-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 38 - الثلاثاء 10/6/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثامن والثلاثون 


تم النشر الثلاثاء 

10/6/2025

- ذكريات لم تمت.. 


القاهرة نهاية ١٩٤٧.. 

ما أن أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها بإنهاء الانتداب البريطاني على فلس..طين .. وتقسيمها لدولتين.. النصيب الأكبر فيها للي..هود.. مع وضع القدس تحت الإدارة الدولية.. حتى اشتعل الشارع المصري والعربي بالمظاهرات المنددة لهذه القرارت.. ورفضا لمنح اليه..ود وطنا بأرض فلس..طين.. كانت المظاهرات على كافة المستويات والطوائف.. طلاب جامعات وعمال وأعضاء نقابات وجمعيات سواء سرية أو معلنة.. الكل على قلب رجل واحد يرفض هذه القرارات الغاشمة..

تنبه وهو بقلب المظاهرة، لتلك التي تهتف في حماس مع مجموعة من الطالبات الجامعيات .. تتقدمهمن في جسارة.. كيف صار لها مثل هذه الجرأة!.. ومتى أصبحت بهذا العنفوان الأنثوي الخطر، وهي التي تربت قبالة ناظريه.. حتى أضحت فتاة جامعية يبصرها اللحظة بعين مختلفة.. 

بدأ بعض من الهرج والمرج المعتاد في مثل هذه المظاهرات التي لا تخضع لترتيب فصيل معين.. ما دفعه للهرولة نحو موضعها، مطبقا على معصمها بقبضة من حديد، ساحبا إياها خلفه في هرولة يبعدها عن مسار المظاهرة في اتجاه شارع جانبي.. لهثا سويا حين أصبحا على أعتاب الشارع الضيق الأكثر أمنا.. لتجذب وداد يدها من تحكم يده.. هاتفة وهي تلتقط أنفاسها في تتابع: في ايه! مين إداك الحق تمسك ايدي وتشدني وراك كده!.. 

هتف سميح في تعجب: حق القرابة يا وداد.. هو إنتي مش بت خالي!.. وليا حكم عليكي لما أشوفك بتعملي حاجة غلط ممكن تضرك.. 

هتفت وداد في حنق: يا سيدي أنا بعفيك من حق القرابة ده.. وأنت ملكش أي حق بالتدخل في حياتي ولا حتى تبدي رأيك في أفعالي سواء صح ولا غلط.. 

هتف سميح متعجبا، ومن عينيه تطل نظرة تحمل بعدا أكثر جرأة وهو يهمس في إعجاب: اتغيرتي كتير يا وداد.. اتغيرتي للأحسن أوي.. 

هتفت وداد بثبات يحسب لها: أما أنت فاتغيرت بس للأسوء.. لا يمكن يكون ده سميح اللي اتربيت معاه.. وكنت بحلم إني... 

توقفت وداد عن إكمال كلماتها التي شعرت بالندم فورا للتصريح بها، وخاصة حين هتف سميح وهو يدنو بشكل غير لائق: كنتي بتحلمي ب ايه!.. 

استشعرت وداد جرأته في القرب بهذا الشكل فلم يكن منها إلا أن رفعت كفها عاليا، وصفعت سميح في قوة.. هاتفة في تقزز: ده اللي كنت بحلم به.. ووالله لولا غلاوة عمتي توحيد عندي وعند بابا.. لكنت وصلت لهم اللي حصل منك ده.. ومنعتك يا سميح من دخول الرسلانية نهائى.. 

اندفعت وداد مبتعدة عن موضع اجتماعهما، تاركة إياه يفرك موضع صفعتها، قبل أن يبتسم في سماجة، متطلعا يتبعها بناظريه في إعجاب شهي، وهو يداعب شعيرات ذقنه التي كانت قد استطالت.. تاركا إياها بلا تهذيب.. 

❈-❈-❈

الرسلانية مطلع ١٩٤٨.. 

هبط مختار الدرج في هوادة نحو الخارج، لكن استوقفه صوت أمه الذي علا قادما من خلف باب القاعة القبلية، ما دفعه ليتوجه نحوها طارقا بابها دافعا إياه دون انتظار إذن الدخول حين سمع صوت سميح أخيه يجادلها بالداخل، ليوقن مختار أن هناك سبب قوي لذاك الجدل الدائر والذي توقف ما أن أصبح بينهما فالغرفة، ما دفعه ليسأل في تعجب: ايه في!.. سكتو ليه أول ما دخلت!.. ايه اللي بيچرا وصوتك طالع لبره ليه يا حچة!.. 

هتف سميح محاولا اخراج مختار من المشاركة في النقاش المحتدم بينه وبين أمه، مؤكدا: مفيش يا مختار، روح شوف حالك كنت رايح فين كده!.. مش عايزين نعطلك.. 

هتفت توحيد متجاهلة ما يسعى إليه سميح، هاتفة بلا مواربة وبصوت مقهور.. تستجير بولدها البكر لعله ينقذ ما يمكن إنقاذه: إلحج أخوك ودماغه اللي هتودينا فتوكر.. سميح بيه جال ايه عايز يتچوز.. تاااااني.. 

تطلع مختار نحو أخيه مصدوما: اومال ايه بت الناس اللي فوج دي، ده أنت بجيت أب.. عملت ايه أم نچيب عشان تچيب لها درة!.. دي طوع وتحت يدك ومش مجصرة معاك أبدا.. 

هتفت توحيد مؤكدة في صدق: على يدي، مديحة والله ما فيها أي حاچة تتعيب.. لكن أخوك شكل كده الجديم حلي فعنيه.. وهيوجعنا وجعة شَديدة مع خالك.. وأني بجولها جدامك يا مختار.. أي حد اخسره ولو الدنيا كلها.. إلا سعد أخوي.. 

هتف مختار متعجبا: وايه دخل خالي باللي بيفكر فيه سميح يا حچة!.. هو ايه اللي.. 

توقف مختار عن استكمال كلماته حين برق بباله استنتاج ما، عندما فسر حديث أمه.. متسائلا في ريبة: إنتي تجصدي ايه بالجديم اللي حلي فعينه!.. اوعي يكون اللي چه فبالي ده صح!.. 

هتفت توحيد في غضب صارخة: ايوه.. أخوك المخبل رايد يطلب وداد من خالك!.. شفت الچنان اللي على أصوله!.. 

انتفض مختار مندفعا صوب سميح، ممسكا بتلابيه، يهزه في حنق بالغ: أنت اتچنيت، وداد مين اللي تطلب يدها من خالك سعد!.. يعني كانت جدامك طول السنين دي، وجلت لك خدها يا سميح، ويومها جلت لاه مهياش من دماغي وعايز واحدة طوع.. وخدت اللي جلت عليها.. عايز ايه تاني.. أنت مش هترتاح إلا لما تخربها!.. 

هتفت توحيد تحاول أن تفصل بين ولديها: سبب أخوك يا مختار، وبكفياكم صوتكم يطلع والكلام يوصل لصفية ولا لأبوكم.. 

لكنها فشلت في تخليص سميح من قبضة مختار الصلبة، فجلست تضرب على فخذيها بكلتا كفيها في قلة حيلة، هاتفة بكل حسرة: أروح فين.. واسوي كيف يا رب!.. ليه كده يا سميح يا ولدي.. أبوك كبر واهو راجد تعبان.. وأني مبجتش حمل المناهدة دي.. ده أني جلت ربنا هداك وبجيت تصلي وتصوم وتحفظ كتاب الله.. فرحت ودعيت لك كمان وكمان.. تيجي دلوجت رايد تخسرني أخوي اللي مطلعتش إلا به من الدنيا!.. طب ليه كده!.. 

دفع سميح كفي أخيه مختار عن تلابيه بحنق، متعجبا من حديثهما، هاتفا في سخرية: ايه اللي انتو عاملينه ده!.. ليه يعني الولولة دي كلها!.. وهو يعني لما أروح اجول لخالي چوزني بتك على سنة الله ورسوله.. دي عيبة!.. 

هتفت توحيد صارخة: ايوه عيبة، وعيبة كبيرة لما تجوله هتچوز بتك على مرتي.. اللي هي بت أجرب صحابه له.. 

سخر مختار: ولا هي أصلا هتوافج!.. وداد لا يمكن تجبل بالكلام ده.. 

هتفت توحيد معترضة: تجبل ولا متجبلش.. أني اللي يهمني أخوي.. مش هسيبك يا سميح تروح لعنده ويطردك ولا يرفع عليك السلاح.. وتبجى زعلة بيناتنا.. 

اندفع سميح نحو الخارج، لتنتفض توحيد في ذعر، أمرة مختار باللحاق بأخيه ليمنعه إذا ما فكر في الذهاب لسراي خاله.. حتى لا تقع الطامة الكبرى.. 

❈-❈-❈

القاهرة مطلع ١٩٤٨.. 

كان صوت رستم باشا الزاعق حدث جلل.. فما كانت أبدا من عادات رستم رفع صوته محتدا في نقاش ما مهما كانت الأسباب.. لكن أن يحدث هذا.. في مثل هذا الوقت من المساء.. وبهذه القوة! فذاك يؤكد وقوع كارثة ولا شك.. ما دفع إلهام للهرولة خارج حجرتها، مندفعة تهبط الدرج في عجالة، حتى إذا ما أصبحت على درجاته الأخيرة متطلعة لبهو القصر حيث وجدت والدها رستم باشا يقف محتدا على ناجي.. والأخير يقف قبالته في هدوء ودون أن ينطق حرفا على تقريع والدها.. ما دفعها لتشهق في صدمة حين رفع ناجي رأسه نحوها، وكأنه يخبرها بلا كلمات أنه حاول قدر استطاعته إقناع والدها بقبول طلبه وها هي النتيجة.. 

أنهى رستم سيل اهاناته، ونادى الخدم ليرافقوا ناجي لبوابة القصر مستهينا، ما دفع ناجي ليجيب في ثبات: مفيش داعي يا باشا.. أنا عارف طريقي كويس.. عن إذنكم.. 

خرج ناجي في هدوء مغادرا.. لتندفع إلهام نحو ابيها متسائلة في اضطراب: ليه كده يا بابا، ليه!..

هتف رستم في حنق، وقد لحقت ألفت بابنتها عندما وصلها صوت رستم بالتبعية، لا تفهم ما الذي جرى ودفع زوجها لثورته الغير معتادة، والذي هتف مفسرا لابنته في حنق: الصعلوك ده تطاول وجاي يطلب إيدك مني، بكل بساطة كده عايز يتجوز بنت رستم باشا وهو سليل الحواري.. والده موظف على أد حاله وأمه ربة منزل مبتعرفش تفك الخط.. 

هتفت إلهام معترضة: لكن ده ميعبهوش يا بابا، هو مثقف ومحترم وظابط في الجيش يعني مستقبله هايل.. 

زعق رستم: إنتي أكيد جرى لعقلك حاجة يا إلهام!.. بعد كل الشباب اللي من عائلات محترمة ولاد بشوات وبهوات.. اللي رفضتيهم.. يبقى ده اختيارك، أنا حقيقي مصدوم ومش مصدق!.. 

هتفت إلهام تحاول إقناعه: يا بابا حضرتك حبيت ماما على الرغم من الفارق الاجتماعي واتجوزتها على الرغم من رفض جدي كاظم الله يرحمه.. يبقى ليه الاختيار ده محرم عليا!..

هتفت ألفت تفسر في هدوء: عشان الراجل لازم هو اللي يبقى أعلى في المكانة ويرفع زوجته جنبه مش العكس يا إلهام.. وحتى لو الولد ده كويس هو ميناسبش العيلة ولا ينفع يناسبها.. لازم يكون في تكافؤ في حاجات كتير بين العيلتين.. ومن كلام بابا عنه.. اعتقد إنه فعلا مش مناسب.. وبعدين أنا حتى مع اختلاف وضعي عن عيلة بابا لكن عيلتي مكنتش فقيرة ولا معدمة.. دول كلهم تجار واغنيا.. 

هتفت إلهام معتذرة: باردون يا ماما أنا مكنتش أقصد.. أنا كنت بحاول أقرب وجهة نظري لبابا.. بس حقيقي أنا لسه شايفة إنه مناسب وكل الشكليات دي مش مهمة ومتهمنيش..

هتف رستم مؤكدا في ثورة: لكن تهمني أنا.. والموضوع خلاص انتهى.. والولد ده مش هيعتب القصر تاني.. هو عرف قدره.. وعرف لو تطاول تاني هيحصل له ايه.. 

تطلعت إلهام صوب رستم في صدمة، وتساءلت غير مصدقة، هل هدده والدها ألا يفكر في الزواج بها، وإلا سيكون الثمن مستقبله الوظيفي!.. هل هذا حقيقي!.. 

تحولت نظرة الصدمة لنظرة حسرة حين أدركت أن ما استنتجته صحيحا، وأن ناجي قد يفقد وظيفته إذا ما فكر في الاقتراب منها.. أو التطاول بطلبها للزواج للمرة الثانية.. فاندفعت نحو الدرج تصعده في سرعة حتى إذا ما وصلت لغرفتها هرولت صوب النافذة لعل ناجي ما زال هناك ينتظر طلتها.. وقد صدق حدسها.. فقد وجدته يقف قبالة الفيلا على الرصيف المقابل، عيناه معلقة بنافذة شرفتها لم يبرح مكانه حتى هلت.. نظراتها مثبتة على موضع وقوفه لعدة دقائق دون أن يقوم كلاهما بأي حركة.. وأخيرا غابت إلهام بالداخل.. كان يظن أنها ستعود لتطل من جديد.. لكنه على العكس وجد النافذة الزجاجية تُغلق، وتسحب الأستار بالداخل.. هم بالرحيل إلا أن أحد خدم قصرهم ناداه ملقيا بكفه رسالة مطوية كان قد اختفى مسرعا لداخل القصر مجددا قبل أن يعِ ناجي ما فحواها.. فض الرسالة ليجد سطرين كتبا على عجل.. "لم يكن في إمكانك أفضل مما كان.. التفت لطريقك.. وإنساني.. إلهام"

طوى ناجي الرسالة المقتضية التي تقطر وجعا، واضعا إياها بجيب سترته، قبل أن يطلق نظرة أخيرة على شرفتها المغلقة.. راحلا في حسرة..

❈-❈-❈

الرسلانية مطلع ١٩٤٨.. 

اندفع سميح لداخل السراي، باحثا عن خاله، لكنه لحسن الحظ لم يجده، وما أن هم بالمغادرة، حتى وصل خلفه مختار، ثم ظهرت توحيد، وما أن علم كلاهما بعدم وجود سعد بالسراي، حتى تنفسا الصعداء شاكرين لله.. 

لكن ظهور سعد على الأعتاب قادما من الخارج، غير كل الموازين، وخاصة حين تعجب سعد من هذا التجمع الغريب في مثل هذه الساعة، وخاصة أن ما من أحد من قاطني السراي علم بوجودهم، ورحب بهم كما يجب!.. 

هتف سعد في دهشة: يا مرحب بالحبايب، بس ايه الشُجة الغريبة دي يا توحيد!.. مش بعادة تاچي من غير وهدان!.. 

كان الصمت يلف الجميع، لكن مختار قطعه مبررا: اتوحشناك يا خالي وكنا معديين جلنا نرمي السلام.. 

على الرغم من عدم اقتناع سعد بهذا المبرر، إلا أنه رحب بهم على أي حال، مشيرا نحو المقاعد المتناثرة بالبهو: طب اجعدوا.. واجفين ليه!.. وهنادم على أنس وفايزة من فوج.. ولا رايدة تطلعيلهم إنتي يا توحيد!.. اطلعي يعني هنعزمو عليكي في دارك يا بت أبوي!.. 

أجابت توحيد في نبرة مترددة: لاه، ملهاش عازة، إحنا جلنا نسلمو ونمشو.. متجلبش حال الناس، تلجى اللي نايم نايم.. سيبهم على راحتهم.. وادينا سلمنا وشفناك.. ياللاه بينا.. 

أمرت توحيد ولديها، ونظراتها المتوسلة منصبة على سميح ولدها، تؤكد عليه أن لا يفاتح خاله فيما اعتزم عليه.. لكن سميح تجاهل نظراتها المستعطفة تلك، وهتف في جرأة: الصراحة يا خالي، أني جايلك في طلب، ومتعشم متردنيش.. 

نكست توحيد رأسها وقد خاب مسعاها، ما دفع مختار ليهتف كاظما غيظه.. محاولا قطع سميح عن الاسترسال: ما إحنا جلنا اللي فيها، ايه!.. مش نعجل ونرسى! 

هتف سعد متعجبا: ايه في! مالك يا مختار حامي كده على أخوك، سيبه يطلب اللي ياچي على باله، وخاله سداد.. خير يا سميح يا ولدي!.. 

هتف سميح في جرأة.. بشكل مباشر دون مواربة، حتى يضع الجميع أمام الأمر الواقع: أنا طالب يد وداد منك يا خالي!..

بعد فترة صمت سادت.. لم يكن لمخلوق القدرة فيها على النطق بحرف، هتف سعد في تعجب: أنت جلت ايه! سمعني كده احسن السمع بجي بعافية اليومين دول!.. 

تدخل مختار: مجالش حاچة يا خال، هو.. 

قاطعه سعد محذرا: مختار!.. خليك على چنب كده لما نشوف إيه حكاية أخوك.. 

هتفت توحيد معترضة: لا حكاية ولا حاچة، ده عيل دماغه على كدها وميتاخدش على كلامه من أساسه.. 

ليتجاهل سميح كل هذه المحاولات الحثيثة لاثنائه عن الأمر، هاتفا في صفاقة: ايه في! أنا رايد وداد على سنة الله ورسوله.. لا هو عيب ولا حرام.. 

هتف سعد متعجبا: هو أنت مش متچوز يا ولدي مديحة بت الشيخ رضا! ولا أني كبرت ودماغي اندارت!.. 

أكدت توحيد وهي تربت على كتف سعد تحاول أن تثنيه عن الاستماع لأقوال ولدها: مش جلت لك عيل مخبل!.. كن اللي جاله ده معداش على سمعك ياخوي.. 

هتف سميح متعجبا: ليه يعني.. غلطنا فالبخاري.. أنا طالب حلال ربنا.. وخالي ده رضيها عليكي جبل سابج وإنتي رضتيها على نفسك.. ولا هي حلال لأبويا وحرام عليا!.. 

شهقت توحيد في صدمة، بينما زعق مختار معترضا، صافعا سميح بقوة: أخرس يا عويل.. وشوف أنت بتجول إيه وعلى مين!.. 

هتف سميح بلا مبالاة: بجول الحج، ولا بجي الحج يزعل.. أني لا هعمل حاچة عيب ولا حرام.. أنا طالب حلال ربنا.. واهي طلبتها التانية مش احسن كانت تبجى الأولى وزماني متچوز عليها.. 

زعق سعد في ثورة: ده مش عيب ولا حرام، دي جلة أدب وترباية ناجصة..

وأخرج سعد سلاحه من صدر جلبابه، صارخا في غضب هادر: هو على آخر الزمن عيل ناجص، ياچي يحط بتي أني فالمزاد.. اسم في لستت حريمه.. ويجولي أولى وتانية.. والله لو ما خفيت من جدامي يا نچس أنت لأكون مفرغ فيك طبنجتي ولا لك دية عندي يا كل..ب.. 

هب مختار يقف قبالة سعد في محاولة لتهدئته وحجزه عن الوصول لموضع سميح، بينما اندفعت توحيد نحو سميح صارخة، تدفعه للخارج لكنه لم يكن يتزحزح: غور.. اتحرك وغور بعيد عن وش خالك.. حرام عليك اللي بتعمله فأمك.. منك لله.. منك لله.. 

استيقظت فايزة وأنس الوجود، ووقفت كلتاهما أعلى الدرج غير واعيات لما يجري بالأسفل، وخاصة هذا الوضع الغريب الذي لم يكن سعد فيه يوما، مع توحيد وأولادها.. والتي أخذت تزعق صارخة في قهر محاولة إخراج سميح بعيدا عن مرأى خاله.. الذي كان يحمل سلاحه.. وقد يستخدمه في أي لحظة ردا على إهانة ولدها له ولابنته.. حتى أنها وبلا مقدمات، صرخت متألمة.. تضع كفها على موضع قلبها، قبل أن تسقط بين ذراعي مختار ولدها، فاقدة الوعي.. وارتبكت الأحوال..

❈-❈-❈

القاهرة مطلع ١٩٤٨.. 

تطلع رستم إلى إلهام ابنته، التي كانت تجلس ساكنة لا تنطق حرفا على مائدة الإفطار، وقد ذهب عنها حماسها واقبالها المعتاد على الحياة.. كانت ملامحها تشي بالحزن العميق الذي تحاول أن تتظاهر بعكسه، اللامبالاة.. وكأنه لا يدرك أن ما غيرها إلا رفضه لذاك الشاب الصعلوك الذي تقدم لخطبتها.. هو لم يفعل ذلك تعنتا أو تحكما.. بل رغبة في اختيار الأفضل لها ولمستقبلها.. ما دفعه اللحظة ليتطلع لابنته هاتفا في حماس: شوكت باشا بلغني إنك اتقبلتي في البعثة اللي طالعة فرنسا عشان تكملي دراستك العليا هناك فالسوربون.. 

ابتسمت إلهام في وداعة: تمام.. كنت منتظرة الخبر ده فعلا.. 

هتفت ألفت في اضطراب: معقول! هتسافري إنتي كمان يا إلهام!.. مش كفاية بهجت اللي شكله خلاص هيستقر بره من قلة نزوله مصر!.. 

همت إلهام بالرد إلا أن رستم هتف معاتبا: خبر ايه يا ألفت! هي مسافرة تلعب.. دي رايحة تكمل دراسة.. وهتنزل على هنا اجازات واحنا كمان هنروح لها يعني مش هنبقى بعيد زي ما انتي فاكرة.. خليها تروح تشوف مستقبلها بدل قعدتها في مصر اللي ملهاش لازمة ومش هتجيب من وراها إلا دوشة الدماغ.. 

تفهمت ألفت ما كان يقصده زوجها، وما هو الدافع وراء إرسال إلهام بعيدا عن القاهرة.. ولم يخف ذلك عن إلهام نفسها، التي تجاهلت الأمر.. وربتت على كف أمها على الطاولة، مؤيدة رأي أبيها: بابا عنده حق يا ماما، ده مستقبلي وبعثة هستفيد منها كتير.. وطبعا أنا مقدرش استغنى عنك إنتي وبابا.. فلازم تبقو عندي كل فترة والتانية.. 

ربتت ألفت بدورها على كف ابنتها، مؤكدة على موافقتها الضمنية بذهاب إلهام بعيدا عنها لمصلحتها.. حتى يكون ذلك مساعدا على نسيانها ذاك الشاب الذي لا يليق بها.. 

هتف رستم مؤكدا، وهو يرتشف آخر رشفة في فنجال الشاي: أنا هبعت لبهجت عشان يكون موجود في باريس لاستقبالك وتجهيز كل اللي تطلبيه هناك، عشان تبقي مرتاحة.. 

ابتسمت إلهام ممتنة: ميرسي يا باشا.. ده كرم كبير منك.. وفرصة أشوف بهجت لأنه وحشني أوي.. 

نهضت إلهام مستأذنة: باردون، لازم بقى أجهز حاجات كتير محتاجة وقت.. فلازم ابدأ فيها من دلوقت.. 

اذن لها والدها، لتظل ألفت تتابعها بناظريها، متسائلة في تيه: البنت شكلها متأثر أوي يا رستم، تفتكر بعدها ده مفيد وهينسيها موضوع الولد الظابط ده!.. 

أكد رستم في ثقة: أكيد، باريس لها سحرها.. والدراسة هتشغلها.. وكمان البلد اهي كل يوم مظاهرات ودوشة.. واضح إننا داخلين على أيام صعبة.. يعني كويس إنها وأخوها بعيد عن القلق ده.. 

هزت ألفت رأسها موافقة على منطق زوجها.. متضرعة إلى الله بسرها.. أن يحفظ ولديها من كل سوء.. 

❈-❈-❈

الرسلانية منتصف ١٩٤٨..

تنحنح مختار، وهو يستأذن للدخول على خاله بمكتبه بالسراي، لينهض سعد من خلف مكتبه ما أن وعى لمختار داخل الحجرة، هاتفا في محبة: ادخل يا مختار تعال، خلاص نويت!.. 

توجه مختار لحيث يجلس خاله، مؤكدا وهو يجلس قبالته: ايوه خلاص يا خالي، أنا مسافر حلا.. بس جلت مينفعش أسافر من غير ما اسلم عليك لأن السفرية المرة دي طويلة.. حرب بقى ويا عالم... فجلت لازما اوصيك.. 

هتف سعد معاتبا: توصيني على ايه ومين!.. جوم يا واد من هنا.. هتروح وترچع بالسلامة وترمو الانچاس دول فالبحر وتاجو أنت وزمايلك مچبورين.. 

هتف مختار: امين يا رب.. بس عشان خاطري يا خالي.. خلي بالك على أمي.. دي بعد أبويا اللي تعبان وصحته ف النازل ده.. ملهاش غيرك.. أنا عارف اللي عمله سميح ده مكنش يصح، بس أهي على يدك وجعت من طولها بينا يوميها، ومن ساعتها وهي لسانها مبيخاطبش لسانه، وصحتها برضك مش عچباني.. 

هتف سعد متعجبا: أنت هتوصيني على توحيد برضك! أمك دي الغالية اللي مفيش فغلاوتها.. ولو كنت عديت اللي حصل من أخوك كده.. ده بس لچل خاطرها.. لكن والله لو كان حد تاني اتچرأ وعمل اللي أخوك عمله.. ما كان خرچ م السرايا على رچليه حي.. 

هتف مختار: حجك يا خالي، والله ما حد يلومك.. وأنا عارف غلاوة أمي عندك.. بس جلت اللي جلته لچل ما جلبي يطمن.. 

هتف سعد باسما: لاه اطمن يا حضرة الظابط.. وحط فبطنك بطيخة صيفي.. وورونا الهمة وارچعو لنا رافعين الراس .. 

نهض مختار منحنيا مقبلا ظاهر كف خاله التي امتدت لسلامه، ما دفع سعد لجذبه لصدره محتضنا إياه في محبة خالصة، رابتا على ظهره في عزم، ليهمس مختار في تأثر: أنا چبت صفية على هنا يا خالي.. مش حابب تجفل على روحها بعد ما امشي وتجعد الفكر يتعبها وفوجه تعب حملها كمان.. 

هتف سعد مطمئنا: هنخلوها معانا واختها وأمها يكونوا معاها على طول.. متجلجش أنت وتاچي بألف سلامة.. اهو كلكم رايحين وسيبين الحريم شايلين.. إن كنت انت ولا فضل.. ربنا يردكم سالمين جبل ولادتهم.. وتسعدو بشيلة عيالكم والفرحة بهم.. 

ثم استطرد سعد لائما: بس طب اهو أنت مسافر مع الچيش وده شغلك، فضل بيه ده مسافر ليه هو راخر!.. مش كفاية موضوع الصحافة وشغل الكتابة اللي طلع لنا فيه ده!..

هتف مختار مؤكدا: چهاد يا خالي.. واچب.. ولو ده شغلي ولازم اجول علم وينفذ.. لكن بالنسبة ل فضل وسميح ده واچب وطني وديني كمان.. 

هتف سعد متعجبا: هو أخوك مسافر وياك!.. يا وچع جلبك يا توحيد!.. 

هز مختار رأسه بإيجاب، هاتفا: ايوه يا خالي، وأمي جعدت تجول له كده برضك.. بس هو صلب دماغه، واهو طالع مع مچموعة المتطوعين اللي طالع فيها فضل اللي بتشرف عليها جماعة الإخ..وان المس.لمين.. 

هتف سعد رابتا على كتف مختار في ود: مع السلامة يا ولدي.. واوعى لحالك.. في حفظ الله.. 

ودع مختار خاله، واندفع للخارج غير قادر على الصعود لحجرة صفية لتوديعها قبل رحيله، فقد كان يكفيه ذاك الوداع الذي ناله وهو يجهز نفسه للرحيل قبل أن يأتِ بها إلى هنا.. فما عاد قلبه بقادر على تحمل المزيد من دموعها وتوسلاتها للبقاء جوارها.. اندفع لخارج السراي وبلا وعي رفع رأسه نحو نافذة حجرتها، ليجدها تقف صامتة تتطلع نحوه وهو يخطو خطواته مبتعدا صوب الفراق.. تاركا إياها باكية.. ما دفعه ليلوح لها مودعا قبل أن يندفع لداخل العربة التي كانت بانتظاره.. والتي ظلت صفية موضعها بالنافذة تتابعها حتى غابت بالافق.. ولا زال دمعها يسيل..

❈-❈-❈

القاهرة منتصف ١٩٤٨..

كانت على وشك الانتهاء من تجهيز حقيبتها للسفر غدا، لتفاجأ بتلك الورقة المطوية قبالة قنينة عطرها، مدت كفا مرتجفة نحو الرسالة مستشعرة أنها رسالة منه، بعد انقطاع أكثر من ثلاثة أشهر منذ أن تم طرده من قبل والدها وارسلت له رسالتها لينساها.. فلم لم يفعل!.. 

فضت الورقة وقد صدق حدسها، دمعت عيناها وهي تقرأ سطره المتعجل.."مقدرتش أنفذ طلبك وانساكي.. أرجوكِ.. قابليني ضروري بالليل.. هنتظر عند سور القصر الخلفي.. ناجي".. 

طوت الرسالة في حرص، ودفعت بها بين طيات ثيابها داخل الحقيبة قبل إغلاقها.. واندفعت نحو الخارج في ثبات، فهي ما رأت الرسالة إلا اللحظة، وها قد هل المساء، وخلد الجميع لأسرتهم، وهي وحدها التي لحسن الحظ تذكرت أمرا ما كان يجب عليها وضعه بالحقيبة، فاكتشفت الرسالة.. 

وصلت لتلك الفرجة البسيطة في سور الحديقة الخلفي، والتي كانت سبب في أول تعارف لهما، حتى وجدته ينتظر، تسلل بهدوء من تلك الفرجة حتى أصبح قبالتها، ثلاثة أشهر كاملة لم يبصره ناظرها.. وهو بالمقابل تاه في عمق نظراتها، حتى أنه همس بصوت أبح: إلهام!.. أنا مسافر.. وكان لازم أودعك.. مكنش ينفع.. 

قاطعته هاتفة: وأنا كمان مسافرة.. 

هز رأسه مؤكدا معرفته: مسافرة فرنسا تكملي دراستك العليا.. وأنا مسافر مع الجيش فلس..طين.. 

همست إلهام في اضطراب: الحرب!.. أنا لسه سامعة الأخبار عن إعلان قيام.. اسرا.. ئيل.. على أرض فلسط..ين.. بس مكنتش أعرف إن الجيش مسافر لهناك.. 

أكد ناجي: الملك أصدر القرار النهاردة باشتراك الجيش المصري مع الجيوش العربية في طرد العصابات الصه..يو..نية من فلسط..ين.. 

ساد الصمت لبرهة، قبل أن يهمس ناجي في عشق: أنا مش عارف هغيب أد ايه! وإذا كنت هرجع ولا .. 

همست إلهام باكية، تقاطعه: هترجع.. أنا متأكدة إنك هتكون بخير .. وهترجع بالسلامة.. 

استطرد ناجي في وجد، وهو يزيح دموعها عن خديها بأطراف أصابعه: أي كان المكتوب.. عايزك تعرفي إني عمري ما حبيت ولا هحب غيرك يا إلهام.. وكان نفسي ربنا يجمعنا تحت سقف واحد.. بس.. أنا مش ندمان إني قابلتك ولا زعلان من رفض الباشا.. لأن دخولك لحياتي كان أجمل حاجة حصلت لي فعمري.. ولو مرجعتش.. يكفيني .. إني حبيتك.. 

شهقت إلهام باكية في حزن، ولم تستطع أن تنطق حرفا، ليستطرد ناجي متأثرا: أنا لازم أمشي.. 

ما أن هم ناجي بالمغادرة إلا واستوقفته إلهام في اضطراب: خلاص هتمشي.. طب خد دي..

خلعت عنها سلسال فضي به أول حرف من اسمها واضعه إياه بكفه، هامسة في أحرف متقطعة نحيبا: خليه معاك.. وخليك فاكرني.. 

وضع ناجي السلسال بجيب سترته، متطلعا نحو إلهام في شوق طاغِ، مد يده لتضع كفها بكفه، ليقبله كعادته عند الرحيل.. أودع باطن الكف الرقيق قبلة طويلة مفعمة بمشاعر جارفة حتى إذا ما رفع هامته متطلعا نحو محبوبته.. حتى وجدها وبلا وعي ألقت بنفسها بين ذراعيه تحتمي بصدره.. تذرف الدمع ثخينا على فراق قد لا يكون بعده لقاء.. لم يكن له القدرة على مقاومة شوقه فطوقها بذراعيه في محاولة لتسكين ذاك الوجع الذي يضرب قلبه اللحظة كما الاعصار.. مقتلعا كل جذور الذكريات الماضية، مبقيا فقط على هذه الذكرى التي ستبقى موشومة بفؤاده ما حيا.. 

وأخيرا.. بدأت إلهام في استعادة ثباتها، فابتعدت في هوادة عن صدر ناجي الذي حررها مرغما، قبل أن يهمس وقد أدرك أنه حان وقت الرحيل الفعلي، مقبلا جبينها قبلة سريعة قبل أن يندفع لخارج الفرجة ليصبح خارج سور القصر.. توقف لبرهة.. متطلعا نحو موضعها مجددا.. قبل أن يهرول مبتعدا.. وشهقات نحيبها التي تحاول السيطرة عليها، هي آخر ما تناهى لمسامعه.. 

❈-❈-❈

عرابة آل حفني ١٩٩١..

كانت خطوات سراج إلى حيث أشار له الشاب بالدخول، خطوات ثابتة راسخة.. وكأنها على أرض تحفظ مقامه وترسخ لهيبة طلته.. على الرغم من الاضطراب الذي يرتع بدواخله.. وهو يتبع ذاك الشاب بدهاليز تلك الدار العتيقة التي احتضنت الأنفاس الأولى في عمر والده.. كان يتمنى لو احتضن كل ركن فيها بناظريه متمليا، لكن حرمة الديار لها ما لها.. ومد البصر واطلاقه ليس من عاداته.. ما جعله منكس الرأس في احترام وهو يصعد ذاك الدرج ليسير في ردهة ليست بالقصيرة قبل أن يقفا أمام أحد الأبواب الذي طرقه الشاب في تهذيب حتى إذا ما طال مسامعه الإيجاب دفع الباب في هوادة مطالبا سراج بالدخول.. والذي ما أن اجتاز أعتاب الحجرة حتى أُغلق الباب مجددا.. ليُترك وحيدا بتلك الغرفة الواسعة.. أو هكذا كان ظنه، حتى ناداه صوت واهن من فراش بطرف الغرفة البعيد.. أمرا: تعال.. 

تحرك سراج نحو الفراش حتى يتسنى له التعرف على محدثه، وقف قبالة الفراش ذو الأعمدة النحاسية الطويلة، والذي ما عاد موجودا إلا بالدور العتيقة على حد علمه.. ليهتف ذاك الرجل الذي بدت عليه إمارات التعب: طولت الغيبة جوي يا صبري!.. 

اضطرب سراج، وما أن هم بالرد، حتى أشار العجوز لأحد المقاعد، ففهم سراج ما المطلوب، منفذا في هدوء، حاملا الكرسي لأقرب نقطة من فراش عمه، جالسا وقد استعد للرد: أنا.. أنا سراچ.. واد صبري الحفناوي.. 

ابتسم عدنان في بشاشة: معلوم.. واعي يا ولدي إنك ولده مش هو.. بس هو الواد ايه إلا ضل أبوه ومدده.. متخافش لسه فيا شوية عجل يميز.. 

همس سراج محرجا: العفو يا عمي.. ربنا يديك الصحة والعافية.. 

ابتسم عدنان في ود: كلامك زين ومترتب كيف الغالي أبوك.. طول عمره حليم ومتطلعش منه العيبة أبدا.. لحد ما..

لم ينتبه سراج للكلمة الأخيرة في غمرة فضوله، ووجدها فرصة سانحة، لتكون مدخلا ليسأل عمه عما جاء لأجله: طب لما هو كده يا عمي! ليه الغربة والتوهة اللي كانت دي.. وليه أبويا ف حتة بعيد وأنتم ف حتة تانية!.. 

اعتدل عدنان في فراشه قليلا، وسعل بشدة ما أن هم بالحديث، ما دفع سراج ليمد كفه نحو كوب الماء القريب من مجلسه، يناوله عمه الذي رشف منه بعضه، قبل أن يستعيد راحته، متعجبا: وه!.. هو أنت چاي النهاردة لچل ما تسمع مني أني ليه كانت الغيبة والبعد!.. أني كنت مفكر إن أبوك اللي مشيعك على هنا.. 

هتف سراج في تعديل الوضع: اعتبره هو اللي باعتني.. وجول لي ايه اللي فرج الأحبا كده يا عمي!.. 

صمت عدنان ولم يجب عن سؤال سراج الحائر، لكنه هتف أخيرا: لما أبوك يحكي لك.. ويكون هو اللي چايبك على هنا بخطره.. هتعرف سبب الفرجة.. وساعتها هنشوف هتاچي على هنا تاني.. ولا لاه يا ولدي.. 

هم سراج بالنهوض للمغادرة، مدركا أن مسعاه في إيجاد اجابات ترضي فضوله، قد خاب.. لكن عدنان استوقفه يسأل في فضول: أمك لساتها عايشة يا سراچ يا ولدي.. 

هز سراج رأسه نافيا: الله يرحمها.. من سنتين..

هز عدنان رأسه متعاطفا: الله يرحم المراحيم كلها.. وادينا كلنا رايحين.. 

همس سراج: طولة العمر لك يا عمي.. 

سأل عدنان في فضول: أنت متوظف على كده!.. 

أكد سراج باسما: ايوه الحمد لله.. أنا ماسك النجطة اللي ف..

قاطعه عدنان مهللا: ظابط!.. يا ما شاء الله.. بجي لينا ضهر فالحكومة.. ربنا يحفظك يا ولدي.. جلت لي فين!.. 

أكد سراج: نجطة الرسلانية.. 

همس عدنان في قلة حيلة.. بكلمات مبهمة لم تصل مسامع سراج، الذي هتف متسائلا: جلت حاچة يا عمي!.. 

أكد عدنان متنهدا: بجول لا إله إلا الله.. 

نهض سراج مستأذنا، فسمح له عدنان بالمغادرة، على أمل العودة يوما ما.. متنهدا في قلة حيلة هامسا لنفسه.. واااه ع الرسلانية واللي چانا من نواحيها.. كنها حبل ممدود ملوش آخر.. كل ما نجول چاب آخره.. نلاجيه بينعاد م الأول.. باب كل ما يتجفل بميت جفل.. تاچي ريح شَديدة ترزعه فوشك من تاني.. عشان يجول لك.. مخلصتش لسه الحكاية على كده.. والله ما خلصت يا عدنان.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩١..

كانت الهدنة بينهما قائمة.. تجلس لعملها وصوت عبدالحليم حافظ يشدو بأجواء المكتب، بينما يجلس هو في هدوء لينهي عمله، الذي صار ينجزه في كفاءة أعلى وبوقت أقل.. لم يكن بينهما حوار يذكر.. على الرغم من أنه يدرك طبيعتها الثرثارة.. وروحها المرحة إلا أنه يعترف أنها لم تكن أبدا من ذاك النوع الفضولي من النساء الذي يفرض نفسه واسئلته التي تفتش عن إجاباتها مهما كلفها الأمر.. بل كانت استقلالية بلا مغالاة.. واجتماعية مع بعض التحفظ.. وحادة الطبع بعض الشيء مع من يستحق.. 

رفع ممدوح رأسه قليلا عن أوراقه حين أدرك أن صوت عبدالحليم قد توقف.. فتنبه أنها ليست على مكتبها.. تنبه لساعة يده ليدرك أن وقت الانصراف قد حان منذ قليل وهو لم يعِ ذلك من شدة انغماسه في العمل.. نهض يهيء نفسه للمغادرة، معاتبا نفسه على ذاك الطبع العجيب الذي يجعله معيبا عما يجري حوله طالما كان مشغولا بأمر يأخذ جل اهتمامه.. سمع أن عقول الرجال لا تحتمل التركيز إلا على أمر واحد فقط.. لكن هو لا يركز بل ينغمس بكليته فاقدا الإحساس بحدود الزمان والمكان.. حتى الإنتهاء.. 

وقف جمال بعربته أمام هذه الشركة العريقة لتهل مريم على بابها، قادمة من الداخل باحثة عنه بين ذاك الزحام في موعد الانصراف.. رفع جمال صوت زمور عربته لتدرك مريم موضعه مندفعة صوبه ملوحة في حماس.. 

دخلت العربة، ليستقبلها جمال مرحبا كعادته: ازيك يا مريوم.. عاملة ايه.. وعامل ايه اقتصاد البلد على حسك!.. 

قهقهت مريم، ليهتف جمال مولولا: وهو انتي هتحطي ايدك في حاجة وتعمر!.. والله أنا بفكر ابعت للشركة جواب تحذير.. 

همت مريم بالرد، إلا أن جمال تنبه لأحدهم متسائلا: ايه ده! هو الأستاذ ممدوح شغال معاكي هنا في الشركة! 

سألت مريم متعجبة: أنت تعرف أستاذ ممدوح سرحان منين! 

ضربها جمال على قفاها مازحا: هو أنا بياع بطاطا يا بنتي!.. ولا إنتي ناسية إن اخوكي ظابط!.. 

سألت مريم في فضول: طب ويا حضرة الظابط، تعرف منين أستاذ ممدوح! اوعى يكون من معتادي الإجرام وعامل لنا فيها طيب وكده!.. 

مسح جمال على وجهها بحركة تثير غيظها دوما، هاتفا في سخرية: انتي الافلام اللي بتشوفيها كلت عقلك.. ومعتادي الإجرام جنبك ملايكة.. يا باااي .. اسكتي بقى خليني أنادي ع الراجل قبل ما يمشي.. 

همت مريم بالاعتراض، لكن بعد فوات الأوان فقد تنبه ممدوح لنداء جمال، وهو يقف في انتظار عربة أجرة تمر من هنا.. 

أقترب ممدوح، فتبين له من يكون المنادي، هاتفا في ترحيب: اهلا يا جمال بيه! ايه الصدفة السعيدة دي!.. 

هتف جمال مطالبا في ود: اتفضل يا أستاذ ممدوح نوصلك في طريقنا.. واضح إن عربيتك مش معاك..

اعتذر ممدوح في أدب: متشكر.. مش عايز اعطلكم.. أنا هاخد تاكسي.. 

أصر جمال، فاستجاب ممدوح، ليجد نفسه فجأة وبلا مقدمات داخل عربة جمال، ملقيا التحية على مريم.. التي بادلته إياها في هدوء مصطنع، حتى أنها لم تنزل من قبيل الذوق تاركة المقعد المجاور لأخيها لأجله.. 

سأل جمال في محاولة لفتح باب للحديث، وخاصة مع صمت ممدوح، الذي كان سارحا في أفكاره حول العلاقة التي تربط مريم بسيادة النقيب جمال، الذي كان يشرف على التحقيق في حادثة نصير الراوي: ايه أخبار الآنسة دي معاكم في الشغل!.. يا رب ما تكون مقصرة رقبتنا!.. 

تطلعت مريم بنظرة جانبية لجمال راغبة في قتله، فممدوح آخر شخص ترغب في التقريع قبالته.. إلا أن ممدوح خالف توقعاتها، مؤكدا في رزانة: لا خالص.. الآنسة مريم شخصية ملتزمة وبتتعلم بسرعة وإلا مكنتش الوحيدة اللي الشركة اختارتها من بين آلاف الخرجين للتدريب هنا.. 

شردت مريم في اطراء ممدوح الغير متوقع، ولم تستفق إلا على مزاح جمال ضاربا كتفها كأنها أحد أقرانه: عفارم عليكي، وحش بصحيح.. تربيتي.. 

امسك ممدوح ضحكاته، وامتعضت مريم لأفعال أخيها العفوية، المحببة لها دوما.. والتي لا تعلم لمَ أصبحت غير مقبولة لها اللحظة في تواجد ممدوح الذي لمحت ابتسامته المرسومة على شفتيه والتي كان يقاوم أظهارها..

سأل جمال، مستفسرا عبر مرآة السيارة: نصير الراوي خرج من المستشفى! تعرف كده!.. 

هز ممدوح رأسه نافيا في صمت، ليستطرد جمال: بس أنت أكيد معاك نمرة الآنسة هاجر!.. أنا معايا رقم الشركة بتاعتهم لكن أنا عايز رقم الفيلا.. 

أكد ممدوح في هدوء، محاولا أن لا يبدو عليه الارتباك حين ذكر اسم هاجر: ايوه معايا النمرتين.. نمرة فيلا نصير بيه.. ونمرة تليفون الاستراحة الملحقة بالفيلا.. اللي هي عايشة فيها.. بس حضرتك بتسأل ليه على الآنسة هاجر! هو مش التحقيق بتاع حادثة نصير بيه اتقفل على ما أظن، ولا في أدلة جديدة ظهرت!.. 

أكد جمال في محاولة للثبات: لا أبدا.. شوية اسئلة روتينية عشان يتقفل نهائي لأنهم سابوا المستشفى من غير إخطار لنا.. ولما سألنا في الشركة قالوا نصير بيه مرجعش الشغل لحد دلوقت قلت اكيد ليرتاح في الفيلا.. بدل جو المستشفيات.. 

مد جمال كفه، مسلما ممدوح قلم ونوتة صغيرة مطالبا : معلش لو هتعبك.. اكتب لي النمرتين بتوع الفيلا والاستراحة عندك هنا ضروري.. 

كتب ممدوح بالفعل النمرتين.. وسلم جمال النوتة، ليسود الصمت بعدها.. وكل شارد في أفكاره حتى لاح بيت ممدوح، فاستأذن وغادر العربة شاكرا.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

كانت تتجنبه.. أدرك ذلك من اختفائها الغامض بعد تلك الليلة بحجرة جده فضل، حيث وجدها تبكي في وجع عجيب.. لم يعرف له تفسيرا حتى هذه اللحظة.. وبشكل لا إرادي أمسك نفسه متلبسا بضم أصابع كفه على موضع كفها ساعتها.. مستشعرا أن الإحساس ما زال عالقا بذاكرة كفه.. استغفر في محاولة لتهدئة روحه المضطربة من أثر غياب قسري فرضته هي بلا جريرة منه.. وتعجب .. كيف استطاعت أن تتحنب حتى الصدفة في لقاء قد يحدث بينهما وخاصة بعد انتقال إقامتها لحجرة منيرة القابعة بنفس الرواق الكائن فيه حجرته... والتي لا يبعد بابها عن باب غرفته إلا عدة خطوات!.. 

كان حبيب محقا، فأنس الوجود ذاتها، تدرك أنها وضعت نفسها في حالة عزلة تامة.. لم تكن تخرج من غرفة منيرة تقريبا والتي تعجبت من حالة أنس وعلقت عليها لكن أنس استطاعت ايجاد المبررات الكافية التي جعلت منيرة تكف عن دفعها للخروج من الغرفة والنزول للحديقة كعادتها.. لا تعرف هل هي تنأى بنفسها عن مقابلة حبيب بعد ما جرى في غرفة جده فضل، شاعرة بالحرج لمواجهته بعد أن كان شاهدا على أشد لحظاتها ضعفا!.. أم أنها تحاول أن تواجه نفسها بحقيقة تلك المشاعر التي اعترفت بها لنفسها قبل ظهور حبيب ليلتها!.. 

تلك المشاعر التي فاجأتها كبركان خامد ثار على حين غرة.. فاحرقت حممه كل أثر لشك أو ريبة في ماهية تلك المشاعر.. ومدى صدقها.. لتنجلي الحقيقة عارية بلا رتوش أمام ناظري روحها.. حين طل بوافر هيبته ومجمل اهتمامه.. مادا كفه الحانية في لحظة فارقة من صدق.. لتجد أن الفرار هو الحل.. الفرار منه ومن نفسها واعترافها.. من مفاجأة مدوية هزت دعائم روحها وبعثرت ثوابتها بكل دروب الحيرة والتيه.. 

تنهدت وهي تطل على الحديقة من خلف ستار النافذة، والحجرة ساكنة معتمة بلا أنوار.. فما كان ينقصها حيرة فوق حيرتها.. جاءت إلى هنا حتى تتخذ القرار النهائي فيما يخص طلب نصير بشراء نصيبها من ورث أمها.. وها هي اللحظة غارقة في خضم آخر من الحيرة .. ليس فقط لأنها لم تتخذ قرارها بشأن البيع.. بل لأن هناك مشاعر استجدت.. ظهرت ربما في وقت حرج.. وقت كانت هي فيه.. أحوج ما تكون لصفاء الذهن وصواب القرار.. 

دخلت منيرة وضغطت زر الإضاءة وهي ما تزل على شرودها، فلم تنتبه أن ظلها ظهر اللحظة خلف ستار النافذة الشفاف.. مؤكدا على استتارها خلفه، ليرى هو بالأسفل ظلها.. وقد تنبه حين سطع الضوء وهو يسير لداخل السراي قادما من صلاة العشاء.. 

لا يعلم لمَ شعر بالسعادة حين أدرك أنها وعلى الرغم من عزلتها التي فرضتها على حالها، تقف من خلف الستار تطل على موضع اجتماعهما.. لعلها تشتاق.. فتقرر كسر عزلتها الحمقاء والعودة لسابق عهدها.. 

عادوه الإحباط وهو يسير نحو التعريشة وقد ظل ضوء الحجرة ساطعا لكن هي من توارى ظلها عن المشهد.. 

كانت منيرة قد دخلت لتحضر بعض الأغراض من أجل حمامها المسائي للحظة قبل أن تخرج مجددا، تاركة الغرفة تغرق في الظلام كما تفضلها أنس التي عادت تطل من خلف الستار لتدرك أن حبيب صار بالأسفل وقد عاد أخيرا من صلاته بعد أن أوصل الشيخ معتوق لداره.. هالها كيف اصبحت تحفظ عن ظهر قلب خط سيره.. كيف ومتى جرى هذا الاعتياد الذي تسلل لإدراكها فصار جزءًا من وعيها!.. 

هذا كثير يا أنس.. هكذا حدثتها نفسها.. لكن ما البديل يا ترى! هنا توقف المنطق الذي درسته ليجيب بمنطق على سؤال عادي!.. 

انتفضت في اضطراب، حين جاءتها صرخة سالم من الأسفل.. أعقبها صرخة آخرى من نجية فزعا على ولدها.. ما دفعها بلا وعي للهرولة خارج الغرفة.. هابطة الدرج في عجالة نحو الحديقة لتنظر ما جرى.. فإذا بسالم وقد أصاب قدمه سلخة من سعف النخيل.. انغرست 

بقوة في لحم باطن القدم اليمنى.. ونزيفها لا يتوقف.. 

تنبه حبيب لوجودها وهو يحاول إسعاف سالم بكل الطرق.. لتهتف هي: نبعت لدكتور سرور!.  

أكد حبيب: سرور لسه مجابله فالصلاة عنده نبطشية بالمستشفى الليلة.. والعربية مش موچودة .. شبل راح بها مشوار.. 

هتفت أنس: طب نطهرها لحد ما نشوف هنعمل له ايه!.. 

هم حبيب بالنهوض، مؤكدا: هروح اچيب الشاش والجطن من فوج.. وارچع.. 

لا تعرف ما الذي دفعها لذلك، لكنها كانت الأسرع حين هرولت نحو درج السراي مطالبة: خليك أنت يا حبيب بيه، وأنا هجيب اللازم.. 

هتف حبيب منبها: دي في اوضتي ع ال.. 

قاطعته دون أن تنتبه لمقصده: تمام.. تمام.. مندفعة نحو الدرج ومنه لداخل الرواق، وما أن وصلت باب حجرته، حتى أدركت إلى أي حمق أوصلها اندفاعها الغير محسوب.. لكن ما كان من سبيل للعودة.. ما حثها على إدارة مقبض باب حجرته والدخول في هوادة.. حاولت أن تركز على إيجاد ادوات الاسعافات الطبية التي أخبرها مكانها وهي في خضم اندفاعها لم تستوعب كالعادة.. ها هي.. وقعت عيناها على موضعها فتنهدت في راحة ما أن وجدتها.. كانت هناك على الطاولة البعيدة في أقصى ركن بالغرفة.. حملتها سريعا.. وما أن همت بالمغادرة.. حتى تصلبت موضعها وهي تبصر قبالة ناظريها.. ما لا يمكن أن يكون.. 

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة