-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 24 - الجمعة 11/4/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل الرابع والعشرون


تم النشر الجمعة

11/4/2025

 دموع ممتنة

أزمير ١٩٢٢.. 

عند خروجها من القبو، سارت مسرعة حاملة طفلها مبتعدة حتى إذا ما غابت بين الحشود المتجمهرة فرحا بالنصر، حتى توقفت على أطراف الشارع تلتقط أنفاسها، ومن هناك ألقت نظرة من بين الأجسام المحتشدة على مدخل قصر أبيها، ترى هل قتلوا نيكوس!.. وأي مصير سيلقى!.. انتظرت لبرهة لعل هناك من يدخل أو يخرج من القصر، الذي نزع بعض الجنود العثمانيين من أعلى قمته العلم اليوناني، ورفعوا علم البلاد.. تطلعت لبرهة قبل أن تقرر أن وقوفها هنا لن يجدي نفعا، لابد وأن تتحرك نحو كوخ الخالة يلديز لترى هل ما زال على حاله، أم أصابه الخراب!.. دعت في سرها أن يكون قائما على حال صالح للبقاء فيه وطفلها، فهي لا تعلم إن لم يكن، كيف وأين يمكنهما قضاء لياليهم القادمة!.. تلك الليالي التي لا تدرك ما الذي تحمله من متغيرات قد تبدل مسار حياتها وولدها.. 

زفرت في راحة، واغرورقت عيناها يالدموع، ما أن وصلت لقمة الدرب المفضي لكوخ الخالة يلديز، فوجدته على حاله، قائما هناك بذاك الركن المتطرف من الدرب على أطراف الغابة، وعلى الرغم من بعض الخراب البسيط الذي طال واجهته، إلا أنه يبدو على حاله وصالح للمعيشة.. 

دعت في سرها للخالة يلديز، التي كان دوما صدرها بديلا عن حنان أمها المفتقد وهي على قيد الحياة، وها هو بيتها ملجأ لها وملاذ أمن بعد وفاتها.. وتذكرت نيكوس من جديد، فقد كان آخر كلمات نطقها قبل وصول عساكر الجيش العثماني للقبو، اذهبي يا أنس الوجود إلى ذاك الكوخ حيث التقينا للمرة الأولى.. اذهبي.. ‏

دفعت باب الكوخ وهي تلهث، لتدخل منزلة طفلها عن ذراعها، لتسقط أرضا وهي تغلقه خلفها، رافعة ناظريها للسماء ممتنة.. 

هدأت خفقات فؤادها، وبدأت في الانتظام، ما دفعها لتتطلع حولها، كل شيء كما كان سابقا، لولا بعض الفوضى البسيطة، التي يمكن معالجتها، وخاصة تلك النافذة التي ما زالت تحمل ذاك الفراغ الواسع الذي كان نوري يأتيها منه حين يغيب لأيام طوال، هل ما زلت حيا ترزق يا نوري!.. 

هتف فضل في نبرة باكية: أمي أنا جائع!. 

جذبته أنس لصدرها، في محاولة لتهدئته، هامسة له في قلة حيلة: حاضر.. سنبحث عن طعام، تعال بأحضاني.. 

ضمته لصدرها أكثر، وبدأت في هدهته والغناء له لعله ينعس، فهي لا تدرك من أين لها بطعام في مثل هذا الوضع!.. سال دمعها، ورفعت ناظريها للسماء من جديد، هامسة في تضرع، أن تكون الأيام القادمة حاملة للخير، والأمل في العودة.. 

انتفضت وتململ فضل مستيقظا ما أن ارتفعت الطرقات على الباب خلف ظهرها، نهضت في هدوء، متطلعة في حذر للخارج من فرجة صغيرة بالباب، لتطمئن ما أن رأت جارتها تقف في انتظار، فتحت الباب في هدوء وحرص، لتبتسم لها الجارة، هاتفة في حماس: مساء الخير.. تفضلي.. فرحة الانتصار.. 

مدت أنس الوجود كفها شاكرة، لتدعها الجارة متجهة لباب الجار التالي، فيبدو أنها تحتفل بتوزيع الحلوى على الجيران.. 

دخلت أنس مغلقة الباب، جاذبة يد فضل ليسير خلفها، جلسا على إحدى الآرائك وبدأت في اطعامه باسمة، وهي تمسح بقايا دمعها في امتنان.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٢٢..

تلفحت بالسواد وخرجت كعادتها في ظلام الليل، تسير متلفتة على الرغم من العتمة القاتمة التي تسربل النجع في مثل هذه الساعة، خطوات سارتها في عجالة حتى دفعت باب دار الخالة مكحلة ودخلت، كانت تراها من البعد وهي تدنو .. مجرد دار خربة لا يمكن أن يكون بداخلها مخلوق.. لكن ما أن أصبحت في قلب الدار، حتى تيقنت أنها كانت على خطأ، فها هو بكل جلاله يقف شامخا موليا لها ظهره كعادته، وكل تلك الأنوار تسطع من حولها في بريق برتقالي صاخب، ونفس القدر الذي تجده في كل زيارة لا زال بموضعه على نار ركوة زرقاء اللون تقبع تحته، حاملا نفس السائل عجيب الرائحة أرجواني اللون، يغلي منذ دهور مضت، وما زال على حاله، يصدر عنه ذاك الدخان الذي ما أن يصل لرئتيها عبقه، حتى تنتقل روحيا لعالم آخر.. 

همت بالحديث، إلا أن ذاك المجهول هتف في نبرة ساخرة: طولتي الغيبة يا شفاعات!.. عاش مين شافك!..

هتفت شفاعات تبرر في نبرة مهتزة: لك حج تضايج، بس أني مليش عين أجول كلمة واحدة، بس أصلك خلاص، معدش منه رچا.. 

ارتفعت قهقهات المجهول ساخرا: ايه اللي معدش منه رجا، وهدان، ولا الموضوع كله على بعضه!..

أكدت شفاعات في حسرة: وهدان مبجتش أجدر أجرب له، الأول جلت بكرة ينساها، شهور وشهور تعدي ولا فيش فايدة، الراچل كني مش جدامه، وعاف الحريم من بعدها.. 

أني مش لجيالي حل.. ولا حاچة چايبة نفعها معاه.. 

هتف المجهول مؤكدا: أنا قلت لك، اللي هو فيه ده، لا أنا ولا غيري له سلطة عليه.. وكل اللي قدرت أعمله عشان أساعدك، أبعدها عن طريقك، واسيبك لشاطرتك معاه، ده أنا قلت هتنسيه اسمه، اتريكي طلعتي خايبة.. ونسي اسمه.. لكن فضل فاكرها برضو.. 

هتفت شفاعات في حنق: أنت بتزود على ناري اللي منطفتش من يوم ما دخلت الملكومة دي.. داري، نارين.. 

أكد المجهول في هدوء: أنا بقولك الحقيقة، لو جاية وفاكرة إني أقدر أعمل حاجة تاني.. تبقي بتحلمي.. 

زعقت شفاعات في قلة حيلة: ده أني مبجتش أجدر أجرب منِه!.. كنه بجي مخاوي، ولاه ملبوس.. 

هتف المجهول في نبرة واثقة: لا يا شفاعات، بقى محروس.. محروس من أي حاجة نقدر نعملها .. متحصن ولا أنا ولا غيري يقدر يطوله.. خلاص لعبتنا مع وهدان خلصت.. لكن لعبتنا معاكي إنتي ابتدت.. 

هتفت شفاعات في صدمة: أني!.. أني معملتش حاچة، هضرني ليه بس، وأني كنت طوعك وتحت أمرك كل السنين اللي فاتت دي!.. 

وانهارت دافعة جسدها المرتجف متوسلة أسفل قدميه، مؤكدة في نبرة مرتعشة الأحرف: الرحمة والسماح.. أني خادمتك..

استدار المجهول منحنيا نحو ذراع شفاعات، أمرا إياها بالنهوض في هوادة، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة صفراء تنضح خبثا: اضرك ايه يا مخبولة، حد يضر الجمال ده كله!.. ده يبقى مبيفهمش.. وأنا بفهم وبقدر الجمال أوي.. خليكي ورايا بس.. وعمرك ما هتخسري.. 

هتفت شفاعات في تردد: طب أعمل إيه، وأني من يدك دي ليدك دي!.. 

جذبها المجهول لأحضانه، هامسا بالقرب من مسامعها في نبرة تنضح رغبة: تسمعي اللي هقلهولك، وتنفذي وبس.. 

هزت شفاعات رأسها في طاعة عمياء، وكأنها قادرة على الرفض من الأساس..

❈-❈-❈

أزمير ١٩٢٢.. 

لا تعلم ما الذي يجري!.. لمَ تحولت كل هتافات النصر وصيحاته الفرحة من حناجر أبناء جلدتها إلى صرخات اللحظة!.. صرخات عالية وتوسلات بالرحمة، وركض من هنا وهناك، طالعتها في ذعر من خلف باب كوخ الخالة يلديز منبئة أن الأمر قد تحول إلى كارثة.. فتحت باب الكوخ في بطء شديد تتطلع نحو الدرب لتشهق في صدمة جراء ما تطالعه الآن.. ألسنة من نيران ترتفع من جانب الحي اليوناني والأرمني.. وكأن أبواب الجحيم قد فُتحت.. وهبوب بعض الريح يساعد على انتشار ألسنة اللهب من موضع لآخر بسرعة رهيبة.. وها هي النيران تقترب من بنايات الحي الذي تسكن.. 

تعالت الصرخات أكثر.. وركض أهل الأحياء المتضررة، حاملي أطفالهم.. وما باستطاعتهم حمله من متاع في محاولة للهرب من الحرائق التي تلاحقهم.. يا الله.. أزمير تحترق.. والكل يركض فزعا ورغبة في النجاة.. 

الأرمن يُقتلون ويحرقون داخل دورهم.. واليونانيون يهرعون صوب الشاطيء رغبة في الهرب على سطح بعض المراكب والسفن التي تقبع بالميناء.. لكن لا سفن كافية لنقل المستنجدين الأملين في الفرار، والمكدثين على شاطيء البحر.. وها هي السفن الفرنسية والإنجليزية غير راغبة في التدخل، فهي لم تأخذ الأمر لتمد يد العون والمساعدة لهؤلاء المساكين.. فوقفت تشهد المأساة في صمت مخزي.. 

الفوضى أصبحت تعم المدينة، واختلط الحابل بالنابل.. وما عاد عليها من شخص آمن.. كل الأرواح مهددة.. والمبان تطولها النيران، التي لا تفرق ألسنتها الممتدة ما بين بيت قاطنيه من الأرمن.. وبيت قاطنيه من اليونانيبن..

وصل خبر الحرائق المنتشرة بكل شوارع أزمير لمسامع الجند والضباط بالمعسكر الذي اقتيد له نيكوس بعد العثور عليه في مقر القيادة، بالقبو حيث كان مختبئا معها.. وعلى الرغم من آلامه التي لم تبرأ، كان عليه أن يتحرك وفورا، المدينة تحترق، وهو غير موقن من أن يكون موضع كوخها بعيدا وما طاله الحريق، تسلل من خيمته التي وضعوه بها تحت حراسة واهية، لحين إشعار آخر.. فلم يكن أحد يعلم حتى هذه اللحظة، ما القادم من أحداث قد يغير ميزان القوى، ويبدل دفة الأمور.. الوضع كارثي.. ولاحت سحب الدخان بالأفق.. مؤكدة أن الأمر جلل.. حتى تصل هذه الأدخنة القوية لمعسكر أسراهم بأطراف المدينة.. 

كانت آلام جراحه مبرحة، لكنه لن يهنأ حتى يطمئن أنها بخير، تطلع لملابسه العادية التي ارتداها بديلة عن زيه العسكري، كانت مناسبة تماما للتجول دون أن يلفت الأنظار على الرغم من تباطؤ خطواته في بعض الأحيان حين يقرصه الوجع بجرح صدره، عندما يرغب في الحصول على المزيد من الهواء النقي الذي صار عزيز المنال في أجواء المدينة المشبعة بالدخان الخانق.. 

وصل أخيرا بعد معاناة للكوخ الذي كان لحسن الحظ بعيدا إلى حد ما من أن تمتد إليه يد اللهب بضرر.. طرق بابه في عجالة، ليأتيه صوتها من الداخل متوترا مهزوزا: من هناك!..

ليؤكد عليها نيكوس في نبرة مطمئنة: افتحي أنس، إنه أنا!.. 

فتحت الباب بانفراجة بسيطة، متطلعة لذاك الذي يقف منحنيا في ألم، مستندا على إحدى ضلفتي الباب يحاول أن يلتقط أنفاسه، رفع ناظريه إليها.. وتطلعت هي نحوه تستبين حقيقته، فهذه هي المرة الأولى التي تراه دون ذيه العسكري، وها هو اللحظة يقف أمامها في لباس رجل عادي من العامة.. تبدل كليا.. وكأنها تراه بعين جديدة، أو ربما.. يكسب الزي العسكري صاحبه مهابة، قد لا تكون مكون حقيقي في أصل ذاته.. شعرت أنها اطالت النظر.. ما دفعها لتفسح الطريق، مشيرة إليه بالدخول، ليسأل في لهفة: هل أنتِ وولدك بخير!.. 

أجابت بإيماءة من رأسها، فنيكوس كان آخر شخص تعتقد أنها قد تصادف رؤياه والمدينة تحترق بالخارج، وتسألت في تعجب بدورها: كنت أعتقد أنك غادرت المدينة مع من غادروا!. او أن الجنود قد.. 

لم تكمل جملتها، وفهم هو المقصد، فهتف وهو يجلس في وهن: لا، لحسن الحظ، كضابط برتبة كبيرة، بقاءهم على حياتي مصلحة، وأما عن الرحيل.. فسيحدث، لكن تأخر الرحيل هو من حسن حظي، حتى يكون لي الفرصة لتوديعك بما يليق.. ولأجلب لك هذا.. 

أخرج نيكوس من جيب بناطله خاتم ثمين قدمه لها، أمرا في لطف: خدي، ذاك كان إرثا عائليا، كان من المفترض أن يكون لأكبر الذكور سنا بالعائلة، والذي صادف أن يكون أنا، لأهبه للمرأة التي أعشق، حين أقرر الزواج بها.. 

لم تمد أنس الوجود كفها لأخذ الخاتم، متسائلة في دهشة: وما دخلي أنا في شأن عائلي كهذا!.. اعتقد أن عليك منحه لزوجتك المستقبلية.. 

هتف مؤكدا: لم يأت الأمر على ذكر الزواج هذا أولا يا أنس الوجود، قال المرأة التي أعشق.. حتى ولو كنت أعلم أن الوصول إليها محال، والاجتماع بها ضرب من ضروب الجنون.. 

اضطربت أنس الوجود، وجال ناظرها بكل موضع إلا موضع كفه الممدودة تجاها.. متجنبة النظر إليه حتى لا تتلاقى نظراتهما.. ليستطرد نيكوس في نبرة دافئة، وهو يضع كفه الآخرى على موضع جرحه: خذيه يا أنس، هو لكِ، تصرفي فيه كما ترين، حتى تستطيعي العودة لزوجك، فلا تقعدك قلة المال عن تدبير سفرك وولدك في أقرب فرصة.. ومن فضلك، لا تفكري مطلقا في الذهاب لقصر والدك، فأنا أعلم أكثر عما قد ينالك هناك.. إياك والاقتراب حتى.. رجاءً..

ساد الصمت، وظلت أنس الوجود على حالها، وكذلك يد نيكوس الممدودة، حتى تأكد له أنها لن تلين وتمد كفها بالمقابل لتأخذ الخاتم.. ما حثه على تركه جانبا فوق الطاولة المستديرة التي تحتل منتصف الكوخ تماما.. 

نهض متكيئا على نفسه، متطلعا لتلك المرأة التي يعلم أن عشقه لها لن يتكرر، وأن عشقها.. ذاك السر الدفين الذي ظل محتفظا به طي الكتمان طوال الشهور الطويلة الماضية، سيظل سره الأروع على الإطلاق.. 

سار نيكوس نحو الباب، وما أن هم بالخروج، حتى همس في نبرة وجلة: أنس الوجود!.. 

رفعت نظراتها إليه في اضطراب، ليستطرد هو في نفس النبرة: كوني بخير وسعادة دوما، وابلغي زوجك ذاك المحظوظ تحياتي.. والكثير من غبطتي.. والقليل من حسدي، فهو بالتأكيد رجل مميز، حتى يهبه القدر امرأة رائعة مثلك.. وداعا.. يا نقية!.. 

فتح نيكوس الباب وخرج، ولم ينتظر منها وداعا، يكفيه أنه اطمأن على حالها، وأمن خروجها من أزمير.. لتصل لزوجها بسلام.. 

تطلعت أنس الوجود من تلك النافذة الضيقة المطلة على الطريق، وتابعته بناظريها وهو يسير بعرج بسيط لإصابة قدمه، حتى غاب متخفيا بين الأكواخ.. محاولا تجنب أماكن الحريق الذي بات قريبا، لكنه محجما داخل أحياء بعينها.. لتسيل دمعة حارة على خدها مودعة.. وممتنة.. 

❈-❈-❈

الرسلانية مطلع ١٩٢٣..

ما بين عشية وضحاها.. تفاجأ أهل نجع رسلان باختفاء شفاعات زوجة وهدان الحراني وأم بناته، أثار غيابها الكثير من الجدل والتساؤلات، تراها أين تكون، إن كانت على قيد الحياة من الأساس!.. أشارت أصابع الاتهام كلها نحو وهدان زوجها، الكل تقريبا كان يعلم ما يعان، وكل فرد بالنجع شاهد مرة أو سمع عما كان يحدث لوهدان بعد أن أجبرته شفاعات على طلاق ابنة الحسب والنسب، توحيد رسلان، بسبب الغيرة التي كانت تملأ قلبها.. وخاصة بعد أن وهب الله لوهدان الولد من توحيد.. كانت القصص والحكايات تتناقل من هنا وهناك.. لكن لا دليل واحد على صدقها، ولا جريمة حتى نبحث لها عن فاعل.. فإن كان وهدان قد قتل بالفعل شفاعات، فإن جثتها يوما ما ستظهر، ساعتها يمكن أن نتهمه بارتكاب الجريمة.. لكن أين هي شفاعات! .. أو بالأدق جثمانها.. لا أحد يدري.. وما عاد الأمر يهم أحد بعد فترة قصيرة.. فقد التهى كل مخلوق في حاله وتدبير أحواله.. وتناسوا غياب شفاعات كأنها ما كانت يوما بينهم.. لكن ما أثار التعجب حقا.. هي حالة وهدان التي بدأت-منذ اختفت زوجته- في التحسن بشكل ملحوظ، حتى أن من يراه، يؤكد أنه بدأ يستعيد سيرته الأولى، ويرجع إلى ما كان عليه من سنوات، حين كان يمتلك القوة وسطوة المال، ويحكم السيطرة على زمام الأمور..

إلا شيء واحد تغير في وهدان.. شيء لم يكن من عاداته سابقا.. تحول لم يكن وليد اللحظة، أو تبدل مؤقت ويزول.. بل تبدل حال من حال معدوم الروح .. إلى حال واثق، مفعم بالحياة.. فقد أصبح المسجد وصحبته هي أنيسه، وبات الشيخ رضا المحمدي وسعد هما الأقرب لقلبه.. ما عاد وهدان المنكسر الذي يرتكن باكيا إلى حائط المقام، بل صار وهدان القوي الذي يذهب هرولة إلى المسجد مع نداء كل صلاة.. عادت إليه نفسه.. وآن أوان استعادة روحه.. 

قبيل صلاة العصر، جلس الشيخ رضا يرتل بعض من آيات الذكر الحكيم، فانتظر وهدان حتى انتهائه، ليسأله دون مواربة: بجولك يا شيخ رضا! أني رايد أرچع أم مختار لدارها!.. 

هتف الشيخ رضا في حماس: عين العقل، أنت سيد الرجالة، وهي ست الهوانم، يبقى ايه المانع!..

وأكمل مشيرا لباب المسجد حين لمح دخول سعد قادم نحوهما: واهو صاحب الشأن نفسه، وأني عارف إنه مش هيمانع.. 

كان سعد قد وصل لموضع جلوسهما، مستفسرا عن آخر كلمات نطقها الشيخ رضا وهو يشير إليه: مش همانع ف ايه! ربنا ما يچيب ممانعة.. خير!. 

هتف وهدان مطالبا: رايد مرتي يا سعد.. 

ابتسم سعد هاتفا في بشر: عارف لو كنت جلت حاچة تاني غير مرتي دي، مكنتش هرچعها ولو ايه!.. هي مرتك صح يا وهدان ولساتها مرتك، وعمرها هي كمان ما حسبت حالها لحد غيرك يا ود الحراني.. 

ابتسم الشيخ رضا في مودة: معلوم، فطلاق المكره لا يقع، وأنت بعدتها عشان مصلحتها هي وولدك، وهي ست كُمل عقلها موزون، وعارفة إن بعادكم كان لا بخطرك ولا بخاطرها.. وربنا يجمع بينكم على خير من تاني.. 

ربت سعد على كتف وهدان مؤكدا: توحيد دارها أولى بها، خلص الدار على خير.. ونحددوا كتب الكتاب ميتا، وعلى بركة الله.. الشيخ رضا يعجد عليكم من تاني.. ونعمل لكم ليلة ولا ألف ليلة وليلة.. ويا رب چوازة العمر.. 

هتف وهدان في فرحة غامرة: ايوه أني كنت ناويها، هرچعها على دارها الچديدة، مش هرچعها داري، وده اللي اخرني فطلبي.. أني اهو بكمل اللي كان ناجص ف الدار اللي كنت ناوي انجلها فيها جبل ما يچرا اللي كان.. تبجى عتبة چديدة، كلها رضا.. ولا ايه يا شيخ رضا!؟.. 

هتف الشيخ رضا مازحا: لا يا سي وهدان، أني محبش ابقى عزول.. تبجى هنا وسرور بإذن الله.. وخلوا الرضا عليا.. 

ارتفعت الضحكات، وقد أصبح الفرح قاب قوسين أو أدنى.. 

❈-❈-❈

أزمير مطلع ١٩٢٣..

لا تعرف كيف يمكن أن تقدم لذاك الرجل القدر الذي يستحق من التقدير والامتنان!.. فقد اكتشفت أنس الوجود بعد رحيل نيكوس، أنه لم يترك خاتمه الثمين فقط، بل إنه استغل اضطرابها في لحظات وجوده، وعدم قدرتها على مواجهة نظراته، وترك دون أن تدري في غفلة منها.. قدر من النقود، كان كافيا وزيادة أن تعيش في راحة طيلة الشهور الماضية، دون أن تحمل هم إطعام صغيرها وتلبية احتياجات المعيشة، حتى تبدأ الحياة في العودة لطبيعتها رويدا رويدا داخل أزمير، فتصبح قادرة على بيع ذاك الخاتم والحصول على تذاكر للعودة على أول باخرة متجهة للمحروسة.. وخاصة بعد عقد تلك الاتفاقية بين الجانبين العثماني واليوناني على تبادل المواطنين والاسرى..

كانت تقف تضع بعد الخضار على الحساء الذي تعده لطفلها، فتنبهت أن هناك حركة عند باب الكوخ، فوقفت متحفزة خلفه، فمنذ اندلع حريق أزمير، ونزح الكثير بعيدا عن الأحياء التي احترقت مبانيها عن آخرها حتى صارت أشبه بخرابات مسكونة، وانتشر السطو وكثرت السرقات بلا رادع.. لكن ما أن همت بضرب المعتدي على أم رأسه بالمقلاة التي كانت تحمل، وهو يدخل للكوخ في أريحية، حتى صرخت في اندهاش.. وهتفت في سعادة غامرة: نوري!.. هل هذا أنت حقا!.. 

استدار في بطء مواجها لموضع أنس الوجود، ليبتسم لها في سعادة: نعم، إنه أنا يا أنس الوجود.. مرحبا مرة آخرى، في كوخ الخالة يلديز.. كم مر على ذاك الفراق الدامي!.. 

لم ترد أنس الوجود، فقط تطلعت نحو قسمات وجه نوري الذي بدا أكبر سنا من حقيقته، ولم يكن هذا كل شيء، بل إن أكثر ما أوجع قلبها، هو ذاك الفراغ الذي أدركته اللحظة بموضع يده اليمنى.. حتى أن ذراع سترته يسقط متهدلا.. مؤكدا على صدق استنتاجها.. 

تنبه نوري إلى أين تنظر، فألقى نظرة ساخرة على موضع ذراعه المفقود، وتطلع نحوها باسما في تقبل: بعض الأهداف الكبيرة، تحتاج لتضحيات صغيرة، أليس كذلك!.. 

سال دمع أنس الوجود بغزارة، غير قادرة على كتمانه، حتى أنها شهقت في قهر لرؤية نوري على هذه الحال، لكنه هتف أمرا في حنو: كفي عن البكاء يا أنس الوجود، أنا بخير، لم امت بعد، ذاك كان ذراعي وهو أقل قيمة مما فقدت سابقا.. 

تنهد مستطردا، وهي تحاول أن تضبط انفعالاتها، فهي تدرك أن نوري شديد الكبرياء موفور الكرامة ولا يقبل الشفقة من مخلوق: فقدت من قبل أهلي، ثم قلبي بموت زوجتي وحبيبتي، فما الضرر في فقد أعضاء آخرى من أجل تحقيق ما يصبو إليه الجميع، وفيه عز الوطن.. 

همست أنس متسائلة في نبرة متحشرجة تأثرا: متى حدث ذلك!.. أبسبب التعذيب!.. 

هتف نوري مفسرا: نعم، بسبب التعذيب، والتأديب كذلك، فقد استطعت الهرب أنا وبعض الرفاق، لكن للأسف.. خاننا أحدهم.. واستطاعوا القبض علينا مجددا، ليكن ذاك هو ثمن الهروب.. خسارة ذراعي، ومتى! منذ عدة أشهر.. 

ساد الصمت لبرهة، وعمل هو على تغيير الموضوع، متسائلا في أريحية: ها قد أصبحت ابنة القصور، طاهية ممتازة من الدرجة الأولى، فرائحة الحساء الذي يغلي فوق الموقد، تؤكد أنه شهي لدرجة كبيرة.. 

ابتسمت أنس في ود، معترفة: الفضل يرجع لك فأنت كبير الطهاه، ومن أدين له بمهاراتي كلها.. أنت والعم عون.. ليتني أدرك أين ذهب!.. 

نهضت في اتجاه الموقد، أمرة في مودة: اجلس للمائدة، لاعد لك طبقا ساخنا من الحساء، بالتأكيد أنت بحاجة إليه.. في هذا الجو البارد.. 

هز نوري رأسه مؤيدا، وتساءل في أريحية: أين هو فضل! لابد وأنه كبر وصار رجلا!.. 

ابتسمت أنس وهو تسكب الحساء في أحد الأطباق، مؤكدة في فخر: نعم، صار بهذا الطول.. هو نائم بالداخل، يستيقظ بعد قليل.. 

وضعت أنس الوجود صحن الحساء قبالة نوري، ليسأل في حيرة: أتراه يذكرني إذا ما رآني اللحظة!.. 

لم تكن أنس الوجود متأكدة من رد فعل طفلها حينما يرى نوري، فهي مدة ليست بالقصيرة منذ آخر لقاء بينهما ..تخطت العامين، وكان فضل أيامها طفلا صغيرا.. لكنها على الرغم من ذلك أجابت في تأكيد، حتى تزيح نظرة الحزن التي كست عينى نوري: نعم، يذكرك بالفعل، وسألني عنك ذات مرة.. كان غاضبا أنك رحلت دون أن تودعه.. 

هز نوري رأسه باسما، يتطلع نحو أنس الوجود، كأنما يخبرها أنه على ثقة من كذب روايتها، لكنه ممتن أنها فعلت، مد كفه يمسك بالملعقة ليبدأ في تناول الحساء.. فاهتزت الملعقة بكفه وهو يحاول توجيهها نحو فمه.. تنبهت أنس الوجود لما يحدث.. ليهمس نوري في حرج: سامحيني، لم اعتد بعد على استخدام يدي اليسرى.. 

فطلبت أنس في حنو: اسمح لي!..  

ترك نوري الملعقة على حافة الصحن، فتناولتها أنس الوجود، هاتفة في محاولة لاضفاء بعض المرح على الأجواء المشدودة: أنا أعلم أن حسائي لن يكون أبدا في جودة ما تصنعه، لكني لن ادعك تتحجج حتى لا تتذوقه، فهو ليس بهذا السوء، ولن ادعك تنجو، سأفرغه في جوفك عنوة لو لزم الأمر.. 

انفجر نوري ضاحكا، لترتفع ضحكاتها بدورها، وهي ترفع أول ملعقة حساء لفمه.. 

ليبدأ كل منهما في سرد ما حدث له في سنوات الفراق.. ليهتف نوري أخيرا: هل فعل ذاك القائد اليوناني ذلك حقا! 

هزت أنس رأسها إيجابا حين اطلعته على ما كان من أمر نيكوس وكرمه معها، ليستطرد بعد لحظة تفكير: تبادل المواطنين والأسرى يتم على قدم وساق.. وعليك أنتِ أيضا السفر في أقرب فرصة ممكنة، فالبلاد في لحظات تحول كبرى يا أنس الوجود، ولا أحد يدرك ما يخبئه الغد.. 

لم تعقب، ليستكمل نوري حديثه: لي صديق يعمل بالميناء، ساحجز لك تذكرتين على أول باخرة متجهة للمحروسة.. فالملاحة بمضيق البسفور قد عادت لطبيعتها إلى حد كبير.. 

دمعت عينى أنس الوجود في امتنان، ليستطرد نوري موضحا: سأدبر ثمن التذكرتين فلا تقلقي.. 

هتفت أنس الوجود مقترحة: عندي خاتم ثمين، يمكنك بيعه والاستفادة بثمنه.. 

هتف نوري في نبرة صارمة: احتفظي بخاتمك أنس الوجود، قلت أني قادر على تأمين سفرك.. وخلال أيام ستكونين على سطح الباخرة المتجهة إلى المحروسة.. 

ولم يكذب نوري خبرا.. فقد استطاع الحصول على التذكرتين كما وعدها، وها هي تتجه للميناء.. ليصبح وصولها القاهرة مسألة وقت.. ولقاءها المرتقب بسعد خلال أيام.. يا لفرحة قلبها!.. 

كان الميناء مزدحما يعج بالبشر، ولا موضع لمخلوق، الزحام كان خانقا على الرصيف الذي يفضي إلى الباخرة التي يجب صعودها على سطحها وولدها.. كان نوري بكل ما يملك من قوة ذراعه الوحيدة، يدفع الأجساد المتلاحمة بعيدا عن مسارها حتى تستطيع المرور نحو موضع صعود الباخرة.. وفي نفس الوقت، وعلى الرصيف الموازي.. كانت هناك تلك السفينة اليونانية التي تحمل جنودها ورعاياها لأرض اليونان، وقف على سطحها ذاك القائد اليوناني، يتطلع نحو الصخب والفوضى التي تدور رحاها على أرصفة الميناء بالأسفل.. يلقي بنظرة مطولة على الأفق البعيد، ونظرة آخرى على الجموع البشرية المتزاحمة على الأرصفة، ليقع ناظره على الباخرة القابعة على الرصيف المقابل، ليراها وهي تجاهد لصعود سلم السفينة وهي تحمل طفلها، متشبثة بحقيبتها الوحيدة.. انتفض مطيلا النظر نحوها ليدرك أنها بالفعل أنس الوجود.. وذاك طفلها فضل.. وصلت بعد جهد إلى سطح الباخرة، لتقف ملوحة لشخص ما، تنبه أنه رجل يلوح لها بالمثل.. حاول على قدر استطاعته لبعد المسافة تبين شخصه، فتذكر أنها أخبرته يوما، أنها لا تعرف أحد هنا في أزمير إلا ذاك الشخص الذي تم القبض عليه في الكوخ، يبدو أنه الشخص نفسه.. من الجيد أنها وجدت من يساعدها بدلا من أن تظل وحيدة.. 

فمنذ المرة الأخيرة التي زارها فيها، تم نقل خيام الجنود اليونانيون بمنطقة بعيدة مع تشديد الحراسة، ما جعل الخروج ومحاولة الوصول لها مرة آخرى شبه مستحيلة.. 

ها قد عادت تلوح لذاك الرجل من جديد، ما أن أعلنت الباخرة استعدادها للانطلاق بذاك النفير الزاعق.. تنهد نيكوس في حسرة، وهو يطالع الباخرة تشرع في التحرك نحو وجهتها.. ليخرج من جيب سترته الأقرب لقلبه، التذكار الوحيد الذي يحمله منها.. متطعا إليه، إلى صورة تلك المرأة الفريدة، التي ظهرت كضوء نوراني في نهاية النفق المظلم الذي كانت ترتع فيه روحه التائهة، لتنير أحلك ليالي العمر وأيامه.. هذه الصورة التي جاهد آلامه يوم إصابته، قبل وصول الجنود العثمانيون للقبو بعد دفعها للفرار وولدها، ونهض من موضعه، جاذبا إياها من بروازها، ووضعها مسرعا بجيب سترته العسكرية.. محتفظا بها جوار قلبه من يومها، ابتسم في شجن، وعيناه تتابع ابتعاد باخرتها، لتتشوش الرؤية قبالة ناظريه، فيدرك أن عيناه قد اغرورقت بالدموع، ما دفعه ليجذب كابه العسكري مخفضا مقدمته، ليغطي ملامحه الباكية، وأخيرا.. أدار الصورة على ظهرها.. وبدأ في كتابة كلمات تنبض عشقا، ممهورة ب.. دموع ممتنة.. 

❈-❈-❈

الإسكندرية ١٩٩١.. 

ترجل سراج من عربته، متجها صوب القسم، ما دفع العساكر القابعين للحراسة قبالة أبوابه، لأداء التحية العسكرية في عزم.. سار سراج على مهل، رادا التحية على كل من يعرفه في ذاك القسم الذي خدم به منذ فترة ليست بالبعيدة، وما أن وصل حجرة مكتب جمال، حتى طرق الباب مرة ودفعه دون أن ينتظر إذنا بالدخول.. لينهض جمال ملقيا التحية معانقا، ما أن وعى لوجود سراج، هاتفا في تهليل كعادته: سراج بيه باشا!.. فينك يا عمنا، هو نداهة الصعيد اللي بنسمع عنها دي خدتك ولا ايه!.. مبقيناش بنشوفك!.. 

أكد سراج في تنهيدة: طول المسافة والله يا چمال مخليني بطول هناك جبل ماخد اجازة ، مع إن ده مضايجني عشان بسيب الحچ لوحده فترات طويلة، ياللاه.. الحمد لله.. أنت بجى ايه!.. استعديت خلاص!.. 

أكد جمال وهو تائه بين الملفات المختلفة الموضوعة قبالته على مكتبه، والبعض الآخر المركون على الأرفف: أهو.. شغال بظبط الأمور عشان اسلم كل حاجة تمام.. 

سأل سراج مباشرة: والوالدة عاملة ايه بعد موضوع النجل ده!..

هتف جمال مؤكدا بحسه الفكاهي: ياختاااي، عاملة مناحة تقول نقلوني موزيبق..

قهقه سراج متسائلا في مرح: فين موزبيق دي! قبل أسوان ولا بعدها!.. 

هتف جمال مازحا: أنا عارف!.. كل أما اقولها دول نقلوني القاهرة.. تعيط.. دي بينا وبين الإسكندرية يا دوب ٣ ساعات.. تعيط.. يا حاجة ما هو مش شغل اللي خلفونا هختار البلد اللي اقعد فيها، ما ده كان هيحصل من زمان.. تعيط.. بص.. الخلاصة في عزا منصوب فالبيت كل أما تشوفني فخلقتها.. خلاص يا جمال.. هتمشي وتسبنا يا جمال.. اقولها يا حاجة أنا منقول معاكم هنا فالدنيا.. مش هتنقل الآخرة.. مفيش فايدة.. 

علت ضحكات سراج مفسرا: معلشي، برضك هي اتعودت تبجى معاها، وخصوصي بعد چواز أختك الكبيرة واهي التانية خلاص فرحها جرب.. فالدنيا بتفضى عليها.. 

هتف جمال مؤكدا: والله قلت لها تعالي معايا، قالت لأ مش هينفع، أختك الصغيرة امتحانات آخر السنة داخلة.. وخلاص ظبطت أمورها هنا فالجامعة.. والصراحة عندها حق.. قلت أهو تخلص السنة دي.. ونشوف الدنيا هتظبط إزاي.. 

هتف سراج وهو ينهض مغادرا: طب اسيبك بقى في اللي انت فيه ده، واجول لك سلام.. أنا مسافر راچع الصعيد حالا.. يا دوب ميعاد الجطر.. 

هتف جمال في ضيق مصطنع: بقى كده! يعني كنت هنا طول الإجازة يا وغد! طب ما قلتش ليه بدل السلام الطياري ده!..

أقر سراج: معلش، حجك عليا .. تتعوض.. اهو وأنا بودي الحچ الدكتور بتاعه في القاهرة، هبقى اعدي عليك.. 

هتف جمال في قلق: هو الحج تعبان ولا ايه!.. 

أكد سراج في شجن: اه، شوية كده.. ما زيارات الدكاترة دي اللي خدت وجت الإجازة.. ياللاه.. اشوفك على خير يا باشا.. 

ألقى سراج التحية، معانقا صاحبه، قبل أن يهرول للخارج نحو محطة القطار، ليعاود إلى نجع الرسلانية.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

اندفع حبيب خلف سالم الذي كان يركض في ذعر صوب داره، حيث تجمهر الكثير من رجال النجع ونسائه، حاملين الطوب والحصى، ملقين إياه صوب باب دار نجية.. صارخين في ثورة: فارجي.. غوري من هنا يا نچسة.. 

وصل حبيب في اللحظة المناسبة، ليجد مدثر يقف في وجه الجميع، صارخا في عزم: مش نچية اللي تعمل كده! فوجوا يا خلج.. مترموش حد بالباطل.. 

صرخ رجل من الجمع في سخرية: بعد عن الباب يا مدثر، دي نجسة وملهاش مكان بيناتنا.. 

بينما هتف آخر: ويبعد ليه!.. مش بعيد يكون هو اللي عملها..

صرخ مدثر في ثورة عارمة: اخرس جطع لسانك!.. الست اللي چوه دي اشرف منك ومن ناسك كلهم.. 

هتفت امرأة في تهكم: أشرف منين! دي شايلة العار من ساسها لراسها.. ده باين الموضوع فيه إن بصحيح.. أصلك بدافع بجلب جوي!.. 

هم مدثر بالصراخ من جديد، إلا أن حبيب كان قد وصل بصحبة سالم، هاتفا في نبرة صارمة: ايه في!.. ليه اللمة الخيبانة دي جدام دار مرا وحدانية!.. 

هتف رجل من بين الجمع: كنك مش داري بالمصيبة اللي طبلت يا حبيب بيه! المرا الوحدانية دي حامل م الحرام.. 

هتف سالم في غضب عارم والدموع تترقرق بعينيه: اخرس جطع لسانك.. أمي متعملش كده.. 

ضم مدثر سالم رابتا على كتفه في حنو، بينما هتف حبيب في محاولة لضبط النفس وتهدئة الأمور قبل أن تتفاقم: مين اللي جال الكلام ده!.. هو رمي الناس بالباطل سهل كده!.. 

أكدت امرأة من بين الجمع: إحنا مبنتبلاش عليها يا حبيب بيه! اللي جالت الكلام ده نرچس الداية، اللي راحت لها لجل ما تسجطها.. 

ساد الصمت ولم يعقب أحد.. بينما سألت أنس الوجود مستفسرة، وهي تحتضن نجية بداخل الدار، والتي كانت منهارة من افتضاح سرها: هو ده حصل صحيح! انتي رحتى للداية اللي بيقولوا عليها دي!.. 

هزت نجية رأسها ايجابا، هامسة بصوت مبحوح النبرة من كثرة الصراخ والعويل: ايوه، حصل.. رحت لها جلت أهي تخلصني م اللي فبطني ده، ونجفل الموضوع على كده.. لكن جالت لي مبجاش ينفع.. منها لله.. فضحتني بدل ما تستر سري.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. 

ربتت أنس الوجود على ظهر نجية في تعاطف، وهي تضمها بين ذراعيها في حنو.. هامسة تطمئنها: متقلقيش.. حبيب بيه وصل بره.. واكيد هيلاقي لها حل.. ومحدش هيقدر يضرك طالما هو موجود.. 

وعلى ذكر أنس الوجود لحبيب، زعق هو في الجمع أمرا: وهو كل حد يجول له كلمتين على واحدة، نصدجه!.. 

هتف رجل من بين الجمع: يا حبيب بيه نرچس الداية هتتبلى عليها ليه!.. المرا اللي چوه دي مشيها بطال، ولازما ترحل من النچع، متبجاش بينا ولا بين حريمنا وعويلاتنا.. 

انفرج باب الدار وخرجت نجية صارخة في الجمع المتجمهر في قهر: حرام عليكم، أني بينكم هنا من يوم ما انولدت، وچوزي غايب عني له سنين، وعمر ما حد فيكم لمح طرف توبي، ولا شاف عليا حاچة عفشة، ويعلم ربنا إني عمري ما امشي فالحرام.. واللي فبطني ده من چوزي.. 

قاطعتها إحدى النساء ساخرة: چوزك!.  وده چالك ميتا، ومحدش لا دري ولا وعي له!.. چالك فالحلم!.. 

انفجر الجمع ضاحكا، لتصرخ نجية في محاولة لتبرئة ساحتها: چه ليلة واحدة، خد أمانة كان شايلها عندي لحد معرفة، ومشي عند الفچر.. وجالي متجوليش إني چيت لحد.. ويا ريتني جلت.. مكنش زماني موحولة في اللي أني فيه ده.. 

وصل الشيخ معتوق بصحبة سرور، ليهتف حبيب مطالبا: أحضرنا يا سيدنا الشيخ ف اللي بيچرا ده!.. 

هتف الشيخ معتوق في رزانة.. وهو يحاول التقاط أنفاسه من الهرولة برفقة سرور، على طول الطريق من داره حتى دار نجية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.. صدق الله العظيم.. 

هتف أحد الرجال: بس الخبر صح، وهي حبلى و.. 

هتف الشيخ معتوق مؤكدا في صرامة: من چوزها.. هي جالت من چوزها.. والولد للفراش.. يعني اللي فبطنها من چوزها.. 

هتف رجل بصوت جهوري: چوز مين يا سيدنا!.. ده لا شفناه داخل ولا خارچ عليها.. هنلبس الراچل عيل م الحرام!.. 

هتف الشيخ معتوق بالرجل في حزم: أخرس، لا بارك الله فيك.. أنت اللي بترمي محصنة بالباطل يا سفيه.. اتجي الله.. نچية الكل شاهد لها بالعفاف، وجالت چوزي كان موچود.. واللي فبطنها من صلبه، يبجى نجول آمين.. 

هتف أحد الرجال ذوي اللحى والجلابيب البيضاء القصيرة في ثورة: جالوا للحرامي احلف، جال چاني الفرچ.. دي مرا خاطية.. ولازما يتنفذ فيها حد الزانية، ولازما تترچم.. بلاش نچاسة يا راچل يا خرفان أنتِ.. 

هتف حبيب في ثورة، حين تطاول ذاك الرجل على شيخه: أخرس وإلزم أدبك.. حكم الشيخ معتوج ده حكم ربنا، ويتنفذ عليك وعلى أهلك كلهم يا عويل.. 

ثم اتجه حبيب صوب الشيخ معتوق، ملثما هامته، هامسا في حنو: امسحها فيا يا سيدنا.. 

وأمر سرور في هدوء: خد يا سرور الشيخ على داره، كتر خيره عمل اللي عليه.. بس واضح إن الدماغات اللي هنا، ميعدلهاش إلا حاچة واحدة.. 

اطاع سرور جاذبا الشيخ معتوق نحو درب الرحيل، بينما جذب مدثر سالم على جانب بعيد من الأحداث رغبة في إبعاده عن سماع ما قد يسوءه من كلام جارح يصف أمه.. 

بينما وقف حبيب أمام باب دار نجية، مخرجا سلاحه من جيب صديريته، ضاربا به على باطن كفه، صارخا في تحدي: طب أني بجى اللي هجف ع الباب، ووروني كيف واحد فيكم هيخطي عتبته ولا يرمي حچر.. على باب الغلبانة اللي چوه!.. 

ساد الصمت لبرهة، ولم يقدر مخلوق على مراجعة حبيب، ليظهر العمدة السيد أبو زكيبة، من بين الجمع المتجمهر، متسائلا في لامبالاة: ايه في!.. ايه اللي بيچرا هنا!.. 

هتف حبيب ساخرا: حمدالله بالسلامة يا عمدة، توك ما وعيت للي بيچرا!.. 

ازدرد أبو زكيبة ريقه، مؤكدا في نبرة مهتزة: ما لما الغفير جال لي چيت طوالي.. وأني عارف الجصة كلها.. 

ثم بدل نبرته بأخرى فيها من الخبث الكثير: بس يعني يا واد رسلان.. مش تتبين جبل ما تعمل فيها غضنفر!.. طب ايه جولك.. إن الخلج دي كلها عندها حج!.. 

خرجت نجية مندفعة من خلف باب دارها، ما أن وعت اسماعها كلام العمدة، صارخة في غضب هادر: عندهم حج كيف يا عمدة!.. أني چوزي كان.. 

قاطعها أبو زكيبة في صرامة: چوزك مات.. چوزك اللي چاية تتهميه.. وتشيله عيل مهواش من صلبه.. مات يا نچية.. 

صرخت نجية في صدمة: كدب، اللي بتجوله ده كدب.. ده كان هنا.. والله العظيم كان هنا.. 

أخرج العمدة ورقة رسمية من جيب جلبابه، مؤكدا في تشفي: اهااا.. وادي ورج الحكومة.. كدبي الحكومة بجى!.. الورج وصلني من كام شهر.. وأني اتلهيت ومجلتش.. چوزك مات هناك فالغربة.. 

جذب حبيب الورقة الرسمية من يد العمدة، تجري عيناه على سطورها في اضطراب، مؤكدة أن كل كلمة نطق بها العمدة صحيحة، أنهى حبيب القراءة رافعا ناظريه نحو نجية، فأدركت أن ما يدعيه العمدة صحيحا.. بل موثقا من قبل الحكومة.. ما دفعها لتصرخ صرخة جاءت من عمق القهر والوجع الكامن في صدرها، ضاربة وجهها بكفيها.. لتسقط غائبة عن الوعي.. لتصرخ أنس الوجود بدورها وهي تحاول أن تدركها، ليسقطا معا أرضا، وجسد نجية بين ذراعي أنس الوجود، بينما انتهز الرجل الملتحي ذا الجلباب الأبيض الفرصة، صارخا في عزم: الفاچرة، عليها من الله ما تستحق.. ارچموها وطبقوا شرع الله يا أحباب الله.. 

بدأ الجمع في التنفيذ بلا تعقل، فما كان من حبيب إلا الزود عن نجية وأنس الوجود.. واضعا جسده ليكون مرمى لأحجار وحصى الجمع الموتور.. محاولا أن يزود عنهما، ليظهر مدثر، مندفعا كحائط صد عن الجميع، ما أعطى الفرصة لحبيب ليرفع كفه مطلقا رصاصة بالهواء، لعلها تخيفهم قليلا، لكن أبدا.. لم يكن أحد رحيما.. مع كل هذا الكم من التحريض.. ولم يكف الجمع، رجالا ونساء.. عن إلقاء الحجارة.. بهذا القدر الوافر من الغل والضغينة، التي لا يعلم حبيب.. متى رسخت قواعدها في قلوب ناسه وعشيرته!..


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة