رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 27 - الجمعة 25/4/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السابع والعشرون
تم النشر الجمعة
25/4/2025
بعدا آخر..
الرسلانية ١٩٣٩..
كان فيضان النيل قد ولى منذ بعض الوقت، وتهيئ رحم الأرض لاستقبال بذور الزراعات، وسارت كارتة سعد رسلان بين غيطان أرضه الشاسعة التي تخطى اتساعها مدد الشوف بمراحل.. متنبها من على البعد لوجود وهدان الحراني، يتفقد أرضه بدوره.. أشار سعد لمصباح الذي كان يقود العربة، حتى يبطيء سرعتها قليلا، مناديا على وهدان، الذي ترك ما كان يشغله، متجها نحو سعد ملقيا التحية، ليعرض عليه سعد مرافقته.. صعد وهدان الكارتة جوار سعد، وبدأت من جديد في المسير، ليهتف سعد متأملا: ربك يعوضنا خير في زرعة السنة دي، الدنيا مش تمام بسبب الحرب..
أكد وهدان: صدجت، لا الزرعة عدلة ولا عارفين اصلا نتهنوا بها.. الاسعار كل ما دا ما هي فالطالع.. والناس بتجول بووه..
همس سعد متضرعا: ربك يعدي اللي چاي على خير.. بجولك يا وهدان، كيف بناتك صح!.. كانت توحيد جالت لي النوبة اللي فاتت إن بتك الكبيرة جال رايدة تچوز ولدها..
أكد وهدان على صحة الأخبار: ايوه، عزام ولدها الله أكبر في سن عيالنا مختار وفضل.. وملوش فالعلام، جالت تچوزه..
سأل سعد: وعينها على بت مين!
أجاب وهدان: على بت فتنة أختي.. سعادات بت أبو زكيبة..
هتف سعد: يعني زيتكم في دجيجكم، بس هي فتنة أختك هترضى، أصلك بتها متربية ع العز.. ابوها تاچر كبير ومرتاح.. لكن بتك ولدها آخرته شغال فالأرض مع أبوه!..
هز وهدان رأسه مؤكدا على صدق حديث سعد، مفسرا: ايوه كلامك صح!.. ما هو كله من أمهم شفاعات، ربنا يچحمها مطرح ما راحت، من يوم عملتها السودا وطفشنها م النچع، ومفيش جال لهم يا چواز إلا م الحرانية.. وكلهم رچالة على كد حالهم.. ده لولا وجفتي چنب كل واحد فيهم، وعطيت لكل بت منهم فدان أرض يزرعه چوزها لچل ما تتحوج لحد.. لكان حالهم ميسرش.. بس الواد عزام چدع.. واجف فضهر أبوه.. واهو كام جيراط من تعبهم.. وجيراط على جيراط .. يبجوا ملاك أرض كد الدنيا..
هتف سعد مؤكدا: ايوه صح.. كلنا بدأنا كده.. ربنا يوسع ع الكل..
وبرضك فتنة بتعز بناتي.. ما هي اللي شالتهم يوم ما كنت فالتوهة وأمهم ولا هي هنا.. ولما خفيت، هي برضك اللي وعيت لهم .. هي إن كان بناتي ولا عيالهم.. رباية يد فتنة.. ربنا يبارك لها..
همس سعد: بس أبو زكيبة راضي ع الچوازة على كده! مجالش يچوزها تاچر ربنا فاتحها عليه!..
همس وهدان مفسرا: أبو زكيبة طوع فتنة وماشي بشورتها... جالت زين.. تمشي المركب، جالت لاه.. توجف المراكب السايرة..
ابتسم سعد: ربنا يتمم لهم على خير .. ويكتر الأفراح..
همس وهدان مؤمنا: آمين..
سأل سعد متعجبا: الواد مختار بجاله شوية منزلش اچازة، والله اتوحشناه..
أكد وهدان: تعالى شوف حال توحيد، هتمسك السما بيدها، تجول لو تعرف كده ما دخلته الحربية وخلته چارها..
اتسعت ابتسامة سعد قائلا: اه عاد ده كلام الحريم اللي مچيبش همه، تجعده چارها كيف يعني!.. ما هو الشباب كلهم على دا الحال.. مش بيبعدوا لجل ما يشوفوا حالهم ودنيتهم.. والله فضل الله اهااا على يدك، بنجعد بالشهر والاتنين ما بنشوفه، وكل نوبة حچة شكل.. وأني لما ألاجى أمه كده.. باخدها وانزل مصر.. اهو تزور أخوها وتشوف ولدها ونرچعوا.. هو بس مختار الليلة واعرة معاه لأنه مش تبع حاله، ده ماشي بالأوامر العسكرية .. روح يروح.. تعالى .. ياچي.. مش ملك روحه برضك.. ربنا يفرحنا بهم ومنشفش فيهم شر أبدا..
ساد الصمت، ليرتفع فجأة صوت أذان الظهر، ليهتف سعد في استحسان: الله أكبر.. الله أعظم.. ده صوت معتوج.. واد الشيخ رضا..
أكد وهدان في استحسان بدوره: ايوه، الله أكبر عليه، صوته كنه م الچنة.. ربنا يبارك له فيه.. ويعوضه فيه خير..
همس سعد: يا رب..
ثم أشار لمصباح بالتوقف، مشيرا لوهدان بالترجل عن العربة: طب ياللاه بينا صلاة الضهر وچبت..
سارا جنب إلى جنب في اتجاه المسجد، الذي كان يصدح من على مآذنته القصيرة نسبيا، صوت معتوق الشجي، داعيا للصلاة ومرققا للقلوب..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٣٩..
سارت إلهام في رقة نحو بوابة القصر الحديدية التي كان يقف أمامها الضابط الانجليزي وجنوده، مطالبا أباها بتفتيش القصر لاشتباهه في وجود بعض المجرمين المنفذين لعملية تفجير الكامب الانجليزي وأهم سكناته، بالقرب من قصر رستم باشا.. هاتفة في نبرة مذعورة، وبفرنسية مضطربة: ما الذي يحدث هنا!.. هل هناك من خطب ما!.
أكد رستم في محبة: متخافيش يا إلهام، محصلش حاجة، حضرة الضابط بيقول أن ممكن يكون في أولاد من اللي فجروا الكامب اتسللوا للقصر، وأنا بقول له مش ممكن..
أكدت إلهام في رقة: طبعا مش ممكن.. أنا في الجنينة طول الوقت.. ومشفتش حد أو حتى حسيت بحاجة غريبة.. اعتقد حضرة الظابط محتاج يفكر الولاد دول ممكن يستخبوا فين! لأن مش معقول يفكروا إنهم يستخبوا هنا.. مش معقول..
هتف رستم مؤيدا فكر ابنته: حقيقي.. القصر عليه حراسة كويسة، ومعتقدش إنهم بالغباء ده عشان يقدموا على الدخول إذا قدروا يدخلوا من أصله..
اقتنع الضابط الانجليزي وهو يلقي نظرة خاطفة على الوضع العام للقصر، مادا بصره نحو الحديقة التي كان يأتيه منها صوت الجرامفون الذي يبث الألحان الفرنسية، متيقنا أن الوضع العام، الذي يشمله وافر الهدوء والسكينة.. لا يدعو للشك في إمكانية تواجد هؤلاء المارقين بالداخل.. ما دفعه ليهز رأسه في اقتناع، هاتفا وهو يهم بالرحيل: حسنا، لكن إذا كان هناك أي معلومة عن هؤلاء المجرمين، أرجو تبليغها لنا فورا..
أكد رستم في هدوء: طبعا.. فالهدف في الأساس.. الأمان..
رحل الضابط الانجليزي وعساكره، ليبتسم رستم في اتجاه ابنته إلهام، هاتفا في مودة: مكنتش أعرف إنك مقنعة كده!.. شدي حيلك عشان تبقي نائبة في البرلمان.. وتنافسي عمك سعد رسلان..
ابتسمت إلهام هاتفة: لا، أنا هسيب المهمة دي لبهجت، اللي طول النهار مش بيسيب الكتب من أيده.. والأرقام كل حياته..
قهقه رستم مؤكدا: بهجت اخوكي بانكير شاطر.. والبورصة لعبته.. هو له في الأرقام.. إنتي بقى عايزة تدخلي مدرسة ايه!..
أكدت إلهام في ثقة: مدرسة الآداب.. لدراسة الأدب الفرنسي..
هز رستم رأسه متفهما، ملثما جبين ابنته في محبة، قبل أن يتركها متوجها لمكتبه لمتابعة شؤونه..
تنفست إلهام الصعداء وهي تعود للحجرة التي تركت فضل وزميله أمير بها، بعد أن حملت معها ما قد يلزمهما في خلال فترة بقاءهما التي لا تعرف كم قد تطول..
دفعت باب الحجرة في حذر، بعد أن تأكدت من خلو الحديقة من الخدم أو أي مخلوق يمكنه متابعتها..
انتفض فضل من موضعه فزعا، وكذا حاول أمير، لكنه عاد ليسقط أرضا متألما ما أن ضغط على قدمه حيث موضع جرحه النازف..
هتفت إلهام لتطمئنهما: متخافوش، ده أنا..
همس أمير ساخرا: ده المفروض نخاف أكتر..
اقتربت إلهام حاملة ما امكنها تمريره من خلف ظهر الخدم دون أن تثير الشكوك، هاتفة وهي تضع الاغراض أرضا قبالة كل من فضل وأمير: جبت لكم حاجات ممكن تحتاجوها.. شاش وقطن وصبغة يود عشان الجرح.. وشوية معلبات عشان لو جعانين.. ما أنا مش عارفة انتوا قاعدين لحد امتى!..
همس فضل ممتنا: متشكرين أوي يا إلهام.. إحنا فعلا محتاجين الحاجات دي.. و..
قاطعه أمير متسائلا في ريبة: الغلبة اللي برا خلصت على ايه!..
أجابت إلهام: كانوا عايزين يدخلوا يفتشوا القصر.. لكن أنا وباباه اقنعناهم إن مش ممكن تكونوا هنا..
همس أمير لفضل الله: دي طلعت ذكية وجدعة.. والله تنفع تبقى معانا..
تطلع له فضل الله مستنكرا، لتستطرد إلهام في رقة: أنا كنت مبسوطة أوي.. حسيت نفسي في رواية من روايات الثورة الفرنسية وأنا بقى بساعد الثوار..
كانت إلهام قد أخذتها الجلالة، فأخذت تسرد بالفرنسية مقطع من رواية قصة مدينتين.. والتي تتحدث عن الثورة الفرنسية وقصة الحب التي دارت بين أثنين من الأبطال..
ما دفع أمير ليميل نحو فضل مجددا.. هامسا بنبرة ساخرة: لا خلاص، غيرت رأيي، تشتغل معانا ايه، بت خالك طلعت ملبوسة!..
أمسك فضل الله ضحكاته، وإلهام تتنهد في سعادة بعد أن أنهت المقطع بنجاح، وكأنها في انتظار تصفيق الجماهير.. والعجيب أن أمير صفق في صوت خفيض، هاتفا في استحسان: برافو..
ابتسمت إلهام في سعادة لاستحسانه، لكن سرعان ما عاد لطبيعته المتهكمة، وقد استطرد ساخرا، مشيرا نحو باب الحجرة: ياللاه طرقينا، وورينا عرض كتافك.. عشان في حاجات البنات الصغيرين اللي زيك ميصحش يشوفوها..
هتفت إلهام معترضة: أنا مش صغيرة.. أنا..
مد أمير قدمه أمامها، وبدأ في فك الرباط المخضب بالدماء قبالتها، ما دفعها لتبتلع اعتراضاتها، مغادرة الحجرة في هرولة.. فما عاد لها القدرة على مطالعة منظر الدماء..
ما دفع أمير للضحك.. وفضل الله يعاتبه وهو يساعده في تطهير جرحه، الذي كان سطحيا لحد كبير، فلم تخترق الرصاصة قدم أمير، بل إصابته بخدش مسببة جرح نازف ليس أكثر: حرام عليك، دي لولاها مكناش عارفين هيحصل فينا ايه دلوقت!..
هتف أمير، متجاهلا حديث فضل الله، متسائلا في تعجب: هو أنت فعلا ابن عمتها، أبوها الباشا يبقى خالك!..
هز فضل الله رأسه مؤكدا، وهو يلف الشاش على جرح أمير في إحكام، دون أن ينطق بحرف، ليستطرد أمير مندهشا: وأكيد أنت م الفرع الفقير في العيلة، وعشان كده..
قاطع فضل استطراد أمير في حكايته الوهمية، باسما: أنا ابن باشا من أعيان الصعيد.. أهلى كلهم بشوات وبهوات.. مش الحدوتة اللي بتحكيها دي خالص.. ولا عندي حقد طبقي، ولا أي حقد تجاه أي حاجة فبالك..
هتف أمير مستغربا: أول مرة أعرف..
أجاب فضل باسما: ومن امتى حد فينا يعرف حاجة عن التاني في المجموعات بتاعتنا، ما هو دي حاجة متفق عليها عشان لو حد وقع ميبقاش عارف حاجة عن الباقيين.. ما أنا كمان معرفش حاجة عنك!..
همس أمير متعجبا: كل أهلك بشوات! طب ليه!..
ابتسم فضل الله متسائلا: هو أنا مش م البلد دي ولا ايه! وهي الحرية مش هدف يسعى له كل مصري مهما كان هو مين!. ولا لازم ابقى فقير ومعدم وناقم ع الأوضاع عشان افكر إني اثور على الظلم وابحث عن تطبيق العدالة للمظلومين.. ونيل الحرية لكل صاحب رأي وكلمة.. وحياة أفضل لكل إنسان..
ربت أمير على كتف فضل في إكبار.. ليهمس فضل متسائلا بدوره: وأنت بقى تبقى مين!..
انتهى فضل من تضميد الجرح، فتمدد أمير على بساط متهالك كان مخزنا بأحد الأركان.. متطلعا للسقف في تيه، هامسا مجيبا فضل الله: هتعرف أكيد، بس كل شيء وله أوانه..
مد فضل كفه بأحد المعلبات لأمير، لكنه رفضها في صمت، مغمضا عينيه .. محاولا أن ينل قسطا من الراحة قبل أن يقررا مغادرة القصر .. بدأ فضل يدندن بأغنيته المفضلة لسيد درويش.. اهو ده اللي صار وادي اللي كان.. ملكش حق.. ملكش حق تلوم عليا..
ما جعل أمير يفتح عينيه مجددا، متطلعا نحو فضل بنظرة جانبية لم يلحظها الأخير، متعجبا من ذاك الشاب الحالم، الذي يتمنى أن يبني على كتفيه أسس المدينة الفاضلة.. فهل ينجح!..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٤١..
تطلع نعيم بنصف عين إلى تلك التي كانت تقف أمام نصف مرآة مغبرة، تعكس صورة مشوشة عن محياها الصبوح، تعدل من هندامها وتضفر جدائل شعرها الحريري .. متسائلا في تهكم: على فين العزم!..
أكدت استير في لا مبالاة: هيكون على فين، رايحة أقعد شوية مع مديحة!..
هتف نعيم مستنكرا: مديحة بت الشيخ رضا!.. طب قولي رايحة عند صفية بت سعد رسلان ولا سعادات بت أبو زكيبة، ولا نجاة بت العمدة سلمان النجدي!.. رايحة لأفقر واحدة فيهم وتعمليها صحبتك!.. وش فقر صحيح طالعة لأمك..
هتفت رحيل من الداخل: ومالها أمها يا نعيم!.. وهي أمها لقيت العز فين عشان متبقاش وش فقر، معاك!.. يا راجل ده أنت الفقر نفسه..
هتف نعيم لابنته لكي يصرفها عن سماع وصلة أمها المعتادة: طب روحي ومتتأخريش..
خرجت استير، ليهتف نعيم في حنق: يا ولية مش هتبطلي كلامك ده! بدل ما قاعدة تبكتي فيا، وعي بتك وخليها تعرف مصلحتها فين!
هتفت رحيل مؤكدة: بتي عارفة مصلحتها كويس..
ضحك نعيم ساخرا: آه، مصلحتها مع ايزاك ابن أختك اللي بقاله سنتين متكلم عليها ولا دخل علينا بفص برتقانة حتى!..
زعقت رحيل معترضة: ماله ايزاك.. رايد بتك.. واهو شغال وبيعمل اللي عليه عشان يتجوزها آخر السنة دي..
تطلع نعيم صوب زوجته وهتف في حنق: وليه نعلق روحنا بواحد محلتوش!.. وبعدين هو مش كفاية علينا من الهم وقية!..
تساءلت رحيل عابسة: قصدك ايه!.
هتف نعيم مجيبا: هو مش بنيامين ابن أختك التانية اتجوز سارة وطلع بها على إسكندرية.. كفاية ع العيلة الكريمة بت واحدة من بناتك..
تعجبت رحيل: وهو ماله بنيامين بقى! ما هو زي الفل ومعيش سارة كويس، ده غير إن هو اللي جاب لسمعان ابنك وظيفة معتبرة في محلج القطن اللي فالمحلة.. عايز ايه تاني!..
هتف نعيم في نبرة تقطر حقدا: عايز اللي اكتر من كده بكتير، ده كله ولا يسوى قصاد اللي استاهله، وبنتك زي القمر متميليش بختها وخليها تشوف حالها.. والافندية اهم قصاد عينيها.. دي لو طاوعتني ونفذت اللي فبالي.. هتبقى ست النجع ده كله..
ضربت رحيل صدرها بباطن كفها في صدمة، ما أن استشعرت أنها أدركت إلى أين ينحى فكر زوجها المجنون، هاتفة في محاولة لردعه: أنا قلتها ولسه بقولها، أنت مش هتتهد يا نعيم إلا لما ننطرد م النجع ده بسبب أفكارك السودا..
اشاح نعيم ناظريه عن محيا زوجته الغضوب، مشوحا بكفه في حنق، فما عاد يكترث لاعتراضاتها على أفعاله.. أو حتى رفضها لأفكاره.. لاعنا حظه الذي أوقعه في الزواج بهذه المرأة التي لم تقدر يوما ما يحمله رأسه الألمعي من أفكار ثمينة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٤٢..
تمت المهمة بنجاح، وهذه المرة لم يكن الهدف سهلا، ولا التضحيات بخسة الثمن، فقد راح شهيدان من اصدقائهما في هذه المهمة الوعرة على طول خط قناة السويس، حيث يتمركز الجيش الانجليزي.. وعلى الرغم من النجاح الغير مسبوق في تنفيذ الخطة كما وضعها أمير.. وتحقيق المطلوب بدقة كبيرة.. إلا أن معظم القائمين عليها ما عاد باستطاعتهم الهرب من الاسماعيلية، حتى لا يقعوا فريسة سهلة في أيدي الإنجليز الذين طاش صوابهم وما عاد يهمهم في المقام الأول إلا القبض على الجناة حتى تبرد نارهم، ويستطيع قادتهم الخروج أمام جنودهم بلا حرج.. وإنقاذ ماء وجوههم أمام حكومتهم..
تم القبض على بعض الزملاء في المجموعة.. هكذا وصلت الأخبار لأمير.. الذي أبلغ فضل الله بضرورة العمل على الفرار من الاسماعيلية بأي طريقة، حتى ولو تطلب الأمر العوم حتى الضفة الآخرى للتخلص من حصار الإنجليز للمدينة في محاولة للسيطرة على مداخلها ومخارجها.. فلا يستطيع مخلوق الهرب.. بل البقاء موضعه حتى يتمكنوا من الوصول لبغيتهم واسقاطهم في المصيدة..
أقر أمير في هدوء ظاهري: الوضع مش ولابد يا فضل، ووجدنا مع بعض مش في صالحنا، لازم نتفرق.. وكل واحد يحاول يتصرف عشان يخرج م المصيدة دي..
أكد فضل بعقلانية: عندك حق.. الحركة الفردية أسهل.. واهو لو واحد وقع.. التاني موجود ويسد..
هز أمير رأسه موافقه الرأي.. ما دفع كلاهما لوداع بعضهما في كلمات متثاقلة، ليهتف أمير وهو يولي فضل ظهره: أشوفك على خير، ولو ربنا كتب لك النجاة، متقعدش فالقاهرة، روح اتحامى بأهلك ف الصعيد.. هناك الدنيا أمان أكتر.. سلام..
هتف فضل وغصة تحتل حلقه، فهذه هي المرة الأولى التي ينفصل فيها عن أمير: سلام.. هنتقابل تاني، صح!..
هتف أمير، وهو يغيب عن ناظري فضل: لو انكتب لنا عمر، أكيد مسير الحي هيتلاقى..
ولوح بكفه، وهو موليا ظهره سائرا بطريقه.. دون أن يستدير لمواجهته..
كان على فضل أن يفكر كيف يمكنه أن ينجو ويكسر ذاك الحصار ولا يقع في الكمين المعد للمجموعة كما وقع بعض من زملائه.. ولم يجد من فكرة سوى اللجوء لابن عمته مختار.. كان يعلم أن مختار يخدم هنا ضمن كتيبة الجيش المصري المخصصة لحراسة وتأمين الجيش الانجليزي.. فلم يكن هناك من وسيلة أكثر أمنا من الوصول لمختار لتأمين خروجه من الاسماعيلية.. كان يعلم أن هذه مخاطرة كبيرة، لكن عليه الوصول لمقر مختار حتى يستطيع التواصل معه..
قام بكل الحيل التي تعلمها من أمير.. حتى استطاع استدراج مختار لمقابلته.. والذي صرخ في محبة حين طالعه محيا ابن خاله: فضل، أنت بتعمل ايه هنا!.. أنت تمام!..
أكد فضل في صراحة: لا مش تمام يا مختار..
تنحى به مختار جانبا، ليسمع كل ما أدلى به فضل في سلاسة، حتى انتهى.. لترتسم كل معالم الصدمة والذهول على وجه مختار، هامسا في اضطراب: أنت يا فضل م اللي فجروا السكنات من كام يوم!.. انت عارف أنت حطيت نفسك ف ايه!.. الانجليز قالبين الدنيا ع اللي عملها ومش هيسيبوهم.. دول مسكوا منهم اتنين لحد دلوقت.. عارف دول هيتعمل فيهم ايه يا فضل!..
لم ينبس فضل بحرف واحد، بينما بدأ مختار في الحركة ذهايا وإيابا في توتر، هامسا في تساؤل: خالي سعد يعرف الليلة اللي انت واحل نفسك فيها دي!..
هتف فضل نافيا: لا طبعا يا مختار، ومش لازم يعرف..
جز مختار على أسنانه في حنق قائلا: مش لازم يعرف ايه بس! ده لازما يعرف عشان محدش هيقدر يلحقك إلا هو..
هتف فضل مؤكدا: اضمن لي انت بس الخروج م الاسماعيلية، وأنا هتصرف بعد كده..
هتف مختار معترضا: مفيش بعد كده، أنا هشوف لك صرفة للخروج، وربنا يسترها معانا، لكن أول ما تخرج، لازم تروح ع الرسلانية.. عرف خالي سعد بكل حاجة، وهو هيتصرف ويخبيك بمعرفته، لأني بقولهالك يا فضل.. هيوصلوا لك.. وأول مكان هيروحوله هو النجع.. ولو خالي مكنش عارف بالليلة من أولها.. هتبقى أنت الخسران..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن يهز فضل رأسه مقتنعا بما سمع، فعلى ما يبدو أن مختار له نفس رأي أمير.. وعلى ما يبدو.. ذاك هو الحل الوحيد المتاح.. إذا ما كتب له الخروج من هنا سالما..
هتف مختار مطمئنا: هتخرج منها إن شاء الله، أنا هظبط الأمور وهبلغك.. في حاجات خارجة من الكامب كمان يومين ومطلوب منا تأمينها.. لو خرجت ضمن حملة التأمين.. هبلغك عشان نشوف صرفة.. فخليك على استعداد.. تمام!..
أومأ فضل برأسه، فربت مختار على كتفه في محاولة لطمأنته، هامسا: متقلقش مش هسيبك ولو فيها ايه.. هخرجك منها بالسلامة.. اشوف وشك على خير..
ربت فضل على كتف مختار في امتنان.. قبل أن يغادره مسرعا نحو مقر عمله.. في انتظار الإشارة للخروج من الاسماعيلية بفارغ الصبر.. متسائلا في نفسه عن مصير أمير في هذه اللحظة.. وهل وجد مخرجا مثله.. أم ما زال عالقا!..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٤٢..
أطلقت توحيد كما العادة وابل من الزغاريد المتعاقبة، حتى أن ضحكات أنس الوجود تعالت، هاتفة في سعادة: مفيش فايدة فيك توحيد.. لازم القريب والبعيد يعرف!.. الحمد لله الولاد نجحوا.. مبارك..
أكدت توحيد في فخر: لاه، هنفرحوا سوكيتي، لازما نزغرد والحاضر يعلم الغايب.. سميح نچح، هي دي حاچة صغيرة كده تعدي عادي!..
قهقه سعد مؤكدا: اهي ف دي توحيد عندها حج.. هو حد كان فباله إن يعدي م البكالوريا من أساسه.. بس والله طلعت نبيه يا واد..
هتف سميح مشاغبا: أنا سميح مش نبيه يا خالي.. ايدك بقى على حلاوة النجاح..
هتفت توحيد معترضة: أجول بووه منك ومن عمايلك يادي الواد.. اهااااا واعيين.. اهو أني فالغلب ده على طول وياه.. ما هي بت خالك، جاعدة ولا سمعنا حسها.. واهي ناچحة وفالحة وزي الفل..
ابتسمت صفية هاتفة: تسلمي يا عمتي.. معلش خليه يدلع عليكم..
هتف سميح مؤيدا: شايفة كلام الناس الكُمل، والله صفية أجدع بت خال..
اتسعت ابتسامة صفية ولم تعقب، بينما هتف وهدان متسائلا: كفاياك غلبة يا واد، وجولنا ناوي على مدرسة إيه! الحربية كيف أخوك الكبير.. ولا ايه!..
نفى سميح: لا حربية ايه!.. كفاية عليكم ظابط واحد فالعيلة دي..
هتفت توحيد مؤيدة: ايوه، بكفاياني أني.. هو مختار حد بيلحج يشوفه ولا يتونس به، اتوحشته.. ربنا يچيبه من غير شر..
تخضب وجه صفية باللون الأحمر خجلا على ذكر مختار، إنها تشتاقه بحق، مر فترة ليست بالقليلة منذ آخر إجازة له بالنجع.. لكم تفتقد محياه الرجولي!.. وذاك الشعور الطاغي بالأمان في صحبته!..
تنبهت صفية من خواطرها، على صرخة عمتها توحيد كالعادة، سواء في حال الفرح أو الحزن، هاتفة في سعادة: والنبي يا سميح.. راح تبجى مهندس!..
هتف سميح ساخرا كعادته: ايوه يا أم مختار، هدخل مدرسة الهندسة، هبجى ايه يعني!.. باشحكيم!..
هتفت توحيد ساخرة: خلاص يا باشمهندس، بوووه من طولة لسانك!..
هتف سعد متسائلا: وإنتي يا صفية.. ناوية ولا خلاص كده.. نجعد وكفيانا!..
همست صفية في حياء: كفاية يا بابا..
همست أنس الوجود: متأكدة صفية!.. لا رغبة في دخول جامعة فؤاد الأول.. هناك مكان للفتيات في بعض التخصصات..
أكدت صفية: لا خلاص.. مفيش رغبة إني أبعد عنكم..
هتفت توحيد في نبرة لها مغزى: عقبال فرحة العريس يا صفية..
ابتسمت صفية ولم تعقب.. فقد زادت خفقات قلبها فرحا بما تنبهت أن عمتها ترمي إليه.. هل اطلعها مختار على رغبته في الاقتران بها!.. ربما..
هتف وهدان باسما: ربنا يكتر الأفراح.. خلاص يا سعد باشا، هتروح معاي فرح محروس واد أبو زكيبة.. ونچاة بت العمدة سلمان النجدي.. فتنة هتجوم الدنيا لو مشرفتوناش.. وسلمان راخر ياخد على خاطره..
أكد سعد: لاه نروحوا.. يعني بت عمدتنا هياخدها واد أختك يا وهدان ومنروحش!.. عيبة برضك.. ربنا يتمم بخير..
ما أن أتم سعد كلماته، حتى ظهر فضل الله على باب السراي الداخلية.. تطلع نحوه الجميع في دهشة ممزوجة بالسعادة لمرآه.. متوقعين أنه جاء ليفرح بنتيجة سميح وأخته صفية.. لكنه ما كان على طبيعته.. أجاب بعض الاسئلة في تيه.. واستأذن في الصعود لحجرته، فقد كان مرهقا من السفر الطويل..
خلت السراي من الضيوف بعد احتفالهم بنجاح سميح.. لتكون تلك الطرقات على باب حجرته هي كل ما ينتظر اللحظة.. فقد كان يدرك بحدسه الداخلي أن سعد أبيه يدرك أنه في حاجته.. انفرج الباب.. وظهر سعد بكل هيبته وهيلمانه على عتبات الباب .. نظر صوب فضل الله لبرهة .. قبل أن يدخل لقلب الغرفة مغلقا بابها خلفه.. متسائلا بلا مواربة: ايه في يا فضل!.. مچيتك النوبة دي مش مريحاني!.. ايه في يا ولدي!..
لم يكذب فضل خبرا.. اتبع نصيحة أمير ومختار.. وقص كل حكايته على سعد الذي استمع في صمت راقِ.. حتى إذا ما انتهى فضل من سرده لكل الوقائع التي عاشها.. حتى أمره سعد في حزم: هات شنطة هدومك وجوم معاي..
سأل فضل في اضطراب: على فين!..
أكد سعد في صرامة: هتعرف دلوجت.. خد كل اللي يلزمك وجوم.. هِم معاي..
انتفض فضل منفذا.. وتبع سعد لخارج الغرفة ومنه لخارج السراي، حتى إذا ما وصل لحجرة مصباح الذي كان قد راح في سبات عميق، طرق بابها برأس عصاه الابنوسية.. لينفرج الباب عن محيا مصباح المشعث، والذي انتفض ما أن وعى لوجود سعد بباب حجرته المتواضعة، هاتفا في لهفة: خير يا سعد باشا!.. يا رب خير..
سأله سعد مستفسرا: معلوم تعرف العمدة عدنان الحفناوي!..
هز مصباح رأسه مؤكدا: ايوه يا سعد باشا، عدنان الحفناوي عمدة عرابة أبو حفني.. خير.. ماله ده يا سعد باشا.. ارمح أچيبه لچنابك!..
هتف سعد في ضيق: لاه، هتاخد فضل ف يدك.. وتسلمه ليده.. وتجوله.. سعد رسلان بيجولك.. الأمانة واچبة لحد ما ربنا يئذن..
صمت مصباح فلم يكن يدرك ما يحدث، وخاصة حين وقع ناظره على فضل الذي كان يقف ساهما ولم ينطق حرفا.. ما دفع سعد ليهتف متسائلا في نفاذ صبر: وعيت لحديتي!..
أكد مصباح في عجالة: معلوم يا باشا، وعيت له.. وهيتنفذ بالحرف..
همس سعد: دجيحة وتكون جدامي، واللي حصل ده محدش يدرى به، ولا مخلوج يوعى إن فضل كان هنا فالنچع يا مصباح..
أكد مصباح متفهما: برجبتي يا باشا.. ولا حد شاف فضل بيه ولا وعيه.. ولا رچله عتبت السرايا من شهور..
ربت سعد على كتف مصباح، أمرا في هوادة: طب هِم.. عشان تروحوا فسترة الليل.. وترچع جبل ما حد يوعي لغيبتك يا مصباح..
دفع مصباح قدميه داخل خفه مهرولا، مغلقا باب حجرته خلفه، مندفعا بصحبة فضل إلى الكارتة.. متخذا الدرب صوب عرابة أبو حفني.. ليكون أمانة عمدتها .. عدنان الحفناوي.. حتى إشعار آخر..
❈-❈-❈
الرسلانية.. ١٩٩١..
ما أن دخلت أنس الوجود السراي نحو غرفتها، حتى غرقت في سبات عميق.. بعد تلك الليلة التي قضتها بالمشفى بلا راحة.. وما أن استيقظت حتى قررت أن تنزل من أجل الذهاب لزيارة نجية.. لكنها تذكرت أن موعد الزيارة لم يحن بعد.. لذا غيرت وجهتها نحو غرفة منيرة.. طرقت بابها مندفعة للداخل.. متجهة صوب منيرة التي كانت تقف في نافذة حجرتها هائمة، حتى أنها لم تسمع طرقات الباب، وانتفضت ما أن وعت بوجود أنس، هاتفة في لوم: حرام عليكي يا أنس، رچفتيني، انتوا چيتوا ميتا!..
هتفت أنس في تعجب: جينا من كام ساعة..
نفت منيرة: معلش.. موعيتش لوصولكم.. نچية عاملة ايه!..
تنهدت أنس في حسرة: مفيش جديد.. الصدمة مخلياها كأنها نايمة.. لكنها عايزة تهرب من مواجهة الدنيا.. بعد اللي حصلها ده..
هزت منيرة رأسها متفهمة: مفيش اصعب م الظلم ولا أمر منه، أنا اتظلمت ودجت مراره.. وكلام الناس بيحرج صبرك .. ومهما حاولتي تدافعي عن نفسك.. محدش هيصدج.. لحد ما تشكي إنتي فنفسك.. وچع ما حد يجدر عليه.. كيف تبجي مظلومة.. وعايشة بجهرة إنك تثبتي إنك مظلومة.. وكل الناس بيشاورو عليكي أو يبصو لك.. كأنك إنتي المتهمة.. مش الضحية..
دمعت عينا أنس الوجود، ولم تنطق حرفا.. فما الذي يمكن أن يقال.. لا كلمات تطيب جرح.. هي فقط مسكن.. استطردت منيرة قائلة في نبرة متأثرة: أيام ما حصل موضوعي مع عزت.. وچه جدام السرايا.. وطلجني جدام النچع كله.. شفت الناس كلها بتعريني بنظراتها.. كان نفسي أصرخ فيهم واجولهم أنا معملتش حاچة عفشة.. ده أني كنت بحبه أكتر من روحي.. لكن نظراتهم كلها كانت اتهام.. بتسأل سؤال واحد بس.. يعني هو هيطلجك ليه!.. ما هو يمكن شاف عليكي حاچة!.. أصلك هيسيبك جبل الفرح بكام يوم ليه!.. كل الاتهام بجي ليكي وهو ولا حد لامه ع اللي عمله.. وكأن الرچالة مبيغلطوش.. ودايما الغلط محطوط على كتاف الست.. وهي بس اللي بتدفع التمن..
هتفت أنس في نبرة تحمل حنقا واضحا: ايوه.. دايما الست هي الفاعل والمفعول به.. مع إنه لا يجوز..ما هي يا إما فاعل.. يا إما مفعول به.. لكن في حكم العرف.. كل شيء جايز طالما الست هي اللي هتشيل الذنب..
هزت منيرة رأسها في إيجاب، مستكملة حديثها: أنا حاسة بنچية.. هي بتهرب.. بس مش عشان هي چبانة.. لاه.. عشان عارفة إن محدش هينصفها.. لأن محدش هيصدجها.. هتفضل في عيون الكل خاطية.. وحليني بجى لو عرفت تثبت العكس.. هتكون عاشت وماتت ف اليوم مليون مرة.. ده لو سابوها ترچع على بيتها م الأساس..
ساد الصمت.. وغامت ملامح منيرة الصبوح، وهي تتطلع من النافذة نحو موضع ما خارج بوابة السراي.. وكأنها استعادت كل الوجائع التي اصابتها ساعة أن وقف عزت هناك.. ملقيا يمين الطلاق في بجاحة، ذابحا إياها من الشريان للشريان في دم بارد..
كان على أنس الوجود أن تخرج منيرة من حالة التيه والوجع التي سقطت بها من أثر استرجاع كل تلك الأحداث الدامية.. فهتفت ما تنبهت للأطفال المكحلي العيون الذين يلهون خارج سور السراي.. فسألت منيرة في نبرة فضولية: هو في حد بيعرف يحط كحل.. أنا نفسي اجربه..
ابتسمت منيرة مؤكدة: ستي صفية.. عندها مكحلة ومرود.. وتلاجيها كحلت نفسها.. ده أنا هربانة منها.. عشان متكحلنيش..
قهقهت أنس الوجود هاتفة: طب تعالي معايا.. نفسي أحط.. أشوف شكلي عامل إزاي!..
تعجبت منيرة: إنتي عمرك ما اتكحلتي!..
نفت أنس الوجود: لا.. عمري.. بخاف.. بس تعالي شجعيني.. ياللاه..
وافقتها منيرة.. ونزلا الدرج في اتجاه حجرة الجدة صفية، التي ما أن وعت لوجودهما حتى تعجبت في تساؤل: خير يا بنات!..
أكدت منيرة باسمة: أني چاية اسلم نفسي لجضاي، عشان تحكليني يا ستي.. وأنس كمان نفسها تچرب.. أصلك عمرها ما اتكحلت..
هزت صفية رأسها في تفهم وعلى شفتيها ابتسامة رضا.. أمرة في محبة: هاتي المكحلة النحاس من عندك يا منيرة وتعالوا..
احضرت منيرة المكحلة النحاسية من فوق طاولة الزينة بأحد أركان الحجرة، سلمتها ليد صفية.. التي أدارت رأسها النحاسي المزخرف في تهاريج جميلة.. وما أن أخرجت المرود النحاسي من قلب المكحلة حتى بدأت في إدخاله وإخراجه بها عدة مرات متعاقبة، واشارت لهن بالاقتراب.. فدفعت أنس منيرة لتكون الأولى.. انحنت منيرة وبدأت صفية في رسم الكحل بعينيها.. وما أن انتهت .. حتى استدارت لمواجهة أنس التي شهقت في إعجاب، مؤكدة: ده حلو أوي في عينك يا منيرة.. حطيه على طول..
أكدت منيرة باسمة: ما هو عشان حلو مينفعش يتحط على طول يا أنس..
لم تعي أنس مقصد منيرة من كلماتها.. بل اقتربت ما أن أشارت لها صفية.. لتنحني جالسة بالقرب من قدميها.. لتبدأ صفية في رسم عينيها بدورها.. وما أن انتهت.. حتى هتفت صفية في إعجاب: سبحان من أبدع وصور..
تطلعت منيرة نحو عينى أنس شاهقة في إعجاب: الله أكبر.. ايه الچمال ده يا أنس.. إنتي عيونك ما شاء الله حلوين .. لكن بالكحل.. سبحان من أبدع وصور بحج يا ستي..
سألت أنس في شك: هو حلو فعلا.. ولا انتوا بتجاملوني!..
أكدت منيرة: ده روعة.. طلي على نفسك فالمرايا وإنتي تعرفي..
سارت أنس نحو المرآة في عجالة.. لتطالع عيناها وقد اكتسبت نظراتهما بعدا آخر لم تستطع أن تحدده ماهيته.. ابتسمت في استحسان.. وشكرت الجدة صفية.. التي تطلعت نحوها في نظرة تحمل شوقا جارفا.. قبل أن تغادر الغرفة بصحبة منيرة..
عادت لحجرتها.. سعيدة بتجربة جديدة.. وقد حان موعد زيارة نجية بالمشفى.. ما دفعها لوضع شالها الجديد.. والنزول نحو التعريشة ليصطحبها حبيب كما وعدها للزيارة..
اقتربت من موضع جلوسه.. حيث كان يحتسي الشاي كعادته في مثل هذا الوقت من النهار.. ألقت التحية في أريحية.. ليرفع هو عينيه صوبها ملقيا التحية بدوره.. تلك التحية التي قطعها ولم يكملها.. وكوب الشاي الذي سقط أرضا من كفه في ارتعاشة.. شكر الله أن أنس لم تلحظها.. هاتفا بصوت أبح، وهو يطالع هذا الحسن الرباني، معللا سقوط الكوب: خير.. خير.. خد الشر وراح..
هتفت أنس مستفسرة: مش هنروح لنجية، ميعاد الزيارة قرب خلاص.. يا دوب الطريق..
أكد حبيب وهو ما يزل على تيهه: ايوه، معلوم.. نروحوا.. أني چاهز أها..
هتفت تسبقه: طب ياللاه بينا..
استوقفها متسائلا في تعجب: ياللاه بينا على فين!.. هتخرچي برا السرايا كده!..
تعجبت أنس: كده اللي هو إزاي!..
وتطلعت نحو ملابسها وهيئتها، متسائلة: مالي!.. ما أنا تمام أهو!..
أكد حبيب في حنق: لاه مش تمام.. روحي شيلي الكحل اللي بعيونكم ده.. متخرچيش كده..
انفعلت أنس لأمره لها بهذا الأسلوب مؤكدة: لا مش هشيله.. ماله .. ما هو كل الناس متكحلة.. ايه اللي فيها!.
زعق حبيب بلا وعي.. فقد خرج عن السيطرة: أني مالي ومال الناس.. مش هتخرچي معاي إلا لما تشيليه.. خلص الكلام..
زعقت أنس بدورها، وسارت نحو السراي: لا مش هشيليه.. وهخرج سواء معاك أو لوحدي.. هو أنا معتقلة هنا.. أنا باخد منك الاذن بالخروج بس لأن دي الأصول تعرف أنا فين.. لكن متتحكمش فيا..
اندفع حبيب لداخل السراي، زاعقا ينادي منيرة، التي حضرت على عجل، تقف بأعلى الدرج، لا تدرك ما الذي جرى ليزعق حبيب بهذا الشكل الثائر على غير عادته، لتتبعه أنس الوجود واقفة بقلب بهو السراي، وقد خرجت الجدة صفية من حجرتها تقف بكرسيها المدولب على أعتابها تتابع ما يدور قبالتها في استمتاع..
هتف حبيب في حنق بالغ، موجها حديثه لمنيرة: إنتي بتخرچي بره السراي وانتي متكحلة!..
فهمت منيرة ما كان يصبو إليه أخيها من سؤاله، فنفت بشكل قاطع: لاه.. أنت محرچ عليا معملهاش..
هتف حبيب موجها حديثه نحو أنس: اهاا.. سمعتي يا أستاذة.. يا رب نكون عجلنا!..
هتفت أنس ساخطة: أنا مش مجنونة.. أنا عقلي يوزن بلد، وبعدين أنا مالي ومال غيري، مش دي كانت كلمتك من شوية!.. أنا مالي ومال منيرة.. أحكم عليها براحتك.. لكن أنا محدش يحكم عليا.. أنت بالذات ملكش حكم عليا..
ساد الصمت، وتطلع حبيب صوب أنس الوجود في دهشة مستنكرا: أني بالخصوص! ليه يا أستاذة!..
لم تجب أنس، فلم يكن لديها من الحجة ما ترد به، ما دفع حبيب ليقول في نبرة خفيضة، حملت رسالة لم تعيها: طب زين، كل واحد عرف مجامه.. تمام جوي كده..
واندفع حبيب مغادرا بهو السراي نحو الخارج بشكل عاصف.. لتتقهقر كل من منيرة والحجة صفية.. كل إلى غرفتها.. تاركة أنس الوجود تقف وحيدة بالبهو الواسع.. حتى إذا ما أدركت أنها أصبحت وحيدة.. تحركت في آلية صوب حجرتها.. دفعت بابها.. وتوقفت عند النافذة.. تتطلع صوب التعريشة في حنق ممزوج بشعور آخر لم تستطع ترجمته.. لتسمع صوته زاعقا بالأسفل ينادي على شبل، الذي جاء مهرولا.. ليصنع له المزيد من أكواب الشاي.. التي حاول أن تهدأ من غضبه الذي كان يجاهد للسيطرة عليه بلا طائل.. فكلما تذكر كم كانت عيناها رمزا للغواية بهذا الكحل الخطر الذي اكسب نظراتهما بعدا آخر، بعدا مغويا.. فتاكا.. مهلكا.. كلما اشتعل غضبه من جديد، وكأن تلك النظرات كانت الحطب الذي ألقي على مجامر ثورته فزادها استعارا.. ما دفعه ليمسك بثالث كوب من الشاي، بعد أن قضى على نصفه.. دافعا به في ثورة نحو أقرب جدار محطما إياه في انفعال قاهر.. حتى أنه صرف شبل.. المتعجب من حال سيده.. الذي لم يره عليه من قبل.. تنهد حبيب في محاولة لتهدئة نفسه.. وأنساب جرافون الجدة صفية.. ببعض الألحان التي سكنت بعض من غضبته.. وأم كلثوم تعاتب في شجن: ما دام تحب بتنكر ليه!.. ده اللي يحب يبان في عينيه..
ليهمس حبيب معترضا: واه يا ستي.. أني مناجصش..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
وقفت هاجر باستقبال المشفى الفخم الذي نقل إليه نصير بعد الحادثة لإجراء جراحة ما، وهو الآن ما يزل في غرفة العمليات..
ثلاث ساعات من القلق المضني الذي كاد أن يرديها قتيلة.. عليها ألا تكون وحيدة.. ففي بعض الرفقة راحة من أن تدع عقلها يتسلى على ما تبقى من ثباتها ليوصلها لحافة الحنون .. لكن بمن يمكنها أن تتصل فيكون هنا في التو واللحظة!. دمعت عيناها وجعا.. ما كانت أحد ليفعل ذلك إلا أنس الوجود.. كانت لتأتي هرولة كما كانت تفعل دوما في كل أحزانها ومواجعها.. لكن أين هي الآن!.. بعيدا جدا .. جدا.. لا مكانا.. بل قربا روحيا كما كانت دوما.. فبعد رغبة نصير في الزواج منها.. حدث شرخ ضخم في علاقتهما لم تحاول أي منهما رأبه.. أو حتى محاولة إصلاحه.. ربما حاولت هي أن تفهم لم حدث ذلك! حين ذهبت لها في شقتها لكنها كانت قد غادرت هربا لذاك النجع البعيد في الصعيد.. ولم تجد في بيت أنس إلا الخيبة والمزيد من التساؤلات التي لم يجب عليها أحد.. لأن ما من مخلوق بقادر على اجابتها إلا هي.. أنس الوجود .. صديقتها الوحيدة.. التي كانت بمثابة الأخت التي لم تلدها أمها.. إنها وحيدة.. وليس لها من أحد بالدنيا إلا نصير.. وأنس الوجود.. و.. ولا أحد..
سالت دموع هاجر بلا توقف، لكن من نقطة ما بعقلها بزغ اسم واحد يمكنها أن تلجأ إليه.. ممدوح.. انتفضت تطلبه من هاتف الاستقبال .. وتضرعت أن يرد.. مر صوت الرنين المتواصل على الطرف الآخر وكأنه دهر .. وكادت أن تضع السماعة .. لكن صوته المتحشرج ظهر أخيرا وهو يرد: ألو..
اعتصرت السماعة وهمست في صوت باكِ: ألو.. ممدوح أنا هاجر..
هتف ممدوح في صدمة: هاجر!. خير.. إنتي كويسة!..
أكدت هاجر باكية: لا.. أنا فالمستشفى.. نصي..
قاطعها ممدوح أمرا في عجالة: مستشفى ايه! أنا جاي حالا..
اغلق الهاتف سريعا بعد أن أخبرته اسم المشفى، أدركت أنها نسيت ممدوح في خضم كل الأحداث الماضية التي أثقلت كاهلها.. على الرغم من أن ممدوح دوما ما كان هناك قابعا في ذكرياتها المشتركة مع أنس الوجود.. لا تذكر إلا بعض من أحداث قليلة لم يكن هو موجودا فيها إلا لسبب واحد أنها كانت تخص الفتيات، وكانت سرها وأنس.. ما عدا ذلك.. كان ممدوح حاضرا وبقوة في ملف الذكريات.. لأنه كان بمثابة أخ لأنس.. عوض كلاهما عن غياب العنصر الذكوري في حياتهما.. هي بابتعاد نصير الذي كان يحزنها.. وأنس في غياب الأخ الذكر لأنها وحيدة والديها .. وكذا بعد وفاة والدها والتي كانت فترة عصيبة ما اجتازتها بسلام.. إلا لوجود ممدوح الذي كان داعما ومعطاءً.. وتعجبت.. كيف لشخص أن يقوم بكل هذه الأدوار الهامة في حياتنا.. ويكون دوما في موضع الظل!.. بعيدا عن كونه بطل الحكاية.. وأكبر مؤثر في سير أحداثها!..
انتفضت ما وعت لممدوح وهو يهرول اللحظة لداخل الاستقبال باحثا عنها.. وما أن رآها حتى اندفع نحوها.. هاتفا في ذعر: في ايه يا هاجر! ايه اللي حصل!..
هتفت هاجر من بين دموعها: نصير بيه عمل حادثة وهو فالعمليات دلوقت بقاله كام ساعة ولسه مطلعش.. معرفش في ايه!..
ربت ممدوح على كتفها في حنو، مجلسا إياها على أقرب مقعد، هاتفا في نبرة مشفقة: بإذن الله يكون بخير، متقلقيش.. دلوقت الدكتور يخرج ويطمنا..
وبالفعل لم تمر إلا دقائق معدودة، إلا وظهر الطبيب باحثا عنها، وما أن رآها.. حتى أقترب مؤكدا في هدوء: الحمد لله..
انتفضت ما طالعت الطبيب الذي استطرد مؤكدا: الأمور مشيت على خير.. هو هيبقى كويس.. بس يمر النهاردة بسلام..
هتفت تسأل هاجر من جديد: يعني هيبقى كويس!..
هز الطبيب رأسه في إيجاب: ادعوا له.. وبإذن الله يقوم منها بالسلامة.. هو فالعناية المركزة.. لحد بس ما يفوق.. ونشوف الوضع ايه..
شكره ممدوح.. ليرحل الطبيب وهاجر على حالتها من القلق.. ولم تنطق حرفا.. جلس ممدوح جارها.. هامسا يحاول أن يطمئنها: هيبقى كويس يا هاجر.. الدكتور أهو طمنا.. وهو..
قاطعهما صوت يتساءل في نبرة رسمية: حضراتكم اللي جايين مع نصير بيه الراوي اللي عمل الحادثة!..
أكد ممدوح وهو يتطلع لذاك الرجل الذي يقف قبالتهما في هيبة: ايوه.. مين حضرتك!..
ثم نهض ممدوح محاولا أن يتذكر أمرا ما.. لكن الرجل هتف بما جال في بال ممدوح، متسائلا: أنا النقيب جمال أبو العينين.. هو أنا شفت حضرتك فين قبل كده!..
أكد ممدوح: والله أنا كنت لسه هسأل حضرتك نفس السؤال!.. بس ثواني..
قاطعه جمال متذكرا: أنت اللي كنت مع الآنسة اللي تاهت منها قريبتها الصعيدية في إسكندرية.. صح!..
ابتسم ممدوح باسما: صح، مظبوط يا جمال بيه.. فرصة سعيدة..
هتف جمال مازحا كعادته: لا هي مش سعيدة خالص الصراحة.. أنا كل أما أشوفك تكون طرف في حكاية.. مرة واحدة تايهة والمرة دي واحد جاي في حادثة..
أمسك ممدوح ضحكاته، احتراما لحزن هاجر، التي أشار إليها ممدوح، معرفا: الآنسة هاجر السروجي.. الدراع اليمين لنصير بيه الراوي..
رفعت هاجر رأسها تطالع جمال، مؤكدة على ما قاله ممدوح، ليشهق جمال في صدمة.. تعجبت هاجر من فعلته.. فهي لا تذكر أنها رأت ذاك الرجل من قبل، فلم كل هذه الدهشة حين طالع محياها!.. بينما تطلع ممدوح في ملامحهما باضطراب.. لا يدرك ما الذي يحدث!.. لعل أحدهما يفسر ما يجري..
يتبع...
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية