رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 41 - الجمعة 20/6/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الواحد والأربعون
تم النشر الجمعة
20/6/2025
ـ دوام الحال.. من المحال
الرسلانية يوليو ١٩٥٢..
دخل سميح لدار الحرانية، وما أن وقعت عيناه على نجيب ولده، وهو يلهو مع اولاد عمه.. مصطفى وأمينة وبرلنتي..وكذا أبناء عزام الحراني.. مجاهد وسنية.. حتى ناداه في حزم، ليهب نجيب مسرعا صوب أبيه متطلعا نحوه في رهبة، ليمسك سميح أذن ولده، جاذبا اياه خلفه في قسوة لداخل الدار، صارخا مستدعيا مديحة، التي حضرت مهرولة بدورها، متسائلة في ذعر: ايه في يابو نچيب!..
زعق سميح في ثورة، يهز ولده في شدة، وهو ما يزل ضاغطا على أذنه: أني مش منبه ياچي عشرين مرة إن الواد ده ميلعبش مع البنات!.. ادخل من بره ألجاه مجعد واحدة من بنات عمه على حچره.. ايه المسخرة دي!..
هتفت مديحة، وقلبها يتمزق وجعا على ولدها الذي لمع الدمع بعينيه.. لكنه ظل صامدا ولم يزرف دمعة واحدة على ألم أذنه الحارق موضع ضغط أصابع والده: معلش، حجك عندي.. عيال.. دول بنات عمه لسه يا دوبك ٤ سنين.. ولا حتى ولدك يعرف ايه ابو سبع سنين ده!.. لساتهم صغار يا سي سميح.. ميعرفوش الصح والمفروض..
زعق سميح حانقا في تهكم: وإنتي بتعملي ايه هنا! خيال مآتة!.. ما أني محرچ عليكي ميلعبش إلا مع واد عمه مصطفى إن كان مچاهد واد عزام أو رؤوف واد فضل.. وبس على كده.. جال بت شيخ جال!..
أكدت مديحة في محاولة لتلطيف الأجواء: سماح النوبة دي.. الواد الحيلة بجى ومبيهنش عليا يا سي سميح..
هتف سميح في صلف: الحيلة ومش هياچي غيره، ده آخر طرحك.. ما أني اللي غلطان وخدت شچرة عجفانة..
تطلعت مديحة نحو زوجها في حزن.. ارتسم جليا على محياها ولم تعقب بحرف، جاذبة ولدها نجيب لصدرها، لتخلصه من يد أبيه القابضة عليه بكف من حديد.. ليتركه سميح لها، مندفعا للداخل أمرا مديحة في عنجهية: اعملي حسابك.. العروسة الچديدة چاية على هنا.. عايز كله يبجى تمام..
لم تعقب مديحة بكلمة، بل ضمت ولدها لحضنها، دافعة به نحو حجرته، ليبتعد عن مجال والده وتعنيفه الدائم.. لتهمس صفية لعمتها، معلقة على الموقف الذي كان يتكرر كثيرا حتى أنها فضلت عدم التدخل كما أمرها مختار، هامسة: انتي هتسبيه يا عمتي يچيب العروسة الچديدة على هنا!..
تطلعت توحيد نحو صفية في حسرة: وايه بيدي!.. خلاص يا بتي.. عمتك مبجلهاش عازة ولا كلمتها بتتسمع.. كبرنا واتركنا ع الرف يا صفية..
همست صفية وهي تربت على كتف عمتها في حنو: متجوليش كده يا عمتي.. ده انتي الخير والبركة وكلنا عايشين على حسك..
هزت توحيد رأسها مدعية التفهم، مطالبة صفية في هوادة: تعالي سنديني لأوضتي يا صفية.. اجعد جار عمك وهدان.. وهاتو لنا فطورنا على چوه..
نفذت صفية في طاعة، وما أن خرجت من حجرة عمتها، حتى صادفت مديحة قبالتها، فربتت على كتفها في تعاطف، هامسة: لما يجي مختار، هخليه يكلمه، يمكن يغير فكره..
رفضت مديحة: لاه، تسلمي يا صفية، بس مبجاش لها عازة، خليه يتچوز بدل الواحدة تلاتة.. مبجاش فارج.. اديني جاعدة لچل نچيب ولدي وكفاية.. الضنا غالي..
تفهمت صفية ما كانت مديحة ترمي إليه، متسائلة في تعاطف: هو صحيح اللي حصل مع الشيخ معتوج وخديچة!..
أكدت مديحة في حزن: أيوه يا صفية.. مفيش مرة تحمل فيها إلا وتسجط.. حتى الحبل اللي كمل.. العيل اها نزل ميت.. واهم صابرين..
همست صفية في اشفاق: ربنا يخلف عليهم.. هم ووداد.. اهي داخلة ع السنتين متچوزة ومفيش أي خبر عن أي حمل.. وادينا صابرين وربنا يخلف عليهم كلهم بالخلف الصالح..
همت مديحة بالحديث، إلا أن صفية نادت سعدية الخادمة حين رأتها تحمل صينية طعام الإفطار الخاصة بعمها وهدان، فحملتها نيابة عنها للحجرة، ليهتف وهدان في سعادة ما أن طالعها: تسلمي يا صفية يا بتي، بس جوليلي! هو مش مختار أتأخر علينا في اچازته، ولا أني اللي عجلي فوت!..
أكدت صفية مؤكدة: لاه، كلامك مظبوط يا عمي.. بس نجول ايه!.. هو مش ملك نفسه.. ربنا يجيبه بالسلامة..
همس متضرعا وتوحيد.. لتستأذن صفية في الذهاب للسراي، ليهتف وهدان: وماله يا بتي.. روحي.. وسلميلي على ابوكي.. جوليله وهدان بيجولك اغلط وعدي عليه يتونس بك..
اومأت صفية في طاعة، وغادرت الحجرة، لتبدأ توحيد في إطعام وهدان بيدها، ليهمس باسما: لساتك على حالك يا توحيد بعد العمر ده كله، أول لجمة تتحط فجوفي لازما تبجى من يدك!..
ابتسمت توحيد هامسة: وهتفصل كده لحد ما أموت محدش يوكلك إلا أنا..
هتف وهدان واجما: والله ما اعيش يوم بعدك يا ست الناس، جلتها جبل سابج لأخوكي أيام الشوم اللي عدت، لو توحيد چرا لها حاچة يا سعد.. والله أروح وراها..
دمعت عينى توحيد في عشق ما هز الزمان رواسيه، رابتة على كف زوجها في محبة خالصة..
هبطت صفية الدرج، واستطردت معلنة لمديحة: أنا هاخد العيال ورايحة السرايا..
هتفت مديحة متعجبة: هتروحي بدري كده!..
أكدت صفية: هفطر معاهم هناك..
سارت صفية نحو السراي بأولادها.. فما كانت تطيق البقاء في دار الحرانية ومختار غائب وكذا سميح هناك.. مشيعا جوا خانقا.. لم تعد تتحمله.. ليصلها عند مدخل السراي صوتا قويا قادما من الراديو الذي كان قد وضع على أعلى مستوى صوتي له.. وما أن خطت لداخل السراي متعجبة من ارتفاع الصوت بهذا الشكل الغير مسبوق.. معترضة.. حتى زعق سعد أمرا الجميع بالصمت.. منصتا لصوت الصاغ محمد أنور السادات.. تاليا البيان الآتي..
"اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم... وقد قام الجيش بحركة مباركة هدفها القضاء على هذا الفساد..."
ليتأكد سعد.. أن ما كان يبثه الراديو في هذه اللحظة الفارقة من عمر الوطن.. سيغير وجه الحياة كليا..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٥٢..
تم إجبار الملك فاروق على التنازل عن العرش لولده الأمير أحمد فؤاد الثاني.. مع مغادرته مصر على متن يخته الملكي (المحروسة).. متجها إلى إيطاليا.. ليتكون مجلس وصاية للأمير الصغير.. ليظل الحكم الفعلي بيد الجيش تحت قيادة اللواء محمد نجيب الذي تولى رئاسة الوزراء بجانب وزارة الحربية..
الأحداث كانت تتسارع منذ أعلن الجيش عن حركته.. ليهتف سعد والأخبار تتواتر بالمذياع، في قصر رستم باشا: ايه رأي معاليك في اللي بيچرا ده يا رستم باشا!..
تنهد رستم مجيبا: عايز الحق!.. مش مطمن خالص يا سعد باشا.. وبفكر فعليا أخد ألفت واطلع على أوروبا.. أهو نستقر مع بهجت.. لأن الصراحة حال البلد بقى ميسرش.. وأنا خايف من تداعيات الحركة اللي عملها الولاد الضباط دول..
سأل سعد متعجبا: خايف من ايه!.. مش هم وصلو للي كانوا عايزينه.. وطردو الملك.. واهو مچلس الوصاية في أيديهم.. ايه باجي!.. وبعدين ده لسه إلهام راچعة بالدكتوراه من بره.. واتعينت كمان في الچامعة.. هنسيب ده وتروح على فين!.
أكد رستم في نبرة متحسرة: اه وصلو بس لسه باقي كتير يا سعد باشا!.. الولاد دول مش هيسكتو.. عجبتهم اللعبة.. وحقيقي ربنا يستر.. أما إلهام بقى دي المشكلة.. وهي اللي مأخرة قرار السفر النهائي.. رجعوها وتعينها في وقت حرج.. ومش عارف هيبقى التصرف إزاي دلوقت!..
تطلع سعد نحو رستم، لا يعرف على وجه الدقة.. ما الذي يستدعي كل هذا القلق.. ربنا يرى ما لا يراه.. ليغير دفة الحديث متسائلا: وبهچت على كده خلاص، جعد بره ومش ناوي يرچع!..
أكد رستم في هدوء: بهجت طلع أكتر واحد فاهم الحكاية صح، وقالي صفي كل شغلك في مصر يا بابا.. وتعالى معايا على فرنسا، بس أنا اللي رفضت وقلت لا.. مش هسيب مصر إلا لحاجة ملحة، والواضح كده إني هسمع كلامه واحصله.. واضح إننا كبرنا سعد باشا ولازم نسمع كلام ولدنا..
هز سعد رأسه باسما في دبلوماسية.. ولم يعقب..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٥٢..
صرخ سعد في ثورة، وهو يستمع لبيان آخر من بيانات الثورة.. معلنة قانون الإصلاح الزراعي.. هاتفا في حنق بالغ: يعني ايه الكلام ده! هو حد عنده شوية عجل يجول الختاريف دي!..
هتفت أنس الوجود في محاولة لامتصاص غضب سعد وثورته: اهدا يا سعد باشا.. الموضوع لسه مش معروف هو ايه بالظبط! ما يمكن المقصودين بتطبيق القانون ده هم الأجانب مش المصريين!..
زعق سعد مؤكدا: باشا!.. مخلاص معدش فيها لا بيه ولا باشا، حتى اللقب حرموه، والبيان واضح أهو يا هانم.. ده بيجول للمصريين مش الاچانب، شوفتي مسخرة اكتر من كده!..
هتف فضل مهادنا: ما هي دي الاشتراكية يا بابا!.. ليه شخص واحد يملك والباقي يبجو مجرد مستأچرين تحت أيده!.. بيحققو المساواة من وجهة نظرهم..
هتف سعد ساخرا: اشتراكية ايه وزفت ايه اللي تجول.. إن أرضي اللي شجي فيها ابويا وچدي من جبله.. وهم بيشتروها من حر مالها وتعبهم.. عشان يكبروها شبر ورا شبر.. يوم بعد يوم.. واللي أبوك صرف عليها عمره.. واتروت بالدموع والعرج.. تاچي فيوم وليلة وتجول له دي مش حجك.. اخرك ٢٠٠ فدان والباجي هنوزعه ع الفلاحين والأچرية.. هم رايدين مچد وتأييد من الفلاحين والغلابة.. عشان شرعية الحركة بتاعتهم بس على حسابنا إحنا.. طب ما إحنا مصريين.. معملوش كده ليه مع الاچانب!.. حد يفهمني!.. حد يجول لي إني اللي بيچرا ده مش حجيجي.. وإن أني مكوبس وهصحى دلوجت ألجى كل ده كابوس وخلص!..
ربت فضل على كتف والده متعاطفا، بعد أن جلست أنس الوجود جانبا تبكي في حسرة وحزن على حال زوجها الذي تراه لأول مرة بهذه الثورة الجنونية.. وهتف مؤازرا: أهدى يا بابا عشان نشوف هنفكر إزاي.. لأن واضح إن الموضوع جد.. وفي لچنة مصادرات هتيچي تشوف شغلها.. فلازم نبجى هاديبن..
ضرب سعد بكفيه على جانبي جسده في قهر، متحسرا: اهدا كيف!.. رايديني امضي بيدي على شجايا وشجا أبوي.. اسيب لهم بخطري حجي وحج عيالي من بعدي.. أي حج وأي دين يجول كده!. ده ربنا خلجنا طبجات.. فينا الفجير وفينا الغني.. وفضلنا على بعضنا ف الأرزاج .. وأنت تجولي اشتراكية ومساواة ومر زارد.. في عرف مين ده!..
قال سعد كلمته الأخيرة، تاركا السراي مندفعا للخارج يشعر باختناق فقرر الابتعاد لعل بعض من الهواء الطلق.. يزيح عنه هم صدره.. الذي لن يقدره أو يستشعره مخلوق.. ترحم على الشيخ رضا في همس، فهو الوحيد الذي كان يلجأ إليه حين تضيق به نفسه.. أما وهدان فما عساه أن يشكو له.. وهو قد طاله مثله.. ويعان الآن من نفس الوجيعة.. فايقن سعد أنه ما عاد لها من دون الله كاشفة.. وأن رستم كان على حق في مخاوفه التي أعرب عنها منذ شهور قليلة.. ترى ما هو وضعه اليوم بعد هذا القرار!..
❈-❈-❈
القاهرة نهاية ١٩٥٢..
توقف رئيس التحرير أمام مكتب فضل في الجريدة التي يعمل بها، أمرا في هدوء بأن يتبعه لحجرة مكتبه.. نفذ فضل في تعجب حتى إذا ما دخلا الغرفة مغلقا فضل بابها خلفهما، حتى دفع رئيس التحرير ببروفة الجريدة على سطح مكتبه في حنق بالغ، هاتفا في حدة: دي مش طريقة شغل! أنا احسن لي اقفلها أحسن..
نسأل فضل في تعجب: فيه ايه يا ريس، ايه الحكاية! مشفتكش مضايق بالشكل ده.. قبل كده!
أكد رئيس التحرير: هيكون ليه يا فضل! بسبب البلوة اللي اتحدفت علينا.. ظابط الرقابة.. الأخ قاعد مكتفنا يلغي ده ويحذف ده ويقص من هنا وحاجة خنقة مشفتش كده..
تعجب فضل: اومال فين الحريات والعدل والمساواة.. والمبادئ الرنانة دي إذا كنت أنا كصحفي مش هعترض أو أقول اللي انا شايفة غلط من وجهة نظري واللي شايف أن فيه خطر على بلدي!.
هتف رئيس التحرير في حسرة: ما هو للأسف يا فضل الاستاذ الرقيب حذف المقال بتاعك.. ومش هينزله العدد ده.. وشكله مش راضي عنه من أساسه..
هتف فضل في حنق: وليه بقى معجبش سعادته!..
فسر رئيس التحرير: عشان بتتكلم فيه عن قانون الإصلاح الزراعي ومساؤه واعتراضاتك على تطبيقه بالشكل المتعسف.. قال بالحرف.. مبقاش إلا ابن الباشا اللي هيجي يعدل علينا ويقول لنا تعمل ايه ومنعملش ايه..
زعق فضل محتجا: دلوقت عشان بقول رأيي في قانون مش فئة مش صغيرة من المصريين العصاميين اللي بنوا نفسهم بنفسهم وكل قرش أو شبر أرض كان من تعبهم بقيت ابن الباشا.. ومكنتش ابن الباشا وجسمي فيه اثر كام رصاصة وأنا واقف باخد رصاص الإنجليز وأنا بدافع عن الاستقلال.. ومكنتش ابن الباشا لما خسرت ايدي دي اللي اتشلت فالاسر من الإصابة والتعذيب.. جاي ده يقولي عشان ابن الباشا.. لأ.. أنا مصري وابن باشا مصري.. اب عن جد مصري صعيدي.. وصل للبشوية بجهده وماله.. لا هو اجنبي ولا تركي.. ولا شركسي.. وليا حق اقول رأيي في بلدي واللي بيحصل فيها..
هتف رئيس التحرير محاولا تهدئته: بالراحة يا فضل مش كده.. مش عايزك تتضر.. الحيطان لها ودان.. بلاش تصعيد واهدا.. ولها حل..
هتف فضل وهو يجذب ورقة وقلم من على المكتب مؤكدا: حلها اهو يا ريس.. استقالتي عشان مسببش لك احراج من أي نوع.. ولا أكون سبب في مضايقات للجريدة.. عشان أنا مش هسكت وهكتب اللي شايف فيه مصلحة البلد واللي يجرا يجرا..
أمسك رئيس التحرير الاستقالة ومزقها، مؤكدا: أنا مقدرش استغنى عنك يا فضل.. أنت صحفي ممتاز ولك مصداقيتك عند القراء.. واسمك بقى مسمع في الكام سنة اللي فاتو بسبب مقالاتك النارية.. اسم فضل الله رسلان.. يشرف أي جريدة ينتسب لها.. متسبش الجريدة .. ولها حل صدقني..
هدأت ثورة فضل قليلا.. واستأذن مغادرا المكتب، ليجلس على مكتبه.. ممسكا قلمه.. ليفيض اعتراضه على الورق كلمات أشد خطرا من الرصاص الحي..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٥٣..
لم يكن إلغاء الملكية وإعلان مصر جمهورية إلا امتداد طبيعي لحركة الضباط الأحرار التي تحولت من كونها حركة إلى ثورة.. بعد أن حظت بالتأييد الشعبي المطلوب..
عين اللواء محمد نجيب كأول رئيس للجمهورية وقائد أعلى للقوات المسلحة.. وبدأت الأحوال في التبلور في كل نواحي الحياة.. وفعلت لجنة المصادرات نشاطها لتنتزع من حوزة سعد ما يقارب من الثلاثمائة فدان.. ليسير اليوم راكبا الكارتة سائرا بين أرضه التي كانت.. يتطلع إليها في حسرة وقهر حقيقي.. يشعر أن هواءها الذي كان بلسما لجراحه مهما كانت صعوبتها، بات يجرح صدره ويدمي رئتيه.. مر على بعض المستأجرين بأرضه قديما.. والذين كانوا من المنتفعين بقانون الإصلاح وحصل كل منهما على بعض الأفدنة يمتلكها على المدى البعيد بعد دفع مبلغا ماليا إلزاميا للدولة.. فلم ينهض احتراما له الا واحد فقط.. ملقيا التحية في تأدب: اتفضل يا سعد باشا.. خطوة عزيزة..
بينما اتكأ الآخر على مرفقه في تفاخر، متعجبا من صديقه: ايه! جايم وشغال تعظيم سلام.. واتفضل يا باشا.. خلاص مبجاش فيه بشوات.. والروس اتساوت.. والمال اللي كنزوه من عرجنا .. والأرض اللي زرعناها بشجانا.. رچع لنا حجنا فيها.. خلص زمن المطاطية.. والعبد والسيد..
هتف سعد زاعقا، ما دفع ذاك الأجير لينتفض مذعورا، على الرغم من صفاقته وتبجحه: أنت يا واد كدبت الكدبة وصدجتها!.. أرض ايه اللي لك فيها يا عويل!.. دي أرض جدي وابويا من زمن الزمن وانت واللي خلفوك كلهم كانوا اچرية تحت يدنا.. وعمرنا ما كلنا على حد فيكم مليم وكانت أرض الرسلانية بتخدو فيها أكبر يومية عن أي أرض تاني اشتغلتو فيها فالبر كله.. تاچي دلوجت تنسى الفضل وتجل حياك.. يبجى ترچع لاصلك الواطي وما لك عندي إلا المركوب..
هم سعد بالنزول من العربة لتأديب الأجير الذي كان يقف مذعورا، فما فقد سعد هيبته على الرغم من كل ما جرى له من نوائب.. لكن الأجير الأول استوقفه مستعطفا: حجك على راسي يا سعد باشا، مش مجامك تنزل تأدب واد عويل كيف المسدوح ده، مجامك محفوظ يا باشا وخيرك سابج ما ينكره إلا جليل أصل..
تنبه سعد لصحة كلام الأجير.. فضرب الفرس لتنتفض مبتعدة.. عائدا للسراي التي دخلها في ثروة عارمة.. حتى أنه دفع ببعض المزهريات الثمينة بطريقه، محطما إياها.. لتأتي أنس الوجود على إثر صوت تحطمها مهرولة.. لتجد سعد في حالته الهيسترية تلك.. صارخا: أنا سعد باشا رسلان.. يشمت فيا عويل.. كل وشرب من خيري سنين!.. بجي دي اخرتها.. دي اخرتها يا أنس.. أنا.. أنا اللي..
أمسك سعد صدره في ألم، هامسا في صعوبة، وأنس تحاول أن تجلسه على أقرب مقعد: سكاكين بتجطع فصدري يا أنس..
حاولت أنس أن تجلب له كوبا من الماء يراشف منه بعضا، لكنه فقد وعيه، قبل أن يمسه.. لتصرخ أنس أمرة الخادمة باحضار الطبيب، واستدعاء فضل على وجه السرعة..
❈-❈-❈
القاهرة.. ١٩٥٣..
طل ناجي على مدخل قصر رستم باشا.. يقف على بابه منتظرا الاذن بالدخول.. حتى عبر عتبة القصر ليجد رستم باشا في انتظاره بالحديقة.. مشيرا عليه بالجلوس قبالته.. وما أن هم ناجي بالحديث، إلا واستوقفه رستم بإشارة من كفه، مبتدرا: أنا عارف أنت هنا يا حضرة البكباشي، سبق وجيت هنا مرتين واترفض طلبك.. لكن أنا المرة دي موافق..
تهلل وجه ناجي بالبشر، ولم ينطق حرفا، تاركا رستم يفيض بكل ما يرغب: أنا أتأكد لي إنك فعلا لك رغبة قوية في الارتباط بإلهام.. رغبة ما قلتش طوال السنين اللي فاتت، وخوفي إنك مجرد ولد مستغل.. خلاص مبقاش وارد حاليا بعد ما بقيت واحد من اللي ماسكين البلد.. وأنا مجرد باشا سابق اتسلبت منه ممتلكاته..
هتف ناجي متعاطفا: العفو يا باشا.. حضرتك لك مكانتك واحترامك مهما حصل..
هز رستم رأسه مقدرا، لكنه كان متصالحا مع فكرة الخسارة، مؤكدا: أنا راضي تمام الرضا عن زواجك بإلهام.. وهبقى مطمئن وأنا سايبها هنا في مصر.. إنها في حماية رجل يقدر يصونها ويحميها..
أكد ناجي في هدوء: ظنك في محله يا باشا.. وإلهام هتكون في عنايا..
هتف رستم في نبرة شجية: بس أنا ليا رجاء واحد قبل ما أسافر أنا وألفت هانم لخارج مصر..
هتف ناجي مستفسرا: أنت تأمر يا باشا.. خير!
أجاب رستم متطلعا للقصر في حسرة: نفسي فرحكم يبقى هنا فالقصر.. أنا عارف إنه هيتصادر، لكن ده رجاءي الأخير.. نفسي يبقى آخر ذكرى ليا فالقصر.. حفلة زواجكم.. فهل ده ممكن!..
أكد ناجي بنبرة صادقة: حتى ولو مش ممكن، هحاول بكل وسيلة اخليه ممكن.. وده وعد مني..
نهض رستم، لينهض ناجي احتراما، ليؤكد رستم: هبلغ إلهام إنك هنا.. مبروك.. وربنا يوفقكم..
تطلع ناجي حوله، لا يصدق أنه صار قاب قوسين أو أدني من تحقيق حلمه بالزواج من إلهام.. سار نحو الحديقة الخلفية.. وهناك توقف عند ذاك الفاصل في السور الذي كان أول موضع لمقابلتهما القدرية.. وكذلك كان منفذا لزياراته الليلية حين يقتله الشوق لمرآها.. وهنا كان وداعه لها قبل الرحيل لفلسطين..
سار خطوات قليلة.. ليتوقف عند مدخل الحجرة التي قضى فيها وفضل ساعات تسترهما بعد أول عملية تشاركا فيها.. حين كانت هي منقذهما.. على الرغم من سذاجتها وصغر سنها وقتها.. إلا أنها وبلا إرادة منه.. خطفت قلبه الذي ما زال في حوزتها ولم يحد عن عشقها لحظة.. انتفض من ذكرياته على صوتها.. ليجدها بلا تحفظ.. تندفع نحوه في فرحة غامرة.. ليتلقفها بين ذراعيه، هاتفا في اضطراب: يا مجنونة!.. حد يلمحنا!.. سمعتك هتبقى فالأرض ويقولوا اتجوزها عشان يستر عليها..
قهقهت إلهام وهمست متطلعة لعينيه في عشق، وهي تتعلق برقبته: مبقاش حاجة تهمني فالدنيا خلاص، أخيرا هنبقى لبعض يا ناجي..
هتف ناجي مازحا: شوف ملهوفة ع الجواز إزاي!..
قهقهت إلهام لمزاحه، وهي تميل عليه في دلال، ليزعق فيها أمرا مدعيا الجدية: انتباه..
ابتعدت عنه منفذة، ليستطرد أمرا: تحية ميري، وللخلف دور، اللي أنت بتعمليه ده عيب وميصحش إلا بعد كتب الكتاب.. أنا قلبي ضعيف.. ومعدش مستحمل يا إلهام..
كانت تضحك على كلماته المازحة، لكن ما أن همس بجملته الأخيرة بهذا الشكل الذي اخترق شغاف قلبها، حتى تطلعت نحوه في عشق فاضح لبرهة.. قبل أن تهرول مبتعدة.. تتعجل الأيام حتى تكون له.. جسدا كما روحا.. بعد سنوات طوال من الإنتظار..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٥٣..
أمر الطبيب سعد بالابتعاد عن أي انفعال أو توتر، مع الحفاظ على احاطته بالهدوء والراحة بعيدا عن أي أخبار من شأنها التأثير على أعصابه.. وقد بدأ الجميع في الالتزام حتى أن أنس الوجود منعت إحضار الصحف للسراي.. ورفضت فتح الراديو على اي قناة إخبارية من شأنها بث الأحداث والمجريات التي قد تثير حفيظة سعد وتوتر أعصابه..
مرض سعد وعدم مغادرته الفراش منعه وأنس الوجود من حضور حفل زفاف إلهام وناجي.. الذي أقيم بالقصر كما وعد ناجي.. وحضره الكثير من أصدقائه وقادته من قيادات الجيش.. وكان منهم مختار.. وكذا فضل الذي جاء بديلا عن والديه.. كان حفلا اسطوريا يليق بزفاف إلهام ابنة رستم باشا كاظم أوغلو.. وليكون آخر عهد الجميع بالقصر الفخم هو أنوار ذاك الحفل.. الذي ظل ذكرى لا تنسى..
وصل العروسان لعشهما الزوجي الذي أعده ناجي، في إحدى شقق حي الزمالك الراقية..
ترك ناجي إلهام تدخل في هوادة للشقة، متطلعة حولها في استحسان، لا تصدق أنه قام بكل هذا ما أجلها.. فقد حاول على قدر استطاعته تحويل الشقة لقصر مصغر.. معتقدا أنها قد تفتقد القصر حيث ولدت وعاشت عمرها كله.. اقترب منها وهي في غمرة انبهارها بكل ما صنعه لأجلها.. لتجد نفسها محمولة بين ذراعيه.. شهقت في خجل، فهمس ناجي في عشق: أخيرا.. أخيرا..
سألت إلهام في تيه وهو يسير صوب حجرتهما: أخيرا ايه!..
فسر ناجي هامسا بصوت أبح، وهو ينزلها برقة على طرف الفراش: أخيرا كل العمر اللي عدى بقى دلوقت بين ايديا..
دمعت عينى إلهام في تأثر، فقد كان محقا تماما.. سنوات مرت منذ أول لقاء عاصف بينهما، ليتحول بعدها لعشق دام واتصل لسنوات من بعاد وحرمان وقلق ودموع.. وها قد حانت لحظة اجتماعهما.. لتهمس بكل ما تحمل من عشق، وهي تطوق عنقه بذراعيها في شوق.. أخيرا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
لم تمكث في حجرة منيرة إلا بضع دقائق، كتمت بها شهقات بكائها حتى لا توقظها.. وما أن تيقنت أن حبيب لن يغادر غرفته مجددا، حتى خرجت في حذر، متجهة للأسفل.. لا تعرف أين يمكنها أن تذهب بكل هذا الثقل الجاثم على صدرها.. وكل هذه التساؤلات التي ترتع بعقلها!..
لم تجد موضعا يمكنها أن تكون فيه وحيدة إلا الشرفة الواسعة بالخارج.. وقفت متكئة على سورها.. وأطلقت العنان لتفرغ كل ما بجعبة قلبها من دموع.. دموع حيرة.. دموع وجع.. ودموع خزلان.. المشاعر مختلطة.. مربكة.. مشبعة بالفوضى.. والشك.. نعم الشك.. فما عاد لديها ثقة في أي معلومة تصلها.. تستشعر مؤامرة ما ضد كل ثوابتها ومعتقداتها.. وتكالبت التساؤلات العقيمة بلا أجوبة..
لمَ فعلت أمها بها هذا! لمَ وضعتها بهذا التيه!.. ولماذا لم تحاول ولو لمرة وحيدة أن تخبرها بصلة القربى التي تجمعها بهؤلاء، الذين ارسلتها لنزع حقها من بين أيديهم، وكأنها في صراع أو معركة ما، على الرغم من اقرارهم بحقها منذ اللحظة الأولى!.. لامت نفسها.. وهي تشهق في وجع.. كيف أنها اكتفت بتفسير درية أم ممدوح، الصديقة المقربة كأخت من أمها.. والتي أخبرتها أن هؤلاء هم أقرباء أمها من علاقة بعيدة.. هم على وجه الدقة.. أقرباء السيدة العجوز التي تقرب بصلة لأم برلنتي المتوفاة.. وهي غير مطالبة بالتقرب منهم أو محاولة إقامة صلات بهم.. فما هي بصدده.. موضوع وينتهي في خلال أيام لا أكثر.. كيف كانت بهذا الغباء، وكيف لم يدفعها فضولها للسؤال والتحري أكثر.. والتأكد من المعلومات التي امدتها بها درية.. لا الأخذ بها كأنها من مسلمات الحقيقة المطلقة!.. ثم السؤال الأكثر غرابة ويستوجب بحق إجابة سريعة وإلا وصلت لحافة الجنون بالفعل.. كيف لأمها أن تتجاهل اخبارها أن لها أم على قيد الحياة!.. جدة تمنت الحصول عليها.. لتكون هي ذاك الصدر الحنون والأذن المصغية.. حين تضيق بها الدنيا.. وتقسو عليها أمها!..
جلست على درجات السلم.. وهي تشهق في حزن قاهر، يحاول عقلها استيعاب ما جرى، والبحث عن إجابة سؤال واحد.. لمَ بعثتها أمها إلى هنا وهي محملة بكل هذا الجهل، وبلا معرفة مسبقة بما يربطها بهؤلاء الذين هي بينهم كل هذه القترة!..
ربتة لطيفة على كتف أنس، جعلتها تنتفض مستديرة نصف استدارة نحو صاحبها، كانت تعتقد أنه حبيب وقد جفاه النوم، فنزل ليجلس بتعريشته، لكنها كانت مخطئة في توقعها.. فقد كانت الجدة صفية.. التي تطلعت نحو أنس في حنو وتعاطف.. جعلها تهمس متسائلة: البكا المجهور ده كله ملوش إلا معنى واحد.. وسبب واحد.. صح!..
اومأت أنس بالإيجاب، ملقية رأسها بحجر صفية، التي أخذت تربت في حنو على رأس أنس، التي سألت من بين شهقاتها: ايه اللي جرا بينك وبينها خلاها تنكر وجدك كده، ولا تجيب حتى سيرة أختها التوأم، دي عمرها ما جابت سيرة الرسلانية قدامي أبدا..
تنهدت صفية متسائلة في وجع: للدرچة دي كانت رميانا ورا ضهرها، وعرفت تعيش حياتها.. وتخلف وتربي ولا كننا موچودين!..
صمتت أنس لبرهة وقد شعرت أنها نطقت بما لا يجب عليها النطق به، وقد يزيد هذا من عمق الفجوة التي هي.. على ما يبدو.. بالفعل عميقة أكثر مما يقدر عقلها على استيعابه، لكنها عاودت السؤال: بس ليه اللي بينكم وصل للمرحلة دي!..
هتفت صفية: أني كنت فاكرة يوم ما وعيت لك أول مرة، إنها هي اللي بعتاكي.. وجلت اهي بعتت بتها.. وبكرة هي تاچي.. لكن لا چه بكرة.. ولا هي فرج لها.. كان فارج لها هتاخد ايه وبس..
همست أنس في حسرة: وأنا.. أنا يا ستي.. عملت معايا كده ليه!.. أنا لازم أسافر.. لازم اواجها واعرف كل حاجة.. حاسة إنها مخبرية عني كتير.. وانتو كمان.. مخبيين عليا حاجات هتفسر أحداث كتير حصلت وبتحصل..
همست صفية وهي تربت على وجه أنس، تمسح عن وجنتيها خيوط الدموع، مؤكدة في حنو: كل اللي عندينا هيكون ملك يدك.. وجت ما تحبي تسمعي.. أني اللي هحكي لك كل اللي كان بنفسي.. بس مش جبل ما تروحي لامك وتجولي لها.. عملتي كده ليه!.. مش رايدة إلا اچابة السؤال ده.. بعدها لو هموت.. اموت مرتاحة..
همست أنس في محبة: بعد الشر عنك يا ستي.. ربنا يديكي الصحة وطولة العمر..
ابتسمت صفية في سعادة.. وهي تربت على وجنة أنس في حنو بالغ.. بينما أنس تلقي برأسها المهزوم فكرا من افتراضاتها حول اسئلة ارهقتها بحثا..
تطلع حبيب من موضعه أعتاب حجرة الجدة صفية على ما يجري بالخارج، فما كان منه إلا العودة للداخل مجددا.. على الرغم من الفكر الذي اسهده.. ودفع به لينزل للتعريشة.. لكنه شعر أن اللحظات الحميمة الماثلة قبالة ناظريه أثمن من أن يقاطعها مخلوق.. فقرر العودة لحجرته.. دافعا باب حجرة الجدة صفية في هوادة.. لينساب لحن من الجرامفون خاصتها.. حتى يصل لأسماع الأحباب على بعد خطوات عدة..
❈-❈-❈
الإسكندرية ١٩٩١..
ما كان لسراج أن يخبر والده بزيارته لعرابة آل حفني.. ومقابلته لعمه عدنان.. والتي ما عادت عليه إلا بالمزيد من التيه.. والكثير من الأسئلة التي يعلم علم اليقين أن والده لن يجود عليه بإجاباتها.. لسبب مجهول هو لا يعلمه.. هل في الأمر فضيحة ما!.. ريما.. ذاك يفسر التكتم الشديد من كلا الجانبين على عدم فضح الأمر.. لكن أكثر ما لفت انتباه سراج.. هو سؤال عمه على أمه.. ما مدى معرفته بها، وفضوله في السؤال عنها هل هي حية ترزق، أم في عداد الأموات!.. وهو على حد علمه، يدرك أن هناك قصة حب ملتهب ما بين والده الرجل الصعيدي الذي جاء لتوه من أقاصي الصعيد للعمل بالإسكندرية وبين أمه ابنة أحد تجار الأخشاب.. والتي تكللت بعد جهد كبير بالزواج ليكون هو ثمرة الزواج الوحيدة..
سمع سراج أبيه يهتف من الخارج، بعدها صوت اغلاق باب الشقة، فأدرك أنه نزل لقضاء بعض أموره.. إذا هب في عجالة صوب حجرة والده.. يستشعر أن ما يقوم به لا يجب أن يكون.. لكن ما عاد بيده حيلة تجاه ذاك الفضول الذي ينهش راحة باله.. عليه أن يلق نظرة سريعة على أوراق والده لعله يخرج منها ببعض الخيوط التي قد تدله على حقيقة الأمر الغامض والمسبب للقطيعة بين والده وأهله..
دخل الغرفة وبدأ في العبث ببعض الأوراق التي يحتفظ بها والده في حقيبة قديمة يخفيها بعناية بأحد الأدراج.. والتي كانت دوما قبالة ناظريه لكن لم يدفعه الفضول ولو لمرة لاكتشاف محتوياتها مثل هذه المرة التي كان دافعها الوحيد هو المعرفة.. أوراق عدة.. لا جديد فيها.. حتى توقفت يده على إحداها.. رفعها صوب ناظريه ليتأكد أن ما يطالعه حقيقي.. وأن تلك الحقيقة الماثلة أمام عينيه.. هي السبب في البعاد والشتات!.. أم أنها فقط نصف الحقيقة!..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
دخلت أنس الوجود الغرفة، فوجدت منيرة تعدل من حجابها، فسألتها أنس متعجبة: على فين!
أكدت منيرة وهي تضع آخر دبوس بحجابها: ما إنتي عارفة، ولا .. ايوه معلش متعرفيش.. أصلك أنا بدأت دروس أيام ما كنتي بمصر.. وبعدين وجفتها عشان الاچازة.. واديني لها راچعة تاني..
تسألت أنس: راجعة فين! ودروس ايه! أنا مفهمتش حاجة..
قهقهت منيرة، مفسرة: معلش.. أصلك أنا مستعچلة، هروح دلوجت.. ولما ارچع هبجى احكيلك.. يا بت خالتي..
تطلعت أنس نحو منيرة في حنق: كلكم كنتو عارفين وأنا الوحيدة اللي كنت زي الاطرش في الزفة.. مش كده!..
قبلتها منيرة لتطيب خاطرها، جاذبة حقيبة يدها، مندفعة للخارج مؤكدة: والله ستي صفية كانت محرچة ع الكل محدش يچيب خبر.. ليه بجى دي بتاعتها هي، انتي واعية.. محدش يجدر يجول لستي صفية لاه!.. سلام..
اندفعت منيرة مهرولة للخارج، لتبقى هي مع أفكارها وحيدة.. تتطلع من نافذة الحجرة للأفق البعيد والشمس ما زالت في صحوة.. قبيل صلاة العصر.. ترغب في النزول للتعريشة للجلوس مع حبيب كما اعتادت.. لكنها تشعر بأن لا قبل لها على مواجهته بعد كل هذه الحقائق الصادمة.. التي تحاول استيعابها حتى هذه اللحظة.. فقررت البقاء بحجرة منيرة.. تقرأ إحدى الروايات التي جلبتها من المكتبة بالأسفل لعل هذا يفيدها في تمضية الوقت بلا ملل..
تخطت الساعة الثامنة مساءً.. وقد قتلها السأم بعد أن انهكتها القراءة.. وقفت بالنافذة في انتظار عودة منيرة.. ألم تتأخر!.. هي لا تعلم أين ذهبت كل هذا الوقت! وهل من الطبيعي بقاءها خارج السراي حتى هذه الساعة!.. لم تكن تعلم هل قلقها في محله أم أنها تهول الأمر.. فمنيرة لم تكن تخرج من السراي إلا فيما ندر.. ولم يكن من عاداتها التأخر حتى هذه الساعة أبدا..
خرجت من الحجرة.. لتصادفها نبيهة وهي تحمل بعض قطع من ملابس جمعتها من غرفة حبيبة ومحمود من أجل غسلها على ما يبدو.. لتبادرها أنس الوجود متسائلة: هي منيرة لسه مرجعتش!.. هي مش تحت مع حبيب بيه أو ستي صفية!..
نفت نبيهة وجودها: لاه، مهياش تحت.. أني كنت لسه عندهم.. بس كيف ده! عمر الست منيرة ما اتأخرت عن الرچوع عن المغرب.. ولو حكمت يعني لأي سبب.. حبيب بيه أو شبل بيروحو يچيبوها من مطرح ما هي موچودة..
هزت أنس رأسها متفهمة، وقد قررت النزول لسؤال حبيب عنها.. هي اطمأنت إلى حد كبير بعد كلام نبيهة.. لكنها اتخذتها زريعة لتجد نفسها معه بدلا من بقائها وحيدة يأكلها الفكر ويتسلى على بعثرة سلامها النفسي..
نزلت في اتجاه التعريشة.. والقت التحية ليكون الرد من حبيب ابتسامة اربكتها، مجيبا باحسن منها، واضعا ابريق الشاي على نار الركوة كالعادة.. لتطلعه في أريحية: منيرة اتأخرت قلت اجي..
قاطعها متعجبا: منيرة اتأخرت كيف لحد دلوجت!..
تلعثمت قائلة: هي مش انت عارف بتيجي امتى!.. انا قلت انك هتروح تاخدها من..
أكد حبيب في ضيق: أني عارف إنها في چمعية السماحة بتدي دروس تطوع للعيال الصغيرة.. بس عمرها ما اتأخرت كده.. يا واد يا شبل..
هلّ شبل مستجيبا للنداء، ليرسله ليسأل عن منيرة بالجمعية الخيرية التي لا تبعد إلا مسيرة شارعين عن السراي..
ليسود الصمت الحرج، قطعته أنس مبررة: يمكن تكون راحت لحد من معارفكم أو أصحابها!..
أكد حبيب بشكل قاطع: منيرة مبتخطيش مكان إلا لو جالت رايحة فين ومع مين..
طب شيل مهرولا، يلتقط أنفاسه مؤكدا: الچمعية مجفولة م ساعة.. والغفير جال لي إن ست منيرة مشيت من جبل المغرب..
انتفض حبيب فزعا: وه، تكون راحت فين يعني!. هم ندورو عليها..
اندفع حبيب بصحبة شبل للبحث عن منيرة، مؤكدا على أنس قبل أن يغادر السراي: لو ظهرت ابعتي سالم ورانا يبلغنا..
هم زيت أنس الوجود رأسها مؤكدة، وهي تستشعر أن أمرا جلل قد وقع لمنيرة.. قد تفضحه الساعات القادمة.. فبكت..
يتبع...