-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 33 - الثلاثاء 20/5/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثالث والثلاثون 


تم النشر الثلاثاء 

20/5/2025

ـ نداهة.. 

عرابة آل حفني.. ١٩٤٣..

كان عدنان في حال يرثى لها، ممزق بين ما اكتشفه عما تحمله ابنة أخيه لولده من مشاعر لا تحمل في طياتها أي عاطفة تحملها على الزواج به،. وما بين مصارحة ولده، وهو الذي ينتظر منذ سنوات ميعاد زفافهما الميمون.. كيف له الخروج من هذه الورطة!.. 

كان عدنان شاردا، حتى أنه ما أدرك وصول ولده للقاعة، ليدرك عامر أن والده يحمل من الهم ما لا يطيق، فسأله بلا مواربة: ايه في يا حچ عدنان! لك كام يوم كده مش بعادة!.. 

تنبه عدنان أخيرا لوجود عامر، مشيرا إليه بالجلوس جاره، وقد قرر أن يلقِ عن كتفيه هم الليالي الماضية، ويصارحه وليكن ما يكون: بجولك يا عامر!.. لو چاك واحد صاحبك وجالك هيچوزني واحدة جلبها مع غيري!.. 

هتف عامر باندفاعيته المعهودة: جلبها مع غيره كيف! دي يدفنها حية ولا لها دية.. 

تنهد عدنان محاولا تبسيط الأمر: يعني.. جالوا له خد دي، وبعدها عرف إنها ميالة لراچل غيره.. 

أكد عامر بلا مبالاة: حكاوي حريم، ميتا ما يتچوزها، هتكون مرته وتحت طوعه ويجدر يخليها زي الخاتم فصباعه، ويبجى فالرچالة مفيش غيره..  

همس عدنان معاتبا: وهتجبلها على روحك يا عامر! 

انتفض عامر متطلعا صوب والده، وأثر الصدمة جعل استيعابه بطيء حد اللا استيعاب، وهو يحاول أن يستجمع المقصد من سؤال والده المتعجب، والذي استطرد في نبرة تحمل هما لا يستهان به: هترضى تبجى چارك، روسكم على مخدة واحدة، وأنت جاعد تسأل روحك يا ترا عجلها معاي ولا مع غيري.. أو تفضل تراضي وتدادي لچل ما تنول الرضا، ده لو نلته.. هتجبلها على روحك يا واد عدنان الحفناوي!.. 

بدأ عقل عامر يستوعب ما يقصده والده، فانتفض زاعقا: أنت جصدك إن فوز..  

قاطعه عدنان مؤكدا: بت عمك جالتها بالمداري، هي شيفاك أخوها اللي اتربت معاه، وسند وضهر لها العمر كله.. لكن .. 

هتف عامر زاعقا: ايوه، مبجتش كد المجام، الست المتعلمة اللي راحت الچامعة، هتتچوز م البهوات اللي وعيتلهم فمصر.. ايه عازته عامر دلوجت!.. 

نهض عدنان، يقف قبالة عامر، متطلعا بعمق عينيه، مؤكدا بصوت خفيض يحملا عزما: أنت عامر الحفناوي! واعي لحالك أنت مين وواد مين! واعي كام بت تتمنى تخبط على بابها وأبوها يجولك يشرفنا نسبك.. فوج يا عامر.. أنت كبير جوي.. 

هتف عامر حانقا: بس فوز بت عمي وأني أولى بيها من أي غريب.. 

هتف عدنان بصوت قوي النبرة: معلوم، ولو جولت لي إن كل اللي سمعته ده مفرجش، وإنك لساك رايد تتم الچوازة، والله ما هراچع كلمتك.. وهكتب كتابكم الليلة.. ها.. ايه جولك يا عامر!.. 

تطلع عامر نحو والده، وما نطق حرفا، فقد كانت الأفكار والصراعات تتنازعه بقوة.. وما عاد قادرا على تحديد وجهته الصحيحة، ما دفعه للهرولة مغادرا.. ليتنهد عدنان في قلة حيلة، هامسا: لله الأمر من قبل ومن بعد.. 

❈-❈-❈  

الرسلانية ١٩٤٣.. 

كان سعد شديد الضيق منذ عودته من عرابة ولاد حفني، فما استطاع فضل معرفة ما الذي جرى هناك، فقد أكدت عليه أنس أمه أن يتجنب مجادلة أبيه لأنه حانق لما حدث.. لكن فضل لم يهنأ ويرتاح باله إلا بمواجهة أبيه، فقد انتظر حتى دخل مكتبه لإمضاء بعض الأوراق، ليتبعه مستأذنا في عجالة، متسائلا في لهفة: ايه اللي چرا هناك يا باشا!.. وافجوا.. ولا رفضوا ولا ايه بالظبط!.  

تعجب سعد من حال ولده، فلم يكن يعتقد أنه حقا مهتم بالزواج من هذه الفتاة بالذات، كان يعتقد أنه اختارها هي من بين كل الفتيات لا لشيء إلا لرغبته في اثنائه عن الزواج برفض التقدم لخطبيها، والتي ما كانت إلا اقتراحا حتى يستقيم حاله ويبتعد عن سكة العمل السياسي، حين يصبح رب أسرة مسؤول عن زوجة وأولاد.. فما كان من سعد إلا المغامرة بطلب يد الفتاة له، وها هو يتعجل معرفة رد أهلها.. أيكون مس الهوى قلبه مثلما نوهت أنس الوجود سابقا!.. تحول حال سعد فجأة من الضيق إلى التعاطف، وهو يرى ولده ينتظر على أحر من الجمر أي كلمة تخرج من فيه تطمئن قلبه المتلهف، ما دفع سعد ليجيب باسما: ولا ايه!.. 

همس فضل متسائلا من جديد: يعني ايه!.. 

فسر سعد: يعني لا جبلوا ورحبوا.. لأن أبوها جال لي زي ما خبرتك جبل سابج إنها موعودة لولده .. ولا حتى رفض بشكل نهائي.. لما عرف إنك رايدها.. ومشيت وهو واعدني يشوف الصالح ويبلغنا.. أصلك مش هينة برضك يبديك على ولده فحاچة كيف النسب.. ولو كنت واد مين.. واد عمها أولى بها من أي مخلوج.. 

هتف فضل متزمرا: يعني ممكن يچوزها لواد عمها ويرفضني!.. 

أكد سعد: ده مش بس ممكن، ده هو اللي هيحصل.. أني بجولك عشان ما تعشم روحك.. الموال معجرب.. والله لولا محبة عدنان ليا ما كان خد وإدا معاي فالكلام من أساسه.. أصلك الحكاوي دي خلصانة.. مفيهاش رط وحديت ملوش عازة..

همس فضل ساهما: يعني كده فوز ممكن تضيع مني!.. 

لم ينتبه سعد لهمس ولده المضطرب وهو يستطرد مؤكدا: والله لو انجلبت الموازين وعدنان وافج، ده يبجى حملني چميل كبير جوي.. 

هتف فضل متعجبا: للدرچة دي الموال واعر!..

تطلع سعد نحو ولده متعجبا: ايه يا حضرة الافوكاتو!.. الكام سنة اللي جعدتهم فمصر نسوك عويدنا ولا ايه!.. 

لم يعقب فضل، كان يعلم أن الأمر صعب بالتأكيد لكن ليس لهذه الدرجة الأقرب للاستحالة، ليتنبه لسعد وهو يستطرد مؤكدا: يعني أني كنت هچوز أختك صفية لأحسن من مختار واد عمتك توحيد.. والله لو چاها مين.. مختار هو الأولى.. 

هتف فضل محتجا: حتى لو مش ريداه! 

قهقه سعد: مش جلت لك الكام سنة بتوع مصرخربو راسك! رايدة مين بس! لهو البت لها رأي بعد رأي كبيرها، وتجول رايدة ده ومخدش ده!.. بعد رأي رچالاتها مفيش رأي.. ولا كلمة تاني تتجال.. 

صمت فضل ولم يعقب بحرف، مدركا أن الأمر أكبر مما كان عقله يستوعب، وتحقيقه أكثر وعورة مما كان يتمنى.. ما دفع سعد ليربت على كتف ولده مطمئنا: لو مكتوبالك والله ما في مخلوج يجدر يفرجكم.. سبها ع المولى..

هز فضل رأسه في طاعة ولم يعقب بحرف واحد.. متخيلا حياته وقد نُزعت فوز من بين طياتها.. ليكتشف كم ستكون قاتمة.. باهتة بلا ألوان.. 

❈-❈-❈  

القاهرة ١٩٤٣.. 

دخل بهجت إلى التراس ليجد إلهام كعادتها تجلس في هدوء متطلعة للنجوم في حالمية، والجرامفون عن قرب يبث الحانا فرنسية هادئة، استند بمرفقيه على السور متطلعا حوله في رزانة معهودة، قبل أن يجلس موجها حديثه لأخته في نبرة مترددة: هو ليه أنس الوجود هانم مبقتش تيجي القاهرة زي الأول!.. 

همست إلهام مؤكدة: مش عارفة يا بهجت بس سمعت ماما ع العشاء بتقول إن عمتي أنس نازلة مصر قريب.. 

ابتسم بهجت: صحيح!.. امتى! 

تطلعت الهام صوب أخيها متعجبة من اهتمامه بأي فرد في العائلة الكريمة، متسائلة في دهشة: ليه الاسئلة دي كلها يا بهجت! أول مرة اشوفك مهتم بحاجة أو حد بعيد عن البورصة والأرقام وسباق الخيل!.. 

فسر بهجت: ايه يا ستي، مش عمتنا ولها مدة منزلتش مصر قلت اطمن..

هزت إلهام رأسها رافضة تفسيره: لا.. الموضوع مش كده خالص.. أنا حاسة إن في حاجة تاني.. قولي وسرك في بير.. 

تنهد بهجت باسما: طيب يا ستي.. الصراحة أنا معجب بصفية بنت عمتي أنس الوجود وبفكر اتقدم لها.. ايه رأيك!.. 

تنبهت إلهام هاتفة في حماس: بتحبها!.. 

ابتسم بهجت مفسرا: هو في عاطفة تجاها في المرات اللي شفتها فيها.. إنسانة رقيقة وجميلة ومتعلمة.. وحسيت إن قلبي مال لها.. بس كنت منتظر الوقت المناسب عشان أعلن عن رغبتي واتقدم لها.. 

صفقت إلهام في طفولية مشجعة: يبقى بتحبها.. أكيد لازم تطلب أيدها.. بلغ بابا.. وخليى ماما تفاتح عمتي لما تنزل على هنا.. وأكيد هيوافقوا.. صفية فعلا بنت جميلة وتستاهل حد جميل وقلبه طيب زيك يا بهجت.. 

ابتسم بهجت في سرور لدعم أخته الوحيدة، مقبلا جبينها في محبة قبل أن ينصرف للداخل يحاول أن يجد الوسيلة التي يفاتح بها والده فيما اعتزمه، حين عودته من الإسكندرية...

❈-❈-❈  

عرابة آل حفني.. ١٩٤٣..

كان يقف على ذاك الجرف وحيدا تماما فوق صهوة جواده، في مثل هذه الساعة الفاصلة ما بين عتمة الليل الشاحبة التي بدأت تنقشع في هوادة سلسة أمام سلاسل البكور الرمادية التي أخذت تسيطر على الأفق قبالته.. 

لقد قضى الليلة ها هنا.. منذ كشف له والده عما كان يدور خلف ظهره في الأيام القليلة السابقة.. ورغبة ابنة عمه في عدم إتمام زواجهما الذي كان على وشك.. كم هو مر طعم الرفض بعد طول الأمل!.. لكن على الرغم من كل ما جرى.. هو كان لديه من الحدس ما أخبره أن فايزة تبتعد عن مداره، مع كل خطوة تخطوها في طريق التعليم والارتقاء درجة.. يوقن أنها تبتعد عن دربه أميال.. وأن معارضته لدلال أبيه وازعانه لمطالبها دوما، ما كانت إلا لإدراكه أن ذاك الدلال ما هو إلا أداة لبناء سور عالِ بينهما لن يستطيع أي منهما اجتيازه مهما حاول.. فقد أضحى كلاهما يتحدث لغة لا يفهم مفرداتها الآخر.. لكن اللحظة شعور داخلي ما يرادوه أشبه بالحمض الحارق.. لا يعرف كيف يتخلص منه أو ينزعه من حشاه.. شعور لا تفسير له ولا مسمى يمكن أن يُطلق عليه.. لكنه كائن يغلي داخل مرجل روحه.. 

بدأ البكور في التنفس بجلال وهيبة بالأفق.. ما جعله ينزع من أنفاسه الصافية بعضا دافعا بهم لرئتيه، لعل بعض من ذاك النسيم العليل يطيب أثر ذاك اللهب المستعر بجنباته.. ليزفر في هوادة وقد قرر النزول والاقدام على ما اعتزم عليه.. وليكن ما يكون.. 

شد لجام فرسته الصهباء، فصهلت في عزة، قبل أن يهبط الجرف في هوادة.. سائرا بمحاذاة الترعة.. ليسمع ذاك النغم الساحر.. انقبض صدره لبرهة، فلو كان الليل ما زال مسيطرا لاعتقد أنها النداهة وقد قررت جذبه نحو عمق المياه كما فعلت مع بعض الشباب من قبل، لكنها لم تنادِ باسمه كما تفعل.. لم تخصه بالنداء كما هي عادتها.. بل هي الآن تغني بصوت ساحر.. كلمات تقطر وجعا وحسرة.. 

وايش تعملي يا بنية!.. وايش تعملي يا بنية!.. 

أميرة بنت ملوك.. وبيحرموكي الميا.. 

اقترب عامر في حذر، وقد ترجل عن فرسته التي قد تثير حركاتها تلك التي تجلس خلف ذاك الفرع المتدلي من شجرة الكافور الضخمة المنحنية الجذع نحو الترعة.. لا يدرك ما تفعله في مثل هذه الساعة الشديدة البكور.. 

وقف على الجانب الآخر من الشجرة خلف جذعها الضخم.. فوجدها تدلي جرتها في صبر.. تحاول الوصول إلى الماء الرائق لتملأها وهي تنوح بشدوها في عذوبة موجعة.. 

العشج لما ناداني.. مسمعتلوش بوداني.. 

ساعة ما ناح الجمري.. لجيت دموعي بتجري..

كيف العيال على حچري.. 

كيف اليتامى وأمهم ف عنايا.. 

كان على استعداد للبقاء عمرا كاملا، يستمع لتلك الحورية وشدوها الآسر.. لكنها وعلى غير توقع.. أنهت ما كانت تقوم به، لترفع وجهها بلا ساتر.. فقد كانت تعلم أنها وحيدة تماما في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح.. الذي هلت تباشيره لتوها.. فسقط عامر أسير ذاك الحسن الصافي.. الذي ما سقط ناظريه على مثيله من قبل.. 

لا يعرف لم فعل ذلك، لكنه اندفع كاشفا عن وجوده، متسائلا بشكل مباشر بلا مواربة: إنتي مين يا بت!..

انتفضت الفتاة في ذعر، وقد كانت تهم بحمل جرتها فوق كتفها.. لتشه‍ق مسقطة إياها مهشمة في قوة.. 

حاول أن يعيد عامر عليها السؤال مجددا.. لكنها تطلعت صوبه بنظرة غزال مذعور، قبل أن تندفع هاربة في اتجاه أقرب درب لقلب الدور القريبة نسبيا.. 

اندفع عامر مهرولا في اتجاه فرسته، والتي امتطاها بقفزة واحدة في عجالة، مندفعا صوب مكان اختفائها، والذي ما أن جاءه حتى مسحه بعينيه في عجالة باحثا عن طيفها، ظل يبحث لدقائق هنا وهناك.. ولا أثر لها.. كأنها كانت طيف من خيال.. وهم جميل وولى.. ما دفعه ليرحل بفرسه مبتعدا.. وصوت شدوها ما زال عالقا بنسيم الصباح الذي يضرب وجهه اللحظة وهو يهرول بفرسته نحو دار أبيه.. 

❈-❈-❈  

القاهرة ١٩٤٣..

كانت صفية تقف بالتراس مع إلهام حين هل بهجت في هوادة مبتسما، لتتفهم إلهام الأمر مبتسمة بدورها، هاتفا في نبرة مرحة: ايه ده! بهجت هيتعشى معانا النهاردة! أكيد ده يوم سعدنا.. 

ابتسم بهجت مؤكدا: لما عرفت إن عمتي أنس الوجود مع صفية هنا، سبت كل مشاغلي وقلت لازم اجي اتأنس بهم شوية.. ما هو إحنا كل فين وفين لما بنشفهم.. ازيك يا صفية!.. 

ابتسمت صفية وردت في رقة: الحمد لله.. 

انتفضت إلهام تحاول أن تترك أخاها وصفية وحدهما: أنا هروح اوصي على حاجة خفيفة نشربها قبل العشا.. 

واندفعت تاركة صفية خلفها قبل أن تهم بالاعتراض، لتجد نفسها وحيدة مع بهجت الذي أشار لها بالجلوس على أقرب المقاعد، وجلس قبالتها متسائلا: عرفت إنك خلصتي البكالوريا ومكملتيش، ليه.. كنتي دخلتي الجامعة وقعدتي في مصر شوية، كانت هتفرق معاكي أكيد.. 

ردت صفية في حياء: حسيت إني اكتفيت باللي تعلمته، ومش بحب أبعد عن الرسلانية كتير.. الصراحة مصر المعيشة فيها مش مفضلة ليا.. 

سأل بهجت مبتسما: ياه، هي الرسلانية حلوة كده عشان تفضلي عليها القاهرة .. ده أنا لازم اعرف بقى اللي عجبك هناك كده!.. وخاصة بقالي كتير فعلا مزرتهاش.. 

ابتسمت صفية في دبلوماسية مؤكدة: اكيد تشرف.. الرسلانية هتنور .. 

هم بهجت بالحديث، إلا أن إلهام حضرت مؤكدة: ياللاه على العشاء.. 

نهضت صفية ملبية وتبعها بهجت راغبا في المزيد من الحديث معها، فقرر أن يكون ذلك بعد العشاء، سيتفق مع إلهام على تدبير الأمر.. فقد شعر أن صفية هي الفتاة التي يبحث عنها لتكون شريكة للعمر ورفيقة لرحلة الحياة.. وعليه أن يصارحها برغبته قبل أن تعود للصعيد مجددا.. 

جلسوا للمائدة جميعا، وساد الصمت إلا من كلمات تحية بسيطة، مع إلحاح ألفت على أنس وصفية لتجربة بعض أصناف الطعام التي أمرت الطاهي لصنعها من اجلهما.. ليسأل بهجت عمته: كان لازم الباشا وفضل ووداد كمان يكونوا موجودين.. بجد بقالنا فترة متجمعناش.. 

ابتسمت أنس وهي تلقي بنظرة سريعة نحو صفية التي أدركت أن أمها في صدد اعلان خبر خطبتها.. فاضطربت واحمرت وجنتاها خجلا، وأنس تصرح مع ابتسامة: اكيد هنتجمع كلنا قريبا يا بهجت، لكن انتوا اللي هتشرفونا في زفاف صفية.. 

غص بهجت بلقيمة كان في سبيله لابتلاعها، وسعل في اضطراب، ما دفع إلهام لتناوله كأس الماء الملاصق لكفها، مدركة تماما أن تلك الغصة لم تكن مصادفة، فقد تفاجأ بخبر خطبة صفية وقرب زفافها كذلك.. أي حظ هذا!.. 

تناول بهجت منشفة المائدة ماسحا فمه في أدب، ونهض متعجلا، وهو يهتف بصوت متحشرج: باردون.. عن اذنكم.. اه بالمناسبة مبروك يا صفية.. 

اندفع بهجت مبتعدا، ولم يلحظ ما جرى إلا أخته إلهام، التي قاومت رغبتها في اللحاق به لمواساته، لكنها وجدت أن الأمر لن يكون لائقا فقررت البقاء والترحيب بالضيوف، ثم موافاته بعدها، هاتفة في نبرة حاولت أن تكسوها ببعض الفرح: ألف مبروك يا صفية.. وده حصل أمتى!.. 

هتفت ألفت مؤكدة: والله كنت لسه هسأل.. امتى الكلام ده! والزفاف امتى إن شاء الله!..

أكدت أنس باسمة في حرج: من فترة بسيطة .. ما هو عريسها من العائلة.. ابن توحيد عمتها.. ملازم أول في الجيش المصري الملكي.. 

هتفت ألفت في سرور: ما شاء الله.. ربنا يتمم لك على خير يا صفية.. احنا لازم بقى ننزل نعمل شوية مشتروات بالمناسبة الجميلة دي.. ولا ايه يا أنس! 

هتف رستم مازحا: لا.. عند موضوع المشتروات وانسحب أنا.. دي أكيد هتبقى فيها غرامة كبيرة.. 

تعالت ضحكات النساء، ليهتف رستم باسما: خلصوا كلام براحتكم.. وهستناكم نشرب القهوة سوا.. اوعي يا أنس تخليها تورطك في حكاية المشتروات دي.. 

ارتفعت قهقهاتهن من جديد.. ورستم يغادرهن نحو المكتب، ليلحقن به... تاركي إلهام مع صفية.. تطلعها على بعض المجلات لتختار منها ما يحلو لها من أزياء ليتم التوصية لحياكتها عند الخياطة اليونانية التي تتعامل معها وأمها.. 

دخلت ألفت وأنس الوجود حجرة المكتب لتجد رستم ينصت باهتمام لأخبار تزيعها اذاعة البي بي سي البريطانية عن الشأن التركي.. تنبهت أنس لمسار النشرة الإخبارية التي تشير لتغيرات في الحكومة وبعض الوزارات.. لتهتف أنس الوجود فجأة متسائلة في حبور: سمعت اسم نوري عمران.. صحيح!.. 

ابتسم رستم مؤكدا: ايوه.. نوري عمران بقى وزير في الحكومة الجديدة.. 

هتفت أنس في فخر: يستحقها.. نوري قدم لبلادنا الكثير.. وكنت شاهدة على تاريخ كفاحه.. 

أكد رستم في هدوء: تعرفي إني قابلته في آخر مرة نزلت فيها اسطنبول!.  

لم تعقب أنس، ليستطرد رستم ساردا: كان في حفلة من حفلات اللي أقامها أحد الأحزاب.. كان حاضر بصفته عضو بارز في الحزب.. ومن المرشحين بقوة لرئاسته.. لما تعارفنا سكت شوية لما سمع الاسم.. وسأل ليا قرابة بكاظم باشا أوغلو.. طبعا قلت له يبقى والدي.. وعلى الرغم من اختلافه مع الوالد في مرحلة ما لكنه أثنى على موقفه ساعة دخول الجيش اليوناني أزمير.. 

هزت أنس الوجود رأسها، وقد بدأت الدموع تلمع بعينيها، مؤكدة بصوت يحمل غصة ألم للذكرى: نعم .. لحظة استشهاد والدنا برصاص اليونانيين لما رفض يسلم القصر لقواتهم ليكون مقر لحكمهم .. وهي نفسها لحظة هروبي والخالة يلديز مع فضل .. مر ما يزيد عن عشرين سنة وكأن ما حصل كان منذ أيام.. 

استطرد رستم: ده فجأة وبلا مقدمات سأل.. إذا كنتي وصلتي مصر بالسلامة.. وسأل عن أحوال فضل.. ابتسم في سعادة لما حكيت له عنك وعن أولادك وانك مرتاحة ومستقرة.. 

همست أنس مؤكدة: لولا وجود نوري في أوقات كتير صعبة .. كان ممكن أنا وابني نضيع ومنقدرش نرجع على هنا.. نوري له فضل كبير 

في سلامنا ورجوعنا.. أنا مدينة له حقيقي.. حفظه الله.. 

همست ألفت وهي تناول أنس فنجال القهوة: انتي شكلك شوفني كتير هناك يا أنس!.. بس الغريب إنك محكتيش لحد أبدا.. 

همست أنس مفسرة: بعض الذكريات من الأفضل إننا ننساها لأن كم الأوجاع فيها أكبر من قدرتنا على تحمل مرارة استعادتها يا ألفت.. 

ارتشفت أنس الوجود أول رشفة من فنجانها، واسم نوري يعاد ذكره فيما يتلى من أخبار ما جعلها تبتسم بأعين دامعة في سعادة، أن نوري حقق نصرا فيما كان يصبو إليه.. وكم أسعدها ذلك!.. 

❈-❈-❈  

عرابة آل حفني.. ١٩٤٣.. 

كم كان يود عامر أن يعود للدار والجميع نيام، فما كان له رغبة في الاحتكاك بمخلوق، أو التعاطي مع أي من كان.. لكن نداء أبيه اللحظة من داخل القاعة التي تعد مجلسه المفضل بالدار، جعله يتسمر موضعه لبرهة قبل أن يغير وجهته متجها لداخل القاعة، ليبادره أبوه متسائلاً: كنت فين الليل بطوله! 

أكد عامر في هدوء: فالخلا.. جاعد مع حالي.. 

هز عدنان رأسه متفهما، فهو يدرك أن ما يكابده عامر لأمر ليس بهين.. وأن ذاك من شأنه تغيير حاله وتبدل مزاجه.. 

سأل عدنان في مواربة: يا رب تكون ارتحت.. وهدي بالك!.. 

أكد عامر في نبرة مبهمة: أيوه.. رسيت لي على بر وده المهم عندي.. 

تعجب عدنان متسائلا: كيف يعني! هو أنت كنت لسه مرسيتش بعد اللي جلناه عشية!.. 

أكد عامر وكأنه لم يسمع سؤال والده: بلغ فايزة إن اتفاجنا ساري.. وميعاد فرحنا هواه متغيرش.. 

هتف عدنان متعجبا: وااااه.. أنت كد الجول ده يا عامر!.. 

هتف عامر متعجبا بدوره: ايه في يا حچ عدنان! مش أنت اللي جايلي عشية لو مش فارج معاك اچوزهالك دلوجت.. وأني بجول أها إنه مش فارج.. وبت عمي أني أولى بيها من واد الباشا.. مش أبوه چالك ومجدرتش تجوله لاه على حساب ولدك.. 

هتف عدنان زاعقا: حكاية واد سعد رسلان مش هتغير من الحجيجة حاچة، سوا هو أو غيره هي مش ريداك.. ده حتى هي متعرفش إنه اتجدم لها وطلب يدها.. أفهم بجى.. 

هتف عامر زاعقا بدوره: أفهم ايه! افهم إنها بعد العمر ده كله فضلت عليا واحد تاني!.. بعد ما استنيتها سنين وسنين .. يبجى اخرة صبر السنين دي كلها تبجى لغيري!.. لاه يا حچ عدنان، بت أخوك حجي.. بخطرها أو غصب عنها حجي.. وأني مفرطش فحجي لحد أبدا.. رفع عدنان عصاه، صارخا في انفعال: والله لو ..

قاطعته فايزة التي دخلت القاعة لتوها هاتفة في عزم: عمي.. عامر على حج.. وأني مواجفة على چوازي منه.. 

ساد الصمت لبرهة، ليمر عامر جوارها مغادرا القاعة أمرا في صرامة: چهزي حالك على ميعادنا، وهسيبك تكملي السنة في الچامعة كيف ما أبوي أمر.. لكن بعدها.. مفيش خروچ م العرابة.. كفايانا لحد كده.. 

غادر عامر القاعة كالعاصفة، تاركا خلفه صمت قاتل لم يقطعه إلا مغادرة فوز القاعة في شكل عاصف بدورها، وخلفها يتردد صوت عمها متضرعا: لله الأمر من قبل ومن بعد.. 

❈-❈-❈  

الرسلانية ١٩٩١.. 

هلل مدثر ما أن رأى أنس وحبيب قادمين نحو حجرة نجية، وهتف في سعادة: الداكتور بيجول إنها فاجت وبجت عال.. 

هتفت أنس تسأل: يعني اتكلمت وبقت واعية للي بيحصل حواليها!.. 

أكد مدثر: والله الداكتور جال كده، واهو سرور يخرج دلوجت ويبلغنا بكل حاچة.. 

خرج سرور متحدثا مع زميله المشرف على حالة نجية، وكان كلامهم يحوي الكثير من المصطلحات الطبية المعقدة التي صعبت فهمهم للحالة، التي شرحها سرور في سلاسة: نچية كانت واجعة تحت ضغط عصبي شديد، وكانت زعلانة من خبر حبلها،. وزعلت أكتر لما نزل، شايلة ذنب أنها مكنتش عيزاه.. لكن المهم إنها دلوجت لما فاجت م العملية بجت واعية أكتر للي حواليها.. وبدأت ترد على الدكاترة والممرضات.. اه كلمات بسيطة ع الكد.. بس اهو برضك تحسن.. 

سأل حبيب مستفسرا لغرض في نفسه: يعني تجدر تخرچ م المستشفى ميتا!.. 

أكد سرور: على كلام الداكتور اللي متابع الحالة ممكن يكتب لها خروچ على بكرة بإذن الله.. 

هز حبيب رأسه متفهما، وأدركت أنس ما المقصد من سؤال حبيب، على الرغم من أنه لم يفصح عن نواياه، همت بالكلام، إلا أن مدثر سأل في نبرة قلقة، بعد أن دفع سالم للذهاب لإحضار بعض الأغراض من الخارج، حتى لا يوجعه حديثهم عما آل إليه حال أمه: طب خروچ نچية دلوجت هيكون على فين! ما هو مينفعش ترچع دارها، هيتكرر اللي چرا من تاني!.  

هتفت أنس مؤكدة: طبعا مش ممكن ترجع على بيتها، إحنا كده يبقى معملناش حاجة، وخاصة إنها في حالة مينفعش تقعد فيها لوحدها، ولا تتعرض لضغوط جديدة، وعشان كده أنا هاخدها تقعد معايا في المضيفة.. اعتقد ده آمن مكان، ومحدش يقدر يتعرض لها وهي جوا سرايا حبيب بيه وتحت حمايته.. 

اضطرب مدثر هاتفا: ده بعد إذن حبيب، لو الحكاية دي مهياش.. 

قاطعه حبيب مؤكدا في حزم: خبر ايه يا مدثر!.. وأنت عايز الأذن مني فإبه.. هي مش الأستاذة جالت يبجى أعتبره نافذ.. هي بتعزم فبيتها وعلى بيتها لأنها لها فالسرايا كيف ما لينا، وضيوفها على راسنا.. وحمايتهم واچبة علينا.. 

لم تنطق أنس حرفا، وكيف لها أن تفعل!.. وقد أسرها بجميل تقديره.. وألجم لسانها عن الرد المناسب.. 

عادا معا للسراي، بعد أن قررا العودة صباحا للرجوع بنجية للسراي، كان الطريق قصيرا على غير عادته، وكلاهما غارق في أفكاره وخواطره، وما أن استأذنت أنس للصعود لحجرتها، حتى ابتدرها شبل هاتفا: يا أنس هانم.. في ضيف لحضرتك مستنظرك فالمضيفة..

كان دور حبيب ليسأل في تحفز: ضيف مين يا شبل!.. 

أكد شبل: الأخ اللي چه من مصر مع الهانم جبل سابج، كني اسميه ممد...

أكملت أنس الاسم في قلق، وهي تندفع للداخل صوب المضيفة وحبيب في أثرها: ممدوح!.. يا ترى في ايه خلاه يجي لحد هنا!..

هتف حبيب خلفها مطمئنا: خير.. إن شاء الله كل خير.. 

اندفعت أنس لداخل المضيفة، هاتفية في عجالة دون حتى أن تلقي التحية: ماما بخير يا ممدوح! هي كويسة!.. متخبيش عليا.. 

هتف ممدوح الذي انتفض موضعه، مستقبلا ذعر أنس لملاقاته، مؤكدا في نبرة مطمئنة: اهدي والله ما في حاجة م اللي فبالك.. 

هتف حبيب مرحبا بالنيابة عن أنس: حمدالله بالسلامة يا أستاذ ممدوح، معلش لها عذرها برضك.. 

هتف ممدوح باسما: الله يسلمك يا حبيب بيه، لا هادي.. متعود على أنس وعمايلها.. 

تغيرت تعبيرات وجه حبيب رغما عنه، فذاك الشعور الأريحي الذي يتحدث به هذا الممدوح عن أنس وعلاقته الوثيقة بكل ما يمت لها بصلة، يجعله يود لو كان بإمكانه وأده حيا.. حتى يخرس ذاك الشعور الذي يستشري بصدره كلما شعر بمدى قرب هذا الرجل من أنس وماضيها وكذا حاضرها.. وربما مستقبلها..

سألت أنس بلا مواربة: طب في ايه يا ممدوح! أصل أنا متأكدة إنك مشغول جدا الفترة دي.. ومش خاتبجي هنا إلا لسبب قوي!.. 

تطلع ممدوح نحو أنس ثم بطرف خفي أشار لوجود حبيب، ما دفع حبيب على الرغم من كراهته لذلك.. أن يهتف مرغما، حين استشعر أن وجوده غير مرحب به: طب استأذن أني يا أستاذة.. وطبعا مش هوصيكي على أستاذ ممدوح.. 

قال كلمته الأخيرة في نبرة تقطر حنقا، حاول أن يغلفها ببعض الترحاب، لكنه فشل بشكل منقطع النظير.. مندفعا للخارج كالصاروخ تاركا أنس وحيدة مع ممدوح على مضض.. 

جلست أنس وهتف ممدوح وهو يجلس قبالتها، موضحا بلا مواربة: نصير بيه الراوي عمل حادثة كبيرة.. 

شهقت أنس في صدمة، لكن ممدوح استطرد مطمئنا: الكلام ده من حوالي أسبوعين، بعد ما إنتي سافرتي بشوية، والحمد لله ربنا ستر وخرج منها كويس.. هو لسه فالمستشفى في فترة نقاهة، وطلب مني عن طريق هاجر اوصل لك الرسالة دي.. "ارجعي ولكي عنده اتفاق هيريح كل الأطراف وهيعتبر بالنسبة لك صفقة العمر".. 

قهقهت أنس ساخرة: هو الراجل ده مش هيريح دماغه بقى!.. ما أنا سبت له الدنيا كلها وجيت على هنا عشان يفهم إن عرضه مرفوض بالنسبة لي .. أعمل ايه تاني عشان يصدق إن موضوع جوازه مني ده مش مقبول.. أنا لا يمكن اكسر قلب هاجر مهما.. 

تنبهت أنس أنها أفصحت أكثر من اللازم، وأنه كان عليها الحذر وهي تتحدث بتباسط كان من شأنه هذه الصدمة المرتسمة على وجه ممدوح وهو يسأل في دهشة: وايه دخل قلب هاجر ف ال.. 

وصمت حين أدرك الإجابة دون توضيح منها، ساهما لبرهة، قبل أن ينطق بنبرة منكسرة: عشان كده كنتي دايما تقوليلي، خرج هاجر من دماغك يا ممدوح، مفيش حاجة ممكن تجمعكو.. عشان قلبها مع حد تاني!.. وأنا كنت مغفل وبقول ما هو يمكن لو حاولت تاخد بالها وتحس.. اتاريها مش شيفاني أصلا.. 

همست أنس مستشعرة أنها خربت الأمور بشكل ما عاد في الإمكان إصلاحها: اهدا يا ممدوح، أنا كنت فاكرة إنك خدت بالنصيحة وخرجتها من دماغك، مكنتش أعرف إنها لسه في بالك.. سامحني معلش.. أنا آسفة.. 

هز ممدوح رأسه مؤكدا: آسفة على ايه!.. إنتي ملكيش ذنب فحاجة.. ولا هي كمان لها ذنب.. ده ذنبي أنا اللي مواجهتهاش بحقيقة مشاعري وكنت عرفت ردها فساعتها، مش قاعد ابني قصور في خيالي.. موهوم.. وهي قلبها في حتة تانية خالص.. 

لم تجد أنس من كلمات المواساة ما يصلح لتطيب خاطر ممدوح، فما الذي يمكن أن يقال لجبر كسر القلوب!.. الكلمات لا تكفي.. وقد تكون جوفاء بلا معنى أمام ذاك الوجع اللامرئي.. الذي يجعل الإنسان يشعر بخواء داخلي رهيب.. وكأن موضع قلبه قد أضحى فراغا سحيقا.. جسد بلا نبض .. وروح بلا روح.. 

حاول ممدوح الخروج من حالة الضعف والانكسار التي تكتنفه اللحظة، متسائلا يغير مجرى الحديث: هتقبلي عرضه وتنزلي القاهرة تشوفي في ايه!.. ولا أبلغه إنك مش عايزة حتى تتعاملي بأي طريقة معاه!.. 

همسات أنس في حيرة: تفتكر ايه الصح يا ممدوح!.. وقصده ايه بصفقة العمر!.. 

همس ممدوح نافيا: مش عارف.. بس واضح إن الراجل ده مش هييأس.. وانتي مش المفروض تهربي وتفضلي هنا مستخبية.. المفروض تواجهي.. وهو لا يمكن يقدر يرغمك تعملي حاجة انتي مش عايزاها.. 

همست أنس: عندك حق، بس هروبي مكنش منه شخصيا فأنا اقدر على مواجهته.. مجيتي على هنا كان عشان اخلص من ضغط ماما، ومضطرش كمان أواجه هاجر.. أنت فاهم هاجر بالنسبة لي ايه.. هقول لها ايه!.. هفسر لها الموقف إزاي!.  

هز ممدوح رأسه متفهما، لتستطرد هي مؤكدة: أنت صح! أنا ليه هربانة.. المواجهة اسلم حل.. بص.. بكرة هنروح ناخد نجية أم سالم م المستشفى على هنا.. واسافر معاك.. 

ابتسم ممدوح: مين ام سالم! ومستشفى ايه! وتجبيها هنا ليه!.. 

هتفت أنس مؤكدة: دي حكاية عجيبة ابقى فكرني احكيهالك واحنا مسافرين.. 

اتسعت ابتسامة ممدوح، متطلعا نحو أنس في تعجب، هامسا: اتغيرتي يا أنس!.. البلد دي عملت فيكي حاجة أنا مش قادر احددها.. لكن لامسها أوي.. 

تطلعت أنس لممدوح ولم تعقب، فقد كان صادقا تماما فيما أقره.. فهذه الأرض العجيبة التي جاءتها كارهة مرغمة.. ها هي اليوم بعد مرور عدة أشهر فقط، قد أضحت من أكبر محبيها.. وكأنها وللعجب قد أضحت بعض من روحها المضطربة التواقة للأمان . لا يسكن إلا ها هنا.. 

❈-❈-❈ 

الإسكندرية ١٩٩١.. 

طرقات منغمة على باب الشقة، جعلت سراج يسرع ليفتح، زاعقا في اعتراض في وجه جمال: ايه في يا عم أنت ما بالراحة.. ابويا نايم.. 

اعتذر جمال في صوت خفيض: يا خبر، معلش مكنتش اقصد، اعتذراتي للحج.. 

هتف سراج وهو يجذبه للداخل: اعتذرات ايه وتحيات ايه انت كمان.. خش واقفل بقك ده شوية.. نخف ازعاج.. 

دخل جمال صوب حجرة سراج مباشرة، وتمدد على الفراش في أريحية، وما أن تبعه سراج حتى هتف به مازحا وهو يجذب الغطاء على جسده، أمرا: بقولك ايه، هنام ساعة كده وصحيني .. 

قذفه سراج بإحدى الوسائد موقظا إياه، ما دفعه لينهض معترضا: خلاص يا سراج بيه، هو الدنيا دي مفيهاش شوية راحة، فالبيت خبط ورزع وعزال وهنا كمان مفيش حنية ولا لقمة طرية ولا نومة هنية! يا خيبتك ف صحابك يا جمال!.. 

قهقه سراج معترضا: يا بني هو انا كنت خلفتك ونسيتك!.. ما تحل عنا بقى ده انت من ايام الثانوية العامة وانت نمت ع السرير ده أكتر م العبد لله اللي هو صاحبه.. نام.. 

تجاهل جمال اعتراضات سراج، متسائلا: طب ما تشوف لنا كده حاجة تتاكل، ولا اطلب حاجة من بره وانت تحاسب.. انا مأشفر.. ع الحديدة.. العزال خد مني كل اللي حيلتي.. 

هتف سراج متسائلا: هو خلاص طنط ومريم وافجوا ينجلوا معاك ع القاهرة.. 

هتف جمال شارحا: اه يا سيدي وافقوا بس مش بمزاجهم، مريم جالها فرصة تدريب كويسة اوي في شركة فالقاهرة، أم جمال قالت وهو أنا هقعد لوحدي لا رجلي على رجلكم.. وقررت تجي تقعد معانا بس أصدرت فرمان أن شهور الصيف كلها هاتقضيها هنا.. 

هتف سراج: طب على بركة الله.. اهو تبجى متونس بدل ما انت جاعد لوحدك.. ولا خلاص هاجر وجضيتها واخدين وجتك!.  

تنهد جمال هاتفا: والله ما أنا عارف يا سراج حكايتي مع هاجر هتكمل، ولا كل واحد هيروح لحاله زي ما حصل قبل كده! 

تعجب سراج: ليه كده!.. آخر مرة شفتك فيها كنت فرحان إنك عترت فيها بعد السنين دي كلها.. ايه اللي غير الأحوال!.. 

هتف جمال معترضا: هو أنا هحكي على معدة فاضية، ده حتى يبقى خطر على عقلي الباطل، قوم شفلنا حاجة ناكلها، قال صعايدة قال وكرم وبتاع وأنا حتى مشربتش بق ميا من ساعة مدخلت يبل ريقي!..  

هم سراج بالتهوض، هاتفا: يا ساتر عليك، اديني جايم.. 

هتف جمال يستوقفه متسائلا: هو الحج عرف أنت شغال فين! ولا أنت لسه مخبي! .. 

أكد سراج: عرف.. جلت له.. والعچيب إنه عارف الناس هناك وسألني على حاچات كتير أني نفسي معرفتش اچاوبه عليها.. والغريب اكتر إنه عارف الرسلانية واصلهم من ايام چدهم الكبير .. تخيل!.. 

هتف جمال متسائلا في لهفة: المهم شكر فيهم ولا ايه! 

أكد سراج: ايوه، شكر كتير.. 

هتف جمال في حماس: حلو.. بيضالك في القفص يا سراج يا ولعة.. يبقى كده سهل إنه يخطب لك اللي عليها العين والنية.. 

هتف سراج مشككا: مش عارف ليه حاسس ان الموضوع مش بالساهل كده!.. 

وكان سراج على حق، فقد ظهر الحج صبري وقد استيقظ خارجا من حجرته متجها صوب غرفة ولده ليتسمر على أعتاب الحجرة يهم بفتح الباب فإذا به يسمع الحوار الدائر، ليرفع كفه عن المقبض متراجعا، عائدا لحجرته مجددا.. وفي عقله يتردد سؤال واحد.. كيف يمكن لمخلوق أن يهرب من قدر لسنوات طويلة، ليتفاجأ أن ذات القدر ما زال يلاحقه.. ليتيقن أخيرا.. أنه لا مفر.. إما الازعان أو المزيد من الفرار بلا طائل..

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة