رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 40 - الثلاثاء 17/6/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الأربعون
تم النشر الثلاثااء
17/6/2025
ـ فضيحة.. ونصيحة..
الرسلانية نهاية ١٩٤٨..
كانت الأخبار تتواتر عن الشروع في توقيع هدنة بين الطرفين المصري والإسرا..ئيلي لإنهاء الحرب وفك الحصار عن الجنود المصريين بالفالوجة منذ شهور.. دون أن يسلموا أسلحتهم بل خروجهم بكامل عتادهم.. مع تسليم الأسرى تباعا..
دخل سعد السراي مهرولا على غير عادته، وأدار مؤشر الراديو، داخل مجلس النساء الذي كان يشمله الصمت إلا من بكاء سعاد ابنة فضل تارة أو أنين واحدة من بنات مختار.. التي ما أن تنعس واحدة حتى تستيقظ الثانية منتحبة.. لتتوالى الأخبار وتنصت النساء في اهتمام.. لتهتف صفية في فرحة: يعني خلاص كده فكوا الحصار يا بابا!.. يعني مختار راچع!..
أكد سعد في محبة: بإذن الله..
هتفت فايزة في اضطراب: وفضل يا عمي!.. مفيش اي أخبار عنه!..
تنهد سعد متوجعا: والله يا بنتي ما خليت سكة إلا مشيت فيها لچل ما حد يطمني هو فين! محدش عارف حاچة.. اهو بعد الهدنة هنشوفوا اللي هيچرا.. ويا رب خير..
لم تنطق فايزة بحرف.. بل دمعت عيناها وهي تتطلع نحو سعاد طفلتهما التي لم يرها فضل حتى اللحظة.. والتي ولدت في غيابه.. أربعة أشهر مرت من عمرها، ولم تبصرها عين والدها.. ولا تمتعت هي بأحضانه الدافئة.. فهمست داخلها متضرعة..
❈-❈-❈
الإسكندرية نهاية ١٩٤٨..
صرخ بنيامين زوج سارة في كل من نعيم ورحيل، مؤكدا في حسرة: أنا قلت لكم ياللاه نهاجر بره مصر من سنين، قعدتوا تقولوا لي لأ ونهاجر ليه ونسيب مصر ليه!. اهو عاجبكم اللي حصل ده!. شقى سنين راح يا خالتي.. شقى سنين راح يا جوز خالتي.. والدكانة اللي قلت هتريحني شوية من شغل المينا وقرفه.. راحت .. حرقوها وحرقوا قلبي عليها..
هتفت رحيل وهي تربت على كتف ابن أختها في تعاطف: طب أهدى بس يا بنيامين.. هيحصل لك حاجة.. حاسة بك وبقهرة قلبك يا حبيبي.. بس إحنا في أيدينا ايه .. يعني هو إحنا بنعرف الطالع ولا بنقرا المستخبي!..
هتف بنيامين وسارة تنتحب جواره: أنا خلاص مبقاش ليا قعاد ف البلد دي.. أنا هبيع كل اللي ليا هنا ومهاجر على فرنسا..
هتف نعيم ساخرا: فرنسا! ليه!.. تكنش فاكر نفسك قريب نابليون وهيخدوك بالاحضان!.. ده انت متعرفش كلمة فرنساوي على بعضها!..
أكد بنيامين: ولاد عمي هناك من سنين وهيسهلوا لي شوية حاجات.. واهي تمشي..
هتف نعيم في نبرة تقطر خبثا: واللي يريحك ويخليك تعيش ملك معاك كل اللي نفسك فيه أول ما تحط رجلك هناك.. تقوله ايه!..
هتف بنيامين مستهزئا: أقوله يفتح الله.. أنا عارف قصدك على فين! قصدك تودينا اسرا..ئيل.. وهناك بقى نلاقي الجنة الموعودة.. لا.. الكلام اللي بتضحك به على الي..هود اللي بتجبهم للوكالة اليه..ودية اللي بتشتغل فيها من الباطن عشان تاخد عليهم عمولة.. ده مش معايا يا جوز خالتي..
ضربت رحيل صدرها بكف يدها في صدمة، هاتفة في ذعر: الوكالة اليه..ودية!.. دي تروح فيها فداهية..
هتف بنيامين صارخا: هو ده اللي همك! ومهمكيش أنه عايز يحدفنا للمجهول في بلد منعرفش ايه وضعها وياخد فيا وفبنته عمولة!..
تعرفوا.. اللي عمله الإخ..وان المس..لمين في الدكاكين بتاعتنا مش هيكون آخرها.. وهيفضلو يرازوا فينا كده لحد ما نسبهالهم ونغور..
أكد نعيم: بس النقراشي باشا رئيس الحكومة أعلن إنه حل جماعة الإخ..وان المسلم..ين .. يعني الحكومة نفسها شيفاهم تهديد.. يعني اهم ريحونا منهم..
أقر بنيامين: دي حكايات أنا مليش فيها.. ده كده هيزودوها علينا اكتر.. وأنا قلت لكم بعد حرب فلس..طين.. ورجعوهم بخيبة النكبة.. احنا بقى حالنا هنا ميسرش.. حتى ولو ماشيين جنب الحيط.. برضو إحنا محل شك.. أنا خلاص قررت.. وهسافر أنا وسارة.. ومش مسؤول عن غيرنا..
خرج بنيامين صافقا الباب خلفه في قوة، بينما نهضت سارة مهرولة نحو حجرتها باكية، ليتطلع نعيم لرحيل في حنق، قبل أن ينهض متكئا على سطح الطاولة قبالته، متجها نحو حجرته، محاولا أن يقيم الأوضاع المحيطة..
❈-❈-❈
الرسلانية مطلع ١٩٤٩..
لم يمر الشهر بعد إعلان أخبار هدنة رودس بين الجانبين المصري والإسرائيلي.. حتى تم فك حصار الفالوجا وعاد أفراده رافعي الهامة دون تسليم اسلحتهم.. على الرغم من الحزن المرتسم على الوجوه لخسارتهم حرب كانوا فيها المتقدمين.. لا تفريط منهم ولكن العوامل كثيرة والفاعل معلوم.. مستتر الوجوب..
في صباح ذاك النهار الربيعي، كان مصطفى الذي بلغ الخامسة عمرا يلهو بكرته في حديقة دار الحرانية، وصفية تحمل طفلتها برلنتي بينما توحيد تحمل توأمتها أمينة.. انتبهت كلتاهما لنداء مصطفى هاتفا في نزق: شوط الكرة يا بابا.. ياللاه..
هتف مختار وهو يفتح ذراعيه باسما: لما تاچي في حضن بابا الأول!..
انتفضت صفية من موضعها صارخة في سعادة: مختار!.. مختار رچع يا عمتي..
انتفضت توحيد بدورها من موضعها، لا تصدق أنها تبصر ولدها البكر سالما قبالة ناظرها.. اندفعت صفية صوبه، لتساعده في السير لموضع جلوسهما، فقد كانت إصابة قدمه تؤثر قليلا على سرعة سيره، ولم تشفى بشكل كامل.. تحرك مختار نحو موضع أمه ضاما إياها لصدره في محبة، لتبكي وهي تقبل وجنتيه وصدره تتمتم بشكر وحمد لله على عودة فلذة كبدها بخير.. بدأت الصغيرات في البكاء لتهتف توحيد في تأثر: سمي على بناتك يا مختار!.
هتف مختار متأثرا بدوره: بناتي!.. اتنين!..
أكدت صفية ودموعها تسيل على خديها: ايوه.. أمينة.. وبرلنتي..
جلس مختار وضم طفلتيه لصدره، هاتفا في سعادة: ده مفيش أي فارج بينهم، فولة واتجسمت نصين!.. سبحان الله..
هتفت توحيد في فخر: بس الاتنين جمرات كيف امهم الله أكبر..
همس مختار في فرحة: ربنا يبارك فيهم..
ربتت توحيد على كتفه في مودة: يا رب يا حبيبي، وتشوف عيال عيالهم،.. هات عنك كده..
اخذت عنه إحدى الرضيعتين، وما أن همت صفية بحمل الآخرى، حتى منعتها توحيد هاتفة: لاه، هاتيها أني هشيلهم ونادميلي على سعدية من چوه تساعدني، وخدي إنتي چوزك يا صفية على فوج، يسلم على أبوه ويبوس يده، ويفرحه برچعته..
هتف مختار متسائلا وهو ينهض متكئا على يد صفية التي ناولته إياها: وسميح أخباره ايه! قالوا لي إنه اتصاب.. هو مش هنا!..
أكدت توحيد: لاه، هو فمصر.. بجي احسن بس اهو بيكمل علاجه ومرته وولده معاه هناك.. ياللاه اطلع ارتاح، وأني هوصي على غدا ايه فيه الشفا، يخليك تجوم ترمح رمح..
ابتسم مختار، هاتفا: كد الجول يا حچة.. وحشني الأكل من يدك..
استند مختار على كتف صفية، التي أحاطت وسطه بذراعها داعمة، وهما يصعدا الدرج سويا، وما أن فتحت باب حجرة وهدان حتى وجداه يغط في سبات عميق.. حتى أن صوت غطيطه وصل للاعتاب حيث يقفا.. أغلق مختار الباب، تاركا أبيه يكمل نومه بلا إزعاج.. سائرا مع صفية نحو غرفتهما، التي ما أن ولجاها حتى أغلق بابها في عجالة، جاذبا إياها أسيرة بين ذراعيه في لهفة، لتزرع صفية نفسها بصدره باكية، مرددة اسمه تكرره في شوق.. ليهمس هو في وجد: مختار في البعد داب يا صفية..
وذابت صفية بأحضانه.. تطفيء نار الشوق، وتقتص من ليال البعاد..
❈-❈-❈
القاهرة مطلع ١٩٤٩..
سار سميح يتلفت حوله في حرص، يسير في حذر نحو موضع ما على ما يبدو، لا يرغب لمخلوق أن يعرف موضعه.. لذا كان شديد التركيز وهو يمر بهذا التقاطع مختلطا ببعض البشر المارين.. حتى يفلت من تتبع أي من كان.. ويصل لوجهته في سلام..
دخل زقاق ضيق، ومنه لجوف بناية عتيقة من طابقين متهالكين.. هبط الدرج الرطب الذي تشعر منه رائحة العقوبة.. وما أن وقف قبالة باب خشبي متأكل.. حتى شرع في الطرق عليه طرقات منغمة وكأنها شفرة ما.. انفرج بعد انتهائها الباب.. ليدخل سميح للحجرة الضيقة التي تشتمل على طاولة وحيدة متأرجحة.. حولها عدة مقاعد متهالكة بدورها.. ولمبة جاز نمرة خمسة تعطي للحجرة المعتمة بعض الضي الشبه خافت.. هاتفا في نبرة مكتومة الثورة: احنا هنسكت على اللي حصل ده!.. دم الامام الشهيد لازم يكون عليه رد قاسي.. دي مصيبة كبيرة ومش لازم نسكت..
هتف أحد زملائه: عندك حق.. بس مفيش أي أوامر بالتحرك.. بالعكس.. القادة طلبوا التهدئة.. والطاعة العمياء.. وخصوصا إن في كتير من زملائنا تم تقبض عليهم بالفعل..
هتف سميح حانقا: يعني هتفضل نارنا قايدة كده على اللي حصل ده ومنردش!.. وشكل الجماعة وهيبتها!..
أكد زميل آخر: ما احنا قلنا يا سميح.. طاعة أولي الأمر بلا نقاش أو جدال.. هم أعلم بالأمر.. والحدث جلل.. ولابد من التريث حتى يكون الرد على قدر الحدث.. فهمت!..
هز سميح رأسه في إيجاب ، ليستطرد زميله الأول: نقدر حميتك وغيرتك المحمودة على أمر الجماعة.. لكن الأمر جاء للكل بوقف الاجتماعات السرية.. فأنا بنصحك بالعودة لبلدك بالصعيد والبقاء هناك لفترة حتى يأذن أولى الأمر وتكون لنا عودة..
أكد سميح: اعتقد هفضل في القاهرة شوية أكمل علاجي.. وبعدها إذا كان الأمر على ما هو عليه.. هرجع بلدنا فعلا..
هتف زميله: على بركة الله.. لنخرج فرادى..
غادروا الحجرة في حرص.. واحدا تلو الآخر.. لا علم لهم متى يمكنهم أن يجتمعوا من جديد..
❈-❈-❈
الرسلانية منتصف ١٩٤٩..
عاد كل من كان محاصرا بالفالوجا.. وبدأ تبادل الأسرى بين الجانبين على دفعات.. ولم يعد فضل.. طرق سعد كل الأبواب وكذا مختار.. ولم يطمئنهما مخلوق.. كانت أنس الوجود تزوي في صمت.. لم تكن تبرز حزنها للاعين وخاصة في وجود فايزة حتى لا تزيد عليها حزنها الذي تدرك جيدا كم تقاسي.. فقد ذاقت مر الفراق لسنوات عن سعد وما كانت تدرك هل من عودة ولقاء أم أن الفراق أصبح قدرا محتما.. حتى شملهما الله برحمته وعادت بحوله وقوته.. وها هي يراها سعد تجلس في بهو السراي وحيدة.. تحمل طفلتها في شرود.. تاركة رؤوف يلهو قبالتها وهي لاهية عنه.. ما دفع سعد للجلوس أمامها متعاطفا، يشاكسها في ود: كده يا فايزة! تچيبي لي الكلام من عمك عدنان، جال ايه إحنا مانعينك عن زيارتهم .. اكمنك بجالك مدة معتبتيش العرابة.. إحنا يا بتي.. حد جال كده!..
هتفت فايزة نافية: لاه يا عمي.. ولا عمرك تعملها.. ده حضرتك مرات بتوديني بنفسك.. لما تتوحش جعدة عمي.. لاه محصلش أبدا.. بس عمي تلاجيه بيضحك معاك..
هتف سعد مستفسرا: معلوم بيضحك معاي وبرضك اتوحشتك أمك والعيال.. ده من يوم ما جوم ليكي فولادة سعاد ما رحتيش عندهم.. روحي يا بتي.. فرچي عن روحك..
نكست فايزة رأسها ولم تعقب، كان يعلم أنها عزيزة النفس لا تقبل البكاء قبالة مخلوق.. وأن قلقها على حال فضل.. يأكل من ثباتها ويقتات على صبرها.. ما دفع سعد لينهض مبتعدا.. هاتفا في تأثر: روحي يا بتي لأهلك..
هتفت فايزة في نبرة متحشرجة وجعا: لما يرچع چوزي يا عمي..
ضرب سعد بعصاه الابنوسية الأرض متأثرا.. وابتعد عن موضع جلوسها متجها نحو حجرة مكتبه، غير قادر على الإتيان بحرف أمام ردها..
سكنت الرسلانية، ونعس قاطنيها.. وما بقي على حاله مستيقظا إلاها.. وكل مشغول بال.. ما حثها لتجلس كي تكتب رسالة لفضل.. هي تعلم أنها لن تصله.. لأنها لن ترسلها.. أين يمكنها أن تفعل! ليتها تعلم له مكان.. أو يدلها أحدهم بأي أرض يكون.. لأرسلت من الرسائل ما لا يحصى.. ولبعثت من الخطابات ما لا يعد.. لعل أحدهم يصل لكفيه فيعلم مدى شوقها إليه.. ويحثه ذلك على العودة إليها سريعا..
أمسكت القلم.. وبدأت تكتب..
"الخامس من مايو ١٩٤٩..
إلى زوجي الحاضر الغائب.. فضل الله..
قد تظن أني فقدت عقلي، حين تدرك أني اكتب لك رسالة أعرف أن مصيرها هو درج مكتبي.. ولكن ما عساي أن أفعل وموجات الشوق إليك يا مؤنسي تضرب أعماق روحي كما الزلازل..
تعيد على مسامعي قصائد الشعر التي اسمعتني إياها يوما.. وتكرر قبالة ناظريّ ذكريات حلوة عشناها سويا.. هي أغلى أيام العمر.. بل هي العمر في أيام لو تدري!..
الناس قد هجعت كل لمرقده.. إلا أنا.. مسهدة الجفن وقد غاب مرقد جبيني.. ومسكن أمني.. وموطن سكينتي وسكناي.. فبت ادعو الله بنجاتك.. عطفا على حال روحي في بعادك.. وها أنا انتظر عودتك.. رحمة من الله بقلبي..
أحبك..
زوجتك.. فوز.."
تركت فايزة القلم من كفها جوار الرسالة.. وشرعت في النحيب.. حتى أنها ما انتبهت مباشرة لذاك الصوت الهامس في وهن، والذي أكد في أحرف متقطعة: رحمة ربك واسعة يا فوز.. ودعواتك كانت مقبولة ..
انتفضت فوز تزيح عن وجهها دموع غشيت ناظرها عن أبصار حقيقة ما ظنته وهم جسده خيالها المشبع بصورة فضل وصوته الرخيم.. لكنها اندفعت صوبه ما أن أدركت أنه هو.. زوجها الغائب وقد عاد لتوه.. ضمت وجهه بين كفيها في عدم تصديق، وقبلت كل شبر فيه.. وجهه المحبب الذي ازداد نحولا واستطالت لحيته.. وما أن همت بضمه بين ذراعيها حتى تأوه بقوة.. ما دفعها للتقهقر خطوة للوراء تستكشف موضع الوجيعة.. لتدرك في خضم فرحتها حال ذراعه المتهدل بهذا الشكل الذي يوحي بعدم قدرة صاحبه على التحكم فيه..
لم تسأل فايزة.. فما كان هذا وقت الاسئلة.. بل تطلعت نحو فضل الذي كست نظراته وجيعة خفية لا تقرأ أسطر معاناتها إلا فوز.. لتجده يهمس مطالبا: شكلي مش ولابد.. أول ما سرحوني.. مرضتش أنهم يبلغوا حد.. وجيت على هنا على طول.. وقعت فالطريق.. عايز استحمى يا فوز.. واحلق دقني.. مش عايز بابا وماما يشوفوني كده.. مش عايز رؤوف يخاف مني.. وعايز أبوس المولود بدقن ناعم.. سمتيه زي ما اتفقنا!.
هزت فايزة رأسها في إيجاب دامعة العينين: سمتها سعاد زي ما اخترت..
أومأ فضل برأسه ممتنا.. لتمسك فايزة بذراعه المعاقة في اتجاه الحمام.. حيث أعدت كل ما كان في امكانها ليحظى زوجها بحمام ساخن يزيح عنه أدران الشهور الطويلة الماضية..
ساعدته في التخلص من ملابسه المهترئة.. ليجلس بحوض الاستحمام الواسع.. وتبدأ هي في إزالة الشعر عن ذقنه في حرص.. تدندن بصوت رخيم.. لم تكن تعلم أنها تملكه.. إلا حين اخبرها فضل بذلك.. فباتت تدندن له ما أن يجتمعا.. بأغنية سيد درويش الذي يعشق.. واللحظة لم تكن استثناءً.. فقد أخذت تشدو في صوت خفيض منغم..
والله تستاهل يا قلبي.. ليه تحب .. ما كنت خالي!.. أنت أسباب كل كربي.. وأنت أسباب ما جرا لي..
ليهمس فضل ما أن انتهت من حلاقة ذقنه، وهي تملس عليها مؤكدة على نعومتها واجادتها عملها، متطلعا نحوها بنظرة حوت مجمل العشق: عمر ما كان حبي ليكي سبب كربي.. ده إنتي الانتصار الوحيد في حياتي.. إنتي فوز..
ضم كفه بكفها التي كانت ما تزل تحتضن جانب وجهه مقربا باطنها لفمه ملثما في شوق.. هامسا في نبرة مهتزة: اسنديني..
ساعدته على الخروج من المياه، مدثرة إياه بمئزره.. حتى أوصلته لفراشه.. وما أن همت بالابتعاد رغبة في إحضار بعض من طعام لتناوله.. إلا وجذبها أمرا: خليكي جنبي..
همست تفهمه: هچيب لك حاچة تاكلها.. تلاجيك..
قاطعها فضل مطالبا في هوادة: أنا مش جعان.. أنا بردان.. ودوايا الدفا ف حضنك..
صعدت للفراش تضمه إليها.. ليغرس نفسه بأحضانها في تطلب.. مطوقا خصرها بذراعه السليمة، هامسا بنبرة متحشرجة: كان نفسي اطوقك بدرعاتي الاتنين زي ما كنت بحلم كل ليلة وأنا في الأسر.. مكنش حاجة بتهون عليا عذابهم إلا كوني بحضنك.. بس حتى الحلم ده مقدرتش احققه.. عشان فضل بقى عاجز يا فوز..
شهق فضل في أحضانها.. لتدرك أنه يبكي قهرا.. فشاركته البكاء وهي تضمه إليها بقوة.. تاركة له العنان ليفرغ كل ما بجعبته من دموع ادخرها لشهور ليزرفها بين ذراعيها.. وما أن أدركت أنه بدأ يهدأ بعض الشيء.. حتى دنت هامسة على مسامعه بنبرة تقطر دلالا: بحبك كيف ما تكون.. واللي يلزمني منك خدته غصبا عنك.. جلبك..
لم يرد على مشاكستها التي كانت هي عين الحقيقة.. بل انكمش بأحضانها.. يروي ظمأ قلبه لأنس محياها.. أمرا في همس: دندني وضميني يا فوز.. عايز أصدق إني معاكي.. حقيقة مش وهم.. واني في حضنك اخيرا حر..
ضمته إليها أكثر.. ودت لو غرسته بحشاها.. وأخذت تدندن وهي تهدهده في حنو.. أنا هويت وانتهت.. حتى غاب في سبات عميق.. مستعدا شعور الأمان الذي افتقده لشهور طويلة قاربت على العام بعيدا عن دفء أحضانها..
❈-❈-❈
القاهرة مطلع ١٩٥٠..
لم يمر من إجازتها سوى يومين.. ومع ذلك شعرت بالملل الشديد.. ما كان لها من أصحاب بالقاهرة ذهبت كل منهن لحال سبيلها.. من تزوجت وابتعدت ومن تزوجت وسافرت للخارج مع زوجها.. ومن هي مخطوبة ومشغولة بتجهيز عش الزوجية.. الكل أصبح له شاغل إلاها.. شاغلها الوحيد العلم الذي هربت لتتستر خلف ستاره من ضغط والدها والحاح أمها على الزواج ممن لا ترغب.. وخاصة بعد رفضها عرض ناجي..
ناجي!.. تراه أين يكون اللحظة!.. كانت تتبع أخبار ما يحدث بفلسطين بقلب واجف ينتفض رعبا إذا ما سمعت النشرات الاخبارية وعلمت أن الأمور لا تسير على ما يرام.. ولم يهنأ لها بال إلا بعد أن استطاعت إحدى صديقاتها أن تعرف إذا ما كان قد عاد سالما.. فأكدت عليها أنه عاد بإصابة بسيطة وتماثيل للشفاء.. ما أثلج صدرها..
اعتدلت إلهام بفراشها حين وضعت الخادمة صينية الطعام على أقرب طاولة، هاتفة في ود: الباشا والهانم قالوا لي مفيش داعي اصحيكي وقت فطورهم واسيبك تصحي على راحتك واجيب لك الفطار لحد عندك..
هتفت إلهام في امتنان: متشكرة يا دادة..
غادرت الخادمة الغرفة، لتترك إلهام تتطلع حولها في هوادة.. هي نفسها الغرفة التي غادرتها منذ ما يقارب العام ونصف العام.. لم تتغير.. لكن ما تغير هو دواخلها هي..
نهضت ملقية نظرة سريعة على صينية الطعام وما أن همت بالدخول للحمام، حتى استوقفها ذاك البريق اللامع الذي يطل من أسفل حافة صحن الزبدة.. اقتربت لاسكشافه لتشهق في فرحة.. فقد كان سلسالها الذي وهبته قبل سفرها لناجي.. إنه يذكرها.. وما زال قلبه على العهد.. ورقة مطوية كانت بجوار السلسال لم تفطن لها إلا بعد أن هدأت لهفتها.. لتفضها في عجالة.. "نورتي مصر.. وعاصمة النور ضلمت.. عايز أشوفك.. بعد ساعة في جنينة الأزبكية.. وحشتيني.."
اتسعت ابتسامتها.. واندفعت نحو النافذة تتطلع هنا وهناك.. حتى أخيرا بنقطة بعيدة نسبيا، رأته.. لوح لمرة واحدة وكأنه اطمأن أنها استلمت الرسالة.. ثم غادر مسرعا ينتظرها حيث اتفقا..
ألقت بكفيها ما أن رأته بأحضان كفيه.. وكأن التحية بكف واحدة لا تشفي غليل الشوق.. ليندفعا معا بأرجاء الحديقة كل منهما يحكي ما مر عليه طوال هذه الفترة من البعاد.. مشيرا للسلسال الذي وضعته حول جيدها.. باسما: مفيش حاجة هونت عليا أيام الحرب والرمية في الخنادق وورا الدشم إلا سلسلتك دي.. كنت تضم عليها كف أيدي واغمض عنايا ويجيلي صوتك وانتي بتبكي في حضني واحنا بنودع بعض.. كنت ببقى فعالم تاني.. وتهون عليا اي حاجة بس عشان أرجع لك..
دمعت عيناها في عشق، وهي تتطلع نحوه، مؤكدة: أخبار الحرب كانت بتقتلني فاليوم ألف مرة وأنا قاعدة اقول يا ترى يا هل ترى.. لحد ما قدرت اعرف اخبارك من واحدة صاحبتي هنا أخوها ظابط برصو.. وأول ما أكدت لي إنك بخير بإصابة بسبطة.. روحي اتردت لي..
ساد الصمت لبرهة وهما بمسيرهما.. يحتضن كفه كفها في محبة.. ليسالها مستفسرا: اجازتك أد ايه يا ترى!..
أكدت إلهام في ضيق: أسبوعين..
همس ناجي مؤكدا: يبقى هشوفك كل يوم..
تنهدت إلهام متحسرة: يا ريت .. بس أنا مسافرة الرسلانية عشان فرح وداد بنت عمتي..
همس ناجي: أخت فضل الصغيرة.. صح!..
هزت إلهام رأسها تأكيدا، متسائلة: شفت اللي حصل لفضل!.. زعلت عليه أوي..
تنهد ناجي مؤكدا: ده تمن المحبة يا إلهام.. التضحية.. وفضل نوع نادر من البشر متلاقيش زيه كتير..
ثم همس مستطردا في نبرة ذات مغزى: ع العموم .. مبروك.. وعقبالك..
همست إلهام متسائلة في نبرة شجية: تفتكر هيجي اليوم وبابا يوافق على جوازنا.. ونبقى لبعض يا ناجي!..
أكد ناجي في نبرة واثقة: ليه لأ!.. جايز يرفض.. واحتمال يوافق.. لكن الأكيد يا إلهام إني لا حبيت ولا هحب غيرك.. وأنا بعد ما ترجعو م الرسلانية هاجي اتقدم لوالدك تاني..
هتفت إلهام في اضطراب: بلاش يا ناجي.. أنا عارفة إنه هيرفض.. بلاش تعرض نفسك للموقف ده تاني.. عشان خاطري..
أكد ناجي في محبة: ده أنا عشان خاطرك لازم اعمل كل اللي أقدر عليه عشان ربنا يجمعنا سوا..
هتفت إلهام في قلق: أنا خايفة عليك.. بابا ممكن يضرك في شغلك يا ناجي.. وده لو حصل أنا مش هسامح نفسي أبدا..
أكد ناجي في ثبات: والدك راجل نزيه يا إلهام لا يمكن يعمل كده.. حتى لو هدد ب ده.. واصراري على طلب ايدك.. هيأكد على صدق رغبتي.. وهو هيدرك الحقيقة دي حتى مع رفضه..
تطلعت إلهام نحو ناجي في محبة.. وناولته ورقة بها عنوانها بباريس حتى يكتب لها دوما.. وترك لها بدوره العنوان الذي سترسل عليه خطاباتها.. حتى لا ينقطع بينهما الوصل..
❈-❈-❈
الرسلانية يناير ١٩٥٢..
منذ جاءت حكومة الوفد بقيادة النحاس باشا مجددا لسدة الوزارة في مطلع ١٩٥٠.. إلغائها العمل باتفاقية ٣٦.. وبدأت الأحوال تتوتر بين الإنجليز الذين سحب منهم إلغاء الاتفاقية حق وجود قوات لهم بمنطقة قناة السويس.. لتشتعل المقاومة الشعبية هناك.. رفضا لتواجد الإنجليز ورغبة في تنفيذ وعدهم بالاستقلال.. لكن ما حدث في يوم ٢٥ يناير كانت الشرارة الحقيقية التي قام على أساسها الغضب الشعبي ولم يهدأ رغبة في الثأر..
صرخ فضل في غضب، والأخبار تتواتر من جهاز الراديو: ده تجبر وافترا.. ٧ آلاف جندي انجليزي بمدفعية ثقيلة قصاد ٨٥٠ ضابط وعسكري بوليس مصري بسلاحهم الخفيف.. محاصرينهم بمبنى المحافظة بالاسماعيلية.. ولما رفضوا يسلموا بعد ٣ ساعات مقاومة.. دكوا المبنى على اللي فيه.. ده كفر..
هتفت فايزة في محاولة لتهدئة زوجها، الذي حاولت قدر استطاعتها أبعاده عن الأحداث العصيبة التي تجري بعد ما جرى بذراعه.. التي باءت كل محاولات علاجه بالفشل: أهدى يا فضل.. هو ده جديد على الإنجليز وجبروتهم.. اهدى عشان خاطري..
نهض فضل مندفعا نحو الأعلى، لتسأل فايزة في قلق: على فين!..
أكد فضل: لازم انزل مصر حالا.. لازم اكون في الجريدة.. اللي بيحصل ده ميتسكتش عليه..
صمتت فايزة ولم تعقب.. كانت تعلم أن ما من قوة على وجه الأرض تستطيع أن تثني فضل عن السفر طالما قرر.. لكن ما يطمئنها أنه لن يندفع نحو الإسماعيلية لمشاركة الفدائيين أعمالهم البطولية كما كان يفعل سابقا.. بل تحول جهاده لجهاد فكري يستخدم فيه قلمه الذي أصبح ذا وقع على الكثير من القراء.. وتحليلاته السياسية كانت لها تقديرها الكبير بين صانعي الفكر الحر..
استيقظت القاهرة في صباح توديع شبابها الثمانمئة من خيرة ضباط البوليس.. على حرائق متفرقة هنا وهناك.. الصرخات تتعالى الكل يستغيث.. ولا أحد يدرك أين كانت الشرارة الأولى!.. وما الهدف منها!..
لينتفض سعد والجميع على طاولة الإفطار حين أمر الخادمة بفتح الراديو.. فتوالت الأخبار تباعا.. هاتفا في ذعر: يا منچي من المهالك يا رب.. ايه اللي بيچرا فالبلد!..
هتفت فايزة في قلق: عمي اطمن لنا على فضل .. ده لسه امبارح..
هز فضل رأسه متفهما، وقد وقعت عيناه على أنس الوجود التي كانت شاحبة الوجه، منصتة للأخبار في تيه، شاردة في أمر ما مثيرة قلق سعد، الذي ربت على كف يدها الموضوع قبالتها على المائدة، متسائلا في حنو: ايه في! متجلجيش.. فضل بخير.. ودلوجت هو اللي يطمنا عليه.. ايه جولك!..
همسات أنس الوجود بصوت كأنه قادم من بعد آخر، بأعين دامعة: وكأني بشهد حريق أزمير للمرة الثانية سعد باشا.. نفس المشاهد بتترسم قصاد عنايا.. وأنا بجري وفضل في حضني.. عشان احتمي من ألسنة اللهب في كوخ الخالة يلديز.. أزمير احترقت بعد سقوط اليونانيين ومحدش لحد دلوقت عارف مين اللي عمل كده.. والآن القاهرة تحترق سعد باشا.. ومحدش عارف مين اللي عمل كده.. لكن قلبي يحدثني.. أن أمر عظيم سيقع قريبا..
اضطرب سعد لكلماتها.. كانت هذه من المرات القليلة التي حكت فيها أنس الوجود عما جرى لها بأزمير.. وتنبأها الأخير جعل قلبه ينقبض في رهبة.. ما دفعه ليربت على كفها من جديد.. هامسا: مفيش حاچة هتحصل إلا كل خير إن شاء الله.. أني جايم.. لازما أنزل مصر حلا.. ونشوف دولة النحاس باشا ناوي على ايه!..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٥٢..
تطلعت حولها في لامبالاة نحو كل هذه الباقات الرائعة من الزهور، والتي ملأت أرجاء الغرفة وحتى الممر خارجها.. وقدمت لها مساعداتها رزمة كبيرة من البطاقات التي كانت برفقة الباقات.. اخذت تقلبهم بين كفيها في ضجر.. كانت البطاقات تحمل أسماء أكبر رجالات الدولة من سياسيين، فنانيين، كُتاب.. وصحفيين.. كلهم يتمنوا لها الشفاء العاجل.. في كلمات منمقة رشيقة.. وضعت البطاقات جانبا، ومساعدتها تهتف في فخر: الكل بعت يطمن عليكي . اومال مش ست الكل.. نجمة مصر الأولى..
تطلعت زينات عوني نحو مساعدتها، هاتفة في سخرية: اه.. الكل بعت كروت يطمن إني عائشة وأنا كنت فقلب الحريقة امبارح!.. لكن حد فكر يجي يزورني ويطمن عليا بنفسه.. مفيش.. كله خايف.. محدش بيقابلني فيهم إلا فضلمة التياترو.. والكل سكران وملهي ف حاله.. وفيهم اللي بيجي م الباب الخلفي.. مش عايز حد يشوفه فالصالة.. وهو قاعد معايا.. عشان وضعه الاجتماعي ما يسمحش.. أو خوف من خصومه السياسيين.. أو من قرايب مراته الواصلين.. كل واحد حجته جاهزة عشان يكون معايا بس في السر والضلمة..
دخلت إحدى الممرضات الغرفة.. تبعتها زميلتها حاملة باقة آخرى من الزهور لم تجد لها موضعا.. فقررت تركها جانبا والقيام بقراءة مؤشر الحالات وقياس الحرارة.. والخروج في عجالة من الغرفة.. لتهمس إحداهما الأخرى في انبهار: أنا مشفتش كده! ايه الجمال ده!.. كنت فاكرة إن اللي بنشوفه فالسيما ده كله عيرة.. طلع بحق وحقيق.. دي لهطة قشطة..
لترد زميلتها: ايوه اومال ايه.. دي زينات عوني.. بالك انتي كل بوكيهات الورد دي اللي بره وجوه الاوضة كلها من رجالة.. وايه.. ناس هاي..
أكدت الممرضة وهي تميل على زميلتها هامسة: يا بت ده أنا سمعت إنها عشيقة حد كبير أوي فالقصر..
أكدت زميلتها بلهجة العالم ببواطن الأمور: ده بيقولو إنها عشيقة الملك نفسه..
نفت الثانية في معارضة: لا، مش معقول! دي رقصت ف زفاف الملك فاروق الثاني اللي كان من كام شهر ده واهو جاب ولي العهد.. لسه من كام يوم.. الأمير أحمد فؤاد الثاني..
هتفت صاحبتها: كان مالها الملكة فريدة!.. بس اهي حظوظ..
اقترب ذاك العجوز من موضع وقوفهما، ليسأل: هو فين اوضة الفنانة زينات عوني!..
أشارت إحداهن نحو الغرفة، بينما همست الآخرى حين ابتعد ساخرة: حتى العواجيز جايين يسألوا على زينات عوني.. يعيني على حظنا أما في جنس راجل قال انتوا فين!..
قهقهت صديقتها وهن يراقبن العجوز يدخل الغرفة، حين أذنت له المساعدة.. والتي خرجت اللحظة تاركة مخدومتها بصحبة ذاك الرجل النحيل العجيب الهيئة، والذي تطلعت نحوه زينات متنهدة في قلة حيلة: خير يا خواجه نعيم! جاي تتأكد إني مت، ولا جاي ليه!..
تطلع نعيم نحو شفاعات الشهيرة بزينات، مؤكدا في نبرة مدعيا الصدق: جاي اطمن عليكي بعد ما عرفت إن السيما ولعت وإنتي بتحضري عرض فيلمك الجديد.. وريني كده.. اتحرقتي فين.. اشوف بعيني عشان ارتاح..
جذبت من يده يدها البضة.. مؤكدة في قرف: أنت عارف إني لا اتحرقت ولا حاجة مستني.. فبطلت الحركات بتاعتك دي وقولي جاي ليه!..
أكد نعيم بلا مواربة: جاي اخد منك اللي فيه النصيب حلاوة جناتك.. لأن الدنيا معايا ضنك.. واديكي شايفة.. مبقاش حد طايقنا.. وشوية وهيولعوا فينا..
تطلعت شفاعات نحوه ساخرة: اشمعنا أنت من دون اليه..ود اللي قاعدين في أمان ومرتاحين عايزين يولعوا فيك!.. خد..
وضعت شفاعات بكفه بضع عشرات من الجنيهات، مؤكدة: دول اللي معايا هنا.. ومتهيء لي إنهم كفاية..
أكد نعيم: مش كفاية.. بس مقبولين مؤقتا.. اقول لك سلام عشان ميصحش اطول في زيارة المريضة.. ولا ايه!..
قهقه نعيم وهو يحصي النقود في لهفة، متجها صوب الباب مغادرا.. وما أن اغلق الباب ورائه، حتى قذفت شفاعات خلفه إحدى باقات الزهور الأقرب ليدها.. نحو الباب في غيظ..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
تسمر حبيب موضعه على أعتاب حجرته، يتطلع في ذهول لتلك التي تقف هناك في طرف الغرفة البعيد تحمل بيديها صورة فوتوغرافية و رقة ما، على ما يبدو اخرجتها من أحد الادراج المفتوحة تلك.. ما دفعه ليسأل في دهشة ممزوجة بالتعجب: بتعملي ايه عندك يا أستاذة!..
لم تجبه أنس مباشرة على سؤاله، بل وقفت لبرهة تتطلع للصورة الفوتوغرافية والورقة ثم تحركت صوبه حتى توقفت قبالته وسألته في نبرة مضطربة الأحرف، مشيرة نحو الرجل الذي يقف جوار صورة والدتها: هو مين ده!..
تطلع حبيب نحوها متعجبا: أبويا.. ليه!..
تجاهلت سؤاله وهي تتطلع للورقة: اسمه رؤوف!.
هز حبيب رأسه في إيجاب، غير مدرك لسبب كل هذه الأسئلة المريية، مكررا عليها: ايوه أبويا.. رؤوف فضل الله سعد عبدالمچيد رسلان.. ايه في!..
ظلت واجمة لبرهة وهي تتذكر كيف كانت تهزي أمها باسم أبيه في المشفى فترة مرضها، وهي ما كانت تدرك من رؤوف هذا.. وما جاء أحدهم هنا على ذكره في المرات التي بقيت فيها فالرسلانية طالت مدتها أو قصرت.. ما دفعها لتزعق متسائلة: صورته بتعمل ايه جنب صورة ماما!..
قهقه حبيب على سؤالها بما لا يستدعيه حالها المضطرب، مجيبا في بساطة: دي امي أني يا أستاذة!
هتفت في حنق مصدومة: أنت قصدك إن إحنا أخوات!
تبدلت ملامح حبيب الباسمة لنقيضتها تماما في لحظة، متطلعا صوبها وقد بدأ يدرك أي حال كانت تعيشه هذه المسكينة بعيدا عن جذورها.. جذورها التي لتوها تتعرف على أصولها، ما دفعه ليسأل في نبرة حذرة: هي الوالدة مش حكيالك أي حاچة عننا نهائي!..
تطلعت أنس نحو حبيب متعجبة: هتحكي لي ايه! كانت أصلا تعب..
قطعت استرسالها بالحديث عندما أدركت أنها كانت لتوها ستخبره بسبب مطالبتها بميراث امها.. مستطردة بعد أن عدلت حديثها: هي ما قلتش غير إن ليها ورث عندكم وإني لو جيت وطالبت به هتدهولي.. بس كده!..
سأل في حنق مكتوم: ومجلتلكيش إحنا مين! ولا نجربولها ايه!.. ولا مين ستي صفية اللي راجدة تحت دي! وتجرب لها ايه!
نفت أنس الوجود بهزة من رأسها، مؤكدة: هي مقالتش وأنا مسألتش.. أنا كنت جاية لهدف محدد يومين وماشية.. ايه اللي يخليني اتعرف على ناس يمكن مشفهمش مرة تاني فحياتي كلها!..
استفسر حبيب في نبرة غامضة لم تستطع تفسيرها: ودلوجت يا أستاذة!.. لساتك مش رايدة تعرفينا!.. لسه چاية تاخدي اللي ليكي وتروحي وتنسينا!.
دمعت عينى أنس ولم تجب اسئلته.. ما دفعه ليشير للصورة الفوتوغرافية التي تحمل، مجيبا في هدوء: دي أمي أمينة توأم أمك برلنتي هانم..
شهقت أنس الوجود في صدمة حقيقة، واضعة كفها على فمها الذي كان مشرعا في ذهول، متطلعة نحو المرأة بالصورة مجددا، قبل أن ترفع ناظريها نحو حبيب، الذي أومأ برأسه مؤكدا في تعاطف مع صدمتها المجسدة على محياها: ايوه.. أمك وأمي أخوات.. وستنا صفية دي تبجى أمهم.. يا بت خالتي..
كانت الصدمة مضاعفة، حين جاء على سيرة الجدة صفية التي كانت تعلم داخليا أن هناك رابطا يربطها بهذه المرأة روحيا.. وخاصة حين رأتها للمرة الأولى وفتحت ذراعيها لاستقبالها..
وشعرت بشيء خفي لم تعرف له تفسير لحظتها.. والآن فقط فسرت ذاك الشعور.. فسرت نظراتها الحانية التي كانت تلمحها مطلة من عينيها تجاهها فجأة.. إذا ما صادفت مجلسا هي فيه..
هدد الدمع المتعلق بالأجفان بالهطول في غزارة، فما كان منها إلا إلقاء الصورة الفوتوغرافية والوثيقة التي كانت تحمل اسم والده بين كفيه، مندفعة تهرول نحو حجرة منيرة..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
كانت ما تزال على اضطرابها.. لا تعلم كيف لها أن تتصرف..فكرت في التواصل مع ممدوح.. لكنها توقفت لبرهة غير مستحسنة الأمر.. فممدوح على الرغم من فزعته دوما لنجدتها.. لكن هذا الموضوع يحتاج لشخص قادر على إعطاء النصيحة.. وأخبارها كيفية التعامل مع المجريات..
رن جرس الهاتف، وقررت تجاهله.. لكنها وبلا سبب واضح قررت على آخر لحظة رفع السماعة متسائلة بصوت متحشرج اضطرابا: الو.. مين!..
هتف الشخص على الطرف الآخر: الو.. هاجر!..
أكدت في توتر، وبصوت مرتعشة: ايوه.. من..
قبل أن تكمل سؤالها، هتف جمال في قلق: أنا جمال.. ما صوتك!.. انتي كويسة!..
وكأن اتصاله جاء لها نجدة من السماء فهتفت بصوت باكِ: جمال.. أنا كنت جايلك.. أنا..
قاطعها جمال وقد نهض من موضعه بالفعل.. أمرا في نبرة مطمئنة: اديني العنوان ومسافة السكة هكون عندك..
ولم يكذب خبرا، فما أن أخبرها البواب بانتظار جمال لها بالخارج، حتى اندفعت مغادرة.. حتى إذا ما صعدت للسيارة جواره.. حتى هتف بها في نبرة حانية: ما تحكيش حاجة دلوقت.. إهدي خالص.. وكل حاجة محلولة.. مهما كانت ايه.. أنا معاكي..
تطلعت هاجر نحوه، وباعين دامعة شكرته في هدوء، لكن كلمته الأخيرة تلك أحدثت بها شرحا داخليا عميقا.. منذ متى كان لها ذاك الشخص الذي يخبرها أنه معها وجوارها مهما حدث!.. حتى أنس كانت في أوقات كثيرة بعيدة بمشاكلها وما عانته من تعنت امها في بعض الأوقات.. وممدوح .. كان رفيقا هينا يقف في الازمات .. لكنه أبدا لم يكن ذاك الجدار الصلب الذي قد تميل عليه مهما ثقل حملها ولا تخشي أن ينقض الجدار.. كان دوما الخوف قائم من عدم الكفاية وشعورها الذي يؤرقها دوما بأنها ومشاكلها وأفكارها ومشاعرها وشكواها.. عبء ثقيل لا يجب عليها القائه على كتفي مخلوق.. والزامه بتحملها واياهم..
أما اللحظة.. فقد أدركت أن وجود جمال في حياتها فارق كبير.. وأنه لولا لقاءهما القدري بالمشفى .. وعنايته واهتمامه بها.. ما أدركت اللحظة أن دخول جمال مرة آخرى لحياتها.. والتقاء دروبها وتقاطعها من بعد توازِ.. لهو رحمة من الله.. وعطف على حالها..
جلسا.. وطلب لهما مشروب، هاتفا في محاولة لتهدئة الأمر، مازحا: عرفت انطق البتاع اللي بتحبي تشربيه ده، خدت لي فيه ٣ أيام حفظ.. تقولي تعويزة.. بس شوفتي كريته إزاي!.. لا.. أنا لما بحط فدماغي حاجة ببقى وحش..
طلت ابتسامتها على الرغم من فوضى دواخلها، مؤكدة في أريحية: عمرك ما تبقى وحش يا جمال..
تنحنح جمال، مؤكدا في اضطراب: طب الكلام الحلو ده بيفقدني الذاكرة والتركيز وحاسة السمع كمان، فورحمة ابوكي.. خشي فالموضوع طوالي قبل ما أروح منك..
هنا لم تتمالك هاجر نفسها، وانفجرت ضاحكة على أقواله، ما جعله يهمس في اضطراب، أثر ضحكاتها التي اربكته كليا: أنا أمي كان عندها حق، قالت لي أنا هجوزك بمعرفتي عشان البت من دول أول ما تضحك لك.. أنت هتسلم دوغري.. صدقتي يا أم جمال.. بتقولي حكم..
هتفت هاجر متسائلة في تعجب: أنت بتكلم نفسك يا جمال!..
أكد جمال بلا مواربة: اه.. عادي على فكرة.. أنا بحب اخد وادي مع نفسي كده.. بنا قضايا وحوارات كده بنحلها..
ضحكت هاجر، ما دفعه ليهتف متوسلا: لا.. فعرضك.. كده كتير عليا.. أوفر دوز على يوم واحد.. أمي عيزاني..
أمسكت ضحكاتها، ما دفع جمال ليهتف مدعيا الجدية: ها بقى.. في ايه!.. كان صوتك معيط وانتي بترديد عليا..
هزت هاجر رأسها في إيجاب، معترفة: فعلا.. في موضوع ملخبط كده مش عارفة بدايته منين ولا بدأ إزاي.. بس يمس صديقة ليا.. تعتبر اكتر من أخت.. وأنت لو مكنتش اتصلت بيا ..كنت انا اللي هدور عليك واجي لك.. لأن محدش هيساعدني في الموضوع ده غيرك..
هتف جمال في اهتمام حقيقي: موضوع ايه! خير إن شاء الله..
هز رأسها هامسة: يا رب خير.. أنت تعرف طبعا نصير الراوي.. وعارف إني مش بس بشتغل معاه ودراعه اليمين.. لا أنا ربيبته وعشت في بيته اكتر ما عشت في بيت بابا.. وليه عليا إفشال كتير.. ولولا ظهوره في حياتي في وقت مكنش ليا حد حرفيا.. كان زماني مرمية فالشارع أو حتى في ملجأ رعاية على أحسن تقدير.. يعني اللي هحكيهولك ده مش بس خوفا على صديقتي ولكن كمان خوفا على الراجل اللي له افضال كتير عليا.. اعتبره رد جميل..
لم يقاطعها جمال، بل ظل ينصت وهي تستطرد: من فترة نصير بيه اتقدم لطلب ايد أنس الوجود للجواز..
سأل جمال: مش دي معرفة الاستاذ ممدوح واللي لها قرايب صعايدة تقريبا!..
تطلعت هاجر له في ذهول: ايه ده! عرفت منين!.
هتف جمال متفاخرا: عيب يا بنتي هو أنا فطاطري!..
قهقهت هاجر، فتطلع إليها محذرا لتوقف الضحك، فتوقفت صاغرة، تستطرد شرحها: المهم.. أنس الوجود رفضت عرضه.. وسافرت الصعيد .. لكنه عرض عليها عرض تاني .. أنا مكنتش أعرفه.. لحد ما رفعت سماعة التليفون بالغلط على مكالمة دولية.. وسمعته بيكلم ناس على أنس الوجود.. هو مجبش اسمها صراحة.. لكن كل اللي قاله بيأكد أن الكلام عليها..
قاطعها جمال في فضول: قال ايه يعني!..
قالت في محاولة لتذكر نص الحديث: قال ان هو أداها مهلة عشان تفكر في بيع الأرض له.. وده آخر حل في أيده بعد اترفض عرضه للجواز..
تطلع جمال متعجبا لهاجر: أرض ايه دي اللي تخليه يعرض الجواز على واحدة تقريبا ميعرفهاش!..
أكدت هاجر: مش ده بس اللي لفت انتباهي.. الأخطر جاي.. هو قال إن واضح كده إن محاولاته السلمية انتهت.. وإنه ممكن يضطر لأساليب تانية..
همس جمال في نبرة متسائلة تملأها الريبة: أساليب ايه بالظبط!..
نكست هاجر رأسها في قلة حيلة: معرفش.. هو ده اللي سمعته.. بس أنا خايفة يكون في ضرر على أنس.. ده اللي يهمني..
تنهد جمال، عائدا بظهره ملتصقا بظهر مقعده في تفكير، كان يعلم أن الأمر ليس هين، ويستدعي القلق بالقعل، لكنه لم يحاول أن يثير قلقا هاجر، ما دفعه ليسأل: هو في أي أوراق أو مستندات تخص موضوع الأرض ده!..
أكدت هاجر: ايوه فيه.. بس ده ملف محدش مسه، محطوط في خزنة نصير بيه الخاصة الموجودة في الفيلا واللي محدش يعرف رقمها السري غيره.. ودي حاجات من الحاجات اللي أكدت لي أن الموضوع مهم فعلا.. لأن ملفات الصفقات تقريبا كلها تحت ايدي.. اشمعنى الملف ده.. وكذا حاجة هم اللي جوه خزنة البيت مش الشركة!..
هز جمال رأسه متفهما، وأخيرا هتف: إحنا لازم نعرف الملف ده فيه ايه بأي طريقة!..
سألت هاجر في قلق: طب وأنس الوجود!..
سأل جمال: مش بتقولي أداها مهلة عشان تشوف هتعمل ايه.. هتبيع ولا لأ.. ومشترطش المهلة دي أد ايه!..
هزت رأسها مؤكدة، ليستطرد جمال ناصحا: يبقى لازم حد يقنع أنس بدون ما يعرفها حاجة عشان متقلقش.. إنها لازم تقعد فالصعيد أكبر فترة ممكنة.. لحد ما نشوف الملف ده فيه ايه.. متنزلش القاهرة لأي سبب.. عشان ميضغطش عليها بالرد.. لازم تفضل هناك بأي طريقة..
اومأت هاجر في طاعة.. تفكر كيف لها أن تقنع أنس بالبقاء في الرسلانية أكبر وقت ممكن.. دون أن تشك في الهدف.. وكيف لمخلوق أن يقنع أنس ذات الرأس اليابس بأمر دون أن تطلب تفسير.. ما من أحد قادر على تقديمه من الأساس!..
يتبع...