-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 31 - الثلاثاء 13/5/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الواحد والثلاثون 


تم النشر الثلاثاء 

13/5/2025

 أرض الحكايا العجائبية 

الرسلانية ١٩٤٣..

كانت صيحة ذاك الشاب الذي دخل إلى قلب البهو، واعترافه ذاك.. كفيلا بجعل الجميع في حالة سكون ما يعقب الصدمة.. فقد دخل هذا الغريب مقرا بجرم ليس من الطبيعي الاعتراف به على أعين الأشهاد وبهذا الشكل الدرامي.. فقد دخل الشاب مؤكدا على اعترافه بنسب جنين استير له، مع شهقة استير الغير متوقعة لظهور خطيبها ايزاك اللحظة، هاتفا: أنا أبو الطفل اللي فبطن استير.. أنا غلطت و.. 

صرخ نعيم معارضا في شراسة: أنت بتخرف تقول ايه، هي قالت إن العيل اللي هي حامل فيه ابن فضل رسلان.. ايه اللي جابك انت دلوقت!.. 

صرخ فضل نافيا: محصلش.. ولا عمره كان.. أنت بتتبلى عليا أنت وبنتك.. 

صرخ ايزاك خطيب استير، مؤكدا: أنا أبو الطفل، ومحدش غيري هيتجوز استير.. 

هتف سعد في حزم أمرا الجميع بالسكوت، وقد سأل استير التي شعر باضطرابها المتزايد: مين أبو عيلك!..اللي هتجولي عليه يا بتي نافذ.. إلا عرض الولايا!.. 

لم تحرك استير ساكنا، وتعاطف سعد مع مظهر الفتاة المضطرب، مؤكدا عليها من جديد في هوادة: جولي يا بتي متخافيش.. 

بدأت استير في النحيب، حاولت قدر استطاعتها أن تنطق، لكن الحروف لم تخرج من بين شفتيها مطلقا، ما دفع نعيم ليهزها في عنف أمرا وهو يلكزها خفية: انطقي.. هنفضل كده والناس دي كلها واقفة منتظرة كلمة منك!.. قولي اللي قولتيهولي.. مش قولتيلي فضل الله هو اللي..

صرخ ايزاك: قلت أنا.. ومستعد اتجوزها حالا.. 

ارتفع نحيب استير بشكل هستيري، ما دفع سعد ليبعد عنها أباها، متسائلا من جديد: مين يا بتي!.. 

أقر صوتا جهوريا في نبرة قوية: أني.. 

انتفض كل من بالقاعة لرؤية معتوق ابن الشيخ رضا يقف على أعتاب القاعة، هاتفا في شجاعة: أني أبو الواد.. 

اندفعت استير باكية تحتمي خلف معتوق، ما جعل الجميع في ذهول.. نعيم أبوها الذي ضاعت كل مخططاته سدى، وايزاك خطيبها الذي لا يعلم ما الذي يحدث بالضبط ما دفعه للتطلع نحوها في حنق بالغ، قبل أن يترك القاعة ويرحل في عجالة.. ولكن الأكثر صدمة كان الشيخ رضا.. والذي جلس على أقرب مقعد يحوقل بلا انقطاع.. لا يعلم ما عساه يقول فيما يدعيه ولده.. بينما أمر سعد وهدان بالتأكيد على ولده أن لا ينطق حرفا مما سمع.. قبل أن يرسله للدار حتى يتسنى للكبار مناقشة الأمر.. أما نعيم.. فقد صرخ معارضا ما أن استفاق من صدمته: أنا الالعيب دي متخلش عليا.. هيدوك كام يا شيخ معتوق عشان تشيل شيلة ولدهم!.. 

زعق سعد في نبرة قوية زلزلت أركان القصر: أخرس.. لهو إحنا تچار أعراض كيف أمثالك!.. أنا اتحايلت كد ايه عشان أعرف مين أبو الواد عشان ده عرض وشرف أمثالك ميفهموش جيمته.. 

هتف نعيم في هوادة مدعيا المسكنة: ياللاه يا استير.. احنا مش هنرمي بلانا على حد ملوش ذنب.. عشان صاحب الذنب مش راضي يحاسب على نتيجة ذنبه.. 

هتف سعد في صرامة: والله لو كانت بتك جالت إن فضل اللي عملها ما كنت بيتها ليلة وهي مش على ذمته، لكن أنت تفهم منين فالاصول يا مجطوع الأصل أنت.. غور.. متعتبش برچلك السرايا تاني.. 

هتف نعيم صارخا على غير عادته: أنا عايز حقي وحق بنتي.. انتوا كلتوا حقها في الجواز من أبو ابنها.. وأنا مش هسكت.. وهطلع أقول لكل الخلق إنكم.. 

كانت المرة الأولى التي يخرج فيها سعد عن طوره أمام هذا الكذب البين والافتراح الواضح.. دافعا عنه عصاه الابنوسية وعباءته، مندفعا صوب نعيم، ممسكا بتلابيه، دافعا به ملصقا ظهره بأقرب جدار، لتتعالى شهقات الجميع، حين أدركوا أن سعد خرج عن مألوف عادته، وهدوءه الراقي.. مخرجا تلك الحمية الصعيدية في لحظة فارقة حين تم التهديد بالاضرار بسمعة العائلة وحسبها الأصيل.. أخذا في هز نعيم في عزم، مقرا في صرامة: أني كنت مطول بالي عليك لسنين، لكن يا نچس باين كده إن ديل الكلب اللي من عينتك عمره ما هينعدل، والله ما انت بايت ليلتك فيها.. وأنت واللي باجي من أهل بيتك تشوف لكم مطرح غير الرسلانية تشدو له الرحال.. وترمو بلاكم على ناسه.. إحنا استكفينا من عشرتك السو.. 

هتف نعيم مهادنا في نبرة مهزوزة، وقد شعر أنه على وشك خسارة كل شيء، إن لم يكن خسره بالفعل: هنروح فين!.. يرضيك اتلطم أنا وحريمي.. 

أكد سعد في حزم: ملناش فيه، طالما مش جاعد فيها بأدبك، يبجى بناجص.. أنت ومرتك تفاجونا، وبتك هنسترها.. اكتر من كده مليكش عندينا.. وبجولهالك اهااا.. لو صبح عليك نهار وأنت فيها يا نعيم الكلب.. ما هيكون لك عندي إلا رصاصة.. ونخلص منك.. غور.. 

دفع سعد بنعيم مبعدا إياه لخارج البهو.. مع ارتفاع شهقات بكاء استير، التي كانت هي الغالبة في وسط ذاك السكون الذي عم المكان.. 

رحل نعيم.. بخطوات مضطربة لا يعلم ما عليه فعله، للمرة الأولى بحياته يقف حائرا وقد طاش صوابه وخرجت حسبته المضبوطة دوما عن مسارها الطبيعي.. ويخطىء وللمرة الأولى كذلك في تقييم الأمور ووضع كل أمر في مجراه المنطقي.. 

أفسد سعد رسلان عليه حال دنياه، وما عاد ينتمي لهذه الأرض التي صرف عمرا في محاولة ذرع جذوره في تربتها الصلبة فأبت أن تحتضن تلك الجذور العفنة التي لطالما حاول تثبيتها قبالة الريح.. لكن كل محاولاته باءت بالفشل.. وكل هذا العمر ضاع سدى.. 

وصل نعيم لداره، وجلس على أول مقعد متهالك قابله، لتندفع رحيل من الداخل متسائلة عما جرت عليه الأمور.. فهتف نعيم في صوت خفيض يحمل انكسارا طاغيا: خدي اللي تقدري عليه، وياللاه بينا.. 

هتفت رحيل معتقدة أن زوجها فقد عقله: ياللاه بينا على فين! أنت مالك يا راجل.. فيك ايه! وايه اللي حصل فموضوع بنتك!.. 

هتف نعيم متحسرا: بتك باعتنا، باعت ابوها وأمها ودينها وحتى ايزاك خطيبها.. عشان حتة واد أعمى ميسواش.. 

سألت رحيل في اضطراب: أنت بتقول ايه! استير ببتنا.. باعت مين!.. 

صرخ نعيم في قهر: متنطقيش اسمها على لسانك، اعتبريها ماتت.. بنتك قدام الكل، بدل ما تقول إن أبو الواد يبقى فضل رسلان، قالت إنه ابن معتوق الاعمي ابن الشيخ رضا.. 

شهقت رحيل ضاربة صدرها بباطن كفها، هاتفة في صدمة: معتوق!.. 

استطرد نعيم في غيظ: ده يا ريتها قالت إنه من ايزاك خطيبها.. دي متحركتش إلا لما الاعمى ده ظهر وقال أنا أبو العيل.. وهي اتحامت ورا ضهره .. ايزاك خرج غضبان .. وأنا لما اتحمقت.. سعد رسلان طردني بره النجع.. بعد كل اللي عملته لسنين.. اطرد بره الرسلانية يا رحيل!.. 

لم تعقب رحيل على كل ما قاله زوجها، بل كررت في تيه مجددا: معتوق!.. معتوق يا استير! إزاي!.. 

هتف نعيم صارخا: ايوه يا ستي.. الزفت معتوق.. 

استشعر نعيم أن زوجه تخفي أمرا ما عليه، ما دفعه ليسأل في ريبة: هو في ايه بالظبط! شكلك كنتي عارفة حاجة ومخبية!.. 

اضطربت رحيل، وتعثرت الحروف على شفتيها، وهي تحاول أن تتكلم، وما أن صرخ فيها مهددا، إلا وانطلق لسانها بحقائق ما كان يتوقع يوما أن تكون.. مؤكدة: استير مش حامل من أساسه يا نعيم.. كل ده لعبة أنا اللي غصبتها عليها.. 

تطلع نعيم نحوها في نظرة تحمل الكثير من مشاعر مختلطة.. وهي تسرد كل ما كان، ليصرخ فيها مقهورا: قعدتي تقوليلي هيبقى طردنا من النجع ده على ايديك يا نعيم.. اهو اطردنا.. وجانا الطرد على إيدك يوم ما بس فكرتي تشغلي دماغك.. كلنا رحنا ف داهية.. روحي لمي اللي تقدري عليه.. خلينا نطلع على إسكندرية على بنيامين وسارة لحد ما نشوف الدنيا هترسى بينا على فين.. لأن لو سعد رسلان حالف ليخلص مني لو لمح لي ضل فالنجع تاني.. 

بدأت رحيل في جمع ما استطاعت هاتفة في اضطراب، وهي تسأل على استحياء: طب واستير! هنسيب بنتك معاهم يا نعيم!.. 

أكد نعيم في حنق: هي اللي اختارتهم يا رحيل، انسي إن كان لكي بنت اسمها استير.. 

خرج نعيم ورحيل متلحفين بالظلام لخارج النجع، ليقف أخيرا حين وصل لمفترق طرق يقوده لخارج النجع.. مستديرا يتطلع للرسلانية للمرة الأخيرة في حسرة.. قبل أن يتحرك نحو الطريق.. مقسما أنها لن تكون هذه النهاية.. وأن ذاك لن يكون آخر عهده بهذه الأرض أبدا.. 

❈-❈-❈  

عرابة آل حفني.. ١٩٤٣.. 

هبطت فايزة الدرج في هوادة متجهة صوب موضع جلوس عمها الذي استدعاها في مثل هذه الساعة على غير العادة.. وما أن وصلت حتى ابتدرها في محبة، وهو يربت جواره لتجلس قربه، هاتفا في نبرة لينة كعادته معها: إنتي واعية لغلاوتك عندي ولا منتش واعية يا فوز!.. 

أكدت فايزة في محبة: واعية يا عمي، ربنا يخليك ليا وما يحرمني منك أبدا.. 

ربت عدنان الحفناوي على كتف ابنة أخيه مؤكدا: انتي بتي اللي مخلفتهاش يا فوز، ويوم ما أبوكي راح فعز شبابه، طويتك تحت چناحي إنتي وأمك.. وجلت نحط زيتنا على دجيجنا.. أني أم عامر ربنا يرحمها وأمك كانت بردك صغار ومحتاچة راچل.. ومحبة ليها ولاخويا الله يرحمه عمري ما جصرت معاكي فحاچة وكانت طلباتك أوامر.. ده حتى لما جلتي أروح الچامعة فمصر .. الكل جال ده چنان وأني وافجت عشان مكسرش بخاطرك.. 

هزت فايزة رأسها مؤكدة على كل ما قال: حصل يا عمي.. بس ليه الكلام ده كله دلوجت! هو في حاچة!.. 

أكد عمها مفسرا: مش أن الأوان نفرح بكم إنتي وعامر.. ده اللي كدك بجي عندهم بدل العيل اتنين يا بتي.. وهو.. 

قاطعته فايزة في اضطراب: يا عمي لما اخلص الچامعة.. 

هتف عامر الذي دخل الغرفة لتوه، معترضا على ما قالت: إنتي مكنش ليكي چامعة من أساسه، ولا واعية لما بكيتي لعمك لچل ما تكملي البكالوريا.. ووافج.. وجلنا تاخديها وخلصنا.. وبعدها نفس الحكيوة ونفس البكى لچل الچامعة.. ووافج.. ايه في!.. مش خلصنا!.. 

هتفت فايزة معترضة: لاه مخلصناش.. يعني نتچوز كيف وأعرف أروح الچامعة.. أخلص ويبجاله الچواز.. 

هتف عامر متهكما: وهنخلصوا ميتا!.. 

أكدت فايزة: بعد سنتين.. 

هتف عامر في صوت يحمل المزيد من السخرية: سنتين!.. بس كده!.. ما تحضرنا يا حاچ عدنان.. ينفع اللي بتجوله بت أخوك ده!.. 

هتف عدنان محاولا امتصاص غضب ولده: بس حلمك يا عامر، هو الكلام مش اخد وعطا برضك!.. أني عندي حل.. نكتب الكتاب على بركة الله.. ونخلي الليلة الكبيرة في آخر سنة فالچامعة.. ايه جولك يا فوز!.. 

لم تنطق فوز حرفا، فما عاد في امكانها وضع العديد من الحجج والعراقيل أمام زواجها من عامر.. على أمل واحد.. أن تكون من نصيب من ملك القلب ومجامع الفؤاد.. بينما هتف عامر متنهدا: طب تمام، أني موافج.. يبجى نكتبوا الكتاب كمان شهر.. 

هتفت فايزة: اخلص السنة دي فالچامعة طيب.. 

هم عامر بالاعتراض.. لكن عدنان هتف يستوقفه، هاتفا في مهادنة: وماله!.. مجتش على شهرين كمان.. خلصي.. وبعدها نكتب كتابكم على بركة الله.. 

صمت عامر ولم يعقب بينما اندفعت فوز مغادرة حجرة عمها، فما عادت تطيق البقاء وهي تشعر أن حياتها قد تم حسم مسارها.. وأن الطريق تم رسمه لتسير عليه مغمضة العينين دون أن يكون لها من أمرها شيئا.. 

وصلت لحجرتها، وبلا وعي فتحت الرواية التي وجدت فيها رسالة فضل الأخيرة حين كان هنا بضيافة عمها.. والتي خبأها بقلب الرواية حيث تركها حتى اللحظة.. تناولت الرسالة القصيرة وقرأتها من جديد.. دمعت عيناها مع كل كلمة.. توقفت عند لفظة القدر.. وتساءلت.. هل ينصف القدر قلبها ويغير المسار المرسوم منذ سنين.. ليخط مسار آخر فيه هناء قلبها!.. هل يمكن أن يحدث هذا ولو مرة وحيدة في العمر.. يكون فيها القدر مهادنا وموافقا لأمنية غالية.. فيقر على تحقيقها.. هدية لأرواحنا المتعبة.. التي انهكها التمني!.. 

❈-❈-❈  


الرسلانية ١٩٤٣.. 

كان رحيل نعيم من قلب السراي بعد وعيد سعد له، كفيل بأن يغير من مسارات كثيرة بقلب الحكاية.. نهض الشيخ رضا متعكزا.. مستأذنا سعد ووهدان: هاخد ولدي.. وبتنا استير.. ونتفاهموا ف دارنا ..ده بعد اذنكم.. 

هز سعد رأسه متفهما رغبة الشيخ رضا في الاختلاء بولده وسماعه أصل الحكاية التي لم تنطلي على عقل سعد وإدراكه.. وكذا وهدان، الذي هتف مجاملا: منتظرين ميعاد الفرح يا شيخ رضا.. البت بجت بتكم.. ومعتوج ولدنا كلنا.. 

هز رضا رأسه في هوادة، مدركا أن الجميع يحاول أن يخفف عنه المصاب الذي وقع على رأسه من جراء أفعال ولده الغير محسوبة، والتي لم يرغب في محاسبته عليها إلا بين جدران دارهما.. تحرك معتوق للخارج، تسنده مديحة أخته تدله الطريق .. وجوارها استير تسير على استحياء وخلفهم الشيخ رضا يسير في تمهل متعكزا على عصاه.. والذي استوقفه سعد مؤكدا: اللي چرا هنا بيناتنا يا شيخ رضا.. عمره ما هيخرج بره السرايا دي.. واصبر واسمع من ولدك.. الحكاية مش زي ما هي ظاهرة.. وراها حكايات.. وأنت سيد العارفين.. 

ابتسم الشيخ رضا رابتا على كتف سعد في معزة راسخة منذ سنوات طوال.. جعلت كل منهما يفهم الآخر دون أن ينطق حرفا.. هامسا في ارتياح: الله المستعان، ولعله خير.. لعله خير.. 

وصل الشيخ رضا وأولاده بصحبة استير إلى داره، وما أن أغلقت مديحة الباب، حتى أكد عليها: اطمني على أمك يا مديحة، ولو نايمة اقفلي عليها باب اوضتها وتعالي.. 

نفذت مديحة في سرعة، حتى عادت تقف بين يدي أبيها، الذي هتف متسائلا: ايه اللي بيجرا، عايز اعرف كل حاجة لأن الحكاية دي مش داخلة دماغي، ولا دخلت دماغ حد، لا ولدي حامل كتاب الله يعمل كده، ولا إنتي يا استير يا بتي تعمليها أبدا.. ده أنت تربية البيت ده وعشتي وسطينا أكتر ما عشتي في بيت أبوكي!.. يبقى ايه الموضوع!.. 

هم معتوق بالكلام، لكن نحيب استير الذي وصل اسماعه استوقفه، فابتلع كلماته وهي تهتف من بين نسيج بكائها: أنا هقولك كل حاجة يا عم الشيخ رضا، وده حقك.. وأنت اكتر واحد له حق عندي لأني اتربيت من خير البيت ده ومشفتش فيه الا كل خير.. وربنا يعلم إن اللي حصل م الشيخ معتوق ده لا كنت اعرفه ولا ليا يد فيه.. عشان مطولش عليك.. الحكاية كلها لعبة من أمي ربنا يسامحها.. هي كانت غصباني على جوازتي من ايزاك ابن أختها، وأنا مش ريداه، بس بعد الضغط وافقت وبابا كمان وافق متغصب اهو هيخلص ويشيل مسؤوليتي لحد.. بس بابا جه في الآخر بقى بيماطل مع ايزاك وبيأكد إني لازم اتجوز واحد غني ومعاه فلوس تنشلهم من الفقر، يعني زي ما تقول ده يا شيخ رضا معتبرني بيعة وشروة للي يدفع اكتر أو هيكون من وراه مصلحة أكتر.. ولما أمي حست إن بابا هيرجع في كلمته مع ايزاك اللي اكتشفت إنه وعدها بحاجات كتير لو تمت الجوازة.. راحت جبرتني أقول كلمتين حقظتهملي اول ما عرفت بوصول بابا عشان يسمعهم من ورا الباب.. وطبعا بعد ما يعرف إني غلطت وحامل من ايزاك يسرع في الجوازة وأمي تنول المراد.. لكن كل ده اتلخبط لما بابا فكر في الابعد من كده.. وفكر يلزق موضوع الحمل ده لحد من ولاد كبرات البلد وبالخصوص فضل لأنه ابن سعد رسلان.. وهو عايز يكون له نسب مع العيلة دي ب أي طريقة .. أنا معرفش السبب .. لكن هو فعلا كان ممكن يتناول عن اي حاجة مقابل أن الموضوع يظبط ويجوزني فضل بأي طريقة لدرجة إنه يتاجر بعرضي بالشكل اللي انت شفته وكنت شاهد عليه يا عمي الشيخ.. أنا مجبورة في كل اللي حصل .. مغصوب عليا من أمي ومن أبويا ومحدش عمل حساب لوجعي وقلة حيلتي ولا لشكلي قدام الخلق وازاي ارفع راسي بينهم بعد الفضيحة اللي لزقوها فبنتهم.. 

شهقت استير في حسرة: أنا مجرد بيعة للي يدفع اكتر يا عم الشيخ رضا.. ومعرفش إزاي الشيخ معتوق عرف باللي بيجرا فالسرايا وجه وورط نفسه فالموضوع ده.. أنا عمري ما كان ممكن اجيب سيرتكم ولا اخلى بني ادم يمسها بكلمة.. ده حتى بابا لو كان قطعني عشان أجيب اسمكم فالموضوع ده مكنش هيحصل.. ولو فيها موتي..

ساد الصمت، لتتوجه نظرات الشيخ رضا نحو ولده معتوق، الذي وجه إليه السؤال مستفسرا: عرفت منين بقى اننا في السرايا يا معتوق!.. وليه عملت اللي عملته!…

أكد معتوق في هدوء: سمعت مديحة بتتكلم معاها وهما بينشروا الغسيل، رحت خليت مديحة تحكي لي الموضوع من طجطج لسلام عليكم.. ومحدش كان عارف باللي هعمله يا شيخنا، حتى لما جلت لمديحة توصلني السرايا، مكنتش تعرف أني ناوي على ايه.. ولا ايه اللي فدماغي.. 

هتف رضا متعجبا: وليه تعمل كده من أساسه! ليه تلبس نفسك مصيبة كان ممكن نثبت كذبها في ساعتها.. كانت ممكن استير تتكلم وتقول الحقيقة وكان سعد باشا أمنها.. 

هتف معتوق: هيأمن بت من أبوها، كيف! ما هو ممكن يعديها دلوجت، لكن محدش عارف بعد كده هو ناوي على ايه، وده مش هيغلب، اديك شايف ولا همه عرض بته وجعد يتاچر به، وبعدين حتى لو هي اتكلمت ابوها نفسه كان ممكن يكدبها، وساعتها كانوا هيجيبوا داية ولا داكتور عشان يعرفوا ايه اللي فيها.. وأني مش هخليها تتبهدل وتتعرض بفضيحة زي دي.. 

ساد الصمت بعد أن أعلن معتوق عن نقطة كانت بالفعل غائبة عن بال الجميع، وأن مع إنكار البعض وتأكيد البعض الآخر.. لو كانت استير أدلت بالقصة الحقيقية لكن من الأسلم استدعاء الداية أو طبيب ما، للكشف على مدى صدق ادعائها.. وأنها ما تزل بكرا طاهرة.. أم أنها فرطت وتحمل وزر خطيئتها!. وقف لم تكن لتحسد عليه، وكان عليها ساعتها الانصياع والطاعة مرغومة.. على الرغم من كرامتها وكبريائها المهدرة.. فقط لتثبت أنها صادقة.. وكل المنتفعين كاذبون.. 

دمعت عينى الشيخ رضا تأثرا، مع ارتفاع شهقات بكاء استير والتي شاركتها مديحة البكاء تعاطفا، لبربت على كتف ولده في إكبار وفخر، وقد تاهت الكلمات من فوق شفتيه وهو الخطيب المفوه.. 

همست استير في نبرة تنضح قهرا: بس كده أنا هروح فين يا عم الشيخ! بابا وماما خلاص اطردوا م النجع، وأنا طبعا بالنسبة لهم ميتة، لأني مش بس خالفتهم، ده أنا عملت اللي عمرهم ما كانوا يتخيلوه.. ينفع استأذن سعد باشا يسمح لي افتح بيتنا واقعد فيه!.. 

هتف الشيخ رضا: وهو احنا عندنا بنات تقعد في بيوت لوحدها يا بتي!.. 

لم تنطق استير حرفا، وهو يستطرد مقترحا: بس هتقعدي معانا.. 

هتفت استير معترضة: ما عاش اللي يكسر لك كلمة يا شيخنا، لكن بعد الكلام اللي اتقال، لا.. أنا مرضهاش لكم.. و.. 

قاطعها الشيخ رضا باسما: هاتقعدي معانا بس برضاكي، لو وافقتي نجوزك الواد ده.. 

صمتت استير منكسة الرأس خجلا، ليهتف الشيخ رضا لولده مازحا: ما تقول حاجة يا شيخ معتوق!.. ما أنت كنت بربنطت من دقيقتين.. 

اتسعت ابتسامة معتوق هاتفا: لو بخطرها.. ده يبقى يوم المنى.. بس هي ترضى بحالي..و.. 

قاطعته استير هاتفة تدافع بتهور: وماله حالك!.. ده أنت تعجب الباشا يا شيخ معتوق.. 

اتسعت ابتسامة معتوق، بينما قهقه الشيخ رضا في سعادة، وقد تأكد من علامات القبول، لترفع مديحة عقيرتها مهللة، ثم أطلقت عدة زغاريد متتالية معلنة أن قطار الفرح قد وصل لمحطة هذه الدار.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٤٣.. 

رحل الجميع.. واستأذن وهدان بدوره، ليتنبه سعد لوجوده وحيدا مع ولده فضل.. تطلع إليه لبرهة، قبل أن يأمره في حزم: چيب العباية والعصاية والطربوش على اوضة المكتب وتعال وراي.. 

نفذ فضل أوامر والده وما أن اصبحا وحيدين، حتى جلس سعد أمرا ولده بالجلوس على مقربة، مبادرا إياه في صرامة: أنت لازما تتچوز.. 

تطلع فضل نحو والده متعجبا، واخيرا هتف: اتچوز! بس أني مليش غرض! كل ده عشان كلمتين جلهم الخرفان اللي.. 

قاطعه سعد في حزم: ملوش صالح.. أنت لازما تتچوز.. جال هو أو جال غيره.. اللي فسنك عيالهم تحت رچليهم.. شوف .. هتختار أنت العروسة.. ولا نختارو لك إحنا.. 

طرقات على الباب، ثم دخلت البرنسيسة لتجد الجو متوترا، وعلى ما يبدو هناك أمر ما قد تم طرحه هو سبب هذه الغيوم المرسومة على وجه رجالها المفضلين.. زوجها الغالي.. وولدها الحبيب.. فسألت في نبرة هادئة: ايه اللي بيجرا!.. ممكن أعرف!.. 

هتف سعد مفسرا: بجوله يتچوز.. 

قاطعته أنس الوجود في فرحة: زواج!.. ده يوم المنى فضل!.. من العروس!.. 

هتف سعد ساخرا: ما هو مش عاچبه إني بجوله اتچوز.. ايه فيها دي!.. 

تطلعت أنس نحو ولدها عاتبة: الزواچ عصمة فضل.. سبب الاعتراض!.. 

هتف فضل مفسرا: مفيش اعتراض .. الحكاية وما فيها إن أنا.. عايز أرتب حياتي.. و أشوف.. 

كان فضل يحاول أن يسوق الحجج التي يدرك تماما أنها لن تنطل على والديه، فلم يكن من المنطقي أن يعرب عن السبب الحقيقي وهو رغبته في البقاء حرا طليقا بلا مسؤوليات.. ليمارس عمله الوطني دون قيود.. فذاك السبب في حد ذاته قد يدفعهما للاصرار على إتمام الزواج معتقدين أن ذلك قد يجعله أكثر ميلا للاستقرار والبعد عن المخاطرات.. 

هتف سعد في أمر نافذ: هي كلمة وخلصت.. أني عمري ما غصبت عليك فحاچة.. بس دي.. أني مش هفوتها يا فضل.. والبرنسيسة تختار لك واحدة من بنات العائلات و.. 

قاطعه فضل في لهفة: فو.. فايزة.. 

تطلع كل من سعد وأنس نحو لدهما في تعجب، من تكون يا ترى!.. أدرك فضل حيرتهما.. وهو لا يعلم إن كان يتخذ القرار السليم أم إنه يورطها معه في دنيا قد لا تتحمل تبعاتها، هاتفا يوضح: فايزة بنت عمي عدنان الحفناوي.. 

ابتسمت أنس في سعادة، بينما هتف سعد متعجبا: جصدك بت أخوه.. 

هز فضل رأسه مؤكدا على المعلومة، ليستطرد سعد مقرا: لكن اللي اعرفه من عدنان نفسه، إن ولده جايل عليها من زمن، ولولا موضوع الجامعة ده كان زمناتها مرته.. اخطبهالك كيف دي!.. اجوله بلاها ولدك.. وناخدوا بت أخوك اللي ربتها على يدك كيف بتك لولدنا!.. 

هتف فضل مؤكدا: لو مخدتش فايزة.. يبجى بلاها چواز.. انتوا جلتوا أختار.. وأني اخترت.. ومش رايد إلا هي.. 

واندفع فضل لخارج الغرفة تاركا والديه في تيه، لتقترب أنس الوجود من سعد واضعه كفها فوق كفه، ليتطلع إليها سعد وهي تهمس له في رقة: ولدنا عاشق يا سعد.. هو لا يعارض.. هو وجد الفرصة ليتمسك بمن يحب.. 

رفع سعد كفها الرقيق نحو فمه ملثما، فدوما ما تكون كلماتها هي البلسم الشافي لكل صراعات نفسه وتيه أفكاره.. وموجهة كالبوصلة لكل أفعاله.. متطلعا نحوها في عشق فاضح، متسائلا في نفسه.. كيف هو حال دنياه إن لم تكن تلك الرائعة فيها!.. 

❈-❈-❈  

الرسلانية ١٩٩١.. 

وقفت أنس الوجود في بهو السراي الواسع، تتطلع نحو ذاك الحائط المعلق عليه كل هذه الصور الفوتوغرافية لراجل من العائلة.. جذب ناظرها صورة مرسومة باليد ليس صورة فوتوغرافية حتى، كانت موضوعة بأول الصفوف، التي توالت حاملة العديد من الصور، أكثر من صورة للشخص الواحد في مراحل عمرية مختلفة، أو أثناء حدث فارق في تاريخ حياته.. كلها صور قديمة بالابيض والاسود لم تطالها الالوان تحمل عبق الماضي البعيد.. إلا بعض الصور الملونة في ذاك الصف الأخير، والتي تحمل ذكريات قريبة العهد نوعا ما، لحبيب ومنيرة اطفالا.. ومراهقين.. والشيخ محمود وليدا، ثم طفلا.. دفعت الابتسام لشفتيها.. فهي أبدا لم تحظ بأخوة، ولم تعرف ما معنى هذه الرابطة.. حاولت أن تكون مثيلتها مع ممدوح وهاجر.. لكنها لم تدرك أبدا.. ما معنى شعور الإخوة الحقيقي حتى تستطيع مقارنته بغيره.. تنبهت لوجود منيرة جوارها، فابتسمت متسائلة وهي تشير للصورة الأولى المرسومة باليد: مين ده يا منيرة!.. 

أقرت منيرة: ده چدي عبدالمجيد رسلان.. 

وتطوعت معلنة، مشيرة لصورة آخرى: وده چدي سعد باشا رسلان.. ودي صورته وهو بياخد البهوية، ودي وهو بياخد البشوية.. وده چدي فضل.. و

قاطعتها أنس متسائلة: هو كلهم صور رجالة، مفيش ليه صور ستات العيلة!.. 

أكدت منيرة: مينفعش نحط صور الحريم كده لكل اللي داخل واللي خارچ يطلع فيها، بس لهم صور برضك.. بس متشالة فالمكتبة.. أو مع ستي صفية عندها في ألبوم صور يوووه.. مليان.. سواعي أدخل عليها ألجاها فتحاه وبتبكي.. وهي فاتحة الجرامفون.. ادخل اجعد تحت رجليها واسألها.. ليه البكى يا ستي! ايه في!.. تجولي.. اتوحشت الحبايب يا منيرة.. كلهم راحوا وفتوني.. 

وتجعد تجول كلام مبفهموش.. محدش بيفهم لستي إلا حبيب.. 

سألت أنس في تأثر: بتقول ايه!.. 

همست منيرة بكلمات منغمة: 

يا طُياب الحبايب ما تهل بالسلام .. 

ده الجلب دايب والله .. مخنوج بالكلام 

ابعتوه شوج ومحبة .. وبلاه يا غوالي الملام

فبعادكم الروح مفارجة.. 

والضرب فالميت حرام ..  

ساد الصمت لبرهة، تبتلع أنس الوجود دمعة غصت بها من أثر الكلمات على نفسها، متطلعة نحو حائط الصور ملتهية تشير لصورة آخرى.. متسائلة عن من يكون صاحبها، والذي ما أن همت منيرة بذكر اسمه حتى جاء صوت الجدة صفية، تقف على أعتاب حجرتها هاتفة: استعجلي يا منيرة اليانسون اللي طلبته، خلي البت نبيهة تجبهولي على بره، وتعالي خرچيني.. 

انتفضت منيرة منفذة في عجالة، وصفية تجلس في هوادة، متطلعة لخارج السراي نحو الشرفة الواسعة، وأنس ترمقها من موضعها بنظرات جانبية، متعجبة من طبيعة هذه المرأة التي لم تدرك بعد.. هل هي بهذه القسوة التي تعتقدها، أم هي مفرطة الحنان كما استشعرت حين جذبتها لأحضانها ذات مرة!.. 

عادت منيرة لتقوم بدفع كرسي صفية للخارج، فتناهى لمسامع أنس الوجود أمر من صفية موجه لمنيرة: أني عايزة أرواح وفنضام!.. شكلكم كلتوهم وخلصوا.. صح!.. 

قهقت منيرة مؤكدة: يا ستي والله ما حد بيجرب عليهم إلا إنتي.. بس حبيب شايلهم.. عشان الداكتور جال خطر عليكي كتر السكر..

هتفت صفية معترضة: لهو الواد سرور واد محروسة هيعمل عليا داكتور ويجول ده ينفع وده مينفعش!.. طب بس لما اوعاله!.. 

قهقهت منيرة من جديد، وغاب صوتهما عن مسامع أنس التي وقفت تتأمل الصور من جديد، لتنتبه أخيرا لهبوط حبيب الدرج الداخلي، متنحنحا كعادته.. ألقى التحية وما أن هم بالخروج حتى ابتدرته مطالبة في لين: ممكن تاخدني في طريقك!..

سأل مستفسرا: على فين العزم!..

فسرت: قابلت مظهر كذا مرة، وبيقول مش بتيجي ولا بتوزري جدك فقلت اروح قبل ميعاد زيارة نجية.. 

هتف حبيب ساخرا: وهو مظهر ما شاء الله عليه، بجي بيجول ويعيد ويعاتب كمان!.. دي حاچة عال ع الآخر.. 

لا تعرف لم أثارت كلماته ضحكاتها، فارتفعت رنانة عن غير قصد.. ما جعله يندفع مهرولا للخارج، أمرا إياها: لما تچهزي، تعالي ع التعريشة.. 

اندفعت خلفه مؤكدة: أنا جاهزة أهو.. أي اعتراض.. ومع أن الجو لطيف.. لكن أخدت الشال معايا.. 

تطلع حبيب نحوها بنظرة سريعة، قبل أن يحيد بناظريه عنها مجبرا، ولم يعقب بحرف بل اندفع لخارج السراي وهي بأعقابه.. حاد عنها البصر مرغما.. لكن.. هل يحيد عن عشقها الفؤاد!.. 

❈-❈-❈  

القاهرة.. ١٩٩١.. 

اندفع جمال لداخل المشفى بعد أن استدعاه العسكري مؤكدا على استفاقة نصير الراوي، والذي وجد الأطباء عنده يتابعون حالته للوقوف على آخر تطوراتها بعد هذه الغيبوبة القصيرة.. كانت هاجر تقف خلف الحاجز الزجاجي المطل على غرفة العناية الفائقة تتطلع لما يجري بالداخل في قلق ممزوج بفرحة عارمة، تنبه لها جمال شاعرا بغيرة حاول أن يسترها، وهو يسأل في هدوء حذر: الحمد لله اهو قام بالسلامة، زي ما كان الدكاترة متوقعين، بس إنتي مالك!.. عارف إنك فرحانة طبعا!.. بس شكلك فرحان زيادة عن اللزوم حبة!.. 

اضطربت هاجر، كان على حق، فتلك الابتسامة البلهاء والدموع التي تلمع بعينيها تؤكد على فرحة غامرة ما استطاعت سترها عن الأعين، وخاصة عينى جمال اللماحة، ما جعلها تحاول التبرير هاتفة: اكيد فرحانة جدا، أنت متعرفش نصير بيه يبقى بالنسبة لي ايه يا جمال!.. من يوم ما دخلت بيته وبقيت تحت جناحه وأنا بنت اتناشر سنة وأنا فعلا مديونة له بحاجات كتير.. أنا بقيت هاجر اللي انت شايفها دي بسبب الراجل اللي جوه ده.. فأكيد طبعا فرحانة إن ربنا نجاه.. 

هز جمال رأسه يدعي التفهم، محاولا إقناع نفسه أن ما يستشعره ما هو إلا مشاعر امتنان قوية تجاه رب عملها الذي كان بمثابة أخ أكبر.. تدين له بالكثير.. 

تنبه جمال حين خرج الأطباء من غرفة نصير بعد القيام باللازم، ليبادرهم جمال متسائلا: ايه الأخبار يا دكتور!.. هل الحالة كده تمام واقدر استجوبها!.. 

أكد أكبر الأطباء المسؤولين عن الحالة: آه طبعا يا فندم، إحنا بنجهز لنقله لغرفة عادية.. وبعدها تقدر حضرتك تستجوه بس يا ريت مش لفترة طويلة.. عشان منجهدهوش.. هو لسه قاعد معانا شوية لحد ما نطمن إنه بقى تمام ويقدر يخرج من غير أي مشكلة.. 

هز جمال رأسه متفهما: آه طبعا يا دكتور، هم بس كلمتين عشان نقفل المحضر.. الاجراءت اللي حضرتك عارفها مش أكتر.. 

ما أن أنهى جمال كلماته، حتى انفرج باب غرفة نصير عن ذاك السرير المدولب، يدفعه بعض المرضى ونصير ممدد به في شحوب، في سبيلهم لنقله لغرفة عادية.. كمؤشر على تحسن حالته، اندفعت هاجر تسير جوار السرير المتحرك في لهفة، ليلحق بها جمال، وقد رأي إشارة نصير لهاجر أمرا لها بالاقتراب، ليهتف في صعبة: فين أنس!.. هي معرفتش اللي حصل!..

أكدت هاجر: لا متعرفش لحد دلوقت.. محدش بلغها لأنها لسه هناك فالصعيد.. 

أمرها نصير: طب خلي حد يسافر يبلغها.. يقولها.. نصير الراوي عايزك.. معاه ليكي صفقة العمر.. ولازم تيجي بأسرع وقت.. 

هزت هاجر رأسها في طاعة، وقد وصل الممرضين للحجرة المرجوة، ما دفعها لتنتظر بالخارج حتى يتم ضبط كل الأمور.. وجمال يقف بالقرب منها، مستاء من نبرة الأمر التي كان نصير يخاطب بها هاجر.. التي وقفت تفكر كيفية توصيل رسالة نصير بيه لأنس الوجود.. ولم يكن هناك إلا ممدوح لتلجأ إليه.. عليها انتظار زيارته التي لا يتوانى عنها يوميا منذ دخل نصير المشفى، حتى تبلغه بالمطلوب.. 

❈-❈-❈  

الرسلانية ١٩٩١.. 

خرجا من السراي.. كان حبيب يحاول أن يخفف من سرعته لتوافق خطواتها، متجهان لدار الشيخ معتوق، لتسأله أنس في فضول: سمعت إن الشيخ معتوق كان متجوز يه..ودية!.  صح الكلام ده!.. 

ابتسم حبيب مجيبا: أني شايف إنك بجيتي مهتمة بناس النچع وتاريخ حياتهم، أكتر م السبب اللي چيتي عشانه!..

كان على حق، ألم يكن دوما كذلك يا أنس!.. حاولت أن لا تجب على هذا التساؤل العفوي الذي طرحه عقلها بشكل تعجبي، مع أن الإجابة بسيطة.. هي كلمة.. نعم.. أم.. لا.. 

وكعادتها المتمردة، دفعت الإجابة في أعمق نقطة بباطن عقلها، ملتفة نحوه قليلا لتجيبه في هدوء مصطنع: أهو بتسلى.. لحد ما ربنا يسهل.. وكل واحد يعرف ساسه من راسه.. 

قهقه حبيب، ما جعل شيء ما داخلها ينتفض في انشاء لأهازيج الفرحة الرجولية تلك.. والتي اطربت آذان الروح.. وهتف متعجبا: لا وكمان بجيتي بتتكلمي كيفنا.. ولسانك عوچ يا أستاذة.. جعدتك هنا لو طولت شوية كمان هتاخدي الباسبور الصعيدي.. واحنا اللي بياچينا.. مش بيرچع بالساهل أبدا.. 

همست في تيه: ومين عايز يرجع!.. 

همس متسائلا وقد تناهى لمسامعه كلماتها الغير مفسرة: بتجولي حاچة!..

تداركت في عجالة: آه، بسأل على حكاية الشيخ معتوق مع مراته ال..

قاطعها حبيب وقد وصلا لدار الحرانية، فوقفا قبالة بوابتها المنخفضة نسبيا، مؤكدا: دي حكاية عجب، هبجى احكيهالك.. 

همست تسأل، وقد أصبح الدخول لدار جدها ثقيل عليها في تلك اللحظة، راغبة في استكمال المسير، تواقة لسماع الحكايات منه، وألا يتوقف الحكي أبدا: هو انتوا كل حكايتكم كده عجيبة!.. أنا كنت فاكرة أمي بتبالغ في حكاية جدها سعد رسلان وجدتها أنس الوجود.. لما كانت تحكهالي وأنا صغيرة كنت فاكرة إنها حدوتة مش أكتر.. ولما كبرت شوية كان خلاص في دماغي إن الحكاية دي فعلا حدوتة شبه الأساطير.. وكنت اقعد اضحك واتريق لما ما تحكيها للشغالة اللي عندنا.. مرة واتنين وعشرة.. بنفس الشغف.. لكن اكتشفت إنها حقيقة في كل حرف لما جت هنا وسمعت الحكاية من كذا حد.. وكلهم أجمعوا على نفس التفاصيل والأحداث.. واتاكدت إن هنا فعلا أرض الحكايات العجيبة اللي على الرغم من غرابتها تلاقيك مصدقها أو يمكن لسبب ما..  نفسك تصدقها.. 

كان مأخوذا كليا بحديثها الذي كان على غير العادة منطوق بكل محبة وتقدير لهذه الأرض التي كانت تفر من البقاء فيها منذ وطأتها قدماها للمرة الأولى.. حتى أنه لم يتنبه لمظهر الذي هتف في سماجة: طب بدل الوجفة اللي ملهاش عازة دي، نجعدو چوه!.. 

كان حبيب يدرك أن مظهر محقا، فما كان الوقوف أمام دارهم بهذا الشكل لائق، لذا أثر السلامة، هاتفا في نبرة عادية: مرة تانية يا مظهر.. 

وتوجه بحديثه لأنس الوجود التي خطت أعتاب البوابة بالفعل: اعدي اخدك ميتا!.. 

هتف مظهر قبل أن تنطق أنس حرفا: لما نشوفوا.. حبت تبيت ع العين والراس.. حبت ترچع .. هرچعها أني.. متشغلش حالك.. 

رمقه حبيب بنظرة نارية، ولم يرد على كلامه، ليتفاجىء أن أنس هي من أجابت مؤكدة: على صلاة العصر كده يا حبيب بيه هكون جاهزة وفي انتظارك، عشان ميعاد زيارة نجية فالمستشفى.. 

هز حبيب رأسه في إيجاب، وألقى التحية ورحل منتشيا طوال الطريق لدار الشيخ معتوق، من نصرتها له على هذا السمج المدعو مظهر.. والذي هتف اللحظة: اتفضلي يا بت عمي، تعالي اوصلك لچدي.. 

لم تستجب أنس مشيرة نحو مقاعد بالخارج: لا، أنا هقعد هنا استنى جدي.. الجو حلو والقعدة هنا لطيفة.. 

تطلع نحوها مظهر في نظرة مطولة لم تستطع تفسيرها، ثم أومأ برأسه تاركا إياها تتحرك نحو المجلس الممتد بمقاعده وأرائكه تحت هذه التعريشة الصغيرة.. 

ساد الصمت من حولها إلا من أصوات بعض العصافير على الغصن فوق رأسها، وكذا غرابان نعقا في شجرة قريبة نسبيا من أسوار الدار.. كان السلام يعم نفسها، تشعر براحة نفسية جميلة.. وهي في ظل هذه الأجواء.. لتتفاجأ بدخول صاروخي لامرأة تتشح بالسواد، تسرع الخطى نحو الداخل وكأنها من أهل الدار، حتى أنها من تعجلها لم تلحظ وجود أنس الوجود موضعها.. ما دفع أنس بشكل لا إرادي للنهوض.. تسير في إتجاه الحديقة الخلفية، حيث النوافذ الطولية المشرعة على باطن الدار وحجراته، والكاشفة لكل ما يحدث في خباياه.. 

وقع ناظرها على المرأة الثائرة وهي لا تقم لأحد بالدار وزنا، حتى أن مظهر ألقى عليها التحية هاتفا: كيفك يا عمة سنية!.. زينة! 

هتفت وهي تندفع لداخل حجرة الجد: ولا زينة ولا سخام، حل عني يا مظهر.. وسيبني مع چدك دلوجت.. 

تطلع عزام نحو ابنته سنية في حنق: هو إنتي متدخليش إلا بزعابيك كده! ايه في يا آخرة صبري!.. 

هتفت سنية وهي تدفع عنها حجابها، تتخفف من ملسها الثقيل في حنق: شوفلك حل في السيد أبو زكيبة وولده!.. أني خلاص حطيت صوابعي العشرة فالشج من عمايلهم.. 

تنهد عزام متسائلا: العمدة، كبير البلد، الراچل الشايب العايب، كل نوبة اچيبه من عند مرا شكل، وأجول وماله.. طبع الرچالة كلهم على دي الحال منيش عچبة، وصابرة وكاتمة فجلبي لما هطج، لكن اللي زاد وغطا الواد الحيلة.. من بعد المسدوحة منيرة ما رفضت ترچع له وهو لا على حامي ولا على بارد.. 

سأل مظهر ساخرا: ايه بجى بيچري ورا النسوان هو راخر!.. 

تطلعت سنية نحو مظهر في نظرة محتقرة قبل أن تتجاهله، موجهة حديثها لأبيها زاعقة: الواد هيروح سكة اللي يغور فيها ما يرچعش يا حج عزام.. طالج لي دجنه، وطالع نازل يخترف بكلام محناش فهمينه، يا خوفي اصحى فليلة ملجاهوش.. وأعرف إنه راح ويا أمات دجون اللي مداريين فالچبل.. جولي أسوي كيف.. وأبوه ودن من طين وودن من عچين.. وكل اللي طالع عليه إنتي السبب.. طب أني السبب ف ايه طيب!.. وارچع الواد عن السكة دي كيف!.. 

وبدأت تجهش في البكاء في حرقة، حتى أن أنس نفسها تعاطفت معه.. فهي أم على أي حال.. وقد أدركت من حديثها أن هذه هي سنية زوجة العمدة أبو زكيبة والتي كانت في يوم من الأيام حماة منيرة.. أم عزت.. الذي اذاق منيرة مرارة الهجر والفراق القاسي بلا جريرة.. ودفعت ثمن كل هذا من أعصابها وراحة بالها وسمعتها التي استردتها يوم أن جاءها ذليلا يرغب في الوصل من جديد تحت أي شروط.. وهي التي رفضت لتستعيد كرامتها وتطهر سمعتها مما علق بها جراء افتراءاته.. وعلى ما يبدو أن القدر يبدع في تصفية الحسابات .. وما زال الدفع مستمرا.. 

عادت أنس في حرص لموضعها، وانتظرت ما يقارب ربع الساعة، وعلى ما يبدو بسبب وجود سنية وشكواها.. لن تستطع مقابلة جدها.. فهي لن تغامر بالدخول لإلقاء التحية حتى وهذه المرأة بالداخل.. ما دفعها لتنهض متجهة نحو الخارج، تحاول اللحاق بحبيب في المسجد والعودة معه لتستعد لزيارة نجية، لكن ذاك الصوت الجهوري قد استوقفها وهو يتساءل في نبرة عدائية: إنتي مين! وايه اللي چابك على هنا!.. 

لتتسمر أنس الوجود موضعها في انتظار المنقذ.. 


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة