رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 43 - الجمعة 27/6/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثالث والأربعون
تم النشر الجمعة
27/6/2025
ـ طُياب الحبايب..
القاهرة ١٩٥٦..
اندفع رئيس تحرير الجريدة من داخل مكتبه، صارخا في اضطراب أمرا: افتحوا الراديو بسرعة، اللي حسبته يا فضل حصل.. بعد اسرائيل ما دخلت سينا من يومين.. اهي فرنسا وانجلترا بدأت طياراتهم تضرب بورسعيد والسويس.. واحتمال يحصل انزل قوات كمان..
انتفض صبرة العدوي غير مصدق، مديرا مؤشر الراديو ليعلو صوته مؤكدا على الخبر.. وان طائرات فرنسا وانجلترا استهدفت بعض المناطق في الإسماعيلية والقاهرة والإسكندرية وضربت مطار انشاص الحربي..
ليأمر رئيس التحرير صبرة: جهز نفسك لازم نبعت مراسل صحفي على هناك.. يمدنا بالأخبار أول بأول.. محدش عارف الموضوع ده هيطول لأمتا..
هتف صبرة معارضا: لا أنا هيكون ليا خطط تانية عشان..
هم رئيس التحرير بمعارضته، إلا أن فضل قرر التدخل حتى لا يضع رئيس التحرير في إشكالية مع ذاك المدعي، مقترحا: ممكن أروح أنا يا ريس!.. هطلع على بورسعيد.. بس هاخد مصور معايا..
أكد رئيس التحرير: تمام يا فضل.. على بركة الله.. اختار المصور اللي يريحك.. وخلي بالك على نفسك..
أكد فضل: كله على الله يا ريس..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٥٧..
همس سعد في صوت خفيض على مائدة الإفطار متسائلا: غار البعدا خلاص يا فضل!..
أكد فضل باسما: اه خلاص يا حچ.. خرجوا ورجعنا فتحنا القنال للملاحة غصب عن عينهم..
ابتسم سعد في إكبار، لكن ما أن هم برفع كوب الماء ليرتشف منه رشفة، بدأ يسعل في قوة.. مشيرا لصدره..
لينتفض الجميع مجتمعين حوله في ذعر..
ثلاثة أطباء تناوبوا على فحصه.. ليؤكد الثلاثة
ضرورة نقله للمشفى في أسرع وقت.. إلا أنه رفض في إصرار.. حتى أنس الوجود نفسها لم تكن دموعها كافية لتقنعه، حتى أنه همس مؤكدا لها: لو هموت.. يبجى على سريري وف داري..
ما دفعها لعدم الضغط عليه، ومحاولة توفير أقصى رعاية صحية ممكنة له داخل السراي..
استمر وضعه الصحي ما بين التحسن والتدهور ما يقارب الشهر.. وكانت لا تفارقه أنس الوجود، وحفيده رؤوف الذي كان مقربا له كثيرا..
دخلت أنس الوجود صباحا من أجل اطعام سعد واعطائه الدواء، فوجدته مستيقظا في فراشه متطلعا نحو باب حجرة نومه، في انتظار قدومها، حتى إذا ما هلت.. أمرها بالاقتراب لتنفذ في محبة، فإذا به يطلب في هوادة: سنديني يا أنس.. لچل ما اخرچ بره..
رفضت أنس في لطف: مش المفروض تقوم من مكانك يا باشا.. خليك مرتاح وأنا اجيب لك اللي انت عاوزه لحد عندك..
هز سعد رأسه رافضا، ودفع نفسه في إصرار للخروج من الفراش، فما كان من أنس الوجود إلا الازعان لمطلبه، ومساعدته على مغادرة الفراش تناوله عصاه ليرتكن عليها عند المسير وهي بجواره تساعده على الجانب الآخر حتى غادرا الحجرة في خطوات متمهلة.. وما أن وصلا للردهة التي يبدأ عندها الرواق المفضي للغرف، حتى أشار لها نحو النافذة العالية بالردهة.. والتي دفع سعد خصاصها لتنفرج.. متطلعا منها نحو ذاك البراح الرحب العزيز.. عيناه تجول بكل موضع.. الأرض الخضراء.. الطريق الترابي الضيق الملاصق لمدخل السراي.. النيل شديد الزرقة في مثل هذا الوقت من العام، وأخيرا ذاك الجبل الشامخ هناك على مدد الشوف..
ابتسم سعد في راحة ورضا، هامسا لأنس وهو يشير لحدود أرضه في نبرة اعتزاز: مش خدو فالإصلاح اكتر من نص أرضي.. بس أني كل ما بطلع لها.. بجول لحالي لساتها أرضك يا سعد.. كل شبر فيها شاهد على سنين من العرج والشجا.. كل شبر فيها عارفني وحافظني كيف ما أني عارفه وحافظه..
ربتت أنس الوجود على كف يده التي تحاوط كتفيها، بينما تحتضن هي جزعه بذراعها الثانية.. ليستطرد سعد معترفا، وهو شارد في براح الحسن المتجسد قبالة ناظريه: وااه يا أنس.. أيام الغياب والشوج ليكي.. بنيت السرايا دي وحرمتها على حالي، جلت ما يمس جتتي الفرش.. ولا أنام تحت سجفها إلا بعد رچوعك.. وكان لما الشوج ليكي يجتلني.. كنت اجف هنا مطرح ما إحنا كده، اطلع جبالي واجعد احكي معاكي كنك جصادي..
همست أنس الوجود دامعة: كنت بتقول ايه!.. همس سعد: واااه.. كنت بجول كتير.. كل اللي كان متحاش فجلبي..
واستطرد مترنما في وجد:
يا طُياب الحبايب هِل بالسلام ..
ده الجلب دايب والله .. مخنوج بالكلام..
ابعتوه شوج ومحبة .. وبلاه يا غوالي الملام..
فبعادكم الروح غايبة ..
والضرب فالميت حرام ..
همست أنس الوجود باكية في رقة: آه يا سعد باشا.. جميل جدا..
مال سعد قليلا ملثما جبينها، لتسأل في عشق: ما معنى طُياب الحبايب سعد باشا!
همس مشيرا للخارج: ده الهوا المعطر اللي چاي شايل ريح الحبايب.. طُياب.. يرد الروح اللي غايبة بفراجهم.. ويطمن الجلب الواچف على أخبارهم.. ويوعد الملهوف بجرب الوصل وميعاد اللجا..
مالت أنس الوجود برأسها نحو صدر سعد، هامسة في عشق: كأنك تصف حالنا فالبعاد سعد باشا.. كنا بالمثل وأكثر..
سال دمعها، واستطردت معترضة: طالت وقفتك.. وخالفت أوامر الحكيم.. لنرجع لسريرك..
هز سعد رأسه موافقا، هامسا في مشاكسة: هرچع لچل خاطرك، الوجفة طولت عليكي برضك.. وزمان مفاصلك بتستچير..
تطلعت أنس الوجود بالروح المشاكسة ذاتها: سعد باشا.. تكلم عن نفسك.. ما زلت شابة ومفاصلي لا تشتكي من أي علة..
قهقه سعد وبدأ في التحرك نحو حجرته..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٥٨..
توقفت الكاديلاك السوداء أمام تلك البناية الراقية في حي الزمالك، لتغادرها نجمة السينما وأفلام الإغراء زينات عوني، كانت بكامل رشاقتها وجمالها حتى أن حارس العقار انتفض ما أن مرت بالبوابة للداخل يتطلع نحوها كما المسحور، لم تكن المرة الأولى التي تأتي فيها لكن كان هذا حاله في كل مرة.. فطالعة جمالها الأخاذ على الطبيعة لا شاشة السينما نوع آخر من السحر..
كان يعلم إلى أين وجهتها، لذا لم يسأل.. بل تركها تتخذ طريقها نحو المصعد مكتفيا بالتطلع نحوها في انبهار..
اتفرج باب الشقة المرجوة عن خادمة افسحت لها الطريق، لتندفع للداخل أمرة: فين سيدك! بلغيه إني هنا..
هزت الخادمة رأسها في طاعة، لكن السيد ظهر على عتبات غرفة مكتبه باسطا ذراعيه ما أن تنبه لحضورها، فاندفعت زينات نحوه في دلال، ملقية نفسها بأحضانه، هامسة في غنج: استنيت تكلمني.. محصلش.. قولت اجي اشوف ايه شاغلك عني!..
أكد الصاغ فؤاد موافي مبتسما، يتأمل ملامحها الأنثوية المغوية، هامسا: هو أنا أقدر يا زينات، بس الشغل والمسؤوليات.. اديكي شايفة حال البلد.. والوحدة مع سوريا حطت على كتافنا مسؤوليات كتير.. ده غير الجزائر ودعم حركة التحرير هناك.. و..
قاطعته زينات غير راغبة في سماع تفاصيل سياسية مملة لا تعنيها، هاتفة مدعية الاشفاق : كان الله فالعون يا حضرة القائمقام..
أكد حسن منبها: اسمها سيادة العقيد.. خلاص بقى عبدالناصر لغى الرتب العثمانلي دي.. اللي قدامك ده العقيد فؤاد موافي..
تطلعت نحو بنظرة تقطر اغراء، هامسة بنبرة داعبت حواسه: أجمل وأغلى فؤاد فالدنيا..
همست فؤاد وهو تحت تأثيرها المهلك: إحنا مش هنتجوز بقى يا زينات!..
همست تقنعه: ايه لزمته.. ما إحنا مع بعض اهو.. أنت حر وأنا كمان حرة.. ووقت ما بنحب بنكون سوا..
همس وهو يعتصرها بين ذراعيه في تملك: بس أنا عايزك ليا لوحدي.. ليا أنا وبس.. لو مكنتش عايز اظهرلك للناس، مكنتش خليتك تجيلي هنا في الجرسونيرة في أي وقت.. ده أنا عاملها مخصوص عشانك يا زينات.. عشان اقابلك فيها بعيد عن السينما والمنتجين والمعجبين.. أنا حقيقي عايزك يا زينات.. ومقدرش استغنى عنك..
همست وهي تحاول التملص من بين ذراعيه في نعومة: إحنا متفقين من الأول يا فؤاد.. أبعد عن السينما وجمهوري.. لا.. خلينا أصحاب كده أفضل.. ايه لزمته الجواز وتعقيداته.. وبعدين ما أنا معاك أهو.. رحت فين!.. ولا حتى أقدر أبعد عنك.. هروح منك فين!..
همس وهو يعيدها لسيطرة ذراعيه مجددا: متقدريش.. اقتلك لو فكرتي تبعدي..
قهقهت زينات هامسة تحاول إيقاعه تحت تأثيرها من جديد.. إلا أن جرس الباب قد علا رنينه، ما دفعها لترك موضعها بناء على طلب فؤاد متجهة للداخل.. لحظة وظهر مختار قادما نحو موضع فؤاد هاتفا في نبرة معتذرة: آسف يا فندم لو ازعجت حضرتك.. بس أنا..
تطلع فؤاد نحو مختار، متذكرا أخيرا: ايه ده.. مش العميد مختار الحراني! عاش من شافك.. فينك وفين اراضيك!..
جلس مختار حيث أشار له فؤاد، شاعرا بضيق عجيب بصدره، على الرغم من استقبال فؤاد اللطيف، هاتفا في حسرة: لا عميد ايه بقى! مبقاش فيه الكلام ده.. هو حضرتك متعرفش ولا ايه! انا احالوني ع الاستيداع للأسف عشان موضوع أخويا اللي اتاخد مع الإخوان في حادثة المنشية..
هتف فؤاد متذكرا: اه، دي كده بقت حكاية كبيرة.. بس كونك ع الاستيداع يعني ممكن ترجع الخدمة في أي وقت..
أكد مختار: ما ده الموضوع اللي جاي لحضرتك فيه.. بحكم الأقدمية وإني خدمت معاك قبل كده.. وشهادتك تشفع لي.. أنا ظابط ومعرفش اكون إلا ظابط.. وكل يوم أنا بعيد فيه عن الخدمة بموت فيه بالبطىء..
هز فؤاد رأسه متفهما، مؤكدا على مختار: يعني عايز ترجع الخدمة!.. طب واخوك.. ونشاطه.. ايه أخباره!..
أكد مختار: من ساعة ما طلع من المعتقل ما خرجش بره البيت.. وأكيد تحرياتكم عليه هتثبت كلامي..
أومأ فؤاد موافقا، مؤكدا على مختار: طب تمام يا مختار، هشوف اللي أقدر أعمله.. أنت برضو من رجالتنا اللي دايما كانوا فصفنا..
نهض مختار حين أدرك أن المقابلة انتهت، مدركا أن فؤاد لم يكن وحيدا حين جاء هو على غير موعد، وخاصة مع وجود ذاك المبسم الأنثوي الموضوع على طرف مطفأة السجائر..
هاتفا في امتنان: ده العشم يا فندم.. استأذن أنا.. وممنون لوقت جنابك الثمين..
أكد فؤاد ومختار يبتعد نحو باب الشقة مغادرا: انتظر الرد على طلبك قريبا..
هز مختار رأسه شاكرا.. قبل أن يغادر على أمل.. وما أن خرج.. حتى ظهرت زينات من الداخل.. محاولة أن تلهي نفسها بصحبة فؤاد عن تذكر النجع وحاله.. وخاصة حين وصلها نبأ وفاة وهدان.. بعد أن رحلت توحيد.. حتى عند الموت.. لحق بها.. هكذا قالت لنفسها عندما جاءتها الأخبار.. لا تنكر أنها بكت لساعة أو أكثر حين علمت برحيل وهدان.. وصدمها الأمر لدرجة أنها تساءلت.. هل يمكن أن تعيش حتى يموت كل من تعرفهم!.. وكيف سيكون طعم الحياة عندها!..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٥٨..
تسلل ذاك الشبح نحو الحديقة الخلفية لبيت الحرانية.. وما أن ظهرت إحدى التوأمتين قادمة تتلفت حولها، حتى ظهر هامسا مناديا باسمها: برلنتي!..
توجهت حيث جاءها النداء، ليظهر نجيب مشيرا لها لتتقدم في لا مبالاة نحوه، هامسة في حنق: هو إحنا كل ما تكون جايب لي اسطوانة جديدة يا نچيب.. هنبجى زي الحرامية كده!..
همس نجيب مفسرا: معلش، كده أسلم.. إنتي عارفة دماغ أبويا.. لو شافني بكلمك حتى.. ممكن يجطع رجبتي.. ما بالك بجى لو عرف إني شاري لك اسطوانات مزيكا.. ده يدفني حي.. وخصوصي بعد ما خرچ م المعتقل.. مبسلمش منه.. لا أنا ولا أمي..
سألت برلنتي متعجبة: مع أنه مش بيعمل كده مع مراته التانية ولا أخوك محسن!..
فسر نجيب: يمكن عشان محسن لسه صغير.. امتى الواحد يكبر ويطلع چري ع الچامعة فمصر.. ويبعد عن هنا..
همست برلنتي: ايوه صدقت.. نبعد عن الخنقة والنوم من المغرب ونعيش فالقاهرة.. بس امتى بقى.. أنا لسه لي شوية.. أنت يابختك.. هانت..
أكد نجيب: أنا لازما أمشي حلا..
هزت برلنتي رأسها متفهمة.. متطلعة نحو الاسطوانة في سعادة متسائلة: دي آخر اسطوانة لعبد الحليم حافظ!.. مش كده!..
أومأ نجيب برأسه مؤكدا.. يبتسم في فخر أنه قام بما يرضيها وجعل ابتسامتها تطل على شفتيها.. قبل أن يندفع متواريا حتى يعود لداخل الدار ومنها لحجرته رأسا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٦٠..
كان رؤوف يلازم جده سعد كالعادة، حتى إذا ما احتاج أمرا ما كان سباقا لتنفيذه فورا.. واللحظة لم تكن استثناء.. فقد أمر سعد حفيده رؤوف المقرب لقلبه، أن يجمع باقي الأحفاد ها هنا.. ما دفع رؤوف لاستدعاء سعاد للبقاء مع جدهما حتى يذهب لإحضار أولاد عمته مصطفى وبرلنت وأمينة.. من دار الحرانية.. حيث جلست صفية جوار مختار تشكو في حنق: الوضع بجي صعب كده يا مختار!.. أخوك مش هيچبها البر.. عايش مطلوج فالدار مش حاسب حساب لا كبير ولا صغير.. وعامل فرجة كبيرة بين العيال وبعضها.. أنا جلت بعد ما ربنا فك سچنه هايهدا.. لكن بجي الچنان أكتر وخصوصي وأنت مش موچود.. أنا بجيت طول الوجت فأوضتي والعيال محبوسين في أوضهم بعد ما عياله احتلوا الدار.. ما هو كل سنة بعيل جديد.. كده كتير يا مختار.. تعالى نستقر في القاهرة.. ونبعد عن الموال ده..
تعجب مختار: صفية اللي بتجول ننجل ونسيب الرسلانية!.. طب إزاي بجى!..
أكدت صفية في ضيق: ما هو من غلبي يا مختار.. أنت شايف كده الحكاية تمام!..
أجاب مختار متفهما: والله واعي لكلامك.. وعندك حج.. بس هتروحو القاهرة تجعدو لحالكم هناك!.. أنا ما صدجت رچعت للخدمة.. أي نعم اتحدفت حتة ملهاش عازة بس اها رچعت.. والبعد ده مش هيخليني انزل لكم اجازات كل فترة مناسبة.. ده غير بعدك عن خالي وهو صحته بجت فالنازل.. كمان أمك تبجي موچودة چارها.. هتروحي إزاي بعد ده كله!..
تنهدت صفية مدركة أنه محق في كل ما قال، فلم تستطع الرد، وما أن هم بالاستطراد إلا ودق باب حجرتهما.. كان مصطفى يبلغهما أن رؤوف بالأسفل وقد بعثه جده سعد لابلاغهم أنه في حاجة لرؤيتهم جميعا.. ما دفعهما للإسراع من أجل ملاقاته..
كان رؤوف يقف بالحديقة باحثا عن التوأمتين اللتان لا تفترقا.. ونادى في هوادة لا تناسب صبيا في الرابعة عشرة من عمره: أمينة!.. يا أمينة!..
ظهرت برلنتي مهرولة نحوه، متسائلة: خير يا رؤوف! في حاچة!..
هتف متسائلا: فين أمينة!..
حدقت برلنتي فيه بحنق، فهو الوحيد القادر على التفريق بينهما، ولا تعرف كيف يمكنه ذلك.. فلطالما كانت لعبة الخلط بينهما مسلية مع مصطفى ونجيب.. وكثرا ما فشلا في معرفة حقيقة من تعاملهما.. هي أم أمينة.. إلا مع رؤوف.. يدرك الفرق بينهما بدقة.. ويستطيع أن يخبرهما من نظرة أيهما أمينة وأيهما برلنتي..
ردت برلنتي في غيظ: أمينة مش فاضية.. عايز ايه وأنا هبلغها..
تطلع رؤوف نحوها في لا مبالاة مطالبا: عايز سلامتك.. روحي اچهزي وهي معاكي عشان رايحين السرايا.. چدي سعد طالبنا..
هزت برلنتي رأسها متفهمة.. وتركته بالحديقة وحيدا.. لتلاقيها أمينة على الدرج الخارجي متعجبة: ليه يا برلنتي كل ما رؤوف يناديني.. ترفضي إني أرد عليه.. وتروحي له بدالي!..
هزت برلنتي كتفيها في لامبالاة مجيبة: كنت بلعب معاه عايزاه يتلخبط بينا.. زي مصطفى ونچيب.. بس فكل مرة هو الوحيد اللي بيعرف يفرجنا..
ابتسمت أمينة في وداعة: ايوه صح..
اغتاظت برلنتي لابتسامة اختها البلهاء، هاتفة في حنق: ومالك فرحانة كده!..
همت أمينة بالإجابة إلا أن مصطفى جاء مسرعا نحوهما ومن خلفه والداه مختار وصفية.. وقد اشارا للجميع بالتوجه للسراي..
كان سعد يشعر بالارهاق والتعب، لكن تلك الرغبة الملحة في جمع أولاده وأحفاده قبالة ناظريه جعلته يتغلب على متاعبه حتى حضر الجميع.. توقفوا قبالة ناظريه.. فضل وفايزة وأولادهما رؤوف وسعاد.. ثم صفية ومختار وأولادهما مصطفى وأمينة وبرلنتي.. ثم أخيرا وقفت وداد.. آخر زهرة في غصن الرسلانية.. وجوارها زوجها وصفي النچدي.. وللأسف تسع سنوات كاملة مرت من عمر زواجهما، ولم يرزقا أطفالا..
وأخيرا أنس الوجود أنيسة دربه وعمره الحقيقي الذي ما بدأ إلا بطلتها.. تقف بالقرب من الفراش، على الجانب الآخر منه..
جال سعد بالأوجه المتطلعة نحوه في محبة مخلوطة بالفضول.. قبل أن يهتف ناصحا: أني بوصيكم على بعض.. و..
هم فضل بمقاطعة والده، لا رغبة لديه في سماع ما قد يفيد الفراق والبعد.. لكنه ابتلع لسانه ما أن أشار له سعد بالتزام الصمت، مستطردا في وهن: خلوا بالكم على بعض.. كل حبيب يتبت ف يد حبيبه وميفلتهاش أبدا.. الدنيا واعرة.. لكن طول ما انتو سوا.. عمرها ما هتجدر عليكم.. الدفا في ستر الحبايب عافية للجلب وشفا للروح..
بدأ سعد في السعال.. لينتفض فضل باحثا عن طبيب.. وأمرت أنس الوجود الجميع بالخروج.. حتى يصبح هواء الغرفة أكثر نقاء.. لينفذوا في إزعان..
هدأ السعال لحد ما.. فأمر سعد أنس الوجود بإغلاق باب الحجرة ثم الاقتراب.. دنت أنس الوجود من موضعه على الفراش، ليضمها سعد بإحدى ذراعيه لتكون أقرب لقلبه، هامسا في ضعف، وصوت متحشرج: خليكي چاري يا أنس، كني واعي للچنة جصاد عيني وشامم طيبها وإنتي ف ريحي..
سال دمع أنس وهي تدفن رأسها بصدره، ليهمس سعد في وهن، وبصوت خفيض: مطوليش عليا الغيبة يا أنس وتفوتيني لحالي..
إنتي خابرة زين.. مش هتهنالي نومة وإنتي مش چاري..
همت أنس برفع رأسها عن صدر سعد.. فإذا برأسه تسقط على هامتها، ظنت لبرهة أنه كان يرغب في أن يلثم جبينها، لكن ما أن رفعت جسدها مبتعدة قليلا، حتى سقط رأس سعد بأحضانها.. فعلمت ما قد كان.. ضمته إليها في حنو.. وأخذت تهدهده في رقة.. تقبل جبينه الندي الساكن بأحضانها.. ودمع عينيها يهطل كالمطر.. على فراق رفيق العمر.. وشقيق الروح..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٦٠..
منذ وفاة جده سعد رسلان، كان رؤوف يختفي لفترات طويلة بعيدا عن السراي.. هي وحدها من كانت تعلم أين تجده.. لكنها أبدا لم تفشي سره، ولم تخبر مخلوق حتى توأمتها برلنتي.. بمكان عزلته..
شهر مر على رحيل جدهما.. كان هو أكثر الأحفاد تأثرا برحيله.. فمع غياب خالها فضل لفترات طويلة بالقاهرة في عمله أو في تغطية أحداث حربية قد تستمر لشهور.. وجد رؤوف في جده سعد ذاك الأب الذي افتقد لغيبة أبيه.. فتعلق به وأصبح ظلا له.. وخاصة كلما كبر وسار نحو الشباب بخطى ثابتة..
سارت نحو تلك الشجرة الضخمة المطلة على النيل، بآخر أطراف النجع.. هامسة في رقة: مش كفاية كده يا رؤوف!..
انتفض رؤوف، يمسح دموعه، حين علم بوجود امينة، التي هتفت في رقة: أنت بتبكي!..
أكد رؤوف في حزم: لاه، مفيش راچل بيبكي.. وبعدين عرفتي مكاني هنا إزاي!.
أجابت أمينة في وداعة: أنت اللي جلت لي مرة، إنك لما بتكون زعلان من حاچة بتاچي تجعد هنا لحالك..
مدت أمينة كفها بلفافة صغيرة، مطالبة في نبرة لينة: خد يا رؤوف عشان خاطري.. كُل ده.. طنط فوز بتجول إنك مش بتدوج الزاد..
رفض رؤوف في لين بدوره: مليش نفس يا أمينة.. كليه إنتي.. كني كلنه..
همست أمينة معاتبة: على فكرة.. چدي سعد لو شاف اللي أنت بتعمله ده.. هيضايج.. ومكنش هيرضالك الزعل ده كله.. ومعزة چدي سعد عندك لتاكل..
مد رؤوف يده نحو اللفافة في موافقة ضمنية، لتهمس أمينة مع ابتسامة: هروح أنا.. وخد راحتك.. ولو حابب تبكي.. أبكي يا رؤوف.. مفيش بعد معزة چدي سعد عشان تبكي عليه..
بدأت أمينة تهبط التلة في هوادة.. ورؤوف يتبعها بناظريه.. حتى اتخذت الطريق نحو السراي.. فجلس من جديد تحت شجرة عزلته..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
اندفع حبيب مهرولا ومعه شبل لتجميع رجال الرسلانية للبحث عن منيرة.. لم يكن يعلم من اين يبدأ رحلة البحث.. فقد كانت المعلومات التي لديه شحيحة لا تسمن ولا تغني.. لكنه لن يقف مكتوف الأيدي يجلس بلا رد فعل على ما يحدث.. بينما اندفعت أنس الوجود لداخل السراي وبصحبتها سالم لتلاقيهما نجية متسائلة في لهفة: هاااا.. مفيش أي چديد!..
هزت أنس رأسها نفيا، متطلعة نحو نجية بأعين دامعة، متسائلة: هم اللي لابسين جلاليب بيضا وطالقين دقونهم دول مين يا نجية!.. كانوا شبه اخوكي اللي اتهجم علينا مرة ده!..
أكدت نجية: دول المجاطيع بتوع الچماعات إياها اللي انحدفوا علينا ما تعرف منين.. جال الله وجال الرسول .. وهم يكلوا مال النبي.. ما انتي وعيتي للمسدوح أخوي.. مش كان نازل من فوج يسرج اللي حيلة أخته اللي ملهاش غيره.. دول ما يعرفوش ربنا.. عندهم كلنا كفرة ولو كتلونا كلنا مكسب لهم.. هم بس المسلمين اللي على حج.. والباجي ولا لهم عازة..
همست أنس الوجود تسأل في اهتمام: طب واللي يوقع تحت أيديهم ممكن يعملوا فيه ايه!..
أكدت نجية في حنق: ملوش دية يا ست أنس، اللي يوجع ف يدهم نجول عليه يا اللاه السلامة.. إن كان راچل نترحمو عليه وإن كان ست.. هتبجى كيف الچارية.. يخدو غرضهم منها.. كنها فحكم الأسيرة.. وبعدين يكتلوها..
شهقت أنس في صدمة، متسائلة: وإنتي عرفتي الكلام ده منين!..
أكدت نجية: من الهلفطة اللي كان بيجولها رفعت أخوي جدامي.. جبل ما يسبنا ويطفش وأعرف إنه بجي تبع رچالة الچبل..
صمتت أنس لا تعرف ما عليها فعله، فالجلوس هكذا في انتظار الفرج يقتلها.. وخاصة بعد ما سمعت ما أدلت به نجية عن هؤلاء الاوباش..
هي غير متأكدة إذا ما كانت الفتاة التي لمحتها تستغيث بالعربة وسط هؤلاء الحمقى هي حقا منيرة.. فقد كانت لمحة سريعة لعربة مسرعة كادت أن تصدمها.. وتمنت بالفعل لو كان ما رأته من صنع خيالها.. فما كان لها القدرة على تخيل ما قد تتعرض له منيرة إذا ما كانت بين يدي هؤلاء القساة بالفعل..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
بدأ نصير بالخروج من عزلته.. وعلى الرغم من ذلك لم يكن يذهب لمقر الشركة، ولا عاد لعمله بشكل طبيعي.. بل كان يختفي معظم أوقات النهار لا تعلم هاجر إلى أين يذهب.. فما كان يطلعها على تحركاته.. ورفض اصطحابها معه حين عرضت عليه ذلك..
لم يشغلها موضع اختفائه.. ولا حتى فكرت في سؤاله.. كان كل ما يشغل بالها.. هو كيفية الوصول للملف الذي طلبه جمال منها!.. ذاك الملف الخاص بموضوع أرض الإرث الخاص بأنس الوجود.. مستشعرة أنها ظلمت أنس حين اعتقدت أنها احتلت مكانا بقلب نصير كانت هي تسعى إلى احتلاله منذ زمن طويل.. وضعتها في موضع المنافسة ونسيت أنها أنس الوجود التي كانت لها دوما مكانة ومعزة الأخت التي حرمها القدر الحصول عليها.. وعوضت أيام وحدتها الباردة بوجودها الدافيء.. ولطالما نصحتها أن حكايتها مع نصير ما هي إلا مشاعر غير ناضجة.. مزيج من الإمتنان والمحبة لشخص كان لها داعما ومعينا في أحلك أوقات حياتها.. لكنها أبدا لم تستمع.. كان صوت قلبها هو الأعلى.. وها قد حان الوقت لترد لها بعضا من جميل صنيعها.. وحمايتها إذا ما تطلب الأمر..
توجهت صوب المكتب.. ما أن سمعت صوت عربة نصير تنطلق للخارج.. حين جاءه اتصال جعله ينتفض مسرعا للمغادرة.. توقفت أمام الخزنة.. لا تعرف كيف ستفتحها وهي التي ما جعلها نصير تقترب منها يوما.. ولا حتى تعرف أرقامها السرية.. ولا كيف يمكن أن تحصل على ما بداخلها!.. مدت كفها لتلك اليد المعدنية تحركها في عشوائية.. فسمعت صوت طقة يؤكد أن الخزنة كانت مفتوحة بالفعل.. وان نصير حين اندفع للخارج نسي على ما يبدو إغلاقها بالارقام السرية التي يحفظها وحده..
جذبت باب الخزينة فانفرج عن عدة ملفات قبالة ناظريها.. مدت كفها بلا تفكير متناولة أحدهم في عجالة.. فتحته متطلعة لأول صفحة فلم تفهم شيئا.. لكنها كانت تدرك أن ذاك هو الملف الذي يخص موضوع أنس الوجود وأرض الرسلانية.. تناولته مغلقة الخزينة مندفعة للخارج.. باحثة عن جمال
حتى تدفع إليه بالملف.. وتترك له التصرف الأخير.. فقد خدمها الحظ بشكل لم تكن تتخيله.. ولا في أكثر تخيلاتها حظا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
اندفع سراج لداخل سراي الرسلانية مهرولا نحو مجلس حبيب، الذي عاد بصحبة الرجال منذ ساعات ولم يستطع الوصول حتى لطرف خيط، يمكنه من الوصول لموضع منيرة..
هاتفا ملقيا التحية.. متسائلا في قلق: هاااا.. مفيش چديد!..
انتفض حبيب في لهفة: سراچ بيه!.. محدش عملها إلا واد العمدة.. إحنا ملناش عدوات مع حد إلا هو..
هتف سراج محاولا أن يكون أكثر هدوءا ومنطقية، متسائلا: هي كانت فين لما اختفت!..
رد حبيب منفعلا: فالچمعية الخيرية اللي بعدنا بشارعين.. چمعية السماحة.. بتدي دروس للعيال الصغيرة.. وكل اللي سألناهم جالو مشيت جبل المغرب.. طب راحت فين!..
مستطردا في حسرة: دي بجالها شهور مخرچتش برا السرايا.. ولما جالت لي موضوع الدروس دي لله.. جلت لها وماله روحي.. يا ريتني ما وافجت..
هتف سراج مطمئنا: اهدا يا حبيب بيه، أنا بسأل اسئلة روتينية يمكن يكون واحد فيها خيط يدلنا على مكانها..
كانت انس تجلس صامتة.. لم تنطق حرفا.. تحاول أن تقاوم دموعا تصارع للهطول اللحظة.. لكنها تماسكت هاتفة في صوت متحشرج: وأنا خارجة من السنترال بعد ما كلمتك يا سراج بيه.. في عربية جاية بسرعة وكانت هتخبطني.. لمحت جواها.. وبقول لمحت عشان طبعا من السرعة ملحقتش اتأكد.. بنت شبه منيرة بتقاوم مجموعة من الشباب اللي لابسين شبه رفعت اخو نجية اللي نزل لنا م الجبل قبل كده..
انتفض حبيب مؤكدا: وعزت واد العمدة بجي من المجاطيع دول.. يعني لو صدج كلام الأستاذة.. تبجى منيرة ف يده..
تطلع سراج نحو حبيب ولم ينطق حرفا، فلو كان ما أدلت به أنس من معلومات صحيحا.. فالأمر بالفعل خطير..
هم سراج بالكلام، إلا أن أحد العساكر دخل مندفعا ملقيا التحية العسكرية، هاتفا في عجالة: إشارة مهمة چت للنجطة يا فندم..
تناول سراج الإشارة، قرأها على عجل، ثم هتف في عزم: أنا لازما أروح اشوف ايه في.. وبإذن الله.. جبل ما نهار ربنا يطلع.. هنكون وصلنا لطريجها.. وترچع سالمة..
هم سراج بالمغادرة، ليستوقفه حبيب مؤكدا: سراچ بيه، أنا ورچالة الرسلانية كلهم تحت أمرك ميتا ما تطلب.. هتلاجينا چاهزين.. بس منيرة ترچع بالسلامة..
ربت سراج على كتف حبيب مؤكدا: هترچع.. وده وعد مني.. ولو بآخر نفس.. هردها بخير بعون الله..
ربت حبيب على كتف سراج بالمقابل، والذي اندفع وخلفه العساكر نحو مبنى النقطة لتنفيذ الإشارة..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
وصل جمال بسيارته منتظرا على الجانب الآخر من فيلا نصير الراوي، وما أن لمحت هاجر السيارة.. حتى غادرت الفيلا في هوادة.. كي لا تلفت انتباه الحراس.. وقد خبأت الملف بين طيات ثيابها.. اقتربت من موضع السيارة ما حقها على الهرولة لتركب في عجالة.. فما عادت أعصابها تحتمل كل هذا التوتر..
زفرت في راحة ما أن أصبحت داخل سيارة جمال.. هاتفة: مش كنت قابلتك بره بدل ما حد يلمحنا!..
امتعض جمال هاتفا: بره فين! انتي عارفة الساعة كام دلوقت! معنديش حريم تسوق عربيات وتخرج من بيتها بعد الساعة عشرة أصلا..
هتفت هاجر معترضة: حريم!.. أنت قلت حريم!..
هتف جمال معتذرا في تهكم: سوري.. زعلتك حريم.. طب ايه رأيك في نسوان!..
شهقت هاجر: نسوان!..
أكد جمال مازحا: شفتي.. حريم كانت أحسن.. عشان تعرفي بس إني مش بختار لك أي حاجة وخلاص..
تطلعت هاجر صوبه، لا تعرف ما يجب عليها قوله، أمرة في حزم: دور وشك عشان اجيب الملف.. لو سمحت..
هتف جمال مازحا: ايوه بقى!.. أموت أنا فالسسبنس.. وشغل الجاسوسية ده!..
هتفت هاجر تحاول أن تكتم ضحكاتها على اقواله، مدعية الجدية: جمال!.. دور وشك.. واسكت دقيقة.. عشان أنا فعلا خايفة ومتوترة جدا.. أنا أول مرة اعمل حاجة زي دي.. بليز..
صمت جمال مقدرا مشاعرها، موليا وجهه صوب مدخل الفيلا، معطيا لها الفرصة لإخراج الملف من بين طيات ثيابها.. حتى إذا ما همست مؤكدة انتهائها، عاد للتطلع نحوها.. ليجد يدها ممدودة نحوه بالملف، هامسة في اضطراب: حاولت أفهم ايه اللي جواه.. معرفتش..
تناول جمال الملف مؤكدا: ولا يهمك.. اكيد حد متخصص هيعرف يفهمني اللي فيه..
ساد الصمت.. وهاجر جالسة جواره منكسة الرأس في اضطراب.. تشبك أصابع كفيها المرتجفتين بحجرها.. ما أثار تعاطفه.. كان يعلم أن ما فعلته تطلب شجاعة وجراءة كبرى.. لذا كان متفهما تماما لفوضى مشاعرها في هذه اللحظة، وبلا وعي أو حتى سابق تخطيط.. مد كفه ضاما كفيها المرتجفتين.. هامسا في نبرة مطمئنة، بثت داخلها آلاف من ذبذبات الأمان: متخافيش انتي مغلطتيش.. إنتي صح.. وحتى لو غلطانة.. برضو هكون معاكي وفصفك..
تطلعت هاجر نحوه في تيه بأعين دامعة، ما دفعه ليهتف متوسلا: لا.. دموع لا.. أنا قلبي رهيف قدام دموع حواء.. وأنا بقول كفاية عليا كده.. تنزلي بقى.. قبل ما نصير يرجع.. وقبل ما أنا يحصل لي حاجة..
قهقهت هاجر وهي تمسح دموعها التي انسابت على خديها بالفعل.. مغادرة السيارة على عجل.. وجمال يتابعها بناظريه حتى دخلت الفيلا، متنهدا في حرقة.. وهو يندفع بالسيارة مغادرا بدوره..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
دخل حارس مجلس الأمير ملقيا التحية في احترام، مؤكدا: عزت بالخارج ويطلب الأذن في مقابلتك يا أمير..
أشار له الأمير بإدخاله فورا، ليندفع عزت للداخل ملقيا التحية، ليسأل الأمير مستفهما: ها يا أخ عزت!.. الأمور كلها على ما يرام!.. هل أحضرت أمانتنا عندك!..
هتف عزت متسائلا: مش لما اطمن على امانتي اللي عندكم الأول!.. سلم واستلم يا أمير.. أصول الاتفاج.. ولا ايه!..
هتف الأمير مؤكدا: بس أمانتك مش هنا فالچبل.. كنا ناويين نسلموهالك فالمكان اللي يعچبك بعيد عن هنا..
تساءل عزت متعجبا: وماله هنا!.. ده عز الطلب.. وادي جعدة.. نستنو لما تچبوها واشوفها بعيني..
أمره الأمير: أنزل چيب الأمانة وتعال.. نكون چبنالك البت من مطرح ما إحنا سايبنها..
أقر عزت: لا نازل ولا طالع إلا لما اشوفها بعيني جدامي هنا..
هتف الذراع اليمني للأمير محذرا: خاطب الأمير بأدب.. واحترم مقامه.. وإلا لن تكون العواقب سليمة..
تطلع عزت نحو الراجل في استهتار، وهتف موجها حديثه للأمير: امانتكم چاهزة.. والرچالة واجفة بالصناديق مستنظرة الإشارة مني.. وانتو واعيين كيف ما أني واعي.. ان الحكومة عاملة عليكم كماشة.. والسلاح اللي معاكم ولا يسوى من غير زخيرته.. وأني بمركزي ميسر لكم كتير.. وكل اللي خدته ايه.. شوية ورج من الأخضر.. والبت اللي عكشتوها فدجيجة ولا كان فيها أي تعب ولا وچع راس.. وكان الاتفاج نسلم ونستلم هنا.. وانتو ملتزمتوش.. تبجى العطلة چت منين!.. منكم.. ياللاه بجى خلونا ننچز جبل الفچر ما يهل..
ساد الصمت.. ليهتف الأمير في حنق: انزلوا هاتوا البت بسرعة.. مبجيش وجت..
هتف المساعد: سمعا وطاعة يا أمير...
مندفعا لتنفيذ الأمر.. وعزت يجلس في لا مبالاة.. والأمير يرمقه بنظرات جانبية رغبة في قتله موضعه.. لولا حاجته إليه.. وذاك اللعين يعلم ذلك جيدا.. ما جعله يجلس في استرخاء.. وكأنه أمير في حفل تتويجه ملكا..
لكن يا ترى .. من سيكون بهذا الحفل.. هو ضيف الشرف!..
يتبع...