-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 32 - الجمعة 16/5/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثاني والثلاثون 


تم النشر الجمعة 

16/5/2025

 يدبر الأمر.. 


عرابة آل الحفني.. ١٩٤٣.. 

انتفض عدنان الحفناوي في فرحة ما أن وجد سعد قادم لداخل داره، فاتحا ذراعيه في ترحاب لاستقباله باشا، ليهتف عدنان في محبة: والله وشجة تستاهل ندبحوا لها عچل.. 

وصرخ مناديا خفيره، أمرا بذبح أحد العجول الثمينة ترحيبا بقدوم سعد حتى دارهم، ما دفع سعد ليهتف في مودة: والله كد الجول والفعل يا عدنان، بس اعفيني .. أني چاي لك فموضوع كده.. وأني بجدم رچل وبأخر التانية.. 

صرف عدنان خفيره حين استشعر أن ما دفع سعد للقدوم لداره لأمر جلل، فتنبه متوجها بكليته صوب سعد، مائلا نحوه في محاولة لثبر اغواره، هامسا في نبرة قلقة: خير يا سعد باشا، فضل ولدنا محتاچ أي حاچة تاني، ده إحنا نفدوه بعنينا، وندسوه بين رموشنا، ولا يصيبه شر.. 

هتف سعد وهو يربت على كتف عدنان في امتنان: والله أنت سهلت عليا كتير بجولك ده، هو الموضوع برضك يخص فضل ولدي.. موضوع نسب.. 

تطلع عدنان نحو سعد متعجبا: نسب! ناويبن تخدوله بت مين!.. والله فالبر كله ما في اللي تستاهل فضل.. ده ياخد ست البنات، أميرة مأصلة.. يا سعدهم يا هناهم.. جول مين هي.. وأني.. 

هتف سعد مقصرا المسافة، معلنا بشكل مباشر: بت أخوك.. يا عدنان.. رايدين بت أخوك لفضل.. 

بهت الرجل، وتبدل لون وجهه الوردي الموفور العافية، إلى لون شاحب.. متطلعا نحو سعد في صدمة: فايزة!.. فوز بت أخوي! طب كيف طيب!.. دي معهدينها لولدي عامر من وهم صغار.. ده أني لسه جايل لعامر يصبر لچل ما تخلص السنة دي من غير شر ونكتبو الكتاب!.. 

اضطرب سعد، مدركا أي موقف صعب يعيشه عدنان اللحظة، مستشعرا نحوه تعاطفا كبيرا جعله يهتف مخففا عنه حيرته: يا عدنان.. أني عارف إني حطيتك في ورطة كبيرة، ما هو عامر ولدك برضك، وفايزة بت عمه وهو أولى بيها من أي حد أي كان.. 

لم يعقب عدنان، وقد بدأ مع كلمات سعد المتفهمة، يستعيد بعض من لون وجهه، وثباته المعهود، لكنه لم يعقب بكلمة، تاركا الأمر لسعد الذي استطرد: وفضل ولدي.. ما هو برضك ولدك.. ومعزتك من معزة أخوي وربك العالم بالنوايا، ده أني مأمنتش مخلوج على فضل إلا أنت.. وفايزة تتعد بت عم فضل برضك.. يعني ده ولدك وده ولدك.. وأحكم أنت باللي ترضاه.. 

لم يعقب عدنان على منطق سعد، الذي أعاده لنقطة الحيرة الأولى.. فأثر الصمت.. ليستطرد سعد مجددا: مخبيش عليك يا عدنان، الواد ماشي فسكة السياسة كيف ما أنت واعي، وجلت مفيش حاچة هتخليه يرتدع إلا الچواز.. ولما دورنا فالأنساب.. ملجيناش كيف نسبكم، وفضل هيعوز ايه اكتر من وحدة بت أصول ومتعلمة كيف بتكم.. وأني بجولك أهو عشان تطمن، حتى لو جلت لاه، ده ملوش صالح باللي بينا.. إحنا اللي بينا مهواش جليّل يا عدنان، وكان نفسي نوصلوه أكتر بالنسب.. 

ساد الصمت لبرهة، قبل أن يسأل عدنان أخيرا: يعني أنت جلت لفضل، وهو جال عايز فايزة! ولا أنت چاي تختار له بت حلال، إن مكنش هي تلاجي غيرها!.. 

تفهم سعد مغزى سؤال عدنان، فأكد في هدوء: وهو أني لو كان أي بت ما كانت خلصت يا عدنان، لكن هو اللي طلب يدها بنفسه، هو اللي رايدها، ولما جلت له دي متكلم عليها واد عمها من سنين، جاللي مش هاخد غيرها..

هتف عدنان في نبرة بها غضب مكبوت: وهو ولدك دخل دارنا وبينجي من الحريم كمان!.. 

هتف سعد مقسما: ما عاذ الله يا عدنان، والله حرمة داركم منصانة، وفضل شافها فالچامعة.. ولما عرف هي مين.. چه وكلمني وجال لي اطلبهالي.. 

تنهد عدنان الحفناوي في قلة حيلة.. ما دفع سعد ليربت على كتفه مجددا، هاتفا في نبرة حانية: اللي تشوفه فالصالح يا عدنان أعمله.. استأذن أني.. 

انتفض عدنان معترضا: لاه، هتمشي كده من غير ما تاخد واچبك ونتغدو سوا!.. والله ما يحصل أبدا.. 

ابتسم سعد مؤكدا: النوبة الچاية.. فالفرح بإذن الله.. مهما كان جولك.. هيبجى الفرح فرحنا والعريس برضك ولدنا.. 

فتح عدنان ذراعيه من جديد، مطوقا سعد في محبة صادقة، رابتا على ظهره في قوة.. مؤكدا بدوره: ربك يچيب الصالح.. ويجدم اللي فيه الخير يا باشا.. 

ألقى سعد التحية، مهرولا للخارج، فقد وضعه فضل ولده في موقف لا يحسد عليه، وكذا ذاك المسكين بالداخل، الذي يعلم سعد جيدا أن الأمر ليس هينا عليه أبدا.. فالاختيار هنا لا يحكمه المنطق بقدر ما يحكمه القلب.. وتوجه دفة المشاعر.. وسواء كان الاختيار عقليا بحت، أو قلبي صرف.. فالاختيار في حد ذاته مرهقا ومربك بلا أدنى شك..

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٤٣..

سمح سعد بفتح بيت نعيم مرة آخرى بعد أن علم بما كان بين الشيخ رضا وولده معتوق واستير، لتظل به حتى تعد نفسها للزواج والانتقال لبيت الشيخ رضا.. 

كان الأمر عجيبا ومربكا، فقد تفاجىء أهل النجع برحيل نعيم وزوجته.. ثم خبر خطبة ابنتهما الصغرى لابن الشيخ رضا، فربطا الحدثين معتقدين أن رحيل نعيم المفاجىء من النجع ما هو إلا اعتراضا على زواجها من ابن الشيخ، فقد كان الجميع يعلم كم كان نعيم يهو..ديا متشددا.. وان زواج ابنته الصغرى من مسلم.. لهو مصيبة.. بل كارثة حقيقية.. مع تعجب البعض منهم.. لحدوث الخطبة وتحديد موعد الزفاف بهذه السرعة وخاصة أنه كان معروف لهم أن استير مخطوبة بالفعل لابن خالتها وان زواجهما بات وشيكا.. فما الذي حدث وبدل كل الخطط، وغير كل المسارات.. لتصبح استير في الأخير بقلب دار الشيخ رضا!.. لا أحد يعلم أكثر من التفاصيل المعلنة.. وحين أدرك الجميع استحالة الحصول على ما يشبع نهم العامة للقيل والقال.. حتى ازعنوا لما هو كائن، وباركوا الزواج.. بل إنهم استعدوا له واشتركوا في التجهيز لهذه الليلة المباركة.. وخاصة لمساندة مديحة التي كانت تقف وحيدة بديلا عن أمها المريضة في إعداد الدار لاستقبال العروس.. 

ساهم سعد ووهدان في تكاليف احياء الليلة الميمونة، ليتحول النجع إلى ساحة فرح.. ذبحت الذبائح.. ومُدت الطبالي.. وأقيمت الولائم.. وزان الليلة نجوم الانشاد الديني الذين جاءوا من كل حدب وصوب لتصدح أصواتهم بالتواشيح والموشحات محبة في سيدنا رسول الله وآل بيته الكرام.. 

لتنتهي الليلة بدخول العريس للدار مع تعالي الزغاريد من كل صوب.. لتعلق العروس كفها بذراعه.. لتسير بهما مديحة نحو حجرة أمها لتبارك العريس وعروس الدار الجديدة.. مبتهلة لله أن يمنحهما الله الحياة الهانئة والذرية الصالحة.. ليقبل معتوق ظاهر كف أمه في محبة، وكذا سارت على نهجه العروس في طاعة.. حتى إذا ما انتهيا.. صحبتهما مديحة لخارج الغرفة، ليجتمع العروسان داخل حجرتهما التي تم تزيينها بالأساس الجديد، ذاك السرير النحاسي العالي ذا الأعمدة الأربعة التي نشرت على أطرافها ستار من التل يقي النائمين ازعاج الناموس ويمنع الحشرات الطائرة.. بجانب أريكة جانبية وبساط من الحصر.. ولمبتين نمرة عشرة موضعتان كل بكوة جانبية داخل الحوائط بجانبي الحجرة.. وأخيرا.. تلك الطاولة المنخفضة التي تحمل صينية مغطاة عامرة بأطايب الطعام.. 

كانت الزغاريد ما تزل تعلو من الخارج من حنجرة مديحة التي وقفت على باب حجرة العروسين تستقبل تهنئة المهنئات من الجيران والأحباب.. حتى انتهت منهم مغلقة باب الدار.. تاركة والدها مع الرجال بالخارج.. مندفعة نحو حجرة أمها.. تطمئنها أن الأمور سارت على ما يرام.. وأن العروسين بحجرتهما يهنآ بلحظاتهما الأولى.. 

❈-❈-❈  

عرابة آل حفني.. ١٩٤٣.. 

دخلت سكينة حاملة لمبة نمرة خمسة إلى القاعة التي يكون بها مجلسه الدائم، تستطلع إذا ما كان هناك، فقد تفقدت موضعه جارها على الفراش فلم تجده حيث يندس ليلا إذا ما فرغ من زيارة الزائرين والحكم بين المتخاصمين.. ورحل الأصدقاء وانتهت السهرة على خير ما يرام.. لكن الليلة وعلى غير العادة، مدت كفها نحو مكانه فلم تجده.. وكان مكانه بارد.. ذاك يعني أنه لم يدخل لفراشه حتى اللحظة.. 

تطلعت حولها بالقاعة فلم تجد عدنان، تراه أين يكون في مثل هذه الساعة!.. فلا يحدث ذلك عادة إلا فيما ندر، حين تنقلب العرابة رأسا على عقب عند اكتشاف جثة قتيل ما بالرياح القبلي.. فيتم إبلاغه ليندفع من توه لموضع الجثة.. في انتظار مأمور المركز والنائب المحقق.. وقد يستمر الأمر حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي.. 

خرجت تتلمس الخطى، وقد تركت الدار وخرجت تقف على أعتابه وهي ما تزل تحمل اللمبة لعل نورها يزيح بعض العتمة، فينجلي لها موضعه.. وقد بدأ القلق يتسلل نحو قلبها.. لتتنهد أخيرا في راحة حين وقع ناظريها على موضعه في ذاك الركن البعيد من الشرفة المطلة على الجنينة الخلفية للدار.. فتركت اللمبة جانبا، وهرولت نحوه عاتبة في حنو: بجي كده يا عدنان تشغلني عليك! ايه اللي مجعدك لحالك هنا الساعة دي!.. 

تطلع عدنان صوب زوجته، التي منحها له القدر وقد كانت أبعد من أن يطولها، وعلى الرغم من ذلك، كانت تصاريف الأقدار هي الغالبة.. كانت زوجة أخيه الأصغر.. وابنة عمهم كذلك، انجبا فايزة ورحل الأخ بلا مقدمات، وكان هو قد فقد زوجته التي منحته عامر واثنتين من البنات.. ليجتمعا هو وهي ليكملا مسيرة الحياة وتكون عوضا له عن ما فقد ويكون عوضا لها ولابنتها عن فقد أخيه.. 

هكذا النصيب، يفعل ما بدا له، ولا مغير لأحكامه!.. جلست سكينة جواره، تربت على كتفه في قلق على حاله، متسائلة في تعاطف: مالك يا عدنان! ايه فيك كفالله الشر!.. أنت تعبان ومخبي علي!.. 

ابتسم عدنان رابتا على يدها التي حطت على كتفه مواسية، فزاحت دون أن تدرك بعض من الهم الذي يحمل.. كان عادة ما يلجأ إلى سكينة حين يرغب في الراحة وانهاء جدل عقله في أمر ما، فقد كانت دوما سديدة الرأي وما رجع إليها يوما إلا وكانت راحة البال بضاعتها.. لكن الأمر اليوم يختلف، فما جاء به سعد رسلان، يخص ولده الوحيد.. وابنتها الوحيدة.. اللذان رغب كلاهما في جمعهما تحت رباط الزوجية حتى ينعما بالأحفاد في القريب العاجل.. فهل ينصر رغبة ولده على ما قد يكون فيه شفاء ابنتها، التي استشعر مؤخرا رغبتها في تسويف أمر الزواج من ولده، أو حتى الغائه إذا اقتضى الأمر وجرأت على مطلب كهذا من الأساس!.. أم يفضل راحة ابنتها وتركها تختار زوجها حتى لو رفضت ابن سعد رسلان نفسه.. وعدم تقييدها بأمر قد تم الاتفاق عليه منذ سنوات طويلة كانت فيها وعامر لازالا أطفالا لا يعِ أحدهما من أمره شيئا!.. 

طال صمته، ما دفع سكينة تهتف في توتر: ما ترد عليا يابو عامر، ايه في! الدم هرب من عروجي!.. 

هتف عدنان أخيرا: خير يا سكينة، متخديش فبالك، أني تمام.. 

هتفت هي عاتية بدورها: صدجت أني كده! لاه، أنت مش مرتاح وفي حاچة مكدراك، لهو أني هعرفك النهاردة!.. هتخبي على سكينة برضك!.. ارمي همك فحچري ياللاه.. اللي يتجسم على اتنين يجل حمله.. 

همس عدنان متنهدا: هجولك وأمري لله.. أصلك إنتي مش هترتاحي إلا لما تعرفي.. 

اتسعت ابتسامة سكينة مؤكدة: معلوم.. 

أقر عدنان بما أهمه دفعة واحدة: زارني سعد باشا رسلان النهاردة وطلب يد فايزة لفضل ولده.. 

لم تحر سكينة جوابا، وانتظرت أن يكمل في ثبات تحسد عليه، تاركة له الاسترسال ليخبرها بكل ما لديه: جلت له دي مكتوبة لعامر ولدي من زمن.. جالي ده ولدك وده ولدك.. وشوف اللي يناسب البنية.. وأني من ساعتها لا على حامي ولا على بارد.. 

همست سكينة تسأل: وايش عچب ينجي بتنا من دون البنات!.. ما سعد بيه نسبه يشرف أي عيلة، وياخد بت أكبرها عيلة في البر كله!.

هتف عدنان مؤكدا: الواد رايد البت، جال شافها فالچامعة ولما عرف هي بت مين، بعت أبوه يطلبها.. 

همست سكينة تسأل في تعاطف، على الرغم من فرحتها الداخلية لتهافت الطالبين على وصل ابنتها: طب وعامر!.. 

هتف عدنان متحيرا: معرفش.. مبجتش عارف.. 

هتفت سكينة تربت على كتفه: شوف فايزة، ما يمكن ترفض واد سعد باشا، ويبجى يا دار ما دخلك شر.. ايه جولك!.. 

سأل عدنان: ولو وافجت!.. ايه العمل!

تطلعت سكينة نحو زوجها، هاتفة في نبرة متعجبة: كنك واعي إن فايزة ملهاش ميل في چوازها من عامر!.. وهتجبل بفضل!.. 

هز عدنان رأسه مؤكدا على صدق استنتاجها، مجيبا: أو يمكن ترفض التنين!. بس اللي مبرچل حالي، إني كيف موعيتش إنها مش جابلة عامر جبل سابج!.. ولو وافجت أو رفضت واد سعد، مش دا المشكل.. المشكل في چوازتها من عامر نفسها!.. وف عامر.. كيف أجوله إن بت عمك اللي وعيت إنها من نصيبك، راح تكون من نصيب غيرك!.. إنتي واعية يا سكينة حاله هيكون كيف!.. 

تنهدت سكينة موقنة أن الأمر معضلة فعلا، وأن الحل لا يأت بالمنطق، لكن يأتي بالدعاء والابتهال أن يمر هذا الموضوع على خير.. ولا يجر خلفه تبعات لا يحمد عقباها.. رابتة على كتف زوجها متعاطفة، ليهمس في نبرة مرهقة: وعيتي يا سكينة للي ناب چوزك وطير النور من عينه وخلاه هاچچ من فرشته!.. 

دمعت عينى سكينة، جاذبة يدها ليترك موضعه، هامسة في حنو: طب جوم ارتاح، تبات نار تصبح رماد، لها رب يعدلها.. 

رفض النهوض، راغبا في البقاء وحيدا، إلا أن سكينة ظلت تلح عليه حتى نهض بصحبتها نحو حجرتهما، والمعضلة ما تزل بلا حل.. 

❈-❈-❈  

الرسلانية ١٩٤٣.. 

وقف في ثبات ظاهري، لكن قلبه كان يخفق بقوة كقلب جواد أصيل في خضم معركة حامية، ظلام دامس يحاوط دنياه، وما تمنى اللحظة أمنية إلا أن يرد الله له نور بصره ولو لدقائق، حتى يبصرها في ثوب عرسها ويملي عينيه من جمال طلتها وحسنها القاهر .. مجرد لحظات يوشم صورتها بأحداق مخيلته.. يعيش عليها زادا للعمر بعد أن ينقطع المدد.. لكن هيهات.. ما ذهب بلا رجعة لا يعود.. أخرج نفسه عنوة من خضم أمنياته المستحيلة، متجها نحو موضع الأريكة الذي حفظه، فقد تمرن عدة مرات ليحفظ موضع كل جديد بالغرفة، قبل ليلة الزفاف، حتى لا يتعثر أمامها، هامسا بصوت باسم على الرغم من الغصة التي سكنت حلقه: لساتك على چمالك يا استير!.. كني واعي لك بنفس صورتك وأنت بت عشر سنين.. جبل ما نور عيني يروح وميبجاش منه إلا الضلمة.. كانت آخر صورة ليكي فدماغي.. هي البت أم ضفرتين اللي واجفة مع مديحة تلعب في جلب الدار.. وكنت دائما أجول فبالي.. دي بعيدة جوي عنك يا معتوج، وأنت جليل الحيلة.. بس ربك رحيم.. يدبر الأمر لمن لا حيلة له.. حتى يتعچب أهل الحيل.. 

تطلعت استير صوبه في عشق، هاتفة في صوت خفيض وهي تجلس جواره على الأريكة: هي يا شيخ معتوق، لسه بحطة إيدك.. هيا استير اللي كانت كل ما تغيب تكشف في مصر، تقول يا رب يرجع مجبور الخاطر ويحفظ له نور عينيه، واللي بكت ياما لما عرفت من مديحة إن خلاص الدكاترة قالوا نورهم راح.. 

همس معتوق بصوت متحشرج تأثرا: الإنسان ده طماع أوي، كنت بجول لنفسي كتير، كان ربنا خلاني اعمى من يوم ما اتولدت أحسن، بدل ما كنت اتعودت ع النظر وخده مني، لكن دلوجت بس عرفت حكمته.. وإنه ليه خلاني اتمتعت بنعمة النظر شوية، اهو فالشوية دول نضرتك يا استير، شفتك ورسمت صورتك وخبيتها بخيالي.. عشان لما اوعالك دلوجت.. تبجى هي اللي جصاد عيني.. تعالي جربي يا استير.. 

اقتربت حتى دنت فشعر أن الأرض قد ضاقت وأن الكون قد اتسع براحه، ليمد كفه نحو وجهها، فانتفضت مبتعدة متمنعة: لا يا شيخ معتوق.. 

هتف معتوق مازحا ليخفف من وطأة اللحظة: لاه، هو فينا من كده يا استير!.. أين طاعة الزوچ يا فتاة! 

همست استير وهي تعود لموضعها الأول قربه: الطاعة محفوظة يا شيخ، مقصدش بس أنا..

همس معتوق باسما: ولو تجصدي، حتى الأعراض منكِ يرضيني.. 

همست استير مضطربة: يووه، أنت بتقول كلام يدوخ يا شيخ معتوق، وأنا عايزة اقولك الكلمتين اللي أنا حفظاهم وبيهربوا مني بكلامك الحلو ده.. 

همس معتوق متعجبا: كلمتين حفظاهم، طب جولي.. يالاه سمعيني.. 

همست استير متنحنحة، مطالبة في هوادة: افرد يدك قصادك يا شيخ.. 

نفذ معتوق في طاعة عمياء، فاردا كلتا كفيه ليكون باطنهما قبالة ناظريها، مستشعرا أن ما هو قادم يحمل الكثير، فوضعت كفها اليمنى لتنام فوق باطن مثيلتها، هامسة بنبرة باكية: أشهد أن لا إله إلا الله.. 

ووضعت كفها اليسرى فوق مثيلتها كذلك، متمة: واشهد أن سيدنا محمد رسول الله.. 

ظل معتوق على صدمته مأخوذا لبرهة قبل أن يصرخ في سعادة: الله أكبر.. الله أكبر.. 

كان صوت تهليله عظيما، حتى أنه وصل لخارج حدود حجرته، ليسمعه الرجال الذين كانوا في مجلسهم خارج الدار، فانفجر الجمع ضاحكا، كل على قدر إدراكه، فقد كان تهليل معتوق فرحة ونصرة.. لأن زوجه أصبحت فردا تحت لواء الإسلام، أما الرجال بالخارج فضحكاتهم لاعتقادهم أن ذاك التهليل لهو إشارة لانتصار من نوع آخر.. 

ضم معتوق كفي زوجه في محبة، وبدأ في تقبيلهما في سعادة وهي تبكي فرحة، لتهمس متسائلة: هااا.. مش ناوي تختار لي اسم تاني على ذوقك!.. 

هتف معتوق بلا تردد: خديچة.. لعل الله يمنحني منك السكن والمودة والعزم التي وجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. في السيدة خديچة زوجته.. 

همست استير مترنمة اسمها الجديد: خديجة!.. حلو أوي يا شيخ معتوق.. 

جذبها معتوق نحوه، فعاتبت متدللة: شيخ معتوق! 

همس معتوق مازحا: يا بت إنتي تتعدي مولودة من چديد، وأني خايف عليكي وده الدرس الأول.. بعلمك المشي.. 

قهقهت خديچة لتغرد ضحكاتها كبلبل على غصن شجرة وارفة في ليلة ربيعية، ليجذبها معتوق بين ذراعيه، مازحا: لاه، شكلك نبيهة، فاحنا ندخل ع الدرس العاشر عدل.. 

لترتفع ضحكات خديجة، استير سابقا، على مزاح زوجها، ضحكات صادرة من عمق القلب الذي ما ذاق الفرح يوما إلا بهذه اللحظة. 

❈-❈-❈  

عرابة آل حفني.. ١٩٤٣..

طرقات على بابها جعلتها تعتدل في جلستها مجيبة على من بالباب بقبولها، لينفرج الباب عن محيا عمها ومن خلفه أمها التي فضلت الوقوف على عتبات الحجرة دون الولوج إليها كما فعل عمها عدنان، والذي وجد له موضعا وجلس به، أمرا إياها بالجلوس قبالته، هاتفا يسأل بلا مواربة: إنتي رايدة عامر يا فوز!.. 

اضطربت فايزة، فما كان في حسبانها يوما أن يسألها أحدهم هذا السؤال، لكنها استجمعت شجاعتها، وهتفت في كلمات حاولت أن تصيغها بشكل دبلوماسي كمن يغلف حبة دواء مر ببعض السكر: والله يا عمي عامر ده واد عمي اتربينا سوا، وأخلاجه مفيش بعد كده، عامر ميتعيبش يا عمي.. لكن.. أنا.. 

قاطعها عدنان متفهما: طالما چينا للكن.. وهتجعدي تجولي اصلاك وهو.. يبجى مهواش ع المرام يا بت أخوي.. ومهواش مالي عينك.. 

همست فايزة متعجبة: هو ايه بس اللي چرا يا عمي! أني مش فاهمة حاچة!.. هو.. 

أشارت لها أمها بالصمت، فامثلت ولم تنطق حرفا.. ليستطرد عدنان متسائلا: يعني لو چالك عريس غير عامر، تتچوزيه يا فوز!.. 

تطلعت فوز صوب أمها، التي لم تعطيها أي تعليمات خفية، فردت بعفوية: مش لما أعرف هو مين يا عمي، هو أني هتچوز أي حد وخلاص!.. 

هز عدنان رأسه مجددا، وهتف في نبرة غير راضية: يعني ده ممكن يحصل، وعامر يتحط جصاد حد في كفة ميزان.. 

تطلعت فوز نحو أمها لا تعرف بما تجيب، والتي صمتت كذلك، فما كان من فايزة إلا الرد في حنو حين أدركت غضبة عمها على ولده حتى ولو كان يحاول مداراتها: يا عمي عامر ميتسواش ب أي حد، عامر واد عمي، عمي اللي هو أبويا.. واللي فتحت عيني ع الدنيا ملجلتيش أب غيره، واللي اتربيت معاه تحت سجف بيت واحد.. عامر قبل ما انتوا تقرروا چوازنا من زمن لا أني ولا هو كنا فيه دريانين يعني ايه چواز.. كان في عيني أخويا الكبير وسندي وحمايتي.. وهيفضل يا عمي.. لكن چواز!.. أني.. 

أشار لها عدنان أن تسكت، فقطعت كلماتها ولازت بالصمت، ليهتف مؤكدا: أني مرضلكيش تتچوزي واحد مش على خطرك، شرع ربنا مجلش كده، ومرضاش لولدي إنه ميبجاش مالي عين مرته ويتحط في ميزان مع غيره، لأنه غالي.. واللي تختاره لازما يملا عنيها ومتبجاش شايفة راچل غيره يصلح لها.. فأنا يا بتي اللي بعفيكي من چوازتك ب عامر ولدي.. ربنا يسهل له حاله مع اللي تراضيه، ويسهلك حالك مع اللي يسعدك.. 

ونهض عدنان مغادرا غرفتها، وهي حتى هذه اللحظة، لا تعرف ما الذي جرى، وجعل عمها يبحث في أمر زواجها من عامر ولده، والذي كان محسوما، وقد تم تحديد عقد قرانها بالفعل!.. في الأمر سر، ولابد لها من معرفته.. جذبت أمها قبل أن ترحل خلف عمها عدنان لداخل الحجرة، متسائلة في فضول: هو ايه في!.. هو في حاچة چدت!.. 

هتفتأامها مؤكدة: ايوه، واد سعد رسلان طلبك.. سيبيني بجى خليني ألحج عمك اللي راسه مندارة من يوم ما سعد باشا كان هنا.. وكنك متعرفيش حاچة.. 

رحلت أمها على عجل، تلحق بعدنان، تاركة فايزة في عالم آخر.. فقد نزل عليها خبر طلب فضل الزواج بها نزول الصاعقة.. اهكذا تتحقق الأحلام دفعة واحدة!.. خلاصها من ورطة الزواج من عامر، وعلمها برغبة في فضل في الزواج منها باعثا والده ليطلب يدها!.. تطلعت فايزة للسماء بنظرة شكر وامتنان، فما توقعت أن تكون دعواتها مستجابة بهذه السرعة.. تطلعت نحوها في الغرفة التي أضحت ببراح الكون، وتقافزت في فرحة.. فها هي قد أضحت قاب قوسين أو أدنى من أن تنل منية القلب.. 

❈-❈-❈  

الرسلانية.. ١٩٩١.. 

كانت رغبتها في عدم مقابلة هذه المرأة، هو ما دفعها للهرولة مبتعدة عن النافذة التي سمعت منها كل حوارها مع جدها عزام، لكن ما أثار قلقها أكثر هو اكتشاف أحدهم أنها تتسمع حديث أهل الدار، فتعجلت في الابتعاد بل إنها استشعرت الوحدة بعد أن تجاهل مظهر وجدها وجودها وانشغلا مع هذه المدعوة سنية، وتركاها مفردها كل هذه المدة.. فقررت المغادرة، وانتظار عودة حبيب لأخذها، أو حتى ملاقاته عند المسجد.. 

لكن كل هذه القرارات والمخططات ذهبت أدراج الرياح حين استوقفها ذاك الصوت الجهوري الصارخ، متعجبا من وجودها.. متسائلا: إنتي مين! وايه اللي چابك هنا!.. 

استدارت أنس نحو المرأة الثائرة، وهمت بالرد.. إلا أنها استطردت صارخة من جديد: مش انتي جريبة ولاد رسلان اللي چاتهم من مصر!.. 

هزت أنس رأسها مؤكدة على صحة استنتاجها، لكنها استطردت بما لم يكن منه داعِ: ايوه.. أنا قريبة الرسلانية.. لكن أنا حرانية.. وكنت جاية ازور جدي عزام.. و.. 

هتفت سنية في صرخة: إنتي بتجولي ايه! چدك عزام مين!

ظهر مظهر وهو يسند عزام قادما به من الخارج لموضع وجود أنس، معتقدا أن عمته سنية قد رحلت، فإذا بها تصرخ به وبأبيها، وهي تشير لأنس الوجود: مين دي!. جاعدة ترمي بلاها وتجول چدي عزام.. وهو أنت لك عيال غيري أني وولدك ميحسن الله يرحمه ابو المخبل ده!.. مشيرة لمظهر.. 

لم يجب عزام، تاركا كف مظهر، متجاهلا صراخ سنية، متجها نحو مجلسه تحت التعريشة.. ليهتف مظهر محاولا امتصاص غضب عمته، ومؤجلا الصدام على قدر الاستطاعة: أهدى بس يا عمتي، خلي بالك طويل، الدنيا متتاخدش افش كده.. ودي ضيفة يعني وتجول كيف ما تحب.. هنحكموها يعني!.  

كانت إشارة مظهر الخفية لأنس الوجود، تؤكد عليها ألا تصرح بحقيقتها، وتوافق على ما يدلي به مظهر، لكن المرأة نفسها لم تقتنع، وصرخت سنية مجددا: مين دي!.. 

هتفت أنس، ضاربة بإشارة مظهر الثانية التي يمنعها فيها الإدلاء بأي معلومة، عرض الحائط، حين هتفت في ثقة باسمها كاملا: أنس الوجود نجيب الحراني.. 

ساد الصمت لبرهة، كانت أشد حدة من صمت قبر وحيد في صحراء شاسعة، قبل أن تضرب سنية صدرها بباطن كفها في هلع، متطلعة نحو مظهر تارة، ثم نحو موضع والدها القريب نسبيا تارة آخرى، وأخيرا هتفت زاعقة وهي تتطلع نحو مظهر: بت نچيب!.. 

واندفعت نحو مقعد عزام، زاعقة: نچيب يابا!.. نچيب!.. 

هتف عزام محاولا تهدئتها: ما خلاص بجى يا سنية، الكلام ده راح لحاله، من عمر العمر.. اتنسى يا بتي.. وراح لحاله..

صرخت سنية باكية: لاه مراحش، نچيب يا حچ عزام!.. وجالك جلب تدخل بته الدار بعد اللي عمله أبوها!.. مش مسمحاكم .. مش مسمحاكم.. لا دنيا ولا آخرة.. 

واندفعت سنية باكية نحو الخارج، مارة بموضع أنس، التي وقفت تتطلع نحوها لبرهة، قبل أن تعاود هرولتها لخارج الدار وهي تهتف في وجع: يعني هو أني كنت اتنصفت ف مين، عشان اتنصف ف أهلي!.. منكم لله.. منكم لله.. 

وقفت أنس حائرة لا تعرف ماذا تفعل بعد أن هدأت الأجواء برحيل سنية، ما دفع عزام ليناديها أمرا: تعالي يا أنس يا بتي.. تعالي اجعدي.. 

اطاعت أنس جالسة جواره، وتساءلت في تعجب: هي ليه زعلت لما عرفت أنا مين! هي مش دي بنتك يا جدي، ومظهر كان بيقول لها يا عمتي.. يعني هي في مقام عمتي.. ليه اضايقت اوي كده أول ما عرفت أنا بنت مين!.. 

هتف عزام بلا مبالاة: متخديش فبالك.. هم الحريم كده لهم أحوال.. المهم دلوجت، إنتي مش راح تجومي إلا لما تتغدي معاي.. وصي يا مظهر يچيبوا لنا الغدا.. 

هتفت أنس معارضة: لا مفيش داعي يا جدي، شوية وحبيب بيه يجي عشان أروح لنجية المستشفى .. 

هتف عزام في حنق: حبيب مين ونچية مين اللي شاغلة بهم راسك دول!.. إنتي تجعدي تتغدي براحتك ولما ياچي نجوله هنوصلوها لما نشبعوا من جعدتها، وست نچية دي إن مروحتيش النهاردة، روحي بكرة زوريها.. أني معرفش ايه اللي دخلك فحكياتها الماسخة دي، هي يعني كانت من بجية ناسك!.. 

لم يعجب أنس الوجود الكلام، لكنها لم تعقب، وخاصة حين عاد مظهر حاملا صينية الغذاء ليضعها قبالتهم، لتمد يدها دون حتى الحاجة ليدعوها جدها، حتى تنتهي قبل أن يحين موعد وصول حبيب فلا يحدث صدام هم في غنى عنه.. وقد حدث ما توقعته.. فما أن انتهى الجميع وحمل مظهر الصينية داخلا.. وجاء بالشاي.. إلا وهل حبيب بعدها بعدة دقائق.. يقف على الأعتاب مناديا باسم مظهر.. الذي خرج له.. داعيا ايه للداخل على مضض.. 

دخل حبيب حتى مجلسهم، لتملأ هيبته المكان، لم يكن يرتدي خلاف ما يرتديه جدها وابن عمها، الذي يماثل حبيب في العمر تقريبا، لكن سمت طلته يكسبه مهابة فطرية لا يمكن أن تخطئها عين راءِ.. ألقى السلام في مودة، واعتذر في وقار عن البقاء..

❈-❈-❈   

القاهرة ١٩٩١.. 

وكل ضيقة بعدها وسعة.. 

واهي دي الحقيقة بس منسية.. 

وكلنا ولاد تسعة وبنسعى.. 

ودي مش وسية الناس سواسية.. 

مدت هاجر كفها تغلق التلفاز الذي كان يذيع مسلسل الوسية.. كانت تتابعه رغبة في قتل الوقت، وهي ترافقه حتى اشعار آخر.. واغلقته حين أدركت أن نصير قد غفا، لكن ما أن حل الصمت حتى فتح عينيه في هوادة، متسائلا: عملتي اللي قلت لك عليه يا هاجر!.. 

تنهدت هاجر مؤكدة: الصراحة أنا مش فاهمة ايه المطلوب!.. ابعت اجيب أنس من الصعيد!.. طب تمام!.. أنا مش عارفة ليه! ولا عارفة لو اتبلغت بموضوع صفقة العمر اللي حضرتك قلت عليه ده هترضى ترجع ولا مش هيفرق لها!.. بس اللي عايزة أبلغك به.. إن الشخص الوحيد اللي يقدر يروح لأنس ويقنعها بالرجوع.. هو ممدوح.. 

هتف نصير حانقا: طب ما تبعتيه.. ياخد اللي يعوزه لو الموضوع موضوع فلوس، بس يروح وميرجعش إلا بها.. 

أكدت هاجر: مش لما هو يكون موجود أصلا!.. سألت عليه.. عرفت إنه في مأمورية تبع شغله ومش هيرجع منها إلا بعد أسبوع.. 

زفر نصير في حنق، متسائلا: طب مفيش أي وسيلة تقدر توصلنا لها!.. 

كانت هاجر تحاول السيطرة على احساسها المتنامي بالغيرة، وهتفت في محاولة لتهدئة الأمر: لا، مفيش.. محدش يعرف المكان ولا راح قبل كده غيره.. ولا أنس هتسمع لحد غير ممدوح وتقتنع بكلامه.. يعني لازم ننتظر رجوعه.. 

هز نصير رأسه متفهما، وهمس في حنق: وأنا كمان لازم استنى هنا.. لحد ما يرجع سي ممدوح.. 

سألت هاجر: حضرتك قلت حاجة!.. 

أكد نصير في ضيق: عايز استريح.. اقفلي النور، ومتخليش اي حد مهما كان مين يصحيني، ممنوع الزيارات.. 

اومأت هاجر رأسها في طاعة، وغادرت الغرفة تاركة إياه يحاول أن يخرج من تلك الورطة التي وجد نفسه متورطا بها.. 

❈-❈-❈ 

الرسلانية ١٩٩١.. 

خرجا من دار جدها، كانت ترغب في اطلاعه على ما جرى من سنية وما سمعت منها ما قد يكون له أثرا على الرسلانية أو قد يؤثر على حال النجع بوجه عام، فطلبت منه في سلاسة، ما أن سارا بضع خطوات في الطريق المعتاد صوب السراي: ممكن نمشي من طريق مختلف المرة دي!.. تعالى نمشي م الطريق ده.. 

هتف حبيب محذرا: بلاه الطريج ده.. خلينا طوالي عشان نلحجوا ميعاد الزيارة.. 

كانت قد سارت خطوتين بالفعل لداخل ذاك الطريق الفرعي، فتوقفت ما أن قال كلماته، موقدا فضولها، لتسأل: ليه!.. 

تطلعت نحو الطريق الفرعي الطويل، والذي يعد طريقا مكفرا مغايرا لطبيعة الطرق التي تقطع قلب النجع، ربما لقربه من الجبل.. ليجيب بلا رد مقنع: اهو.. بلاه وخلاص.. مش هتبجي مبسوطة وإنتي ماشية فيه.. 

استشعرت أنه يسوق لها حجة غير مقنعة، لعلها تحيد عن رغبتها.. لكنها أصرت: طب عايزة أجرب.. أنا لولا إن الشمس بدأت تغرب شوية كنت مشيت فيه لوحدي.. 

ابتسم حبيب مؤكدا: تعمليها.. 

انصاع لمطلبها، وسار بالطريق وهي لجانبه تسير في سعادة لنزوله على رغبتها، وهو يستطرد مازحا: كنت دايما اسمع عن الفضول اللي جتل الجطة، بس أني أول مرة أشوفه.. 

قهقهت قبل أن تزم ما بين حاجبيها معترضة: قصدك إني فضولية!.. 

همس حبيب مازحا: لاه، العفو.. أني اللي الفضول مش بينيمني الليل.. 

قهقهت من جديد.. كانت تعلم أنه على حق، فالفضول صفة تحاول السيطرة عليها، وقد نجحت لحد كبير، لكنها عاودتها بشكل أكثر شراسة ما أن حطت باقدامها ارض الرسلانية، فكيف لا يتملكها الفضول تجاه أرض الاسرار تلك!.. تطلعت نحو حبيب لتجده وقد بدأ في التمتمة ببعض الآيات أو الأدعية، هي لا تسمع تمتماته بشكل واضح، لكنها تستشعر همسه بها.. وخاصة حين اقتربوا من ذاك البراح الذي يبدو من موضعما كأرض محترقة أكلت وجهها النيران.. فسألت أنس مستفسرة: ايه الأرض المحروقة دي!.. 

همس حبيب: دي أرض ملعونة، مفيش زرعة رضيت تطلع فيها، ولا أساس دار ادج فيها إلا واتحرج كيف ما إنتي واعية.. 

همست في حيرة: ليه كده! ايه السبب!.. 

ابتسم لفضولها وهي تسأل بتلك النبرة الطفولية الشغوفة للمعرفة، مفسرا: والله الحكاوي كتير، بس بيجولوا إنها كانت دار لراچل يه..ودي، اطرد م الرسلانية أيام چدي سعد الله يرحمه.. ومن يومها والدار مجفولة، ولما في ناس هدتها وچت تزرع مكانها.. مفيش زرعة جامت، ولا حتى عرفوا يبنوا فيها دار، ولما دجوا فيها أساس ف مرة.. صحيوا ف ليلة لجوه محروج.. الأرض كلها كيف ما هي جدامك.. 

همست في دهشة: عجيبة الحكاية دي!.. 

ثم تنبهت فجأة متسائلة: هو ده الراجل اليه..ودي، اللي الشيخ معتوق اتجوز بنته!.. 

كان دور حبيب لترتفع ضحكاته، وهو يؤكد من بينها: عندك إمكانية رهيبة على ربط الأحداث ببعضها.. إنتي لازما تكتبي روايات من بتوع الچريمة والسسبنس.. 

هتفت في افتخار: ده معناه إن استنتاجي صحيح!.. 

هز رأسه مؤكدا، فكادت أن تقفز فرحا، لكنها تنبهت أن ضحكاته توقفت فجأة، وهو يؤكد عليها: ياللاه نمشي بسرعة.. عشان كده اتأخرنا جوي..

همست متعجبة: هو في حاجة!.. 

لم يرد، لكن ذاك الانقباض الذي اعترى صدرها حين مرا بتلك الدار القاتمة الهيئة، المهجورة كليا.. حتى باتت أشبه ببيت للأشباح في أفلام الرعب.. جعلها تدرك أن لهذه الدار حكاية ما.. وحماية مثيرة.. 

كانت خطواته مهرولة، وهي تحاول أن تجاري خطواته، حتى إذا ما اجتازا الدار بفترة، بدأت خطواته تهدأ قليلا، وهي بدورها تبعته متسائلة: أنت حسيت باللي أنا حسيت به!.. 

تطلع نحوها متسائلا بدوره: حسيتي ب ايه!..

حسيت أن نفسي مخنوق، وصدري مقبوض.. واحنا مارين بالبيت المتهدم ده.. هو كده طبيعي!.. 

همس حبيب: لاه مش طبيعي.. الظاهر يوم ما كانوا زمان واحنا صغيرين يمنعونا نخطي من هنا، مخوفينا م الدار الجديمة دي، وكانوا يجولوا لنا، اللي شايل دم رسلاني، ميخطيش هناك.. كان عندهم حج.. 

همست تسأل: وليه تخافوا أصلا!.. 

فسر حبيب: والله م اللي سمعته، إن الدار دي كانت لواحدة م الحلب.. 

قاطعته متعجبة: حلب إزاي يعني!.. 

ابتسم مفسرا: اجصد م الغچر.. هي.. 

قاطعته في صدمة: ايه ده هو كان هنا في غجر!.. اللي بيلبسوا لبس غريب دول كله ألوان مزكرشة، وبيرقصوا ويغنوا.. 

قهقه لتعريفها مجيبا: لاه مش بالظبط، هم ناس ملهمش مكان ثابت، ولا لهم أصول تعرفي دول ولاد مين ولا چايين من أنهي بلد، كانوا ياجوا فالموالد يحطوا خيامهم بره النچع في حتة چنب الچبل، وينزلوا المولد يرجصوا ويغنوا ويبيعوا لنسوان النچع الجماش والحنة، ولوازم العرايس، ويجروا البخت، ويضربوا الودع.. ويدجوا الوشم.. 

همست بنبرة حالمة: ايه ده بجد! 

هز حبيب رأسه مؤكدا: ايوه، بس كانوا يسرجوا الكحل م العين.. وياما كانوا سبب في مصايب سودا كتير.. وخصوصي نسوانهم، كانوا حلوين جوي، حلوتهم زاعجة..

هتفت أنس في نبرة حاولت أن تظهر فيها ذاك الشعور الذي اكتنفها حين تحدث عن النساء: حلوين، يعني شكلهم عامل إزاي يعني!.. 

هتف حبيب باسما: وأني ايش دراني، اهو ده اللي سمعته.. هو أني يعني كنت معاهم!.. 

تطلعت نحوه بنظرة جانبية، مؤكدة في نفسها، لو كان حبيب ابن ذاك الزمان القديم، أيام الغوازي وبنات الحلب، لكان مطمع لكل فتاة منهم، ولمارست عليه كل غزية.. ما تتقن من فنون الغواية التي تحترفها.. حتى توقعه في حبائلها، فهل كان ليقع، أم أن مثل ذاك الشامخ الجبين، لا يُذل لغواية امرأة رخيصة!.. وجدت أن خواطرها قد سحبتها لأفكار عجيبة ما دفعها حين وصلا لمدخل السراي، الهرولة نحو مطلع المضيفة، مؤكدة أنها ستكون جاهزة في خلال دقيقتين للحاق بميعاد زيارة نجية.. ليتطلع هو نحوها وهي تركض نحو المضيفة، متعجبا كيف تسأل عن النساء الجميلات، وعن ماهية الجمال، وقد حازت منه النصيب الوافر.. ما يجعل الجمال معرفا بها.. 

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة