن ثوبها الثمين، والذي حمدت ربها أنها لم تكن ترتديه حين هجم الجنود على الكوخ، فقد كان ذاك الثوب المتواضع، مكملا لصورتها كأم مكافحة، وعاملة مجتهدة، مبعدة الفكر والتخيل عن كونها هانم لها وضعها في مجتمع النخبة، هامسا في نبرة تحمل بعض السخرية المبطنة بالكثير: على الرغم من أن هذه المهارات لن تكون بقدر مهارتك في جوانب آخرى.. لكن لا بأس بذلك على سبيل التجربة..
كادت أنس أن تتهور، وفي رأسها ألف رد فعل تجاه صفاقته التي لم تعتدها، لكن وجود فضل على كتفها ذكرها أن الهدف الأول هو حمايته، ما جعلها تنكمش على نفسها، محاولة التغاضي عن الأقوال التي تحمل إشارات حقيرة، حتى يحين موعد الحساب..
ابتعد نيكوس عن محياها، متجاهلا إياها كليا كأنها ليست بالغرفة، متوجها نحو جهاز لتشغيل بعض الاسطوانات الدائرية الشكل، التي ما أن بدأت تدور تحت سن ذاك المسمار الذي وضعه ليمس سطحها الأملس، مصدرة بعد برهة بعض الأنغام التي انسابت في عذوبة.. ما أن سمعها حتى سار نحو كرسي وثير ضخم ذي ذراعين بأحد أركان الغرفة الفخمة التي ملأ أجواءها عبق سيجاره العميق، جلس مادا قدميه الرشيقتين عاقدا إحداهما فوق الآخري على مسند جلدي، وهو ينفس من جديد دخان سيجاره في لا مبالاة، وقد تنبه أخيرا أن أنس الوجود ما زالت بالحجرة، فهتف محتجا: لم أنتِ هنا!.. مكانكِ الآن بالمطبخ بين القدور تعدين وجبة العشاء، هيا.. انصراف.. آه.. بالمناسبة.. حجرتك هي تلك الحجرة البعيدة، في الردهة القصيرة المفضية للمطبخ.. هيا..
كان يشرح لإدراكه أنها لا تعرف المكان، ما دفع أنس لتوميء برأسها في طاعة، مهرولة لخارج الغرفة في تعجل، تحاول أن تضع نفسها على مسافة آمنة من هذا الرجل..
يتبع...