-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 34 - السبت 24/5/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الرابع والثلاثون 


تم النشر السبت 

24/5/2025

ـ ست الحسن..

عرابة آل حفني.. ١٩٤٣..

أصبح خروجه قبل أن يبزغ ضوء النهار عادة يومية، فقد كان يمتطي فرسه حيث ذاك المكان الذي شاهدها فيه للمرة الأولى.. ففرت فزعة لما خافته، وما أدرك لها موضعا بعدها.. 

يأتي لعلها قد اطمأنت وعادت سيرتها الأولى لتملأ الجرة وترحل.. يعلم أنه تسبب باندفاعه في كسر جرتها حين ظهر لها بهذا الشكل المباغت، لكنها بالتأكيد قادمة.. وعليه أن يكون أكثر حرصا هذه المرة.. 

وها هو اليوم الرابع من بعد احتجابها، ولا دليل واحد يوصله إلى موضعها.. كاد أن يجن وهي لا تبين ولو لمرة.. يعرف بعدها كل ما خفي عنه.. 

عاد مرارا بلا طائل، وها هو اليوم السابع للبحث عن فتاة بلون الحلم.. طافت بالخاطر لحظة منغمة.. ثم اختفت كقوس قزح في براح بلا نهاية.. توقف بفرسته مستترا خلف ذاك الأثر المتهدم، يبتهل لله أن تهل فتنقشع تلك العتمة التي ظلت لعقود مسيطرة على دواخله.. وينتشر ذاك الضي الحي بجنبات روحه.. 

انتفضت جوارحه، وتأهب فرحا وحبورا.. وهو يرى ذاك الطيف الرقيق القادم من البعد يمشي على استحياء متململ، يعبث بقلبه الغر، ويقلب ثبات خفقاته لثورة من امتنان، وها قد استبدلت جرتها المكسورة بآخرى سليمة.. 

سيطر على اندفاعه، وكبح جماح ناريته، وظل على مقربة يستمع لشدوها العذب الذي ما أفتقد، فقد كان هاجسا ظل يؤرقه وحيدا لليال سهد حُرم فيها المنام.. 

همت بأن تميل لملأ جرتها والرحيل، ما حثه لاتخاذ قراره.. فما عاد قادرا على الصبر المر أكثر.. مدفوعا للخروج هامسا هذه المرة: استنظرتك كتير.. 

تركت الفتاة جرتها ما أن وعت لوجود عامر، راكضة بكل عزمها نحو درب ما، كان عامر أكثر وعيا هذه المرة، ليتبعها في هدوء، حتى توصل لموضع دار المتطرف ذاك.. ألقى نظرة سريعة على محياها حين طرقت الباب في عجالة، ودخلت مسرعة حين انفرج.. تاركة إياه يقف بعيدا وقد نال مراده.. 

عاد موضع جرتها التي تركتها تجاهد وحيدة تقاوم الغرق بتيار النهر، مد كفا عفية وقبض عليها، ملأها في هوادة بماء صافِ بعيد عن العكارة، وصعد فرسته نحو دارها البعيدة.. 

ترجل تاركا الجرة جانب الباب، طارقا في قوة لمرة واحدة، قبل أن يمتطي صهوة فرسه، راحلا، وقد أدرك أن باب دارها قد فُتح، وحُملت الجرة داخلا، حين القى نظرة سريعة نحو موضعها حيث تركها، مبتسما للمرة الأولى بحياته، على حدث عفوي، لا يدع للابتسام.. 

لكنه امسك حاله متلبسا بظل ابتسامة قفزت لثغرة بدلت أصل حاله من العبوس، ومعها أدرك أن الحال ما عاد هو الحال.. فأطلق ساق فرسه للريح.. 

❈-❈-❈  

الإسكندرية ١٩٤٣.. 

دخلت رحيل غرفتها وزوجها التي تم تخصيصها لهما في شقة ابنتها سارة، لتدفع نعيم الذي كان يتظاهر بالنعاس، توقظه خامسة: بقولك ايه! كفايانا كده تقلنا ع البت وجوزها.. شوف لنا مطرح ولو حتى اوضة نتلم فيه.. 

همس نعيم بصوت ناعس ادعاء: منين! هو أنا عرفت اشتغل ولقيت شغل!.. 

هتفت رحيل حانقة بصوت خفيض: لا معاك، ومعاك كتير كمان، بس اللي أنت مستمرق فيها وجوز بنتك سمعاه بيشكي لها.. كده كتير عليه .. إحنا كنا جايين على قعدة كام يوم لحد ما تظبط أمورك واديلنا كام شهر اهو .. ولا حاجة اتزبطت ولا رسيت لنا على بر.. 

هتف نعيم حانقا: ما هو الدنيا واقفة والحال نايم واللي بيشتغل الشباب اللي بصحتهم فالمينا.. أنا بقى هشتغل ايه!.. 

هتفت رحيل في غيظ: بقولك ايه مش أنا اللي هتضحك عليها بالكلمتين دول.. لو الشغل على هواك كنت نزلت .. ده انت واحد يعرف القرد مخبي ابنه فين.. اوعى تفتكر اني معرفش عن عمولات السمسرة اللي انت بتعملها ومدعي الفقر .. وانك مش بتشتغل.. أنت معاك يا نعيم وتقدر تتصرف.. وأنا آخرى هنا يومين كمان لحد ما تشوف لك صرفة.. 

هتف نعيم صارخا: وهي سمسرة مرة ولا اتنين هتجيب لنا نسكن وناكل ونشرب منين!   

هتفت رحيل محذرة: أنا قلت اللي عندي .. يومين يا نعيم.. ويكون لي مطرح .. 

غادرت رحيل الغرفة، تاركة نعيم يعيد حساباته لاعنا النساء وأطماعهن، وقد أنارت في باله فكرة جعلته يتمدد من جديد على فراشه، منتشيا أن عقله لم يخزله في إيجاد المخرج السليم لمشكلته، دون أن يتكلف مليما..

❈-❈-❈  

عرابة آل حفني ١٩٤٣.. 

اندفعت نعناعة خادمة فوز لحجرتها على عجل، هاتفة في اضطراب: يا ست فوز، خدي الورجة دي بعتهالك حد كده .. 

كانت فايزة قد ازعنت لأمر زواجها من عامر، لا حبا فيه ولا رغبة في تجنب المشاكل والصراعات، ولكن من أجل عمها الذي تحمل من أجلها الكثير وكان دوما نعم الأب لها، حتى أن أمها نفسها كانت تقول أن لو أبيها كان على قيد الحياة ما نالت منه نفس الدلال الذي طالته من عمها عدنان، وكانت على حق تماما.. فكان حق عليها أن ترد له ذاك الجميل بأن تمنع ذاك الشقاق الذي كان في سبيله للوقوع بينه وبين ولده الوحيد من أجلها.. دفنت حبها لفضل بقلبها، وعلى الرغم من علمها أن فضل يرغب في الزواج بها وذاك كان اغلى أمانيها، إلا أن تلك الرغبة تعارضت مع أمور عدة، من شأنها قلب حياتهم رأسا على عقب.. 

مدت فايزة يدها تنناول الورقة من خادمتها، تفضها في هوادة، لتقرأ في تعجب مضطرب: أنا تحت يا فوز.. لازم أشوفك ضروري.. فضل..

انتفضت فايزة موضعها، واندفعت في اتجاه نافذة حجرتها، تتطلع نحو البراح لعلها تلمح طيفه، لكن نعناعة أكدت: مش هتوعيله من هنا يا ست فوز، ده واجف مداري فالچنينة اللي ورا الدار.. كان جلبي هيوجف ساعة ما نادم عليا، وجالي سلمي الورجة دي ليد الست فوز.. 

همت فايزة بالاندفاع لملاقاة فضل، لكنها تذكرت أنه ما عاد ذاك جائز أو مقبول، سابقا كانت تعلم في قرارة نفسها أنها رافضة لزواجها من عامر ولن تكون له زوجة مهما حدث، لكن الآن هي وافقت على أن تكون لعامر بملء إرادتها حتى ولو كانت داخليا ترفض ذلك لكنها نطقتها وتمت موافقتها وأصبحت في نظر نفسها على الأقل خطيبة لعامر وعليها الالتزام بذلك.. 

توقفت فايزة عن استكمال طريقها نحو الخارج، وقد أيقنت أن نزولها لفضل مسبة كبيرة في حقها وحق أهلها ما دفعها لتمد كفها نحو أحد الأوراق لتكتب وهي تتحامل على طعنات الشوق التي تكابدها تحثها على الازعان لرغبة قلبها والنزول لمقابلة فضل ولو لآخر مرة.. لكنها تمالكت مشاعرها الثائرة، وكتبت بأحرف من دمع ما املاه عليه ضميرها.. 

طوت الورقة، ودفعت بها لكف نعناعة أمرة إياها: خدي له الورجة دي يا نعناعة.. وتعالي متستنيش منه رد.. واعية لكلامي!.. 

هزت نعناعة رأسها في طاعة.. واندفعت تحمل الورقة التي دفعت بها لفضل وغادرته في عجالة غير منتظرة ردا كما أكدت عليها سيدتها.. 

فض فضل الرسالة في لهفة، على الرغم من انتظاره لمرآها هي، فقد كان الشوق إليها يضج مضجعه، وما من رد من عمها يشفي غليل الانتظار ، ما دفعه لحماقة التفكير في المجيء إلى هنا لملاقاتها، بدأ يقرأ على عجل: 

"مش هينفع يا فضل.. خلاص الرد على طلبك حتى ولو أنا لسه متبلغتش به.. هو الرفض.. جوازي من عامر بقى أمر واقع.. إنساني.. أنت قلت إنك سايب دايما لقانا للقدر.. وكان بيدبر لنا فرص اللقا بدون تدخل مننا.. بس لما حبينا نتلاقى برغبتنا.. شكل القدر كان له رأي تاني.. روح يا فضل.. معدش ينفع.. وهرجع واقولك كلمتك.. سبها للقدر.. يمكن.. بقول يمكن.. سلام.. فوز".

ضم فضل الرسالة في حسرة.. وتطلع إلى حيث نافذة الحجرة التي قبع بها لأسابيع طويلة.. لم يؤنسه إلا رواياتها.. لا يعلم لما تعلق ناظره بتلك التافذة لبرهة، قبل أن يندفع مبتعدا قبل أن يعِ أحدهم وجوده.. لا يدرك أن فايزة كانت تقف خلف أستار نافذة الحجرة التي احتلها يوما ما.. 

تتطلع إلى موضع تستره وهي تبكي في حسرة، وما أن لمحت طيفه يغادر مهرولا، حتى ارتفع نحيبها في قهر، فقد أدركت أن الأمر انتهى.. وما عاد لها أمل في تحقيق أمنية فؤادها بالزواج ممن ارتضته زوجا.. 

❈-❈-❈  

القاهرة ١٩٤٣.. 

طرقت إلهام باب حجرة أخيها في هدوء، فقد كان على غير العادة يتخذ من العزلة مسكنا لوجع قلبه منذ أن علم بخبر زواج صفية، كانت إلهام متعجبة من حال أخيها فما رأته قط منشغلا بأحوال الهوى وحكايات الغرام، حتى أن صديقاتها الفائقات الجمال وذوات الأصول العريقة لم يثرن اهتمامه أبدا.. ولا لاحظت مرة اهتمامه بالسؤال عن احداهن ولو بشكل عارض.. هل كان عاشق لصفية بحق!.. راودها ذاك السؤال كثيرا حتى أنها ما وجدت له إجابة شافية، فقد كانت مرات سؤاله عن صفية لا تُذكر، اعتقدت هي نفسها انها اسئلة عادية عنها عن فتاة تربطهما بها صلة قرابة، تعيش بعيدا ولا ترتاد القاهرة إلا في أوقات معينة.. ومناسبات خاصة.. 

لم يسمح لها بهجت بالدخول، لكنها فتحت الباب في حرص، لتجده يجلس على مكتبه يقرأ كتاب ما، والجرامفون يشدو بلحن رقيق يحمل شجنا ملأ الأجواء وصوت وكلمات سيد درويش.. يزيدا من حالة الحسرة وهو يترنم في ألم.. 

والله تستاهل يا قلبي.. ليه تميل ما كنت خالي!.. أنت أسباب كل كربي.. وأنت أسباب ما جرا لي.. 

ربتت إلهام على كتف أخيها منبهة إياه لوجودها، فانتفض متعجبا: إلهام!.. إنتي هنا من امتا!.. 

فسرت إلهام: أنا خبطت ع الباب ودخلت لما لقيتك مردتش.. قلقت عليك.. وأنت أصلا حالك ميطمنش من يوم ما.. ما عرفت خبر خطوبة صفية.. 

همس بهجت مؤكدا كذبا: لا أنا تمام.. متقلقيش..

همست إلهام متعاطفة: تمام ايه بس يا بهجت، أنت مشفتش شكلك كان عامل ايه لحظة ما عمتي أنس الوجود بلغتنا بالخبر.. 

سأل بهجت في قلق: حد خد باله!.. 

هزت إلهام رأسها نفيا، مؤكدة: لا مفيش، كلهم انشغلوا بالتهنئة وأنت قمت بسرعة.. 

همس بهجت في وجع: وإنتي مشفتيش شكلها كان عامل ازاي وعمتي بتبلغنا.. وشها كان فرحان أوي على الرغم من خجلها.. وعيونها بتلمع.. وايديها برتعش.. دي بتحبه حقيقي يا إلهام.. وأنا اللي كنت فاكر إني ممكن أشوف الفرحة دي لما اصارحها بعواطفي تجاهها.. كنت فاكر إن ابن عمتها ده مجرد عريس مناسب فرحت به زي كل بنت، بس اللي شفته قصاد عيني خلاني متأكد إنه مالك قلبها.. ومن زمان.. يمكن من قبل ما أنا.. 

صمت بهجت فشهقت إلهام وقد أدركت مأساة أخيها، هامسة في صدمة: أنت كنت بتحبها من زمان يا بهجت!.. طب ليه خبيت.. وليه ملمحتش حتى لبابا يفاتح عمتي!.. 

همس بهجت متألما: مش عارف.. يمكن عشان كنت راسم خطة مختلفة تماما في دماغي، كنت فاكر إنها هاتيجي هنا القاهرة تدرس فالجامعة، وده هيخلق تواصل بيني وبينها وأقدر مع الوقت أفاتحها.. مكنش في بالي كل اللي حصل ده.. مكنش خالص يا إلهام.. 

قال بهجت كلمته الأخيرة تلك في حسرة حقيقية، جعلت دموع إلهام تنساب في رقة لأوجاع أخيها، شاعرة نفس الأوجاع التي تخبو وتستعر بجنباتها كلما تذكرت ذاك الفارس الذي ظهر في ليلة عيد الميلاد، معطيا لقلبها توقيت جديد لميلاده، تاركا رسالته وغاب وكأنه حلم وولى.. حتى أضحت تقارن عينيه من خلف القناع التنكري الذي كان يرتديه ليلتها مع كل العيون التي تقابل، لعلها تلمح ضيهما الماجن المعجون بطهر خفي.. صدفة بلا ميعاد.. 

مسحت إلهام دموعها في عجالة حتى لا ينزعج بهجت من شفقتها على حاله، فهي تدرك كم هو عزيز النفس، ولولا معرفتها المسبقة برغبته في التقدم لطلب الزواج من صفية ما اطلع مخلوقا على حال قلبه ولظل يتعذب وحيدا في صمت.. هامسة في نبرة حاولت أن تكسوها ببعض الأمل: محدش عارف بكرة فيه ايه يا بهجت.. 

هز بهجت رأسه مؤكدا على حديثها، لكنه لم ينطق حرفا وهو يتطلع من نافذة حجرته الأفق قبالته، وسيد درويش يستكمل لومه لقلبه..

إيه بقا اللى ها يواسينى!.. بعد ما انهدت آمالي.. 

إذا كان حظى ناسيني.. مين أروح له..وأشكى له حالي!.. 

❈-❈-❈  

عرابة آل حفني ١٩٤٣.. 

تصلب عامر موضعه ما أن تنبه لنداء والده، كان يحاول أن يتجنب هذا اللقاء على قدر استطاعته، لكن ها هو الحج عدنان قد وعى لقدومه، أمرا إياه أن يمتثل بين يديه اللحظة، ليتحرك عامر صوب موضع جلوس والده المعتاد، هاتفا في طاعة: خير يا حچ!..

سأل عدنان مستفسرا: أنت اللي خير! ايه في! بحالك ياچي چمعة واكتر تصلي الفچر چاري أتلفت حوالي بعد ما نختم الصلاة ملاچيش لك حس، بتروح فين الساعة دي وتغيب لك كد ساعتين وترچع بعدها تتسحب كده، ايه في!

أكد عامر في هدوء: بطلع ع الخلاء، وتني راچع.. 

تطلع عدنان نحوه في نظرة تكسوها الريبة، متعجبا: ما هو لو بتغيب في چوف الليل كنت جلت متبع الغوازي وبنات الليل.. لكن غيبتك اللي في على غيار الريج دي فيها إن.. 

أكد عامر باسما: لا إن ولا يحزنون .. متشغلش بالك أنت يا حچ.. 

هاوده عدنان هاتفا: تمام، نريح بالنا، بس مش تاچي تمد يدك لچل ما نرتب للليلة الكبيرة.. 

هتف عامر بلا مبالاة: لسه بدري يا حچ، مش جولنا لما تخلص فوز السنة دي فالچامعة!.. 

تعجب عدنان مؤكدا: طب ما هي فوز خلاص باجي لها بتاع شهر .. ده كده الوجت زنج جوي.. 

رد عامر بلا اهتمام: ولا زنج ولا حاچة، أني بجول اسيبها تكمل السنة الباجية لها، ونكتب على آخر سنة كيف ما كنت جايل جبل سابج.. 

تطلع عدنان صوب ولده مدركا أن أمر ما قد بدل قناعاته وجعلها أكثر مرونة على غير عادتها، هاتفا يعارضه لكي يتأكد له صدق حدسه: وليه! خير البر عاجله، اكتبوا وتكمل بجى ولا لاه ده بتاعك أنت، واهي هتبجى مرتك وفدارك وتعمل ما بدالك .. 

هتف عامر مفسرا: لاه، كانت شورتك هي الصح يا حچ عدنان.. تروح الچامعة أني موافج.. 

وما أن هم عامر بالمغادرة، هربا من حصار والده، إلا وباغته عدنان متسائلا: وواد سعد رسلان! مش هيضايجك إنه ممكن يشوفها هناك! وخصوصي إني لسه مبعتش ردي على طلب سعد!.. ده هي نفسها متعرفش إنه طالبها..

تجاهل عامر كل ما قاله والده، وسأل في هدوء حذر: هو الدار المطرف اللي بآخر العرابة ناحية الچبل دي دار مين! 

تطلع عدنان صوب ولده في تعجب، هاتفا في ريبة: دار ايه! اللي فوج فالطل لحالها!.. 

هز عامر رأسه في إيجاب، ليعاود عدنان السؤال: وأنت ايه اللي حدفك على هناك!.. وايه لك فيها الدار دي!.. 

أكد عامر: لاه، كنت فالخلا، ووعيت لها جلت أسألك.. 

هم عامر بالاندفاع مهرولا، إلا أن عدنان استوقفه، متسائلا بغتة وقد استنتج عقله أمرا ما.. حاول أن يدرك مدى صحته: دي دار بت الباشا.. 

تنبه عامر مستديرا يواجه أبيه، متسائلا في دهشة: بت الباشا، باشا مين!.. 

جلس عدنان متمهلا، تاركا عامر يتعجله الحكي متململا، ليسرد عدنان مفسرا: ده بيت الشيخ حسونة، بته أية في الچمال، حاچة كده تجول للجمر جوم وأني اتربع مطرحك، حتى مكنش بيخرچها م الدار أبدا، كان مخبيها عن عيون الخلج، اللي سموها من چمالها ست الحسن.. وعيلها لچل النصيب مين.. نظيم باشا سري، باشا كبير من بشوات مصر، متعرفش چه ف ايه على هنا، بس كنه النصيب لچل ما عينه تجع عليها ويتچنن إنه ياخدها، أبوها خاف عليها مكنش موافج لكن الباشا عمل كل اللي فوسعه عشان يعطيه بته، وحصل.. اتچوز الباشا من بت الشيخ حسونة، عارف الدار اللي شبه السرايا دي اللي فمطلع العرابة، اهي كان بانيهالها، عاشوا فيها ياچي خمس سنين.. الباشا من حبه فبت الشيخ، مكنش بيجدر يغيب عنها يومين في مصر وتلاجيه چاي يرمي على هنا.. ربنا رزجه منها ببت بعد تلات سنين .. كانت أية كيف أمها.. وهو مكنش مصدج روحه، أصل جالوا له مليكش فالخلفة، الباشا ساب كل اللي ليه في مصر وجعد هنا چار البت وأمها.. كنه استغنى عنهم بالدنيا كلها.. لكن بعد سنتين الباشا تعب چامد وچه أخواته من مصر.. خدوه معاهم ورموا البت وأمها بره السرايا وجفلوها.. وجالوا لها جصاد الخلج، أخونا مبيخلفش شوفي بتك دي چبتيها منين.. بت الشيخ بتجول إن الباشا حجاني، كان كاتب لها ولبتهم اللي يكفيهم وزيادة لكن أخواته منهم لله، لا اعترفوا بالبت ولا ادوهم حجهم، ورچعوا بيت الشيخ حسونة من يومها.. وبعدها وصلهم خبر موت الباشا.. وخلصت ايام العز.. واتربت عفيفة بت الباشا في دار الشيخ حسونة، والبت وأمها لا بيطلعوا ولا بيكلموا مخلوج، والشيخ حسونة رغم تعبه وسنه، ساترهم وغانيهم عن الناس.. 

سرد عامر في الحكاية، ولم يستغرق إلا على صوت والده: ايه، رحت فين!.. 

همس عامر متعجبا: أصلك حكاية عچب.. كيف ما سمعت بها جبل سابج!.. 

أكد عدنان: الناس بتنسى اللي مش جصاد العين، وهم فحالهم لا بياخدو ولا بيدو.. استكفو م اللي نابهم.. جافلين عليهم بابهم..وعايشين.. 

هز عامر رأسه متفهما، ونهض مغادرا القاعة في عجالة، تاركا أبيه متعجبا من حال ولده، الذي تبدل ما بين ليلة وضحاها، مستشعرا أن ابنة الباشا هي كلمة السر .. 

قضى عامر الليل بطوله مسهدا، كان يختبر مشاعر عجيبة تراود دواخله للمرة الأولى على الاطلاق، كيف وهو ذاك العابس! ينتزع طيفها حين يخطر بالبال، البسمة الصافية من قلب ظنه قاسِ، لا يعبأ بالمشاعر ولا يهمه أمر الهوى!.. ترددات نغمات صوتها الشجي المترنم وهي تملأ جرتها، احتلت مسامعه حرمته المنام.. جعلته يدور في خدر لذيذ ما ذاق حلاوته يوما ..كان تشمله الرهبة وتضج رأسه بالتساؤلات، ويغيب في شروده ليعود ليقظته وهو بكامل وعيه يردد اسمها وكأنه الإجابة المطلقة الوحيدة عن كل تساؤلاته.. عفيفة..

انتفض مندفعا لخارج الدار نحو الخلاء، وما وعى لعدنان والده، الذي كان يستعد لصلاة الفجر، ليتأكد له حدسه فيما يخص عامر ولده، رافعا رأسه وكفيه المنفرجتين صوب السماء متضرعا.. لعل الله يريح باله، ويطيب نفسه بكل صالح.. 

ظهرت ست الحسن .. كما كانت الناس تلقب أمها قديما، وكما قرر هو تسميتها.. تحمل جرتها كالعادة، تتلفت حولها في قلق على غير العادة.. كان يعلم أنها باتت تخشى ظهوره، وأن قلقها ذاك نابع من خشيتها من أن يكون حاملا لها الضر.. انتظر حتى ملأت جرتها وخرج لها ممتطيا فرسه، هاتفا قبل أن تفزع هاربة كالمعتاد: متخافيش مني، أني مش رايد شر.. 

رفعت رأسها نحوه في اضطراب، فاضطرب مجلسه على صهوة فرسه لهذه النظرات المتمهلة المذعورة، ليستطرد في صوت ابح: روحي.. وعليكي الأمان لحد دارك.. 

رفعت جرتها ما أن استشعرت الصدق في كلماته، وسارت تسرع الخطى على قدر استطاعتها، وعامر خلفها بخطوات على صهوة فرسه، حتى إذا ما شارفت الوصول على باب الدار، حتى هتف عام: يا بت الباشا!.. 

التفتت في رقة، فهي ما سمعت هذا اللقب منذ سنوات طويلة، ليستطرد عامر مطالبا: نادميلي الشيخ حسونة من چوه.. 

اندفعت الفتاة للداخل وغابت لبرهة، قبل أن يخرج الشيخ حسونة متمهلا الخطى في وهن، متسائلا في دهشة: خير يا ولدي! أنت مين! وايه حاچتك! 

هتف عامر بعد أن ترجل عن فرسته: أني عامر واد العمدة عدنان الحفناوي، عمدة العرابة..ومن بعد إذنك يا عم الشيخ، هاچي أني وأبوي نطلب يد بت بتك.. الليلة.. 

ابتسم الشيخ حسونة مؤكدا: تشرف وتأنس يا ولدي مچية الخير .. 

استأذن عامر ممتطيا صهوة جواده، منطلقا نحو داره، مستشعرا سعادة أعجب من أن تكون حقيقية.. وللمرة الأولى يدرك أن للدنيا طعم مختلف.. لا يمكن وصف حلاوته.. 

❈-❈-❈  

القاهرة ١٩٤٣.. 

ما عاد العمر بهذا القدر من الأهمية للحفاظ عليه، فقد كان يعتقد أنه حين يحب ويتعلق قلبه، سيقعده ذلك عن الجهاد من أجل الحرية والعدالة.. وسيحرص على حياته أكثر خوفا من الفراق.. وخوفا على الأحبة من الحزن وأوجاعه.. لكنه على العكس حين منح قلبه للمرة الأولى وفشل في الحصول على محبوبته بسبب أفكار بالية وعادات عقيمة أدرك أن العمر ما عاد بهذه القيمة الغالية .. فهي التي جعلت لأيام العمر قيمة وحلاوة .. وبفقدها أصبحت الايام أكثر شحوبا وغما من وجه أرملة مكلوم.. 

ألقى فضل كل همه في المزيد من الأعمال الفدائية، حتى أنه أصبح أكثر جراءة واندفاعا من ذي قبل.. ما أثار انتباه أمير نفسه.. رافضا إشراكه في عملية جديدة، بعد آخر عملية كاد أن يفقد فيها فضل حياته.. هاتفا في نبرة أمرة: لا يا فضل.. مش هتطلع المرة دي.. أهدى شوية.. العملية اللي فاتت مكنتش هينة وكنت هتروح فيها.. احنا مش مستغنيين عنك.. 

هتف فضل في حنق: بس أنا عايز أطلع العملية دي.. أنا هرتاح لو طلعت.. 

هتف أمير متشائلا في فطنة: أنت كده مش بترتاح، انت كده بتنتحر.. في ايه يا فضل! أنا عمري ما شفتك كده!.. 

هتف فضل نافيا: مفيش!.. هيكون في ايه يعني!.. 

ابتسم أمير: ما أنت اللي هتقول في ايه! ولا اقولك أنا!.. 

تطلع فضل صوب أمير متعجبا، ليستطرد أمير هامسا: الآنسة فايزة.. الشهيرة بفوز.. 

انتفض فضل لذكر اسمها، ولم يعقب بحرف، لكن أمير استكمل متنهدا: هو أنت فاكر نفسك انت بس اللي حبيت.. أنا عاذرك.. أخوك حبيب قديم، أو كنت فاكر نفسي كده.. وقلبي اتبهدل م الحريم أشكال وألوان.. ومفيش واحدة أقدر أقول محبتهاش.. لكن يوم ما القلب طب بحق وحقيق، اكتشفت إن كل ده كان حكايات فارغة.. وإن حكاية القلب الحقيقية حاجة تانية خالص.. حكاية العمر.. اللي يدفع فيها العمر.. مش نضيعه يا غشيم.. 

هتف فضل شاكيا في حنق: بس دي هيجوزوها ابن عمها غصب لمجرد إنهم محجوزين لبعض من صغرهم، حد يقول كده!.. 

هتف أمير: لا، بحكمنا احنا ده تخلف، لكن في عرفهم ده عادي، وأنا مستني حكم العرف فحكايتي زيك بالظبط، يمكن تظبط.. ويمكن لأ.. بس لحد ما القدر يقول كلمته هفضل بحاول .. يمكن يجد في الأمور أمور.. ويحصل الممكن اللي كنت فاكره مستحيل.. 

هتف فضل يسأل في فضول: عمري ما كنت أتخيلك بتحب يا أمير.. مين المحظوظة!.. 

ابتسم أمير مقرا في مرح: قصدك المتعوسة اللي أمها داعية عليها.. بس أعتقد أمها هتدعي عليها بالفرنساوي.. 

وأخذ يقلد صوت امرأة أرستقراطية تلعن بالفرنسية.. اووه موون دينيه.. لترتفع ضحكات فضل منشرحا وهو يسأل مستفسرا: دي من علية القوم بقى!.. 

هز أمير رأسه مؤكدا على استنتاج فضل، هامسا في نبرة حالمة، لم تخرج من فم أمير من قبل: آخر حد كان ممكن أتوقع إن قلبي يميل له، عجيبة هي أمور القلوب.. أنت كلك في إيدك.. إلا الأخ اللي قاعد ومربع فالحتة الشمال دي، لا عارف له رابط، ولا له لجام.. وأنت بقى زي المغفل ماشي وراه.. لا عارف توقفه ولا لك يد أصلا في تسييره.. 

تطلع فضل في دهشة صوب أمير الذي كان يتحدث بأريحية كبيرة، وفي أمور كان يعتقد فضل أنه أبعد ما يكون عن مجرياتها، فإذا به غارقا فيها حتى الثمالة.. 

هم فضل بالسؤال مجددا، إلا أن صوت البوسطجي هاتفا باسمه، جعله ينتفض في قلق، حين جاءه علم بوصول تلغراف مستعجل.. اندفع فضل يوقع دفتر الاستلام جاذبا الورقة المطوية، مندفعا للخارج يفضها في عجالة قارئا: " احضر فورا.. والدك.."

تطلع فضل نحو أمير في اضطراب، متوقعا حدثا غير سعيد، فتلك هي المرة الأولى التي يستدعيه فيها أباه بهذا الشكل المتعجل.. هل الجميع بخير!.. 

تنبه أمير لقلق فضل مؤكدا: إن شاء الله خير.. مش يمكن يكون خير أكتر من اللي كنت يتتمناه!.. ياللاه روح اجهز بسرعة وسافرلهم.. وابقى طمني.. 

ربت فضل على كتف أمير ممتنا.. قبل أن يغادره مسرعا، هاتفا في عجالة: البيت بيتك يا أمير، خد راحتك.. 

ثم استطرد مازحا: بس إلا النسوان يا أمير!.. 

هتف أمير مازحا بدوره: تبنا إلى الله .. خلاص يا بني.. معدش ينفع.. 

وأشار إلى قلبه شاكيا: ده منه لله.. 

قهقه فضل على أفعال أمير وهو يندفع راحلا.. في اتجاه الرسلانية .. لا يعلم ما الذي ينتظره هناك .. 

❈-❈-❈  

الرسلانية ١٩٩١.. 

وصلوا بنجية في تكتم للسراي، ومنها إلى حجرة المضيفة حيث تقبع أنس منذ قدومها للرسلانية، لتدخل بها أنس للحجرة، هاتفة في محاولة لإخراجها من حالة التيه التي ما زالت تسيطر عليها حتى اللحظة: اهي اوضتك يا ستي، طبعا عرفاها، فاكرة يوم ما كانت لسه جاية الرسلانية جديد ومكنتش أعرف إلا انتي.. طلعتي يوم حنة منيرة جبتيلي صينية الاكل لحد هنا، وقعدنا نرغي.. فاكرة!.. 

هزت نجية رأسها في إيجاب، لتحمل أنس حقيبتها المعدة مسبقا، هاتفا في نبرة مترددة: مكنتش عايزة اسيبك الفترة دي، بس الضرورة هتخليني أسافر القاهرة.. 

همست نجية متسائلة: هترچعي طوالي!.. ولا هتغيبي!.. 

أكدت أنس: يا رب أقدر أرجع بسرعة.. 

قبلتها أنس مودعة، وهبطت الدرج نحو الخارج وبرفقتها ممدوح الذي كان بانتظارها ليغادرا المضيفة نحو التعريشة التي كان يجلس بها حبيب كعادته، والذي انتفض متعجبا ما أن رأى أنس قادمة بصحبة ممدوح، الذي كان يحمل حقيبتها، متسائلا في تعجب: على فين العزم!.. 

هتفت أنس في نبرة مضطربة: معلش لازم أسافر القاهرة ضروري.. 

تطلع حبيب نحوها في قلق: الوالدة بخير!.. 

أكدت أنس في عجالة: آه، ماما كويسة، بس في أمور كتير أنا اهملتها فترة قعادي هنا ولازم أروح بقى وأشوف حياتي.. 

هز حبيب رأسه متفهما وفي حلقه غصة، هاتفا: طب استنوا ابعت معاكم شبل بالعربية لحد المحطة.. 

أكدت أنس: مفيش داعي، ممدوح جه بالعربية وراكنها ورا السرايا.. اشوف وشك بخير.. 

همس حبيب: تروحي وترچعي بالسلامة.. 

هزت أنس رأسها مودعة، وألقى ممدوح التحية، ونظرات حبيب تتبعهما في حنق وغيرة مخلوطين بشوق بدأ يسيطر على دواخله قبل حتى أن تغيب عن ناظريه.. 

❈-❈-❈  

القاهرة ١٩٩١.. 

تطلعت برلنتي لابنتها في نظرة عاتبة، هاتفا بها في لوم: كده تسبيني الفترة دي كلها يا نوسة!.. يعني هو أنا عملت ايه، أنا عايزة مصلحتك.. شو.. 

هتفت أنس في عجالة: ارجوكي يا ماما، بلاش أي كلام في أي مواضيع لأني فعلا تعبانة.. 

همت برلنت بالحديث ليؤكد ممدوح: احنا فعلا تعبانين يا لولو، بلاش أي حوارات دلوقت، ناخد نفسنا بس.. 

هتفت برلنت في حنق: يعني واحد محترم ومقتدر ويتمنى لها الرضا ترضى يترفض ليه.. 

انت مشفتهوش يا ممدوح لما جه هنا، وكان عايز يعرف كل كبيرة وصغيرة عنها، مهتم بها وعايز يسعدها و.. 

هتفت أنس معترضة: عايز يعرف كل كبيرة وصغيرة عني! ويا ترى اطوعتي وحكيتي له ايه يا ماما.. هاااا.. قولتيله ايه بالظبط!.. 

أكدت برلنتى حين أدركت خطأ تصريحها: مقلتش حاجة.. عارفة إنك هتعملي كده فسكت.. بس أنا بقول إنه مهتم .. 

تنهدت أنس في نفاذ صبر، ليأمرها ممدوح في محاولة لتجنب أي مناقشة آخرى غير مجدية: ادخلي ارتاحي يا أنس وأنا هروح الشركة ابلغ حضور بس وارجع لك نروح مشوارنا.. 

هتفت أنس وهي تأخذ بيد ممدوح مبتعدة عن مجال سمع أمها: لا، أنت تروح ترتاح، وأنا هروح المستشفى دلوقت، أو روح الشغل شوف عشان محدش يضايقك بسبب غيابك، وبعدين روح ارتاح، متضغطش نفسك عشان تروح معايا المستشفى، وخاصة إن مقابلتك لهاجر دلوقت يعني.. أنا عارفة هتبقى .. يعني.. 

لم تفسر أنس كلماتها، لكن ممدوح أدرك ما كانت ترمي إليه، فهز رأسه متفهما.. رابتا على ذراع أنس في امتنان، فهي تراعي نفسيته على الرغم من حاجتها لوجوده في ذاك الموقف في مواجهة نصير الراوي وعرضه المجهول.. راحلا في هدوء.. باتجاه عمله.. تاركا أنس في صحبة برلنتي، مشفقا عليها من فضولها.. 

❈-❈-❈  

القاهرة ١٩٩١.. 

اندفعت أنس باتجاه استقبال المشفى، متسائلة عن رقم غرفة نصير الراوي.. وما أن وصلت قبالة الجناح الذي يحتله نصير، حتى صادفتها هاجر وهي تخرج من غرفة في آخر الرواق قادمة نحوها، لتتوقف أنس متطلعة لها لا تقوى على الاندفاع صوبها كما هو معتاد، ولا هي بقادرة على تحمل ذاك البرود الذي تصدره وهي ترى هاجر بعد كل هذا الغياب، ولا ترتمي بين ذراعيها.. 

توقفت هاجر قبالة أنس الوجود في هدوء مشيرة لحجرة نصير، مؤكدة: نصير بيه طلب دخولك له أول ما توصلي.. 

تعجبت أنس: هو كان متأكد أوي كده إني جاية!.. 

أكدت هاجر: هو متأكد إن ممدوح هيقدر يقنعك تيجي، واكيد انتي هتبقى عايزة تعرفي عرضه.. يا تقبليه يا ترفضي.. كله بأيدك!.. 

طرقت هاجر باب الحجرة، دافعة إياه في هوادة، مؤكدة على وصول أنس، ليعتدل نصير في مجلسه، مؤكدا على إدخالها فورا.. 

دخلت أنس الحجرة، لتخرج هاجر مغلقة الباب خلفها، تاركة أنس وحيدة مع نصير الذي هامسا لأنس في هوادة: اتفضلي.. 

همست أنس بدورها: حمدالله ع السلامة.. 

همس بالمقابل: الله يسلمك.. 

سألت أنس تحاول أن تنهي هذه المقابلة الغارقة في التوتر: ممدوح قال لي إن في عرض ليا، قلت عليه فرصة العمر.. يا ترى خير!.. 

هتف نصير لائما: أنت مستعجلة أوي كده ليه!.. هو فعلا في عرض ليكي.. واتمنى توافقي عليه.. 

لم تعقب أنس تستحقه على الاسترسال، ليستطرد هو في نبرة رسمية صرفة: أنا بعرض عليكي شراء نصيبك من أرض الرسلانية والسرايا بتلات أمثال تمنه الفعلي.. 

هتفت متعجبة: نصيبي فالأرض والسرايا!.. اللي فالرسلانية!.. وأنت ايه المهم فيهم بالنسبة لك عشان تعرض عليا سعر زي ده!.. 

هتف نصير في نبرة رسمية باردة: دي بتاعتي أنا ملكيش في معرفة السبب، بس وماله.. أقولك لو السبب فارق معاكي.. أنا عارف حالتك المادية، وعارف العملية اللي والدتك محتاجاها.. وهتكلف مبلغ مش صغير بالنسبة لكم، فأنا قلت اشتري منك نصيبك .. عشان تبقى الفلوس تمن شرا وبيع، ملهاش دعوة جوازي بيكي .. اللي واضح إنك رفضاه.. 

اضطربت أنس حين جاء على ذكر عرض الزواج، مؤكدة: رفضي مش موجه لشخصك، أنا رافضة المبدأ.. مش هتجوز دلوقت.. عندي حاجات كتير عايزة اعملهم قبل ما أفكر في الجواز.. ارجو إنك تكون فاهمني.. 

هز نصير رأسه باسما، هاتفا في نبرة تبدلت تماما للرخامة: وده يكفيني، إن في أمل يكون لنا نصيب مع بعض.. مهما طال الوقت.. 

اضطربت أنس فما كان هذا مقصدها، لكنه استطاع لي الكلام بشكل يوحي بموافقتها..

جذبها من خواطرها أمرا في هوادة ناعمة: فكري في الموضوع براحتك.. أنا مش هحتاج منك الا تنازل عن نصيبك، وتبقى الفلوس في إيدك.. 

هزت أنس رأسها في تفهم، ونهضت تتحجج برغبتها في الراحة بعد سفر طويل.. مهرولة للخارج، حتى أنها ما بحثت عن هاجر، لتحاول أن تفسر لها موقفها من عرض نصير بالزواج منها.. لعلها تتفهم أن هذا اختياره ولا دخل لها به، وأنها اللحظة بصدد اختيار آخر لهو أشد وطأة على نفسها على الرغم من اغرائه.. اختيار لو كان جاءها قبل أشهر حين وطأتها قدماها الرسلانية لأول مرة.. لكان بالنسبة لها طوق النجاة بحق.. لكن اللحظة.. هي تستشعر أن ذاك الاختيار ما هو إلا اختبار عويص تقع تحت طائلته، ولا قبل لها على مواجهة تداعياته.. فبأي ورطة حقيقية وقعتي يا أنس الوجود!.. وهل هذه حقا فرصة العمر كما وصفها نصير!.. أم ماذا!.. 

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة