-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 42 - الثلاثاء 24/6/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثاني والأربعون


تم النشر الثلاثاء 

24/6/2025

ـ يا غولة عينك حمرا.. 


القاهرة ١٩٥٤..

رفع فضل صوته مستهزئا: يعني كده كملت.. لا دستور ولا برلمان.. لا حياة نيابية بعد حل الأحزاب.. بقى حد يقول كده!.. 

تطلع نحوه أحد زملائه، ليهتف في حنق مدعيا: أيوه.. هو ده الصح.. الثورة لازم تثبت أقدامها.. لازم تتخلص من كل الخونة والعملاء.. عشان تستقر أوضاع البلد.. 

تطلع فضل لزميله في حنق، وما أن هم بالرد عليه، حتى هتف باسمه رئيس التحرير يستدعيه، لينهض فضل نحو مكتبه، مغلقا الباب خلفه، ليهتف به رئيس التحرير في حنق مكتوم: يا فضل، حرام عليك نفسك، بلاش كلام قدام زمايلك بالذات الأخ اللي اسمه صبرة العدوي.. ده راجلهم هنا.. وكل كلمة بتتقال بتوصل لهم بالحرف.. 

تعجب فضل: صبرة العدوي!.. ده كان.. 

قاطعه رئيس التحرير: ده ملوش ملة ولا دين، ولا تقولي اشتراكي ولا شيوعي.. ده على كل لون.. وعايز أقولك إنه اصلا مفروض علينا تعيينه هنا، يعني لو الأمر ب ايدي مدخلوش من باب الجريدة.. بس حكم القوي.. خلاصة القول.. امسك لسانك وخفف حماسك يا فضل، وابقى حوش يا سيدي كلامك لصحيفة المعارضة اللي بتكتب فيها تحت اسم مستعار.. 

همس فضل محرجا: هو حضرتك عرفت!.. أنا مكنتش عايز أقولك عشان.. 

قاطعه رئيس التحرير مؤكدا: يا فضل انت زي ابني وأنا خايف عليك.. والمجتمع الصحفي اوضة وصالة.. وأنا مش ابن امبارح فالكار ده.. أنا فالصحافة من قبل ما أنت تتولد.. وحافظ أسلوبك.. ومقدر حماسك.. بس حافظ على نفسك.. وخد بالك.. و..

ارتفع صوت جلبة بالخارج، ما دفع رئيس التحرير ليمد يده محركا مؤشر الراديو ليعلو صوته الذي جعله في أدنى مؤشر لحظة دخول فضل الحجرة، لترتفع منه هتافات جمال عبدالناصر مختلطة بهتافات صاخبة من ميدان المنشية بالإسكندرية..«أيها الرجال، حياتي فداء لبلادكم.. دمي فداء لمصر»..

هتف فضل متعجبا: هو ايه اللي بيحصل بالظبط!.. 

اندفع صبرة العدوي لداخل الحجرة دون أن يطرق الباب حتى، هاتفا في ذعر: حاولوا يقتلوا جمال عبد الناصر.. كانوا عايزين يغتالوه ويضيعوا البلد.. أنا مسافر اسكندرية حالا اغطي الحدث..

اندفع صبرة مغادرا، دون أن يأذن له رئيس التحرير بالسفر، ليتطلع الأخير لفضل هاتفا: شايف!.. أنا مستبعدش بعد شوية ألاقيه فوق الكرسي ده.. وأشار لمقعده كناية عن منصب رئاسة التحرير مستطردا.. ربنا يستر من اللي جاي.. 

ليصمت فضل دون أن ينطق حرفا.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٥٤..

اندفع مصطفى لداخل السراي مهرولا، ومن قبله التوأمتان أمينة وبرلنتي.. باحثتان عن سعاد للعب معها، حتى إذا ما طالع جده سعد، هتف في اضطراب: يا چدي.. امي طلباك تروح لها حلا.. 

تنبه سعد منزعجا: ايه في يا مصطفى!.. أبوك هناك يا ولدي!.. 

هز مصطفى رأسه نافيا، مؤكدا في صوت مضطرب: لا، بابا منزلش إجازة لسه.. بس هي جالت لي نادم چدك سعد.. وبعتتني أنا وأخواتي على هنا. 

انتفض سعد منفذا، إلا أن أنس الوجود أكدت عليه في قلق: خلي بالك على حالك يا سعد.. بلاش تتعصب أو تشد فالكلام مع أي حد.. عشان صحتك.. 

هز سعد رأسه متفهما، واندفع نحو دار الحرانية التي ما أن وصلها، حتى كانت صفية في استقباله في اضطراب، مؤكدة في نبرة مهزوزة: إلحجني يا بابا، عمتي توحيد وجعت من طولها، الداكتور لسه ماشي، وهي على حالها غيبة عننا.. 

اندفع سعد لداخل غرفة أخته فرأها ممددة على فراشها، لا تحرك ساكنا، ما دفعه ليهتف باسمها في ذعر، وهو يربت على رأسها في حنو: توحيد!.. ردي على اخوكي يا توحيد.. أني سعد يا بت أبوي.. 

بكت صفية، ليهتف سعد زاعقا: ايه فيها! الحكيم جال ايه! وايه اللي وصلها لكده!.. 

أكدت صفية وهي تزيح دموعها: الداكتور جال صدمة، وشوية وتفوج.. أصلك هي.. سمعت إن سميح اتجبض عليه في مصر.. في جضية المنشية.. تهمينه فيها مع ناس تانية.. 

هم سعد بالكلام، إلا أن صرخات امرأة قادمة من على مقربة ارتفعت في الم، لتستطرد صفية في حنق: وادي مرته التانية بتولد.. ومديحة معاها.. 

هتف سعد متسائلا: ونچيب ولده، مبعتهوش مع العيال ليه! 

تنهدت صفية مؤكدة: هو اللي محرچ على مديحة إن ولدها يلعب مع البنات، وهي بعدته عنهم عشان مينكدش عليها.. 

هتف سعد مناديا: يا نچيب!.. 

طل الصبي أمام باب الحجرة ملبيا في طاعة، ليأمره سعد في حنو: روح يا ولدي إلعب مع ولاد عمك فالسرايا.. ومع رؤوف وسعاد.. ما تجعدش لحالك كده.. 

همس نجيب: بس أبويا.. 

قاطعه سعد مؤكدا: متخافش.. أبوك ميجدرش يجول لي لاه.. روح يا حبيبي.. 

اندفع نجيب في سعادة مهرولا للخارج، ليسمع سعد لحظتها همس أخته مهمهمة، فاندفع نحو فراشها في لهفة تتبعه صفية، هاتفا في نبرة تقطر قلقا: انتي زينة يا توحيد!.. 

تطلعت توحيد لسعد في تيه لبرهة، قبل أن تسأل في أحرف متقطعة: ولادي يا سعد.. خدو سميح، مش هلحج أشوفه.. ومختار.. هياچي يلحج أمه!.. 

بكت صفية، ليهتف ىسعد منزعجا: وه، ليه الحديت الماسخ ده يا بت أبوي!.. هتجومي ترمحي دلوجت.. ما هو أني كنت مكانك من كام شهر وجمت اها.. وانتي كمان هتجومي وتفرحي بعيال عيالهم.. ده مرت سميح باينها ولدت.. سامعة الزغاريد والبشرى الزينة!.. 

عادت صفية من الخارج بعد أن اطمأنت على حال زوجة سميح ومولودها.. لتهتف ما أن دخلت الغرفة على عمتها، في محاولة لبث السعادة لقلبها: مبروك يا عمتي.. ربنا رزج ب محسن.. ربنا يبارك ويتربى فعزكم.. 

ابتسم سعد مؤكدا: محسن سميح وهدان الحراني.. يتربى فعزك وعز چده وأبوه.. 

همست توحيد في حزن ونبرة واهنة: وهو فين أبوه!.. الدنيا فرطت من يدنا يا سعد.. كل حاچة بجت ماسخة وما لها طعم، كنها بتكرهنا فيها لچل ما نفارج واحنا مش باكيين على حاچة.. 

دمعت عينى سعد، رابتا على يد أخته في محبة: واه يا خية، متخلعيش جلبي عليكي اومال!.. إنتي زينة وكيف البدر فتمامه.. 

شهقت صفية وهي تحاول كتمان نوبة بكاء جديدة ولم تستطع، لتهمس توحيد في وهن: ايجى عدي على وهدان يا سعد.. كان رايد يتونس بك.. خد بحسه ومتفتهوش لحاله.. 

أكد سعد مطمئنا: ترتاحي إنتي بس، وكله هايبجى عال.. لحد ما تجومي بالسلامة.. 

همست توحيد في هوادة: مختار مش چاي! اتوحشته يا صفية! 

أكدت صفية من بين دموعها: بعتناله خبر يا عمتي، مسافة السكة وتلاجيه هنا.. 

هزت توحيد رأسها متفهمة، وهمست في هوادة: أني هنعس.. وابجو صحوني لما مختار ياچي.. 

راحت توحيد في النوم سريعا، كان ذاك تأثير الدواء على ما يبدو، ليخرج سعد من الغرفة بقدم مثقلة.. غير راغب في مغادرة حجرة أخته الوحيدة.. ينهش القلق قلبه على حالها.. 

❈-❈-❈

إسكندرية ١٩٥٤.. 

وقف على رصيف الميناء يتطلع للسفينة التي من المفترض أن يركبها للخروج من مصر لفرنسا، كان يقف متجمدا.. متصلب الجسد.. وكأنه قد التصقت قدماه بأرض رصيف الميناء رغبة في عدم المغادرة.. ورفضا صريحا للرحيل.. وما تنبه أن عليه التحرك إلا حين دفعت زوجته رحيل بكتفه تحثه على التقدم مع الجموع المتقدمة نحو درج الباخرة.. قبل أن يحل موعد قيامها.. 

سار نعيم في اتجاه السلم الذي صعده الكثيرون في خفة وحماس.. إلا هو.. فقد سار فوقه كمن يسير على صراط من شظايا لا خيار لديه إلا المسير.. وتحمل ألم الدرب الموجع الذي يفضي في الأساس لنهاية لا يرغبها.. 

وصل نعيم ورحيل لسطح الباخرة أخيرا.. ليترك نعيم كل ما يحدث حوله من فوضى وصراعات، ليصل إلى افريز الباخرة الحديدي.. تمسك به في قوة، متطلعا نحو الإسكندرية وحي الميناء الماثل أمامه في مهابة.. هل سيرحل حقا! هل عليه أن يغادر هذه الأرض! وإلى أين وهو في مثل هذه السن!.. إلى بلاد آخرى جديدة، لا يعلم لغتها.. ولم يألف العيش فيها.. كتب عليك وعلى بني جلدتك الشتات المر يا نعيم!.. تلفظكم الأرض كنبت عشوائي يحاول أن يمد جذوره عنوة في أرض تعاف أحتضانها.. 

تقدمت رحيل من نعيم، مدركة لذاك الصراع الذي يدور رحاه بدواخله، رابتة على كتفه في تعاطف، مؤكدة في هوادة: كام يوم ونوصل فرنسا عند بنيامين وسارة.. ونشوف دنيا غير الدنيا.. وساعتها هننسى كل اللي فات يا نعيم ونعوضه بذكريات تانية.. 

هتف نعيم متسائلا، وعيناه ما تزال مركزة على الحي قبالة ناظريه: هتقدري تنسي مصر يا رحيل! ده عمرنا كله هنا!.. 

تنهدت رحيل: ما باليد حيلة.. غصب عنا.. هو لو كنا قعدنا.. حد عارف كان ممكن يعملوا فينا ايه!.. 

استقر الركاب، وعلا نفير الباخرة معلنة عن الرحيل.. ليتطلع نعيم نحو الإسكندرية ورصيف مينائها الذي بدأ يبتعد عن جسد الباخرة في هوادة.. قبل أن يقسم بينه وبين نفسه في قهر.. أنه عائد لا محالة.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٥٤.. 

دخلت صفية على زوجها لتجده يجلس القرفصاء على أرض الغرفة متطلعا لصورة أمه التي يحملها بين كفيه في شرود.. عيناه حمراء ملتهبة من دموع محتقنة بالاحداق.. ابت رجولته أن يزرفها علنا.. حزنا ووجعا على فراق أمه الغالية.. 

ضغطت صفية على حالها، تحاول التظاهر بالتماسك والصلابة أمام ذاك الحدث الجلل.. فرحيل عمتها توحيد هكذا ما بين طرفة عين وانتباهتها جاء قاصما لظهر الجميع وأولهم والدها الذي أصبح في حال غير الحال.. 

جلست صفية جوار مختار في هوادة، هامسة بصوت حاولت على قدر استطاعتها أن يخرج ثابت النبرة: وحد الله يا مختار.. الحمد لله إن هي شافتك جبل ما تروح.. وكانت روحها متعلجة فسميح.. لكن أمر الله.. 

هتف مختار زاعقا في ثورة: سميح ده هو أساس المصايب كلها.. ياما جلت له أبعد عن السكة اللي أنت رايح فيها دي.. يجعد يعيد ويزيد في كلام ملوش عازة.. جلت له من بعد الثورة الوضع ميطمنش بين السلطة الچديدة وچماعتكم.. والأيام الچاية عليكم مش ليكم.. جال لي هنشوف.. واديني شوفت.. دول استهدفو چمال عبدالناصر.. واهي امي راحت من تحت راسه.. وهو كمان محدش عارف مصيره.. ولا أنا بعد عملته دي مصيري هيبجى ايه!.. ثم بدأ يهزي مجددا.. أمي راحت يا صفية.. أمي راح..

ليعلو صوت نحيب مختار، فتتلقفه صفية بين ذراعيها ، تضمه لصدرها محاولة التخيف عنه.. وهي تشاركه النحيب في قهر.. 

مر الوقت في حزن.. لكن ما أن استشعرت صفية أن مختار قد أفرغ ما بجعبة قلبه من دموع، حتى ربتت على كتفه في حنو هامسة: مختار! الحچ وهدان مش جابل يحط في چوفه لجمة.. ما أنت واعي.. مكنش بيدخل چوفه الزاد إلا من يدها.. وأنا مانعة حد يدخل له من اللي فالدار عشان ميوعاش للأسود اللي الكل لابسه.. جوم شوفه يمكن يسمع منك وياكل.. أنا غلبت معاه والله.. 

هز مختار رأسه متفهما.. ونهض ليغسل وجهه مزيلا أثر البكاء والدموع.. محاولا أن يرسم بسمة كاذبة على شفتيه وهو يدفع باب حجرة أبيه.. لكنه انتفض ما أن وجد الفراش شاغرا.. اعتقد أنه بالحمام ربما.. لكن لم يعثر له على أثر في الدار كلها.. 

اندفع مختار لداخل السراي، ليطلع سعد الذي كان يجلس في الحديقة في تيه.. حتى أنه لم يعِ لحضور مختار.. الذي سأل في لهفة مضطربا: هو بابا مچاش هنا يا خالي!.. 

انتفض سعد السؤال: أبوك! ده بينزل من على سريره بالضالين يا ولدي، هياچي هنا كيف! .. ثم تنبه سعد لمغزى السؤال، هاتفا في ذعر: وه، هو كنه مش موچود فالدار!.. 

أكد مختار في قلق: ايوه يا خالي.. جلبت عاليها واطيها، مش موچود.. جلت يمكن يكون چه يتونس بك.. أصله لسه ميعرفش إن امي ..

ساد الصمت لبرهة، والعيون تقاوم دمعها.. قبل أن يهتف سعد مؤكدا في نبرة متحشرجة: لو كان الشيخ رضا لساته عايش، كنت جلت لك راح على داره، لكن دلوجت أني عرفت هو فين.. تعال وراي.. 

اندفع مختار خلف خاله سعد، لعل استنتاجه يكون صحيحا ويجد أبيه، وما أن اقتربا من تلك التلة المنخفضة نسبيا، حتى ساعد مختار خاله على الصعود لمقدمتها، ومنها إلى مدخل مقابر آل وهدان الملاصقة لمقابر الرسلانية.. ليقع ناظري مختار على جسد ملقى فوق قبر أمه.. فترك خاله يتبعه مندفعا نحو القبر في لهفة، ليجد والده منكفئا على القبر يحتضنه في تشبث، همس مختار وهو يحاول أن ينزع والده بعيدا عن القبر في لين: ليه كده يا حچ تخلع جلوبنا عليك!.. 

همس سعد الذي كان قد وصل لموضعهما، جالسا بلا اكتراث للثرى الذي علق بعباءته متربا إياها، معاتبا في تأثر: كده برضك يا وهدان! طب مش تجول لي انك چاي على هنا، كنت اچي معاك أزور الغالية!.. 

رفع وهدان رأسه في تثاقل، هامسا: كلكم داريتو عليا مرواحها.. كني مش عارف إنها راحت.. توحيد عمرها ما خلفت معاي معاد.. كانت طلتها عليا صبح كل يوم.. ومدت يدها باللجمة كنها بتجول لي عيش يا وهدان إني لسه حسي فالدنيا.. ولو بحبي هاچي لك لحد عندك برضك.. بس محسبناش إنها تروح وتسيبني لحالي.. مليش جعاد بعدها يا سعد.. مليش فالدنيا مكان من بعدها يا حبيب الغالية.. سيبوني وروحو.. خلوني چارها.. 

شهق مختار باكيا في وجع قاهر.. بينما تماسك سعد على الرغم من صوته المهتز النبرة تأثرا: وه يا وهدان!.. بجي ده كلام يرضي ربك برضك!.. جوم ووحد الله.. كلنا رايحين.. وميعادنا طال ولا جصر مهواش بعيد يا غالي..

ياللاه.. هم معاي.. جِل أبوك على ضهرك يا مختار.. تاچي معاي السراي نتونسو سوا.. ولا ترچع دارك!.. 

هتف وهدان في وهن: لاه، هروح داري.. أروح منها على سريري.. 

همس سعد محوقلا.. ومختار يدفع بجسد أبيه ليستقر على ظهره، ليقبض وهدان على بعض من ثرى قبر توحيد، بكف من حديد.. وكأنه يحمل بعض من عبق أنفاسها التي يشتاقها مختلطا بثرى قبرها الذي يضم جسدها.. مؤنسا إياه حتى لقاء.. 

❈-❈-❈

القاهرة مطلع ١٩٥٥.. 

هم ناجي بالنهوض من طاولة الإفطار، إلا أن إلهام عاتبته في دلال: إحنا قلنا ايه! 

ابتسم ناجي مكررا درسها: تسلم ايديك يا حبيبة قلبي.. 

هتفت إلهام مذكرة: و..! 

قهقه ناجي مستطردا: واخلص طبقي.. بس أنا مستعجل يا روح قلبي.. لازم فعلا امشي دلوقت حالا.. 

ابتسمت إلهام وهو يلثم جبينها في عجالة، متسائلا: بعتي برقية التعزية لمختار يا إلهام زي ما اتفقنا!.. 

أكدت وهي تساعده في إكمال لبس سترة زيه الميري: ايوه طبعا يا ناجي، ودي عايزة كلام.. ده المفروض كنا نروح نعزي بنفسنا.. والدته ووالده في نفس الأسبوع، صعبة أوي يا ناجي!.. ده غير موضوع أخوه سميح اللي اتاخد في حادثة المنشية .. ده كمان حكاية تانية!.. 

هز ناجي رأسه في إيجاب، مؤكدا: والله لولا حالتك، والسفرية اللي طالعها اندونسيا.. مؤتمر عدم الانحياز.. كنت قلت لك نسافر لهم.. وفعلا موضوع اخو مختار ده ربنا يعديه على خير لأنه أكيد هيأثر عليه هو شخصيا.. ربنا يعينه.. خلى بالك على نفسك عشان ممكن أتأخر النهاردة.. التحضير لسفرية باندونج مع الريس عبد الناصر واخدة وقتنا.. 

همست إلهام في امتعاض: هو خلاص بقى الريس! واللواء محمد نجيب! مش هو اللي المفروض يسافر بما إنه الرئيس الفعلي للبلد لحد دلوقت على الأقل!.. 

هتف ناجي معاتبا: وبعدين! إحنا مش قلنا بلاش نفتح الموضوع ده! أنا زيك مش موافق على اللي حصل لسيادة اللواء، بس محدش بياخد قرار فردي.. مجلس القيادة الأغلبية فيه كانت موافقة لاعتبارات كتير.. واهو خلاص ينحط الدستور ويتعمل عليه استفتاء وكل حاجة ترجع لوضعها الطبيعي.. 

همست إلهام: ناجي! أنا خايفة.. على أد ما أنا فخورة إنك واحد من صناع القرار.. على أد ما أنا مرعوبة.. وخايفة عليك.. 

ضمها ناجي في محبة، هامسا: إنتي بس عشان بتحبيني شويتين تلاتة زيادة.. خايفة كده.. بكرة يجي الأخ ولا الأخت ويخدوكي مني.. 

ابتسمت إلهام وهي تملس على بطنها المكورة، مؤكدة في عشق: ولا حد فالدنيا ممكن ياخدني منك.. أو يكون في نص غلاوتك عندي يا ناجي.. 

همس ناجي متنحنحا: لا.. كده في مؤامرة عليا عشان اقعد جنبك.. 

قهقهت إلهام وهي تدفعه بعيدا عنها، تحثه على المغادرة.. ليطبع قبلة أخيرة على جبينها قبل أن يغادر في عجالة..

❈-❈-❈ 

الرسلانية ١٩٥٦..

كان الجميع ملتفين حول مائدة العشاء، التي جلس عليها الكبار.. بعد أن انتهى عشاء الأولاد وارسلوا لغرف نومهم.. مد فضل كعادته يده مديرا مؤشر الراديو قبل انضمامه إلى والديه وزوجته.. متطلعا نحو أبيه مقترحا: بجولك ايه 

يا باشا.. أنت صحتك كده مش عچباني.. تعالى نطلع لنا يومين اسكندرية أو راس البر.. تغير جو بدل قعدتك هنا في حر الصعيد .. ايه رأيكم!.. 

همت فايزة بالحديث، إلا أن صوت جمال عبد الناصر الذي أصبح رئيسا رسميا بالاستفتاء الشعبي مع إقرار الدستور.. اسكتها مع انتفاضة فضل في اتجاه الراديو يرفع مؤشر الصوت لمستوى أعلى.. وجمال عبدالناصر يقول..

"النهاردة يا إخوة، إحنا حنُعلن لكم خبر سعيد جداً... شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية."

هتف فضل في ارتباك: ايه اللي بيجرا ده!.. 

هتف سعد في حماس: عفارم عليه.. حجنا ورچع..

تعجب فضل متطلعا لوالده: انت موافجه يا بابا.. مش عادتك!.. 

لم يعقب سعد لبرهة، منصتا وعبد الناصر يزعق معلنا"أُعلن تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، شركة مساهمة مصرية،

تؤول جميع أموالها وحقوقها والتزاماتها إلى الدولة."

هتف فضل معارضا: بس ده كده قال للغولة.. يا غولة عينك حمرا.. وكل الدول اللي لها مصالح فالقنال هتتحد ضدنا.. 

هتف سعد مؤيدا: اللي عمله هو الصح، البنك الدولي رفض يمول بنى السد العالي.. راح جال مبدهاش.. إيراد القنال يموله.. 

هتفت فايزة: بس نهاية الامتياز بعد ١٢ سنة يا عمي.. كان صبر لحد البلد ما تجف على رچلها.. الأمور لسه مش مستقرة.. 

هتف فضل مؤيدا: بالظبط.. ده لسه مبجلهوش شهر فالسلطة بشكل رسمي.. ياخد قرار صعب زي ده.. ولا هي عنترية مش محسوب عواقبها.. ولا ممكن تجر ع البلد ايه!.. 

هتف سعد، وهو يلتقم قليلا من الجبن شاردا: تعرف!.. ولا هتعرف منين!.. إذا كان أني بذات نفسي موعاش ع الحكاية دي.. بس أبوي حكالي إنهم سحبوا چدي ع السخرة لچل ما يحفروا القنال.. ولولا چدي ما هرّب أبوي من بلدهم وكان أيامها عيل محصلش ١٥ سنة.. كانوا خدوه.. چدك هرب على هنا.. وحط يده على حتة أرض هنا.. مكنتش لسه لا رسلانية ولا يعرفو لها اسم.. وجعد يعزج ويجلع فيها.. سنين بطوله.. محلتوش إلا دراعه وعزمه إنه يكون صاحب ملك.. عشان ميكونش هو وعياله إلا أعيان محدش يجدر ياكل حجهم.. ولا يسحبهم للسخرة.. يموتو هناك من الچوع والمرض.. وجلة الجيمة.. 

همست أنس الوجود مبهورة: عمرك ما حكيت لي الحكاية دي يا سعد باشا!.. 

هز سعد رأسه مؤكدا، وهتف مفسرا: يوم ما اتاخدت الأرض في الإصلاح كنت هموت.. لأني يوميها حسيت بالعچز.. بعد السنين دي كلها اللي چدي دفع فيها التمن من روحه.. وأبوي حفر فيها الأرض بضوافره.. ابجى أني اللي تروح من يدي.. كانت واعرة عليا جوي.. 

ربتت أنس الوجود على كف سعد في تعاطف.. ليصمت الجميع متناولا طعامه، وعبد الناصر يكمل خطابه.. بينما يفكر فضل في العواقب المحتملة لقرار كهذا.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

وصل الوقت لمنتصف الليل ولم تظهر منيرة.. طاف حبيب وشبل النجع كله بلا فائدة، حتى أنه عاد مرة آخرى لمقر الجمعية الخيرية التي كانت آخر مكان شوهدت فيه منيرة.. ليقر حارسها في ثقة: خرچت جبل المغرب من هنا!.. 

دفعه حبيب في حنق، حين رفض إدخاله لمقر الجمعية وتبعه شبل، فتشا المقر كله بطابقيه ولا أثر لها.. 

غادر حبيب الجمعية الخيرية وهو تائه لا يعلم ما عليه فعله، ليسأله شبل في تردد: هنعمل ايه يا حبيب بيه!.. تكون راحت فين!.. 

اندفع حبيب مهرولا صوب جهة ما، وشبل خلفه لا يدرك إلى أين يذهب سيده.. 

❈-❈-❈

الإسكندرية ١٩٩١..

وضع سراج صينية الشاي قبالة والده، وسأل وهو يناوله كوبه في نبرة محايدة لا تحمل أي إشارة أو دلالة ما: هو فين جرايبنا من ناحية أمي! مش المفروض أبوها كان تاجر خشب هنا في إسكندرية! ليه منعرفهوش، ولا في بينا وبينهم أي اتصال! 

اضطرب كوب الشاي بيد صبري، وأكد وهو يرفعه ليرشف الرشفة الأولى: مين جال! كان بينا كل خير بس هي وحيدة أبوها وأمها.. وماتوا.. واصل عيلتهم من رشيد.. وسنين مرت والصلة اتجطعت.. الدنيا تلاهي.. 

سأل سراج مستفسرا: ولا حتى فوفاة أمي شفت لها جرايب فالعزا!.  

هتف صبري حانقا: وه يا سراچ! خبر ايه! بتصحي المواچع ليه يا ولدي! كانوا موچودين.. اللي دري بالخبر ياميها چه، بس احنا وجتها كنا ف ايه ولا ف ايه!.. عشان اجولك ده فلان وده فلان.. چم عملوا الواچب وراحوا لحالهم.. 

سأل سراج من جديد: يعني هم من رشيد نفسها ولا منين!.. 

هم صبري بالرد، إلا أن الهاتف علا رنيته، ما دفع سراج للنهوض مجيبا، دقيقة واحدة ووضع السماعة، مندفعا صوب حجرته، ليساله صبري في قلق: ايه في مخليك متسربع كده!.  

أكد سراج وهو يضع بعض من ملابسه في حقيبة سفره، في ذات اللحظة التي كان يرتدي فيها ملابسه، مفسرا: معلش يا حچ، لازما أنزل دلوجت!

تعجب صبري: لسه يومين ع الاچازة ما تخلص! .. 

قبل سراج هامة والده في عجالة مبررا: معلش.. تتعوض يا حچ.. طواريء ومليش يد.. لازما أروح.. 

ربت صبري على كتف ولده مودعا: وماله يا حبيبي شغلك برضك.. تروح وترچع بالسلامة.. 

اندفع سراج مغادرا.. وعينى صبري تتابعه متضرعا لله أن يحفظه.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

وقف على التلة العالية المشرفة على نجع الرسلانية، متطلعا نحو البعيد على الرغم من العتمة التي تسربل المكان.. محاولا إجلاء النظر ليطمئن أن هناك من هو قادم من الأسفل كما هو متفق.. فقد حان الموعد المتفق عليه للمقابلة المزعومة.. لكن على ما يبدو أن لا أحد هناك.. 

زفر الأمير في حنق: أنا مكنتش رايد الحكاية دي م الأول.. جلت بلاها حد ما البلد الفجرية دي يدخل لنا ف مصلحة.. 

هتف ذراعه الأيمن ومستشاره الأمين: ما هو مننا وعلينا برضك يا أميرنا.. واحد م الچماعة وأعلن ولاءه وحسن إخلاصه.. ومفيش أفضل منه يجوم بالمهمة دي.. بس كان لازما يبجى فيه مجابل.. وهو مطلبش كتير.. دي حاچة لا تذكر جدام اللي هيعمله.. واللي زيه مكسب لينا ويجدر يسهل لنا حاچات كتير.. ولا ايه!.. 

زفر الأمير في ضيق: طب هتفضلو كتير واجفين كده!.. مش فيه ميعاد!.. 

أكد مساعده: الغايب حچته معاه يا أميرنا.. ومحدش عارف ظروفه ايه!.. ولا ايه اللي آخره.. المهم لينا نسلم ونستلم.. 

هتف الأمير أمرا: أنا داخل چوه.. ولما تلمحوه چاي برچلته.. ادوني خبر.. 

هتف مساعده: سمعا وطاعة يا أميرنا.. 


❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

لم تجلس مكتوفة الأيدي.. كانت تستشعر أن الأمر جلل، وان اختفاء منيرة غير طبيعي وراءه الكثير.. لذا ما أن خرج حبيب باحثا عنها، وبصحبته شبل.. حتى جذبت سالم من يده، وخرجت مسرعة نحو موقف سيارات الأجرة.. راكبا إحداها وفي خلال دقائق معدودة كانت تترجل بصحبة سالم نحو أقرب سنترال.. طلبت نمرة ما .. منتظرة الإذن من العامل للدخول لكابينة معينة.. لتستقبل مكالمتها.. 

دقائق في انتظار حارق.. حتى إذا ما أشار الموظف لكابينة ما حتى اندفعت مقرة: سراج بيه.. الو.. أنا أنس الوجود.. لازم تيجي حالا.. منيرة اختفت.. أنا خايفة يكون في مصيبة من ورا الموضوع.. 

لم ينطق سراج حرفا على الطرف الآخر إلا جملة واحدة: أنا جاي حالا.. مسافة السكة.. 

أغلقت أنس الوجود الهاتف، واندفعت مغادرة السنترال بصحبة سالم.. انتظرا لفترة حتى يجدا عربة لتعود بهما للرسلانية.. فما كان من أنس إلا عبور الطريق في اتجاه أحد الاكشاك.. لشراء زجاجة مياه معدنية.. فكادت أن تدهسها

عربة مسرعة.. لكنها استطاعت تفاديها بأعجوبة متقهقرة للخلف والسيارة تمر بها.. عيناها لقطت داخلها.. لتتفاجأ بعدة رجال ملابسهم جميعها بيضاء.. بينهم كانت منيرة تعافر من أجل الخلاص.. 

صرخت في صدمة.. مندفعة كالمجنونة تطلب أن يقلها أحدهم لتتعقب هذه السيارة التي كادت أن تدهسها.. لكن لا مجيب.. الكل ظن أنها تهزي.. حتى سالم نفسه.. جذبها إحدى السيارات التي كانت وجهتها الرسلانية.. ليعودا في عجالة.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

دفع حبيب الخفراء أمام بوابة دار العمدة في قوة، وبمساعدة شبل، مهرولا للداخل في ثورة، حتى إذا ما وصل للاعتاب زعق في صوت هادر: أنت ياللي اسمك عزت!.. تعلالي هنا.. خليك راچل ووريني حالك.. 

ظهرت سنية تهبط الدرج في حنق زاعقة: ايه في! طالج نفسك علينا فنصاص الليالي كده.. هي ايه! زريبة.. ولا وكالة من غير بواب!.. 

زعق حبيب: نادميلي راچل فالدار دي أكلمه.. 

زعقت سنية بالمقابل: مفيش راچل هيخرچ يتحدت معاك.. أنت أجل من إن رچالة ابو زكيبة يعدوك راچل.. 

هتف حبيب متجاهلا أهانتها، زاعقا: أنت يا عمدة.. ياللي نايم على ودانك.. جوم شوف ايه بيچرا ف دارك.. وجولي ولدك فين!.  

هتفت سنية متهكمة: ولدي مالك به! ما خلاص فضيناها.. وسوا هو ولا أختك كل واحد شاف حاله.. 

أكد حبيب في ثورة مكبوتة: أني متوكد إن ولدك له يد في خطف منيرة.. والله لهيكون طلوع روحه على يدي لو مس شعرة من راسها.. والعيار اللي مصبش النوبة اللي فاتت.. هيصيب فمجتل النوبة دي.. 

همت سنية بالرد إلا أن ظهور عزت بأعلى الدرج هابطا.. يلقي طرفي غطاء رأسه الأبيض على كتفيه.. مستاكا في هوادة.. كأن ما من شيء يشغل باله في الكون، هاتفا في لامبالاة: ايه في يا حچة! صوتك طالع ليه!.. 

ما أن تنبه حبيب لوجود عزت حتى اندفع نحوه ممسكا بتلابيبه، يهزه في غضب هادر: فين منيرة يا عويل!.. وديتها فين يا ناجص!.. 

حاول عزت أن يتخلص من حبيب لكنه لم يقدر وهو يؤكد في حنق: أنت چاي ترمي بلاك عليا!.. 

صرخت سنية في محاولة لإنقاذ ولدها، ليأتي الخفراء في محاولة للتدخل، لكن شبل كان لهم بالمرصاد.. لتهتف سنية صارخة: غور دور على اختك بعيد عن هنا.. جفلنا خلاص الصفحة الجديدة دي وربنا نجدنا من نسبكم اللي يعر.. روح شوف اختك هربت مع مين، وكل بعجلها حلاوة! ما هو أصلك ده سلو عندكم فالعيلة!.. 

أخرج حبيب سلاحه من جيبه في ثورة عارمة، صارخا بصوت هادر كما الرعد: والله لولا ما أنت مرا كبيرة، وولدك ده محسبهوش راچل.. لكنت فرغت فيكم سلاحي.. 

هز حبيب عزت من جديد: والله.. لو وعيت أن لك يد في غياب منيرة من جريب أو بعيد لهتكون نهايتك يا يدي يا نچس.. 

دفع حبيب عزت بعيدا.. ليسقط على أقرب مقعد لاحقه به أمه تطمئن عليه حين بدأ في السعال.. بينما اندفع حبيب يعقبه شبل في اتجاه السراي التي ما أن وصلا بوابتها حتى ظهرت أنس الوجود تركض في اتجاهها بصحبة سالم.. هم بالصراخ لخروجها في مثل هذه الساعة ومع حلول مصيبة اختفاء منيرة لكن أنس الوجود بادرته في لهفة مضطربة وهي تلتقط أنفاسه: إلحق منيرة يا حبيب بيه.. شوفتها.. 

صرخ حبيب في لهفة مضاعفة: شفتها في شارع السنترال.. مخطوفة فعربية.. وسراج بيه فالسكة.. 

اندفع حبيب وخلفه شبل.. على استعداد لحرق المدينة كلها في سبيل إعادة منيرة سالمة بلا خدش واحد.. 

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة