رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 16 - 4 الجمعة 7/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السادس عشر
4
تم النشر الجمعة
7/2/2025
سأل نفسه بغتة، ودون مواربة.. وما الذي يضيرك يا حبيب في أن تذهب أنس دون رجعة!.. وهل كنت تعتقد أنها قادرة على الاستمرار في العيش ها هنا بهذا النجع البعيد مكانا وثقافة عن كل ما تربت عليه من حرية وعادات، تختلف في مجملها وتفصيلها عما يتماشى مع المعيشة في نجع رسلان!. ثم .. لم تسأل في الأساس عن قدرتها في تحويل مسار حياتها، والمعيشة هنا!.. ما الذي يدور برأسك يا حبيب!.. إن ذاك أبعد من أن يكون حقيقة!.. تمسك بالعقل والمنطق يا حبيب، ولا تغفل واقعية الأمور!. فالحلم شيء، وما يمكن تحقيقه على أرض الواقع شيء آخر مغاير تماما!..
دار حول نفسه كليث جريح، مدرك تمام الإدراك أن الأفكار التي تنناحر بداخله تكاد أن تشطره نصفين، نصف يصدق أن المستحيل جائز وممكن، ونصف ساخر لا يدع للحلم فرصة في أن يشرأب بعنقه في محاولة ليصبح واقعا ملموسا..
وما بين هذا وذاك، يقاتل هو حتى يجد راحة البال، بجانب كل تلك المشاكل الآخرى التي لا تترك له مجالا لتحقيق أي حلم مهما كانت بساطته..
هلت هي كما توقع، رآها تخرج من باب المضيفة قادمة صوب مجلسه، غض الطرف عنها منشغلا بإعداد الشاي، الذي هو مهرب جاهز يلقي داخل ابريقه الكالح كل اضطرابه في حضرتها، حتى يبدأ في استعادة السيطرة على زمام أمره مجددا..
هتفت أنس في بشاشة: مساء الخير يا حبيب بيه!
رد حبيب دون أن يرفع ناظريه نحوها: مساء النور يا أستاذة!..
وابتدرها مؤكدا: أني عارف إننا اتأخرنا عنِك ف الجعدة وتجسيم الورثة، بس الظروف حكمت عاد، وإنتي واعية للخربطة اللي حصلت كلها..
ابتسمت أنس مؤكدة: آه طبعا، ولا يهمك.. بس أنا مش جاية اتكلم عن ورث وتقسيم الصراحة..
مدت كفها له بكوب به بعض الماء الذي يبدو مغبرا قليلا، متسائلا: إيه ده!
أكدت أنس في سلاسة: ده ميا مع سكر مكرمل.. وصفة ماما بتعملها لي لما أكح جامد، قالت لي إنها تعتبر ورث عائلي، وبتخفف الكحة فعلا.. أسأل مجرب..
وقف مشدوها لذاك الكوب الذي تقدمه له في أريحية، مع تلك الابتسامة التي كانت طيبا كافيا لسعاله الذي زاد صخبا منذ أن نام بالطل لليلتين متتاليتين.. استفاق من تيهه، متنبها في عجالة، شاكرا في نبرة ممتنة: تسلمي يا أستاذة، كلك خير..
تناول الكوب، دافعا إياه لجوفه دفعة واحدة، لتتسع ابتسامتها متسائلة: أنت شربته على طول، ومفكرتش تدوقه حتى!
أكد حبيب باسما، وهو يضع الكوب جانبا: ستي صفية ربنا يديها الصحة والعافية، كانت دايما تعمل لنا الوصفة دي أول ما الكحة تظهر علينا، لكن من يوم ما أمي الله يرحمها، وستي رچلها تجلت فالمشي، معدش حد بيعملها.. يعني منيرة ربنا يبارك لها كانت بتعملها.. بس منيرة فيها اللي مكفيها ربنا يعينها على حالها..
هزت أنس رأسها متفهمة، ليتجه موليا اهتمامه للشاي مجددا، منصرفا عن محياها، وقد تذكر أنها ما جاءت من أجل الجلسة المؤجلة لتقسيم الإرث، ليسأل في قلق متطلعا نحوها: اومال إيه السبب للزيارة الكريمة! خير!..
كان يستشعر أن الأمر خاص بالحرانية وذهابها لدارهم، وعلاقتها بهم، لكنه كتم ذلك حتى لا يكون متحاملا أمامها على علاقتها بأهلها على أي حال، منتظرا ردها، وقد أقرت في هوادة: أنا جاية ابلغك إني مسافرة بكرة بإذن الله..
اختارت التوقيت الخاطيء كعادتها دوما، لتبلغه برغبتها التي جاءت للتعريشة من أجل إبلاغه إياها، فاضطربت كفه وهو يصب الشاي وكاد أن يسقطه على أصابعه التي تحمل كوبها، سيطر على ارتعاشة كفه وهو يمد لها كوبها، متسائلا في نبرة حاول أن تبدو لامبالية: طاب وماله!.. مش كل حاچة تمام من غير شر!
أكدت أنس وهي تتناول كوب الشاي من كفه: آه تمام الحمد لله، لكن أنا طولت أوي هنا، وماما لوحدها، ورسالة الماجستير اللي اهملتها ومكتبتش فيها حرف زمان الدكتور افتكرني صرفت عنها نظر، حاجات كتير سبتها ورايا ولازم أرجع بقى أشوف أحوالي المتعطلة دي..
هز حبيب رأسه متفهما، وسأل وهو يحاول أن يحيد بناظريه عنها: ده معناته إنك راچعة تاني على كده!.. ما هو إحنا منتهيناش يا أستاذة..
هزت رأسها مؤكدة على كلماته، وهي ترتشف رشفة من كوب الشاي في استمتاع، هاتفة: أكيد يا حبيب بيه، ربنا يسهل أخلص بس اللي ورايا وأشوف..
وضعت الكوب جانبا، بعد أن أنهت ما به حتى آخر رشفة، وهمت بالنهوض، ليبتسم حبيب متطلعا لكوبها الذي وضعته فارغا، مخالفا لعادتها حين قدمت إلى الرسلانية: واضح إن الشاي عچبك! بجيتي بتخلصي كوبايتك أها!..
توقفت عن مسيرها، وتعجبت أنه ركز في تفصيلة غير هامة تخصها، لذا اتسعت ابتسامتها مؤكدة: الشاي هنا له طعم مختلف عن أي شاي تاني شربته..
وارتفعت ضحكاتها، فطاش صوابه، وندم على سؤاله، الذي ما كان سبب طرحه إلا الإبقاء على صحبتها أكبر وقت ممكن، قبل أن ترحل لأسابيع، وربما لشهور دون أن ينعم بهذه الصحبة التي بات يستطيبها ويألفها.. استطردت مقرة: أقولك على سر يا حبيب بيه، انا أصلا مش بحب الشاي..
رفع حبيب حاجبيه تعجبا، هذا يفسر إذن عدم انهائها أي كوب منه في أول أيام تواجدها هنا.. ثم باتت تطلبه ما أن تكون ها هنا بالتعريشة.. لتغادر أنس الوجود مودعة: أشوف وشك بخير يا حبيب بيه.. بكرة بدري هخلي شبل يوصلني للمحطة بعد إذنك.. سلام عليكم..
سارت نحو باب المضيفة، وهو على الرغم من أن ذلك ليس من طبعه، لكنه لم يحد ناظره عن محياها حتى غابت، مدركا أن شيء ما يغادره خلفها، تابعا إياها..
❈-❈-❈
الرسلانية..١٩٩٠.. الجبل.. الجماعات المتطرفة..
ظهر الأمير قادما من ذاك الجانب المتطرف القابع فيه ذاك الكهف الذي يشغله بعض ساعات النهار، ويبيت فيه ليله، بصحبة نسائه..
وقف فوق صخرة موجودة بالجوار، ليراه كل أتباعه الذين تجمعوا ما أن أمر باجتماعم، ليهتف بهم في نبرة صارمة: يا إخواني، المؤن بدأت في النفاد، وهذا والله امتحان لما في الصدور، علينا أن نشد المئزر.. ونتذكر معاناة سيدنا رسول الله وأصحابه في شعب أبي طالب.. في سنوات المقاطعة.. ثلاث سنوات كاملة من المعاناة.. فالصبر الصبر يا اخوة.. وعلينا الاقتصاد قدر استطاعتنا حتى يصل المدد من الله وبمساعدة إخوة لنا فالجهاد.. حتى يتحقق لنا النصر بإذن الله..
هتف ساعده الأيمن مؤيدا لكلامه: النصر أو الشهادة.. ونحن لها.. لا جزاء دون ابتلاء.. وموعدنا الجنة بما صبرنا يا أميرنا.. ونحن على العهد.. نحن على العهد..
هتف من خلفه الرجال، مؤكدين على ولائهم للأمير وصبرهم على مكاره الجهاد..
بينما هتف أحد الشباب حديثي العهد بالجماعة: لم لا يأمر أميرنا بالنزول لنجوع آخرى، وكسب بعض الغنائم من أهلها المارقين..
هم الذراع الأيمن للأمير بالتحدث، إلا أن الأمير أشار له بالصمت، فأطاع منكس الرأس، ليهتف الأمير متصنعا ابتسامة سمجة، مجيبا على سؤال الشاب: يبدو أنك حديث العهد بالجماعة، لذا سأجيبك، لا يمكن أن نثير حفيظة الكفرة من رجال الحكومة حولنا، بالهجوم على أكثر من نجع في فترات زمنية متقاربة.. علينا المهادنة قليلا.. أنت شاب وتأخذك الحمية لدين الله وهذا محمود يا أخي.. لكن علينا التدبر وعدم التسرع في اتخاذ قرارات دون التفكير في العواقب..
هتف ذراعه الأيمن مؤكدا: نعم الرأي يا أميرنا.. نعم الرأي والتدبير.. ولك السمع والطاعة..
هز الأمير رأسه متصنعا التواضع، ملقيا التحية عائدا لركنه البعيد، وقد بدأ الهمس بين ذاك الشاب وأحد مرافقيه، عن المؤون والاطايب التي يحظى بها الأمير في كهفه البعيد، وكأنه شهريار في عصره وزمانه، تاركا إياهم يتصورون.. يشدون الأحجار على أحشائهم جوعا..
❈-❈-❈
الرسلانية.. ١٩٩٠..
جهزت أنس الوجود حاجياتها، وهبطت الدرج الداخلي لتودع الجميع، ألقت التحية على الشيخ محمود بعد عودته من أذان الفجر، وودعت منيرة، وهي تشير في حديثها أن سراج قد رحل البارحة من السراي، فقد كان عليه إبلاغ قادته بكل ما تم، وعمل اللازم لمواجهة أي من هجمات الجماعات المتطرفة، إذا ما فكروا في الهجوم من جديد، حتى يأتي الإذن لهم بالهجوم على الجبل وتصفيتهم..
وما أن همت أنس الوجود بالخروج من السراي، حتى توقفت لبرهة أمام باب الجدة صفية، لا تعلم لم استشعرت بحاجتها لوداعها!.. وما أن قاومت شعورها وهمت بالتحرك لخارج السراي، حتى فُتح باب حجرة صفية بغتة، لتخرج دافعة كرسيها المدولب، هاتفة في أنس الوجود بنبرة عاتبة: كنتي هتروحي كده من غير سلام!..
لم تجد أنس ما يمكن قوله، هربت كلماتها، وساد الصمت، الذي قطعته صفية وهي تمد كفها نحو أنس بشيء ما لم تعرف أنس كنهه، إلا حين هتفت صفية مفسرة: الشال ده عملته ليكي، وسيبي اللي على كتفك ده لأمك..
همست أنس متأثرة: عملتيه ليا أنا!
همست صفية في تأثر وهي تهز رأسها تأكيدا: ايوه، كيف ما عملت للكل، ما إنتي مننا برضك.. ده حتى اللي على كتافك ده، برضك من صنع يدي..
مدت أنس يدها وأخذت الشال وفردته أمام ناظريها، وتعجبت كيف صنعته في هذه المدة البسيطة وبهذه المهارة!.. والأعجب، كيف اختارت الألوان التي تعشق، وضفرتها بهذا الشكل المبهر!..
دمعت عينى أنس تأثرا، وهمست في صوت خفيض: تسلم ايدك، ده حلو أوي، والألوان اللي بحبها..
همست صفية وهي تدفع كرسيها للخلف، عائدة لداخل حجرتها: مع السلامة.. وربنا ينولك مناكي، ويهدي جلبك للي فيه هناه..
هزت أنس رأسها ولم تعقب بحرف وصفية تغلق خلفها بابها تاركة أنس تتطلع للباب المغلق في تيه، ثم أخيرا تتطلع لذاك الشال الذي بين كفيها، وأخيرا اندفعت نحو الخارج، ألقت التحية في عجالة على شبل، الذي فتح لها باب السيارة، فدفعت جسدها للداخل، وانطلق شبل بالعربة.. ولم تعي في ظل كل هذه الصراعات التي تعتمل داخلها، أن هناك من يقف بافذته اللحظة، وعلى الرغم من أن النوم قد خاصم جفنيه البارحة، إلا أنه لم يقو على مجابهة لحظة رحيلها وجها لوجه، مفضلا أن تكون لحظة وداعها خاصة جدا، لحظة فردية تماما، يطالع محياها الذي طل فجأة من داخل السراي، ولبرهة اختفى داخل العربة، وها هو يتابع طيف السيارة المبتعدة بها، ولا حيلة لها إلا قلب يلوح مودعا على أمل..
يتبع...