رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 35 - الثلاثاء 27/5/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الخامس والثلاثون
تم النشر الثلاثاء
27/5/2025
ـ ثلاث سلامات..
الرسلانية ١٩٤٣..
دخل فضل السراي مسرعا، لا يعلم ما سبب استدعاء أبيه له على وجه السرعة، كان قلقا أن يكون والده صحته ليست على ما يرام، أو ربما هي أمه الغالية!.. تطلع حوله في قلق مناديا، لتظهر وداد أخته الصغرى باسمة.. مؤكدة عليه: أنت وصلت يا ابِيه! اتفضل بابا فالمكتب..
اندفع فضل بعد أن طرق الباب للداخل دون حتى انتظار الإذن بالدخول، ليهتف سعد في سعادة ما أن وقع ناظره على ولده الوحيد: مبروك يا فضل، وصل رد عمك عدنان بالموافجة..
هتف فضل متعجبا: موافجة ايه!..
هتف سعد باسما: موافجة ايه! ده باين الخبر خربط دماغك! يا واد مش كنت طالب يد بتهم للچواز وجلت مش واخد إلا هي..
هز فضل رأسه في تيه، وهمس متعجبا، وهو يتذكر رسالة فوز الأخيرة التي بعثتها مع خادمتها: بس دي موعودة لواد عمها، وحضرتك جلت لي الموضوع صعب..
أكد سعد: ايوه صح، بس اهو ربنا أراد وهم وافجوا هنعترضوا إحنا..
هتف فضل ما أن استوعب الأمر: لا، نعترضوا ايه، بس يعني خلاص كده.. هي فحكم خطيبتي..
أكد سعد: لا خطيبة ايه! إحنا هنكتبو طوالي، وفرحكم كلكم فليلة واحدة .. صفية ومختار، وأنت وفايزة..
تطلع فضل صوب والده لا يصدق أن حلم صعب المنال كان يعده مستحيلا، بات قاب قوسين أو أدنى من مناله.. ما دفع سعد ليجذب فضل لأحضانه، رابتا على ظهره في فخر، هاتفا في نبرة متأثرة: مبروك يا فضل يا ولدي.. مبروك..
ثم دفع به في رفق بعيدا عن صدره، أمرا إياه في ود: ياللاه أطلع على فوج، شوف أمك واخواتك البنات، وجومو باللازم.. عشان خلاص.. هو شهر.. ويتم المراد..
ابتسم فضل في سعادة، ما زال مأخوذا بما يجري وكأنه حلم عابث في ليلة دافئة لا يصدق.. مندفعا لخارج الغرفة، ومنها لحجرة والدته، حتى تتم تجهيزات الزفاف على أتم وجه.. نتبعه ابتسامات سعد الجزلة، وتضرعه الخفي بأن يتم الله الأمر على خير ما يرام..
❈-❈-❈
القاهرة.. ١٩٤٣..
طرقت إلهام باب حجرة بهجت في هوادة، ليسمح لها بالدخول صوته الهادئ النبرة.. دلفت للغرفة تلقي التحية، وهي مترددة في الإقدام على إبلاغه بما جاءت لأجله.. فتنبه هو لصمتها، متسائلا في فضول: خير يا إلهام! في حاجة!..
هزت إلهام رأسها تأكيدا: ايوه.. بابا بيبلغك تفضي نفسك عشان هنسافر كلنا لفرح..
لم تكمل إلهام كلمتها.. لكن بهجت تفهم ما كانت تقصد، ما دفعه ليؤكد: معتقدش إني هقدر يا إلهام.. حقيقي هيبقى صعب عليا..
دمعت عينى إلهام لمصاب أخيها، هاتفة: بس فيه مشكلة هنا يا بهجت!.. الفرح هيبقى فرحين.. فضل هيتجوز هو كمان من بنت عمدة هناك.. كان طالب أيدها من فترة.. ولما وافقوا قالوا يخلوا الفرح فرحين.. دلوقت لو مرحتش فضل صاحب عمرك هيزعل إنك محضرتش فرحه.. هتحلها إزاي دي!..
تعجب بهجت متسائلا: معقول! بسرعة كده!.. أنا مكنتش متوقع إن فضل بالذات يفكر فالجواز دلوقت.. أنا عارف توجهاته.. بس ع العموم ربنا يهنيه.. فضل جدع ويستاهل كل خير.. بس شكله هيستقر هناك مش بالقاهرة..
أجابت إلهام: اللي فهمته من كلام بابا مع ماما وهم بيبلغوني الخبر، أن خطيبة فضل بتدرس هنا فالجامعة، وهيستقروا لحد ما تخلص بالقاهرة وبعدها هيكونوا هناك طبعا..
ابتسم بهجت: أنا قلت إن فضل مش ممكن ياخد واحدة مش متعلمة، مش فكره.. ربنا يسعدهم.. بس طالما الحكاية كده.. يبقى ملحوقة يا إلهام.. أنا أصلا مسافر في الفترة دي.. ولما أرجع ابقى اروح أبارك لفضل لما يستقر هنا في بيت مصر الجديدة..
سألت إلهام: يعني ده آخر كلام عندك يا بهجت!.. مش هتسافر معانا!..
أكد بهجت بصوت يقطر وجعا: مش هقدر يا إلهام.. أشوفها مع حد غيري.. أنا بدعي لها ربنا يسعدها، لكن ده هيبقى كتير عليا..
ربتت إلهام على كتفه متفهمة، مؤكدة عليه: براحتك يا بهجت، بس حاول تلاقي حجة قوية عشان تعرف تخلص من ضغط بابا وماما عليك..
هز رأسه مؤكدا على قولها، لتغادر الغرفة، تاركة أخيها وحيدا يشكو لوعة عشق بلا أمل..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٤٣..
كانت أضواء شارع عماد الدين تلوح مقتربة، ومجموعة الأصدقاء التي وقفت على أحد الأرصفة تنتظر شخص ما، يعلو صخبها في سعادة، حتى قرروا عدم انتظار صاحبهم الخامس، والدخول لذاك الملهى الذي تنير أضواءه الطريق إليه مرشدة دون جهد يذكر..
دخل الشباب الأربعة الصالة العامرة بالضحكات والنغمات، وصوت إحدى المطربات يعلو منسجما مع الكلمات الماجنة التي كانت تلقي بها لجمهور نصفه من السكارى، ظهر أحد الجرسونات مشيرا في ترحيب للشباب ليجلسوا لإحدى الطاولات بالقرب من خشبة العرض، وقد تجمعوا حول الطاولة الدائرية ليندفع الجرسون ملبيا خدماتهم، فمن خبرته برواد هذا المكان، أدرك أنهم طالبي متعة وقتية ولديهم ما يؤهلهم للدفع في سخاء..
هتف أحد الشباب مؤكدا: هتعيشوا سهرة محصلتش، أنا مش جايبكم في أي تياترو . دلوقت تشوفوا بقى زينات عوني.. نجمة السيما، حاجة ١٣.. وتعرفوا يعني ايه حريم يا مقاطيع..
هتف مختار ممتعضا: هو يعني كان لازم السهرات دي يا شباب!.. كنا رحنا قعدنا في أي كلوب محترم..
هتف أحد الشباب: اه ما أنت خلاص هتتأهل وتدخل قفص الزوجية، لكن إحنا يا عيني علينا.. قاعدين للأوامر والسلاح والميري..
ابتسم مختار هاتفا: طب ما تتجوز يا سيدي حد حاشك! بدل السرمحة دي.. و..
قاطع مختار صديقهم الخامس، الذي وصل لتوه، هاتفا في مزاح كعادته: خونة! دخلتو من غيري، بس ملحوقة، أهم حاجة نجمتنا لسه مهلتش!.
قهقه مختار محييا: ازيك يا ناجي!.. مفيش فايدة فيك!.. ده أنا قلت هلاقيك عقلت!..
قهقه ناجي هاتفا: لو عقلت أموت يا مختار.. هو في أحلى م الجنان.. أيوه.. هو ده.. أنا نشنجي بريمو وجيت بالظبوط على ميعاد طلة القمر..
تعالت ضحكات الجميع على تعليق ناجي، حين أعلن منظم الفقرات، ظهور راقصة مصر الأولى ونجمة السينما والمسرح.. زينات عوني..
فهلل الشباب، وتعالى الصفير في إعجاب وقد دخلت تلك الحورية تتمايل على أنغام الموسيقى كحية جذبها مزمار هندي.. أو غصن هزته ريح شمال رقيقة فمال في دلال..
أسرت زينات الافئدة، بينما هتف ناجي مازحا: دي مش زينات! دي زينات كلبات.. رايات وكهارب تنور حي بحاله..
قهقه الشباب كعادتهم على تعليقات ناجي المازحة، إلا مختار، الذي بدأ يتصبب عرقا، وشعر بالاختناق، ما جعله على الرغم من مقاومته ذاك الشعور، رغبة في عدم إفساد الليلة التي قرر فيها أصدقاؤه الاحتفال بقرب حفل زفافه، لكن ما يجري كان غريبا، يحدث للمرة الأولى تماما.. فعندما يرفع رأسه متطلعا لتلك التي تستعرض فنون الغواية قبالتهم.. يزداد شعوره بالاختناق أكثر، كأنما يلف أحدهم حبل المشنقة حول رقبته جاذبا في هوادة بغية تعذيبه.. ظل على هذه الحالة لدقائق مقاوما، وما أن شعر أنه يحتاج للهواء النقي وإلا اختنق بالفعل، حتى نهض في عجالة مندفعا للخارج.. وسط دهشة أصحابه الذين لحقوا به جميعا، ملقيا أحدهم مقابل ضيافتهم على الطاولة، متحسرا وزينات تدور حول نفسها معلنة نهاية فقرتها، مصحوبة بعاصفة من التصفيق الحاد والاستحسان المدوي بالقاعة..
التقط مختار أنفاسه في تتابع ملقيا رباط عنقه جانبا، وأصدقاؤه خلفه متسائلين في تعجب: ايه اللي حصل يا مختار! أنت تمام!..
هز مختار رأسه في إيجاب، وهو يلتقط المزيد من أنفاس الهواء النقي، مبررا: واضح إن ماليش في الأماكن المقفولة.. اللي مليانة دخان وخنقة..
قهقه ناجي ساخرا: قصدك اللي فيها حريم يا غشيم.. ده أنت طلعت نمرة... وقال صعيدي!.. في صعيدي مدهول كده!..
ابتسم مختار، مفسرا: والله ما عارف ايه اللي جرا.. بس خلاص بقى خلونا نروح.. مش شفتوا ست زينات ولا عنايات دي.. كفاية علينا كده..
هتف ناجي متحسرا: أنا قلت مختار ده ملوش فالطيب نصيب، قولتو لي لا صاحبنا وبيودع العزوبية ونجيبه بقى نفرح به... اهو بيقولكم نروح! تقولش مستني الدادة تسخن له اللبن!..
ارتفعت ضحكات الجميع.. بينما هتف مختار من بين ضحكاته مؤكدا: أنا عن نفسي مكتفي لحد كده ومرحبا باللبن.. أنا راضي..
أكد ناجي مازحا: تصدق ب ايه! أنت تستاهل الجواز.. ده أكبر عقاب لك، يا هادم اللذات ومفرق الجماعات.. ياللاه سلام.. سديتو نفسي..
سأل مختار صديقه ناجي وهو يبتعد: اوعى متجيش فرحي! هستناك..
أكد ناجي وهو يلوح مبتعدا: لو قدرت أنزل اجازة وقتها أكيد هاجي.. مبروك مقدما..
هتف مختار: الله يبارك فيك..
قالها قبل أن ينحرف ناجي عند منعطف شارع عماد الدين، وقد غاب داخل أحد الأذقة..
❈-❈-❈
عرابة آل حفني.. ١٩٤٣..
وكأن للقلوب عروش، لا ترضى إلا بحاكم مطلق مؤبد الفترة، لا ينازعه في سلطانه مخلوق، ولا ينزعه عن عرشه نازع، وقد يتحول القلب في لحظة فنكتشف أن من كنا نظنه سلطان عرشها.. ما هو إلا حاكم غير شرعي لفترة مؤقتة حتى تحين وراثة العرش لمن يستحق..
تركت فايزة الرواية التي كانت تقرأ جانبا، متنهدة في ضيق، فكل ما كان حولها يذكرها بفضل وكلماتها له، كل خفقة وهمسة والتفاتة تخبرها أنه هنا.. لا زال قابع بين حنايا روحها ماثلا بكل سطوة، على الرغم من الفراق وطول البعاد.. كادت أن تبكي في قلة حيلة، لا تقدر على تخيل نفسها بعد شهر من اليوم تحت سقف حجرة واحدة مع عامر.. ايضع الإنسان نفسه موضع الأسر ردا لجميل!.. ايرهن الإنسان مقدراته طلبا لرضا أحدهم مهما كان قدره!..
أسئلة كثيرة ما عاد لها من إجاب.. وما عادت تجدي اجابتها من الأساس.. فقد قررت ونفذت وها هي في انتظار حكم الأسر الأبدي لروحها وقلبها على حد سواء.. نهضت تحاول الخروج من دوامة الأفكار التي لا تنتهي إلا بمزيد من الاوجاع.. تسير في اتجاه الدرج لتصعد للسطح، لعل بعض البراح يخفف من ضيق نفسها.. كان شحوبها ظاهر على قسمات وجهها، ونظرات عينيها تحمل وجعا يتدارى خلف كبرياء شامخ، استوقفها عامر: فايزة!..
كانت هذه من المرات النادرة التي ناداها فيها باسمها، فقد كان لقب دلالها فوز هو المتعارف عليه فيما بينهما، ما استرعى انتباهها لتقف متطلعة نحوه في هدوء، منتظرة افصاحه عن رغبته، ليهتف في نبرة جادة كعادته: جدامك كتير على بال ما تچهزي حالك.. ما خلصت امتحانتك عاد!.
هزت رأسها نفيا، مؤكدة: هو الشهر..
هتف في هوادة: طب تمام.. عشان إحنا بعتنا لدار سعد رسلان، وبلغناهم موافجتنا.. باين واد الباشا مستعچل!..
تطلعت فوز نحوه في تعجب: موافجتكم على ايه!.. وواد الباشا مين!..
أكد عامر مبتسما لأول مرة: موافجة عمك على چوازك من ولدهم الافوكاتو..
تطلعت إليه فوز بأعين مذهولة النظرة، متسائلة في دهشة: چواز مين ب مين! هو مش كان فرحنا اللي متحدد بعد امتحاناتي ده!.. ايه اللي .. أني مش فاهمة حاچة!..
تنهد عامر مؤكدا: إنتي مش ليا يا بت عمي، ولا عمرك كنتي، وأني مش هكون راچلك اللي هيعرف يسعدك، ولا هتبجي إنتي اللي ممكن تريحني.. إحنا طلعنا لجينا روحنا مكتوبين لبعض ووافجنا ع الحال ده، لكن الجلوب كان لها شورة تانية..
همست فايزة في صدمة: الجلوب!..
هل هذا عامر الذي يتحدث اللحظة! تطلعت لقسمات وجهه التي لانت، وتبدلت من الشدة والصرامة إلى مزيج من اللطف والوداعة ما ابصرتهما يوما على قسماته الخشنة.. ما الذي يجري!..
أكد عامر مبتسما في حرج ليس من عاداته: أني مش متعلم كيف علامك يا بت عمي، لكن واعي وأجدر أشوف اللي چوا البني آدم اللي جدامي، واد عمك مش هين برضك.. ربنا يهنيكي مع اللي رايدك .. وأني ربنا يكرمني ف اللي بسعاله..
لم تعقب فوز على كلمة مما قال، فقد كانت الصدمة تشملها كليا، والتي زادت وتيرتها ما أن أعلن عامر في نبرة فرحة: أني رايح مع الحچ عدنان نخطبوها الليلة..
همست فايزة متسائلة، وقد بدأت تستفيق من أثر الصدمة: هي مين!
ابتسم عامر، فأدركت فوز أن ذاك هو قلب عامر الذي يبتسم ليس ثغره، فقد وصلت الابتسامة لعينيه التي لمعت ببريق تعرفه جيدا، ذكرها باغلى الناس، فكادت أن تشهق باكية، وهو يعترف: عفيفة.. عفيفة بت نظيم باشا سري.. وچدها يبجى الشيخ حسونة..
همست فوز في سعادة: عمرى ما شفتك فرحان كده يا عامر!.. أنت تستاهل ست الناس يا عامر.. ربنا يسعدك..
اتسعت ابتسامة عامر على غير العادة، ما دفعها لتبتسم بدورها، لا تصدق أن ذاك العابس قد مس الهوى قلبه فحوله لذاك الباسم المنتشي.. آه.. كم للهوى من أعاجيب!..
غادر عامر في عجالة، تتبعه بناظريها لا تصدق ذاك التبدل في شخصه، متعجبة تتساءل كيف هذب العشق طباعه ليصير بهذه اللطافة!.. بينما اندفعت لحجرتها.. مطلقة العنان لصرخات سعادتها، تتقافز هنا وهناك لا تصدق أن ما بين ليلة وضحاها أصبح الحلم حقيقة.. والمستحيل ممكن.. كالفراشة تنتقل بجنبات حجرتها، جسدها يعاند قوانين الجاذبية، وقلبها من نشوته أخف ثقلا من ريشة..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٤٣..
كان يقف خلف كواليس المسرح متخفيا حين أعلن مقدم الفقرات خروجها لأداء رقصتها، تطلع إليها في انبهار، لم تتغير أبدا ولا مستها يد الزمن أو غيرت فيها السنون، وكأنها ما تزل بنضارة ابنة الرابعة عشرة الموفورة الجمال والبنيان، والتي لطالما اشرأبت أعناق الرجال حين كانت تمر بمجالسهم..
ألقى نظرة سريعة على الحضور الذي كان يكتظ به المكان، فلمحه من بعيد، تعجب لبرهة قبل أن يبتسم في سعادة، وكأن الأمور مسخرة لخدمة مصالحه دون أن يدفع بها مجهدا..
أنهت زينات عوني فقرتها وتوجهت مسرعة نحو غرفتها، وما أن دخلت وهمت بخلع ملابسها، حتى ظهر نعيم من خلف الستار الخشبي المزركش الكائن بأحد أركان الغرفة، ليكون موضعها مستترا للتحرر من ملابس العمل واستبدالها بملابس ارسقراطية راقية تدل على ذوق رفيع.. شهقت زينات في ذعر حين طالعها ظل ما خلف البرافان، لكن ما أن كشف نعيم عن هويته حتى بحلقت فيه بصدمة ولم تنطق لبرهة، قبل أن تتمالك نفسها وتستعيد ثباتها، هاتفة بنبرة مذهولة: نعيم!..
هتف نعيم وابتسامة صفراء مرسومة على شفتيه: آه نعيم، عاملة إيه يا زينات! بقالنا أد ايه مشفناش بعض!.. سنين، مش كده!..
أكدت زينات بايماءة من رأسها: آه.. صح، ما أنت اللي رحت وقلت عدولي..
أكد نعيم بدوره: اديني اطردت م الرسلانية وقاعد لك..
هتفت وهي تضرب صدرها بباطن كفها في هلع: طردوك!.. ليه! عملت حاجة ولا تكون قلت لهم على اللي بينا!..
قهقه نعيم في استخفاف: كبرتي ما كبرتي لسه عقلك أد البندقة.. أقول ايه! ولمين!.. الموضوع ملوش علاقة بيكي نهائي.. واريحك أكتر هم نسيوكي من أساسه.. مش فاكرين إن كان في وسطهم واحدة عايشة إسمها شفاعات.. حياتهم ماشية والدنيا معاهم مفيش بعد كده..
ساد الصمت ليبصر بمكر تأثير كلماته على ملامح وجهها المليحة التي لطختها مساحيق التجميل فزادتها جمالا متوحشا لا يستهان بغوايته، ليستطرد مستمتعا بالحنق والغل الذين ارتسما على ملامحها بدقة بالغة: طب أزيدك من الشعر بيت، مختار ابن توحيد كان قاعد يتفرج عليكي مع صحابه فالصالة..
همست شفاعات في غل: مختار!..
أكد نعيم لمزيد من الدقة ولمزيد من إثارة الأحقاد داخلها: حضرة النقيب مختار وهدان الحراني.. اللي فرحه كمان كام أسبوع على صفية بت خاله سعد باشا رسلان.. شفتي بقوا فين!..
ساد الصمت الحاد مجددا، قطعه نعيم في مجاملة حاول أن يعدل بها كفة الميزان: وانتي بقيتي فين!.. بقيتي زينات عوني .. الراقصة المشهورة.. نجمة السيما والمرسح، اللي كل البشوات والبهوات بيطلبوا ودها.. ويتمنوا نظرة أو سهرة.. ويوم ما بتقبل ترقص في مناسبة واحد فيهم، ده بيبقى تقدير كبير وتنازل منها.. حصل، ولا أنا غلطان!..
هزت رأسها في إيجاب هاتفة: لا مش غلطان، كل كلمة صح جدا، ده أنت عامل عليا تحريات عال أوي.. يا ترى ليه!.. ما هو أصل ظهورك بعد الغيبة دي كلها وراه سر!..
هم نعيم بالنطق، إلا أن طرقات سريعة على الباب جعلته يتخفى من جديد خلف البرافان، حين سمحت لمساعدتها بالدخول، والتي هتفت في فرحة: جايلك فرح كبير فالصعيد يا فنانة، بس مقلكيش، عرض ما يتفوتش، فرح باشا م الأعيان هناك، بيقولوا تخدي المبلغ اللي يرضيكي وسفرك ورجوعك القاهرة على حسابهم.. ايه رأيك! حاجة ألاجه بصحيح!..
همست تسأل في اضطراب: قولتي الفرح فين!
أكدت مساعدتها: فالصعيد.. في نجع اسمه الرسلانية.. أو حاجة زي كده.. اهو كله مكتوب فالورقة دي..
اضطربت شفاعات، دافعة بالورقة بعيدا لكف المساعدة، فهي لا ترغب أن يعلم أحدهم أنها لا تجيد القراءة و الكتابة.. هاتفة في حنق: ده شغلك.. تقري الأوردرات وتنظميلي المواعيد.. روحي ياللاه، ولما أشوف مواعيدي نبقى نرد عليهم..
خرجت المساعدة في طاعة، ليخرج نعيم من موضع تستره، هاتفا في سعادة: نعيم دايما سابق بخطوة، جبت لك أخبار الرسلانية قبل ما يجيلك الطلب منهم.. أكيد مش هترفضي عرض زي ده، تتفرجي بقوا إزاي، من غير ما حد يعرفك.. ولا حتى يتوقع إنتي مين..
هتفت شفاعات في تردد: مش عارفة هكون فاضية في التوقيت ده ولا دخلت تصوير فلمي الجديد! ما هو أنا مش هخسر فيلم عشان أرقص في فرح!..
تساءل نعيم: حتى لو هيرجعك الرسلانية!..
أكدت شفاعات: أنا مش عايزة أرجع، أنا بقى ليا حياة تانية ودنيا غير..
هتف نعيم في نبرة مخيفة: بس أنا عايزك ترجعي..
هتفت شفاعات في توسل: خد اللي انت عاوزه يا نعيم، بس ماخلنيش ارجع الرسلانية تاني.. صعب يا نعيم.. مش هقدر..
عرض نعيم في مهادنة: طيب، هراعي ده بس بكام!.. أنا ورحيل مرميين عند بنتي سارة في إسكندرية داخلين على سنة، وجوزها طبعا مش عاجبه مطفحنا اللقمة.. فأنا..
قاطعته شفاعات مقترحة: انزل أجر احسن شقة في إسكندرية وأنا هدفع ايجارها وهبعت لك مرتب شهري كمان.. كده أنت راضي!..
همس نعيم ممتعضا، مظهرا عدم الرضا التام عن عطاياها: يعني.. اهي نوايا تسند الزير..
خرج نعيم من حجرة شفاعات، الشهيرة بزينات عوني، تاركا إياها تلعن الساعة التي جمعتها وهذا الرجل..
❈-❈-❈
عرابة آل حفني ١٩٤٣..
تطلعت نحو كل هذه الخيرات، لا تصدق أن فضل الله قد غمرها وابنتها بهذا الشكل.. هاتفة في سعادة: والله ربنا عوض صبرنا خير يا عفيفة.. وبعت لك واد العمدة لحد دارك، خاطب وشاري..
ابتسمت عفيفة في حياء، تتذكر المرات القليلة التي وعت فيها لعامر بهيبته وطلته التي خطفت قلبها، حتى أنها كانت تخرج كل طلعة نهار مستترة تنتظر قدومه، لتتأكد أنه يستتر كذلك في انتظارها.. والمرة الأخيرة التي سمح لها فملء الجرة وسار جوارها حتى وصلت دارها، كانت لحظات من حلم..
دخل الشيخ حسونة متطلعا لكل الخيرات التي بعث بها عامر، باسما ومؤكدا: العريس جال هيبعت غفير يخدمنا، والعروسة ماخرچش م الدار، لا لحمل ميا ولا غيره.. وجال متنشغلش إلا فالتچهيز للفرح.. حجه.. مش عايز حد ينضر عروسته غيره.. والله ربك بيبعت الرزج لصاحبه ولو فين.. سبحانه رازج الدودة فالصخر..
دمعت عينى عفيفة حين أدركت خوف عامر عليها، ورغبته في راحتها.. متطلعة نحو أمها الدامعة العينين، متسائلة.. هل كانت فرحتها حين طلب أباها الباشا يدها للزواج، بقدر فرحة قلبها اللحظة بقرب اجتماعها لعامر!.. اشفقت على أمها وحالها، والتي همست في محبة وهي تحتضن ابنتها بين ذراعيها: ربنا يسعد جلبك يا بتي، ويعمر بيكي داره، ويچعل حظك ودنيتك، احسن من حظي ودنيتي..
ليهمس الشيخ حسونة متمتما، وهو يفر حبات مسبحته: اللهم آمين..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
ثلاثة أيام.. بثلاث ليالِ، ذاك هو عمر الغياب.. فلما يستشعرهن سنوات ثقال من الهم!.. أكان وجودها حيويا لهذه الدرجة التي جعلته يدرك أن الكون حوله بكل اطايبه وتفاصيله المألوفة لديه، صار أشباحا ترتدي السواد خلف براح من الأبيض الشاحب، فخلا فضاءه من بهجة الألوان..
جلس تحت التعريشة، وعيناه معلقة بنافذة حجرتها التي احتلتها نجية، تاركة نور مصباحها مضاءً ليل نهار، ما منحه شعورا زائفا بالانس ليوهم نفسه أنها ما تزل هناك، وأنها ما بين لحظة واخرى ستهل عليه كعادتها، ليصنع لها كوبا من الشاي الذي باتت تفضله، أو يصنع لها طعاما بكل محبة.. يثيره فضولها للمعرفة، ويتعجب من عدم المامها بتاريخ العائلة.. وعدم قدرتها على تمييز بعض الأسماء.. مستشعرا أنها كالنبتة الصغيرة التي تم جذب جذورها بحرص من تربتها، ليتم غرسها بتربة آخرى ومناخ آخر.. نمت النبتة بشكل اعتيادي حين توفرت لها الظروف المناسبة، لكن حين شاءت الأقدار أن تمد النبتة فرعا ما تطل به على موطن جذورها الأصلي، تمسكت وتشبثت.. حتى توصل ما كان، لكن النداء الآخر حيث لا زال جذورها راسخا، يجذبها بعيدا عن المنبت الأم.. حيث كان من المفترض أن تصير منذ زمن بعيد..
هل زفراني فانتفض حبيب من زحام خواطره، حين ظهر بغتة بلا مقدمات، هاتفا في حبيب بأريحية معتادة: أني چعان..
ابتسم حبيب أمرا في حنو: طب اجعد وهشيع شبل يخليهم يجيبوا لك تاكل..
هز زفراني رأسه رافضا، أمرا حبيب: لاه، من يدك.. هاكل من يدك..
تنهد حبيب باسما، وقد نهض مشمرا عن كمي جلبابه، هاتفا في محبة: وماله، عنينا لك يا زفراني.. هعمل لك الاكل بيدي.. هو إحنا نطولو..
كان يعلم أن زفراني ما جاء إلا لإزاحة كرب نفسه، ما عهده يوما إلا كذلك.. يأتي والهم يركن على كاهلي روحه بالجبال الرواسي، ويرحل وقد خفف بصحبته الكثير..
سأل حبيب باسما: تحب تاكل ايه يا زفراني باشا!..
ابتسم زفراني كطفل وديع في سرور، لكنه لم يتردد لحظة وهو يطلب في عجالة: شكشوكة بالبيض.. وتكون غرجانة فالسمنة البلدي يا الحبيب..
قهقه حبيب منصاعا: كنك واعر يا زفراني! مش هين أنت برضك..
اتسعت ابتسامة زفراني في انشراح، وجلس أرضا جوار الكانون حيث أمر حبيب بوضع كل المطلوب لصنع طبق العجة المخصوص من أجل زفراني، وارضاء لمعدته.. يتطلع لكف حبيب التي تعمل في احترافية، ويمد كفه ما بين الفينة والآخرى، ملتقطا بعض الخضار دافعا به لجوفه مصبرا معدته على جوعه حتى ينتهي حبيب.. الذي حمل الصحن واضعا إياه قبالة زفراني.. دافعا بالخبز لكفيه.. التي حثه حبيب على غسلهما مما علق بهما من اوساخ قبل البدء في تناول طعامه بشهية كبيرة كالمعتاد..
احنى زفراني رأسه في اتجاه صحن الطعام ولم يرفعه إلا وقضى على نصفه تقريبا، ليسأل حبيب: مش راح تاكل معاي!..
ابتسم حبيب مؤكدا: لاه، كل أنت يا زفراني، ماليش نفس..
دفع زفراني بجوفه لقمتين متتابعتين، قبل أن يعيد النظر نحو حبيب هامسا: واعرة الفرجة يا الحبيب.. واعرة جوي.. خابرها أني.. غياب الأحبا علجم مر..
تنبه حبيب لكلمات زفراني، واهتز قلبه، ولم يعقب بحرف.. وماذا عساه أن يقول!.. وزفراني يدرك مكمن الخبايا بنفسه، ينتزعها من عقرها ويدفع بها قبالة ناظريه، وكأنه يقول له.. واجه ما تتستر منه.. لكن كيف لمثله أن يوجه نفسه متسترا خلف نفسه!.. كم أدرك اللحظة أن حرب الإنسان مع ذاته لهي بحق اوعر الحروب وأقساها!..
أنهى زفراني طعامه، بعد أن أتى على ما بالصحن، مصحوبا برغيفين من الخبز.. دافعا بجوفه بعض الماء.. ونهض في هوادة يهم بالرحيل.. ليساله حبيب معترضا: على فين يا زفراني!.. ما تجعد هبابة.. أني كربان.. خليني اتونس بك..
أقترب زفراني.. ومال حيث حبيب، مادا كفه باتجاه صدر حبيب، الذي ترك زفراني يفعل ما بدا له، فقد اعتاد أفعاله الغير معتادة، تاركا له زمام الأمر، حين وضع زفراني كفه الضخمة فوق صدر حبيب، هامسا وكأنه يحدث نفسه: الجلب الطيب كربان دوم، يا رب يا جادر.. تفرح جلبه ف يوم..
رفع زفراني كفه عن صدر حبيب وسار مبتعدا، ليتوقف لبرهة مستديرا نحو حبيب هاتفا باحجية جديدة من أحاجيه: السكة صعيبة.. والعشج دربه واعر.. واللي بيفوتو ع الصراط للچنة جلايل.. عساك يا الحبيب تكون منهم.. جول يا رب..
همس حبيب متضرعا: يا رب..
ليردد زفراني مكررا التضرع، حتى غاب.. لترتفع عقيرته مجددا وهو يمر بسور السراي..
ولمين اشكي حالي!.. لحالي!..
وأني كان مال العشج.. ومالي!..
ما كنت بعيد عن دربه.. اعمل فحالي ما بدا لي..
انشغل البال.. وشغل الجلب ما صبح خالي..
ويا مين يشتري العمر بطوله.. جصاد ساعة.. بجرب حبيب يصفى لي!..
همس حبيب وهو يعاود وضع كفه موضع قلبه، حين كانت كف زفراني، مؤكدا: والله صدجت يا زفراني.. بس مين اللي يشتري!..
نهض يصنع كوب من الشاي، ليعاود الجلوس موضعه المفضل وصوت جرامفون الجدة صفية يدير إبرته بفطنة لا تخيب مع مؤشر قلبه.. ليصدح محمد قنديل في صوت رخيم..
بعادك يا جميل طول، وده أول بعاد بيطول..
تلات أيام يا روح قلبي، وأنا جنبي حسود وعازول..
يقسوني عليك ما أقسى، ينسوني هواك ما أنساه..
تلات سلامات يا واحشني، تلات أيام..
بإيدي سلام، وعيني سلام..
بإيدي سلام، وعيني سلام، وقلبي سلام..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
دخل ممدوح مقر عمله متعجلا، فقد كان الاجتماع على وشك البدء، ما زال الاضطراب يشمل دواخله منذ أدرك ما كان له من مستقبل واهم مع هاجر، مدركا أنه كان مغفلا حين سمح لمشاعره أن تقوده نحو الوقوع في هواها دون أي مؤشرات تؤكد أن لديها حتى القبول..
هو غارق كالابله في حبها، وهي لا تراه في مجال ابصارها من الأساس.. كم هذا مخزيِ!..
كان الشعور بالاحتراق الداخلي يدفعه بلا بصيرة حتى أنه وبلا قصد في اندفاعه بالرواق الطويل الذي تقبع حجرة الاجتماعات بآخره.. خرجت هي من إحدى الغرف في عجالة.. ليصير الاصطدام المدوي.. ويسقط كلاهما أرضا.. قبالة بعضهما والأوراق التي طارت فوق رأسيهما، ها هي تهبط في هوادة كقصاصات العيد الملونة.. متناثرة حولهما بكل مكان..
كانت هي أول من نطقت صارخة: ربنا أدى للناس عينين، بس في ناس كده.. عندها اتنين والعمى راكبهم.. مش بنشوف نلبس نضارات.. بسيطة اهي!.. أو ناخد جنب من طريق الناس.. أو نضرب كلكس واحنا داخلين زي القطر كده.. أو..
قاطعها ممدوح في حنق ليس من عاداته: أو ايه تاني! متهيء لي مبقاش في اعذار تحطيها خلاص.. جبتيها كلها.. آسفين.. حلو كده!..
كانت ما تزال تجلس أرضا، تجمع الأوراق المبعثرة، ما جعل مظهرها مثيرا للضحك لا الشفقة.. وخاصة وهي تتحرك على ركبتيها، تجمع الأوراق من هنا وهناك، وهي ما تزال ساخطة: لا مش حلو، مش حلو خالص على فكرة، واعتذار مش مقبول، لأنه مش بنفس، مش بتقوله وأنت حاسس إنك غلطان..
ثم رفعت رأسها متطلعة نحوه في حنق متسائلة: وبعدين إيه آسفين دي! هو أنت كام واحد! ولا أنت واخدني من ضمن.. اسمها أنا آسف.. شوف سهلة إزاي.. آس...
تركها ممدوح مقاطعا ولم يقف للحظة.. لا لعدم رغبة في مواصلة الشجار! وانما الاجتماع قد بدأ بالفعل وعليه الإسراع نحو قاعته، قبل أن يدرك المدير غيابه.. ويحدث ما لا يحمد عقباه..
ما دفعها لتهتف من خلفه معترضة: لا.. كده كتير..
اختفى ممدوح داخل غرفة الاجتماعات، بينما وقفت هي تحاول أن تعدل من هندامها، مندفعة تسأل إحدى الموظفات عن ممدوح واصفة إياه، لترد في سلاسة: آه.. قصدك الأستاذ ممدوح.. ممدوح سرحان..
همست الفتاة بحنق، وهي تسير مبتعدة تحدث نفسها: طبعا سرحان، كان لازم اتوقع كده، وماشي يخبط فخلق الله.. وايه ممدوح ده.. ده اسم انقرض م الخمسينات.. بقى أنا اتبعتر ع الأرض كده!.. ده أنت حتى ممددتش إيدك تنتشلني م الضياع.. الصبر طيب!.. ماشي يا أستاذ ملووح سرحان.. أدبك عليا.. اللي مربهوش أبوه وأمه.. تربيه مريم أبو العينين..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
انتهى الاجتماع على خير، ثلاث ساعات من المناقشات المتواصلة، جعلت الصداع يتملك من رأسه، خاصة مع أرقه ليلا.. وعدم قدرته على الرقاد إلا لساعة جاءت بعد أن فقد وعيه حرفيا من كثرة التفكير.. لينتفض بعد ساعة بالضبط على رنين المنبه، يؤكد عليه ضرورة الإسراع من أجل اجتماع الشركة..
كاد أن يصل مكتبه، إلا أنه عدل رأيه وقرر الاتجاه للكافتيريا..
دفع الباب الزجاجي الدوار، ليصطدم جانبه الآخر بشخص ما تأوه صارخا: أنا كنت عارفة، ما هو أنت موصوفلي النهاردة.. هيكون مين غير أستاذ سرحان!
هتف ممدوح متسائلا في لامبالاة ليست من طباعه: وكمان عرفتي اسمي! طب كويس نتعرف بقى.. اسم الآنسة!..
تطلعت مريم نحوه في حنق، ولم ترد.. إلا
أن إحدى موظفات الاستقبال أكدت عليه منادية: أستاذ ممدوح!.. في آنسة اسمها أنس الوجود بانتظارك في كافتيريا الشركة..
هز رأسه ولم يعقب، لتهتف مريم ساخرة قبل أن تغادر: ممدوح وأنس الوجود! أنا قلت ده خارج من فيلم ابيض وأسود..
قهقهت رغما عنها، لتجذب انتباهه، معتقدا أنه قد أصابها مس من الجنون، لا يعلم ما المضحك الذي جعلها تضحك بهذا الشكل!.. لكن على أي حال، لم يعبأ للأمر تاركا إياها مندفعا نحو الخارج في اتجاه الكافتيريا، فقد كانت فترة الراحة بالفعل، وهو بحاجة لفنجال من القهوة يعينه على استكمال ذاك اليوم الشاق..
متطلعا لروادها، لتقع عيناه على موضع أنس الوجود، ليجلس قبالتها متسائلا: خير يا أنس! أول مرة تجيلي الشركة!.. خدتي قرارك..
كانت قد اعلمته مسبقا بما عرضه عليها نصير الرواي، لعله يساعدها في اتخاذ قرار من شأنه تغيير الكثير.. لكنه لم يفعل.. مؤكدا عليها أن ذاك القرار بالذات، لا يمكن لمخلوق أن يشاركها الرأي فيه.. فهو قرار فردي تماما.. لا يقبل الشراكة أو حتى انصاف الحلول..
هزت أنس رأسها نفيا، كاجابة عن سؤاله، هامسة: أنا مش عارفة اعمل ايه يا ممدوح!.. حقيقي تايهة وضايعة.. ومش قادرة أفكر في المفروض والصح.. ولا في حل وسط ممكن يرضي جميع الأطراف.. اعمل ايه!..
هتف ممدوح بلا وعي: ارجعي الرسلانية..
تطلعت أنس الوجود نحوه في دهشة، ليستطرد بنفس العزم: ايوه يا أنس.. أنا اللي بقولك ارجعي الرسلانية.. خليكي هناك.. خدي قرارك وأنت على أرض الواقع هناك.. الصورة هناك هتكون أوضح بدون رتوش..
همست أنس في اضطراب: فكرك كده!..
أكد ممدوح في ود: أنا يمكن مش عارف انصحك بالصح والمفروض، بس اللي أقدر أعمله إني أقولك روحي على هناك، يمكن القرار اللي كان تايه متوهك هنا.. يكون سكته هناك..
روحي لنصير بيه، خليه يديكي مهلة للتفكير، وسافري.. وأنا متأكد إن الأمور بدايتها ونهايتها فالرسلانية يا أنس..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن تهز أنس الوجود رأسها في اقتناع بما اقترحه ممدوح، وقد قررت السفر بعد مقابلة نصير واخباره بطلب مهلة، لعلها تجد هناك ما يريح بالها.. ويزيح عن كاهلها ذاك الهم.. أو ربما يعجل بما تقتضيه الأقدار!..
يتبع...