-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 48 - الثلاثاء 15/7/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثامن والأربعون


تم النشر الثلاثاء 

15/7/2025

ـ أهازيج الفرح.. 

الرسلانية ١٩٦٨..

عادت أنس الوجود إلى موضعها المفضل على مقعد سعد، تتطلع للرسلانية من موضعها، وأمام ناظريها تتسلل ذكريات بعيدة مضت، تتواتر في روية، وتتهادى على دروب مخيلتها في هوادة، لتمد يدها تفتح تلك اللفافة التي جاء بها فاضل، كوصية من نيكوس.. أو تقول سعيد.. أزاحت الغلاف في بطء.. لتشهق في صدمة، فما كان أمامها اللحظة هو آخر ما كانت تتوقع أن يكون بين يديها.. تلك اللوحة المرسومة لذاك الفنان الإيطالي.. والتي أصر والدها على رسمها لأجلها.. قبل أن ترحل كزوجة من قصره لقصر طوسون باشا زوجها الأول.. كم كانت ملامحها جميلة وشابة.. لكن عيناها تحمل وجعا وحزنا بحجم العالم.. تلك النظرات التي تبدل حزنها لفرح وسعادة ما أن قابلت سعد بيه رسلان ووقعت في غرامه منذ أن ترجل من عربته رافعا عربتها المكسورة العجلات بيد واحدة عارية.. كان أشبه بالمخلص.. وقد كان.. تطلعت للوحة مجددا تطيل النظر في تفاصيلها.. مستنتجة أن نيكوس قد حصل عليها من قبو القصر حيث أمر والدها بوضعها بعيدا عن ناظريه.. حين عصت أوامره وقررت الزواج من سعد على غير رغبته بمباركة من أخيها رستم.. 

تنبهت أنس الوجود أن بالغلاف ما زال هناك مظروف صغير.. وضعت اللوحة جانبا وتناولته لتفضه في تأنِ.. لتبدأ في قراءة الرسالة.. والتي للعجب كتبت بالعربية الفصيحة..

"إلى المرأة التي علمتني.. كيف هي الحياة.. 

إلى أنس الوجود هانم.. شكرا.."

توقفت أنس عن القراءة حين غلبتها عبراتها.. معاودة التطلع لأرض الرسلانية.. لكن خيالها سافر إلى هناك.. إلى أزمير.. عاد لقرابة نصف قرن كاملا من الزمان.. ولكل ما جرى على أرضها منذ أن وطأتها بصحبة ولدها فضل.. وكل موقف مع نيكوس.. منذ ألقى القبض عليها بصحبة نوري في كوخ الخالة يلديز.. ومعاملته القاسية لها ولولدها وأخيرا تبدل حاله للنقيض تماما.. 

تنهدت أنس الوجود وهي تمسح دمعت فرت تتبختر على خدها الذي حمل آثار الزمان على أرضه.. مدركة كم مر العمر وولت السنون!.. لتعاود القراءة.. مستطردة في هوادة..

"كنت أعلم منذ أن تركتك في ذاك الكوخ القديم.. ومعك خاتمي.. أن طرقنا قد تفرقت.. ودروبنا لن تتقاطع ما حيينا.. منحتك ذاك الخاتم بحجة بيعه لتعيشي وولدك دون الحاجة للعمل حتى رحيلك لزوجك.. لكني ما فعلت إلا لأني كنت على يقين أن قلبي قد ذهب إليكِ بلا رجعة.. وأن ما من امرأة سواك.. قادرة على فعل ما فعلته بقلب نيكوس أو روحه.. فما كانت هناك من امرأة مستحقة لنيل هذا الخاتم العائلي.. الموكل بي كأكبر ذكور عائلتي.. أن اهبه للمرأة التي اختارها قلبي لتشاركني حياتي.. وها قد أصبح بين يديك وتحت تصرفك كما قلب صاحبه.. 

ربما تتسألين اللحظة.. كيف حصل على صورتي!.. حين سقطت أزمير.. دفعت بكِ للرحيل مع فضل من سرداب القبو.. وتحاملت أنا على جراحي حتى وصلت للوحة التي طويتها بحرص جوار قلبي.. لتكون بعض منكِ.. طيف يرافقني في حلي وترحالي.. عوضا عن صاحبتها التي علمتني كيف تكون النساء الحرائر!.. كيف يكون الوفاء!.. وكيف يمكن للمرأة أن تكون مخلصة حقا لمن تحب، مهما فرقت بينها وبين حبيبها الظروف أو باعدت بين جسديهما المسافات!.. 

بحثت كثيرا.. كثيرا جدا.. عن الكثير من الإجابات.. ولم أجدها إلا في الإسلام.. لذا أعلنت إسلامي في تركيا.. حيث قررت الاستقرار وابن أخي الذي أصبح تحت وصايتي.. والذي سار على دربي.. واعتتق الاسلام كذلك.. اسميت نفسي سعيد.. نعم.. ربما تتعجبي من اختياري للاسم.. لكني أؤكد لكِ أنه مقصود تماما.. هو التصغير من اسم زوجك.. (سعد).. وياله من محظوظ!.. نال السعد كله بأن وهبه الله امرأة مباركة مثلك.. ونلت أنا بعض الحظ فكنت فقط (سعيد) لأني ما نلت منك إلا بضع سنوات هي زاد رحلتي التي طالت في ظني.. حتى لحظة كتابة هذه الرسالة.. واخترت اسم فاضل لابن أخي.. ليذكرني دوما بفضل.. ذاك الطفل الذي كان خير رفيق لروحي في أيام وحشتي.. وتيه نفسي.. اتمنى أن يكون بخير.. لابد وأنه صار رجلا جميل الروح.. لديه من الأولاد وربما الأحفاد.. ما لن أعرف لهم عددا.. تراه ما زال يحلم بالتحليق عاليا كما أخبرني يوما ما!.."

توقفت أنس لبرهة، تمسح دمعة آخرى وهي تجيب على سؤال نيكوس الآخير الخاص بفضل: نعم.. لازال.. يحلق بعيدا ولا يحط على غصن.. أخشى أن تكل جناحاه.. ويحدث ما لا يحمد عقباه.. 

استطردت أنس الوجود القراءة..

"حقا.. لا أعلم لمَ أكتب ه‍ذه الرسالة!. ولم أوكلت فاضل بتسليمها لكِ إذا ما استطاع الوصول إليكِ يوما ما بعد رحيلي!.. وأنا الذي أخذت العهود والمواثيق على نفسي ألا تطأ أقدامي أرض مصر.. حتى لا يغلبني شيطان شوقي لمرآكِ.. إذا ما توصلت لموضوعك.. فأفسد بذلك عهدي مع نفسي بألا أفسد عليكِ حياتك.. أو أعلم أنكِ قد سبقتني إلى الحياة الآخرة.. فتزيد على نفسي الأحزان لفقدك.. وأنا الذي ما عشت إلا على أمل واحد.. هو أنك هناك.. بعيدة لكنكِ سعيدة.. تنعمين بصحبة زوجك الذي اخلصتي له المحبة.. ورزقتي منه بأخوة لفضل.. فزاد بهم رابطك برفيق دربك.. 

أنس الوجود.. اعلمي أنه لو قُدر لكِ قراءة هذه الرسالة.. فأنا هناك.. بالعالم الآخر.. سعيد وراضِ تمام الرضا.. أن القدر كان رحيما.. وقطع درب حياتي الموحشة بدربك ولو لبضع سنوات.. كانت هي لو تعلمين.. أثمن ما بالعمر.. وأغلى لياليه.. ليكون ظهورك هو قنديل الدرب.. ومصباح الهداية لحياة كانت فيها نجاتي.. اذكريني دوما بالخير.. والدعوات.. 

ويا لي من (سعيد) الحظ!.. المحظوظ.. سعيد".. 

طوت أنس الوجود الرسالة في هوادة.. وسالت دموعها مجددا.. ونظراتها تسرح بالبراح.. هامسة بالدعاء من أجله.. 

❈-❈-❈

قنا.. ١٩٦٨..

لم يعد الأمر محتملا، منذ أن كان في السراي يزور والدتها، وهو على هذه الحالة.. يأتي كل صباح يتطلع إلى الطريق حتى يتأكد له أنها وصلت إلى بوابة المدرسة.. وما أن تنهي يومها الدراسي مغادرة حتى تجده ينتظر خارج المدرسة يقف في نفس المكان كل يوم لا يغيره.. يسير خلفها في هوادة وعلى مقربة حتى يطمئن أنها وصلت لدار المغتربات التي تسكنها طوال إقامتها في قنا.. ولم يحاول ولو لمرة واحدة أن يعترض طريقها أو حتى يلقي عليها التحية.. حتى أن بعض من زميلاتها قد تنبهت لوحوده.. واهتمامه بها عن أي فتاة سواها.. وكيف لا يفعلن!.. فرجل بهذا الشكل الجذاب.. وهذه الوسامة الملفتة.. لا يمكن أن تخطئه نظرات أنثى.. أصبح الأمر مزعجا لها وخاصة حين بدأت بعض الزميلات بممارسة هوايتهن في الغمز واللمز.. فقررت اللحظة أن توقف هذه المهزلة.. وتمنعه من الاستمرار في تتبعها بهذا الشكل الذي يجر عليها المزيد من القيل والقال.. 

تسمرت موضعها واستدارت لمواجهته فتوقف بدوره متطلعا لها، وكأنه كان ينتظر ردة فعلها هذه، يستحقها بلا كلمة أن تنطق، وقد فعلت محتجة: اللي بتعمله ده مش صح ومش أصول أبدا!.. 

هز فاضل رأسه متفهما: ما هي الأصول المتبعة إذا كان ما أرغب فيه هو الحديث إليكِ!.. دليني يا سيدتي وأنا رهن اشارتك.. 

تعجبت وداد: تتكلم معايا! في ايه!.. أنا مبقعدش مع حد غريب!.. ولو في موضوع مهم ممكن حضرتك تيجي السرايا.. اعتقد أنت عرفت مكانها خلاص!.. 

سأل فاضل في براءة: إذن عليّ المجيء للسراي، وطلب الإذن للجلوس معك والحديث! حسنا لا بأس.. سأفعل.. لقاءنا في ال..

هتفت وداد في صدمة: أنت هاتيجي بجد!.. 

أجاب فاضل في سلاسة: إذا كان هذا هو العرف المتبع.. حسنا.. سأفعل أي شيء لأحظى بفرصة الجلوس والتحدث إليكِ.. 

هتفت وداد في عجالة: ليه!.. أنا معرفكش.. ومفيش بينا ال..

قاطعها فاضل مع ابتسامة: أرغب في تقديم نفسي.. حتى يتسنى لكِ معرفتي.. ويحق لكِ بعدها الرفض أو القبول..

همست وداد في تيه، وضربات قلبها تتضاعف: رفض أو قبول!.. تقصد ايه!.. 

همس فاضل وقد اتسعت ابتسامته: أرغب في الزواج منكِ.. 

اضطربت وداد.. وما عادت قادرة على التطلع نحوه.. وما أن همت بالهرولة مبتعدة، حتى استوقفها فاضل متسائلا وعلى وجهه ابتسامة مهلكة: هل أتِ إلى السراي كما أخبرتني!.. 

هزت وداد رأسها في تأكيد.. قبل أن تندفع مبتعدة ودقات قلبها ترقص طربا.. وكأنها مراهقة صغيرة.. تخبر مشاعر الحب للمرة الأولى.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٦٨..

تطلعت إلهام لزوجها وهو يقف وحيدا بشرفة حجرتهما، كانت قد أنهت تحضير كل ما هي بحاجة اليه.. وجزمه بهذه الحقائب المنتشرة هنا وهناك بجوانب الغرفة.. حتى أنه ما عاد هناك من متسع المرور بحرية.. ما دفعها النداء على الخدم أمرة: خدو الشنط دي كلها تحت.. 

اطاع الخدم في صمت منفذين، لتترك إلهام كل هذه الترتيبات جانبا.. لتقف جوار ناجي.. متطلعة نحو تلك النقطة التي يشرد فيها مطلقا ناظريه، ربتت إلهام على وجه كفه التي تستند على سور الشرفة باسمة ما أن تنبه أنها إلى جواره، هامسة تداعبه: عينك رايحة على فين! يا خوفي لبنات باريس يخدوك مني!.. 

ابتسم في هوادة متطلعا إليها: مفيش مخلوق يقدر يبعدني عنكِ يا إلهام.. 

احتضنت إلهام ذراعه بكلتا ذراعيها في محبة، وساد الصمت بينهما لبرهة قبل أن تهمس إلهام وهي تضع رأسها على كتفه: ناجي!.. لو مش عايز تسافر.. إحنا لسه فيها.. خلينا لو ده هيريحك.. أنا ميهمنيش في الدنيا إلا إنك تكون مبسوط ومرتاح.. 

ربت ناجي على كفها المتعلقة بذراعه في محبة مؤكدا: أمر السفر مفروغ منه ولا رجعة فيه يا إلهام.. واعتقد ده أفضل حل في الظروف اللي إحنا فيها دي.. وبعدين هقعد أعمل ايه!. خليني أسافر يمكن يكون اللي جاي أفضل.. 

أكدت إلهام في حماس: أنت متعرفش ماما عملت ايه لما بلغتها.. وبهجت بقى البزنس بتاعه أسهمه عليا جدا بعد جوازه من بنت المليونير الفرنسي.. ومحضر لك مكانك معاه في واحدة من شركاته.. يعني بإذن الله حياتنا هتبقى مرتاحة ومرتبة بشكل هيفيد الولاد جدا.. 

هز ناجي رأسه متفهما، مؤكدا في نبرة حاسمة: على بركة الله.. بلغي الولاد يستعدو لازم نكون فالمطار خلال ساعة بالكتير..

هزت إلهام رأسها في طاعة.. مندفعة تنفذ تاركة ناجي يتطلع للأفق أمامه.. يعبأ صدره بأنفاس معبقة بهواء بلاده.. قبل الرحيل.. لعل العودة تكون دربا من أحلام.. 

❈-❈-❈

الرسلانية مطلع ١٩٦٩.. 

جاء فاضل مرة بعد مرة للسراي.. من أجل طلب الزواج من وداد.. حتى نال القبول والموافقة.. لتستعد السراي لاستقبال فرحة أخيرا بعد الكثير من سنوات الأوجاع.. كانت السعادة التي غمرت الجميع استثنائية.. تزينت أسوار السراي بعناقيد من الأنوار الملونة والاعلام الممتدة على طول الأعمدة المحيطة بالسراي.. وتم ذبح الذبائح.. واشتعلت الأفران والمواقد لليالِ لصنع الطعام وخبز الفطائر والحلوى.. وطهو اللحوم.. كأنما عادت الأيام الخوالي.. أيام سعد باشا رسلان.. الذي كانت تُمد الطبالي بزمانه من باب السراي على طول الطريق حتى النجوع المجاورة فما مر مار إلا جلس وشبع وشكر داعيا لصاحب الفضل.. 

تولى رؤوف الأمور جميعها.. تدفعه سعادته أن عمته وداد قد وجدت أخيرا رفيق دربها.. بعد سنوات كانت تهرب فيها من الرسلانية حتى لا ترى سرور ابن الدكتور وصفي الذي رزق به مباشرة بعد أن تزوج.. يركض هنا وهناك . وهي ما تزل على حالها.. بلا زوج ولا حياة مستقلة تنعم فيها بالاستقرار.. حتى أرسل الله فاضل.. وكأنه صورة مطابقة لحالها وأحوالها.. رجل لم يوفق في تجربة زواجه الأولى.. فانفصل عن زوجته تاركا معها طفلهما لرعايته تحت إشرافه.. نزل مصر خصيصا بعد انفصاله للراحة والاستجمام وقد وجد الفرصة سانحة للبحث عن صاحبة أمانة عمه ووصيته.. لتسوقه الأقدار حتى التقى بوداد ومن وافر الشبه بينها وبين أنس الوجود.. صاحبة الصورة التي ما كانت تفارق عمه أبدا.. استطاع الوصول لأمها أنس الوجود هانم.. والتي ما أن جلس إليها حتى أدرك لما كان عمه عميق التعلق بهذه المرأة لهذه الدرجة.. وذاك نفسه ما حدث له منذ وقعت عيناه على وداد .. وكأن شيء ما كان كأننا بصدره لم يكن يعرف أنه موجود بذاك التجويف من الأساس.. وادراك وجوده أخيرا حين أبصر وداد للمرة الأولى.. حتى أدمن انتظارها أمام مدرستها.. بعد أن جمع كل ما استطاع من معلومات عنها.. 

وصلت الفرقة الموسيقية.. وبدأ العمال تحت إشراف رؤوف في ترتيب المقاعد و الطاولات من أجل عقد القران بعد ساعات قلائل.. 

لتتعالى الزغاريد بالطابق العلوي حين شرعت الفتيات في تجهيز العروس وتزيينها من أجل تلك الليلة الميمونة.. 

وصل فاضل.. متحمسا في ود راغبا في المشاركة والمساعدة.. كان أكثر ما يميزه هو بساطته وتلقائيته التي جعلته في زمن قياسي محبوب الجميع.. حتى أن الأطفال اجتمعوا حوله ليعرض عليهم بعض الخدع السحرية التي تعلمها من أسفاره الكثيرة بصحبة عمه.. 

هلت المغارب.. وظهر الشيخ معتوق بصحبة زوجته خديجة داخل السراي إيذانا بقرب موعد عقد القران.. وجمع شمل العروسين.. 

وبدأ المدعوين وكل أهل الرسلانية في التجمع داخل السراي حول الطبالي الممدودة.. أو الرقص على المزمار والعصا.. أوالتحطيب خارج أسوار السراي..

كانت وداد قد وكلت رؤوف لعقد القران.. فما عاد من رجل غيره بالعائلة يقوم على خدمتها.. فقد رحل للحرب من رحل.. وغادر الدنيا من غادر.. وغيبت السجون خلف أسوارها من غيبت.. وما بقى إلاه.. لكن ما أن هم رؤوف بوضع يده بقلب كف فاضل حتى هاجت الدنيا بالخارج.. وساد الهرج والمرج.. ما دفع رؤوف للهرولة مستطلعا، أمرا الجميع بالبقاء مواضعهم حتى يتسنى له معرفة ما يجري .. 

كان سميح يقف بصحبة عزام ومن خلفهم العشرات بل ربما المئات من الرجال.. يصيحون في عزم وشدة بكلمات ما تبينها رؤوف أول الأمر.. غير مدرك لسبب تواجد سميح وظله الفاسد المدعو عزام.. في يوم فرح غير مدعوين فيه.. بكل هذا الجمع من الرجال.. ليسأل رؤوف في هدوء: خير يا عمي سميح!.. ايه في!.. 

هتف سميح متعجبا: چاي تسأل ايه في! ما هو لو طلع العيب من أهل العيب ميبجاش عيب..

كظم رؤوف غيظه، متسا:لا من جديد: ايه في يا سميح بيه! لامم رچالتك وچاي جدام السرايا تهلل.. ايه حصل!.. هي دي كلمة مبروك!.. 

زعق عزام: مبروك على ايه!.. ع الخيبة اللي خلت ع الرسلانية وسيرتهم!..

زعق رؤوف بالمقابل: الزم ادبك.. الرسلانية أسيادك.. ولما تتكلم عنهم تتكلم بأدب.. 

صوت رؤوف الذي علا دفع من فالسراي للخروج خلافا لأمره.. فقد دفعهم الفضول لمعرفة ما يجري.. 

ليهتف سميح حين هلت وداد وفاضل عريسها من الداخل بصحبة صفية وأمينة وفوز.. بينما ظلت أنس الوجود بالداخل تتطلع لما يحدث من نافذة الطابق العلوي: يعني يوم ما تتچوزي.. جايبة لنا خواچة لا تعرفوا أصله من فصله!.. 

وتطلع للرجال في إشارة منه، وكذا موجها حديثه لأهل الرسلانية الواقفين في تعجب منا يحدث، مؤججا مشاعرهم حين صرح كذبا: وصل بكم الاستهتار بالدين .. تچوزو بتكم واحد نصراني.. لا من دينا ولا من بلادنا!.. 

زعق الرجال بإشارة خفية متفق عليها من سميح، بينما تطلع أهل الرسلانية في ريبة صوب مدخل السراي الذي كان يتصدره رؤوف في شجاعة كسبع يصد عن عرينه.. وخلفه نساء الرسلانية بصحبة فاضل.. الذي ما كان يدرك سبب ما يحدث من الأساس .. لكنه بدأ يستوعب بعض مما يجري.. فاندفع في حمية يقف جوار رؤوف مؤكدا في محاولة لتهدئة الأوضاع: أنا مش مصري صحيح.. بس مسلم واسمي فاضل.. أنا موحد بالله.. وطلبت يد وداد على سنة الله ورسوله.. 

هتف أحد الحضور: طب انطج الشهادة كدا يا خواچه!..

أكد فاضل: أنا لست خواجه.. وإن كان على الشهادة وهذا فيه ما يطمئنكم.. ف أشهد أن..

لم يكمل فاضل شهادته.. صرخ فجأة واضعا كفه على جبينه، فقد قُذف حجر من موضع ما ليخرسه.. مصيبا جبهته التي سالت دماءها.. 

لتنتفض وداد فزعا على عريسها، الذي دفع به رؤوف للداخل بمساعدة عرفان.. هاتفا في ثورة: ايه غرضك م اللي بتعمله ده يا سميح!.. 

هتف سميح مستهزئا: سميح كده حاف.. من غير عمي ولا خالي ولا حتى بيه!.. اشهدو يا أهل الرسلانية.. بس هنجول ايه!.. ما أنت لو تربية راچل كنا لومنا عليه تربيته.. لكن مفيش لوم على عيل تربية مرا..

هم رؤوف بالتهجم على سميح، لكن تلك الصرخة الزاعقة من خلف حدود الجمع المتجمهر، اخرست الكل، وذاك الصوت الجهوري يصدح عاليا: المرا دي.. چزمتها أطهر منك ومن نسلك كله يا واطي.. وتربيتها بيطلعو رچالة من ضهر رچالة.. لا واحد فيهم طلع عويل.. ولا يوم چاب الچرسة لناسه.. 

شهقت فايزة في سعادة منقطعة النظير: فضل!..

بينما سالت دموع أنس الوجود بالأعلى.. تتطلع للسماء في امتنان، أن عاد ولدها أخيرا.. 

اندفع رؤوف صوب والده يضمه في شوق حار.. 

لم يكن يملك سميح اللحظة، مع ظهور فضل الغير متوقع إلا التراجع قليلا.. ملقيا آخر ما بجعبته من ألاعيب، مقتربا من فضل رابتا على كتفه في ود: لك وحشة يا واد خالي!.. حمدالله بسلامتك.. 

تطلع فضل صوبه في حنق ولم يعلق بحرف، ليستطرد سميح مشيرا لداخل السراي معترضا بصوت تنضح نبراته رياءً: يرضيك كده اللي بيچرا ده يا فضل!.. طب انت غايب ومعندكش خبر.. 

وتطلع نحو صفية عتابا: طب وانتي يا صفية يا مرت أخوي الغالي.. عادي كده.. چوزك غايب وفحكم الشهيد.. بعد ما الچيش كله رچع م اليمن.. وهو مرچعش.. وبدال ما ألجاكي ناصية 

صوان الحزن.. قاعدة وسط الطبل والزمر كن اللي راح ولا يسوى!.. 

صرخت صفية في حزم: اخرس وابلع لسانك اللي بينقط سم كيف الحية يا سميح.. وغور من هنا.. مختار مش راچع.. مختار من يوم ما خرچ م الباب ده من سنين وهو خارچ مودع الدنيا كلها.. واني عارفة وعيونه بتودعه إنه رايح لمصطفى ومهواش معاود.. انا دفنت مختار چوايا وخدت عزاه من سنين.. چاي انت دلوجت تصيد فالميا العكرة.. وتعمل مختار وسيرة مختار حچتك لچل ما تخرب على وداد فرحتها.. وداد اللي رفضت الچواز منك مرة واتنين.. لكن كيف ده يچرا لسميح بيه! انيأني بس اللي ارفض لكن مترفض ومتخلجتش اللي ترفضني.. اجوم بجى اخرب حياتها واطربق فرحها واسود ليلتها بالكذب والافترا.. 

واخيرا زعقت صفية في صرامة: غور شوف لك حد تاني غيرنا ارمي عليه بلاك.. احنا مستكفيين م الوچع والحزن.. ولو فارج معاك أخوك عايش ولا ميت.. ولازمك تطمن على ورثك منه.. روح انصب صوانه وخد عزاه هو لسه عايش فجلبي مماتش.. روح يا سميح خد اللي تاخده.. عيونا شبعانة.. وعايشين في خير أبويا.. سعد باشا رسلان.. فاكره.. وفاكر الكف اللي خدته فجلب السرايا دي.. هااا افتكرته يا واد عمتي.. كنك نسيت.. وحابب واحد من رچالة الرسلانية اللي واجفين دول يفكرك به!.. 

لم يستطع سميح الرد على أقوال صفية المفحمة، ما دفعه ليهرول مبتعدا وخلفه ذيله عزام الحراني ورجاله تتبعهما.. ليشير رؤوف لفرقة المزمار بالعودة للعزف وكأن شيئا لم يكن.. ليندفع فضل لداخل السراي مطوقا فايزة في شوق على الرغم من خجلها.. مندفعا بعد إلقاء التحية على الجميع صوب الطابق العلوي ليلقِ بنفسه تحت أقدام أمه التي استقبلته في شوق طاغِ وأدمع جارفة.. لتصبح الفرحة بسراي الرسلانية مضاعفة.. زواج وداد وعودة فضل.. الذي بدل ملابسه وكان هو من وضع كفه بكف فاضل.. لعقد القران.. لتصدح الزغاريد محددا من داخل سراي الرسلانية التي هجرها الفرح لسنوات طوال.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩٢.. 

دخل ثلاثتهم السراي بصحبة سالم، أنس ومنيرة ونجية، والتي وضعت كفها على كتف ولدها مستأذنة: طب ارچع أني داري يا ست أنس.. لچل ما أوسع عليكم.. 

أكدت أنس: لا يا نجية.. حبيب بيه قال تفضلي فالسرايا لحد ما يخرج بالسلامة.. عشان براءتك تتعرف للناس كلها.. وترجعي راسك مرفوعة.. اطلعي مكانك وخدي منيرة فأيدك.. خليها تستريح..

سألت منيرة في نبرة ناعسة: طب وإنتي يا أنس!.. ده انتي بجالك ليلتين ما دوجتيش النوم!.. 

أكدت نجية: ايوه صح.. من هنا لهنا.. من ساعة اللي حصل ما ارتاحت لها هبابة..

أكدت أنس: هشم شوية هوا وهحصلكم متقلقوش.. 

تركاها منيرة ونجية وحيدة بالخارج تتطلع لموضعه المعتاد بالتعريشة هناك فلا تجده يزينها بمحياه.. ما دفع الدمع ليبرق بعينيها وهي تتجه نحوها.. تجول بناظرها بكل ركن فيها.. لتتوجه تلقائيا نحو أريكته المفضلة لتجلس.. تفاجأت بعباءته التي على ما يبدو نسيها حين اندفع للخارج نحو الجبل تاركا إياها خلفه.. همت بوضع كفها عليها.. لكنها تراجعت حين صدح صوت زفراني الجهوري موقظا أوجاعا داخلها ما غفت.. 

الأولة عيني.. ف الحسن ما في أخوه..

والتانية جلبي، جال بالوصال وعدوه ..

والتالتة روحي، جلت الروح ياخدوه ..

لكن حبيب الروح، والله ما نفارجوه..

كانت كلمات زفراني كافية وزيادة لتشهق باكية.. غابت مع حزنها لدقيقة قبل أن يهل زفراني مقتربا من التعريشة حيث تجلس.. فمسحت دموعها سريعا.. تستقبله بابتسامة هاتفة: جعان!.. اجيب لك تاكل!..

تجاهل زفراني سؤالها، متسائلا في تعجب: فينك الحبيب.. يا شج روح الحبيب!.. 

تطلعت أنس صوب زفراني في تيه.. بعد أن ناداها بهذا اللقب.. الذي كانت تدرك أن معناه الحقيقي يكمن في مضمونه.. هاتفية تطمئنه: راجع متقلقش.. بخير وراجع.. تعالى اقعد أنا عارفة إنك جعان.. 

أكد زفراني بايماءة من رأسه، لتبتسم أنس في مودة مقترحة: اعمل لك الاكل بأيدي!.. 

هلل زفراني في حبور معلنا موافقته.. فنادت أنس الوجود على نبيهة أمرة بإحضار ما طلب زفراني تناوله لتعده على نار الرمزية التي أخذت بعض الوقت حتى استطاعت إشعال نارها.. معدة له ما طلب واضعة قبالته صحن الطعام.. مازحة: شوف بقى أكلي ولا عمايل حبيب بيه!.. 

تذوق زفراني القسمة الأولى ثم الثانية في عجالة على الرغم من سخونة الطعام.. غير مكترث بسؤال أنس.. إلا حين قضى على ما بالصحن كاملا، ونهض مغادرا، ليؤكد في ثقة، وهو يمسح فمه بطرف كم جلبابه: وكل الحبيب أحلى.. 

قهقهت أنس موافقة.. هاتفة في أريحية: عندك حق.. أنا بحب أكل من أيده.. 

مال زفراني قليلا، ملقيا بعض من احجيته، هامسا: كلنا بناكل من صنع يدنا.. واللي اتزرع مسيره الحصاد يا ساكنة روحه.. 

انكمشت أنس الوجود على نفسها ما أن همس زفراني بكلماته مبهمة المعنى.. تاركا إياها منطلقا لحال سبيله.. مترنما..

بس يرچع وياخد النني من چوه..

واجوله مليش حبيب.. 

ولا غالي فالجلب إلا هو.. 

رحل زفراني وصوته يتباعد لتعاود هي الجلوس موضع حبيب.. مادة يدها تتدثر بعباءته لعلها تبث لدواخلها ذاك الأمان المفتقد في عدم وجوده.. وكأن الأرض ما عاد إليها اتزانها..

❈-❈-❈

المشفى.. ١٩٩٢..

انتفض سراج معتدلا على فراشه حين طُرق باب غرفته لمرة، قبل أن ينفرج ويدخل عدنان ومرافقه الشاب.. أصغر أبنائه.. والأقرب لقلبه..

متعجبا: عمي عدنان! اتفضل.. تعبت نفسك ليه بس!.. 

هتف عدنان وهو يجلس لأقرب مقعد من فراش سراج: وهو احنا هنتعبو لأغلى منك يا حضرة الظابط.. الف حمدالله بالسلامة.. 

هتف الشاب بود: بسيطة إن شاء الله يا واد عمي.. 

أكد سراج مبتسما: ايوه بسيطة بفضل الله.. يا.. 

هتف عدنان باسما: ده آخر العنجود.. حبيبي.. صبري الصغير.. 

تطلع سراج نحو ابن عمه.. ثم صوب عمه متعجبا: مش بكفيانا كده يا عمي! بس لو حد يفهمني ايه اللي حصل!.. 

انفرج الباب فجأة.. وصوت جهوري يسأل في لهفة: أنت بخير يا سراچ!.. سرااا.. 

توقف الزمن لبرهة.. وقد نهض عدنان متوكزا على عصاه متطلعا لصبري أخيه يقف أمامه بعد كل هذه السنوات من البعاد والفرقة.. 

لم ينطق أحدهما حرفا.. ما دفع سراج مطالبا صبري الصغير: بجولك يا صبري يا واد عمي.. تعال ساعدني لازما اتمشى شوية كل يوم.. خد بيدي..

نفذ صبري متفهما لدوافع سراج.. وخرجا من الحجرة في عجالة، تاركي الغرفة للأخوين.. ليكن صبري أول من تحدث، مشيرا للباب حيث غادر ولده لتوه بصحبة ابن عمه، متسائلا في نبرة متحشرجة: سميت ولدك صبري!.. ليه يا عدنان!.. 

شهق عدنان باكيا، ليهتف صبري متعجبا، وهو يجلس قبالة أخيه: واه يا زمن.. عدنان بيبكي!.. 

لك جلب يا عدنان وعتحس كيف الخلج.. وبتبكي!.. 

هتف عدنان من بين دموعها: واااه يا صبري!.. عمرك ما كنت جاسي كده!.. 

هتف صبري ساخرا: منك اتعلمت يا واد أبوي.. يا شجيجي.. سميت ولدك صبري ليه يا عدنان!.. 

هتف عدنان في نفاذ صبر من بين دموعه: لچل ما يفضل اسمك يرن فوداني.. يفكرني بذنبي الجديم.. عشان استغفر كل ما نادم على ولدي وافتكر ايه اللي عملته فيك.. واجول يا رب يكون سامحني.. 

هتف صبري متوجها: اسمحك على ايه.. ولا على ايه.. على جهرة جلبي وأنا شايف اللي رايدها جلبي مش طايلها بسببك.. ولا على كسرة خاطري لما طلبتها من أبويا وأخوها ورفضوا.. برضك بسببك.. ولا على حرجة جلبي وأني شايفها موافجاني لكن دمعتها ما نشفتش على خدها لفراج أهلها.. ولا اسامحك على مرمطي هنا وهناك لحد ما عرفت اجف على رچلي واعيش واعيشها.. ولا اسامحك على غربة عيالي كل عيد وهم مجطوعين ملهمش عزوة ولا أهل كيف الخلج يطلو عليهم.. وجهرة جلب سعاد اللي كانت بتداريها جدامي مع كل موسم ولا كل فرح.. ولا اسامح على دمعتها اللي نزلت على كفي وهي بتسلم الروح وبتجولي لو جدرت يا صبري ادفني جمب أبوي وأمي فالرسلانية.. اهو اتونس بهم بعد ما اتحرمت منهم العمر بحاله.. 

بكى صبري معادا العتاب: اسامحك على ايه يا عدنان.. على أبويا وأمي اللي مخدتش عزاهم.. ولا على ابوها وأمها اللي معرفتش تودعهم.. ذنبك كبير جوي يا عدنان.. ذنبك أكبر من مقدرتي على السماح.. صبري اللي طول عمره مسامح الدنيا كلها.. مجدرش يسامح أخوه!.  

شهق عدنان باكيا، مؤكدا في نبرة مهتزة: حجك يا صبري.. حجك ياخوي.. ذنبي كبير جوي.. بس أني كنت صغار والدنيا سرجاني وشيطاني غالبني.. واه لو يرچع الزمن هبابة.. لكنت.. 

قاطعه صبري في حدة: الزمن مبيرچعش ولو رچع مفيش حاچة فالنفوس هتتغير.. مكتوب.. 

هز عدنان رأسه مصدقا على كلام أخيه الأصغر مؤكدا وهو يمسح وجهه من أثر الدموع، متعكزا على عصاه.. متجها صوب الباب: صدجت.. مكتوب.. طول عمرك الأعجل يا واد أبوي.. ودايما واعي للي عيني غافلة عنه.. 

فتح عدنان الباب، ليجد سراج وولده جالسين على المقاعد المقابلة للحجرة، فأمر ولده بإشارة من يده، فانتفض صبري الصغير متجها نحوه، يساعده ليرحلا، بعد أن ألقى التحية على سراج الذي ما أن دخل الغرفة متطلعا نحو قسمات وجه والده الشاحبة.. حتى أدرك أن عليه التزام الصمت.. فما حان بعد أوان البوح بما هو مستور.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩٢.. 

أصبح الوضع لا يحتمل.. الأماكن كلها بلا وجودها وطلتها خانقة.. كئيبة.. مملة بلا روح..

كان وجودها طاغيا.. وحضورها يضفي على الأشياء روحا مختلفة.. وجو مميز.. 

إنه اليوم الرابع وهي بعيدة.. لا يعرف ما الداعي لغيابها الأيام الأربع هكذا دفعة واحدة!.. هل هي مريضة!.. أم أمها.. أم ما هو السبب لتركه هكذا يضرب اخماسا في أسداس.. يدفعه قلقه ليسأل صويحباتها.. ويأبى كبريائه عليه ذلك.. ويحذره عقله من مغبة الانزلاق من جديد نحو عاطفة غير محسوبة.. بينما يهتف قلبه دافعا إياه في إلحاح سمج ليسأل عليها.. حتى يطمئن ويهدأ بالا.. 

وأخيرا.. قرر أن يحصل على رقم هاتفها.. ليتصل كزميل يسأل في رسمية عن سبب الغياب.. رن هاتفها عدة مرات.. ولم يرد أحد.. حتى أنه بعد الرنة الرابعة قرر أن يضع السماعة، لكنه انتفض موضعه وقفز قلبه بين ضلوعه وهي ترد في هدوء: ألووو...

كررتها عدة مرات حتى كادت أن تضع السماعة لولا أنه استجمع شتات نفسه هاتفا: ألووو.. آنسة مريم!.. 

أكدت في جدية: ايوه.. مين معايا!.. 

أقر في هوادة: أنا ممدوح سرحان..

تغيرت نبرة صوتها فورا، هاتفة في سعادة: أهلا أستاذ ممدوح.. ايه الاتصال الغريب ده!. اصل أنا أتوقع اي حد فالشركة يكلمني إلا حضرتك.. ده اكيد سيادتك عامل فرح في غيابي وارتحمت من دوشتي.. 

أكد ممدوح مازحا بدوره: الظاهر اتعودت ع الصداع بتاعك.. قلت أسأل ليه حرمانامن صداعك وغايبة.. لعل المانع خير!.. إنتي كويسة!..

تحرك شيء ما داخلها لسؤاله واهتمامه، مؤكدة في نبرة مضطربة: اه.. أنا تمام الحمد لله.. ده بس جمال تعبان شوية وكان لازم اقعد جمبه.. 

هتف ممدوح: ألف سلامة.. لو في إمكانية تسمحي لي بالزيارة!.. 

ترددت مريم لبرهة قبل أن تهتف مؤكدة: اه طبعا.. اتفضل.. 

وضع ممدوح سماعة الهاتف، وقد أدرك أنه وقع في فخ هذه الفتاة.. فما كانت رغبته في زيارة أخيها مجرد رغبة في زيارة مريض بقدر ما هي شعور طاغ بالشوق لمحياها.. وكان ذاك الاعتراف كفيلا بقلب حياة ممدوح رأسا على عقب... والذي قرر الابتعاد عن الحب.. فقرر الحب ملاحقته.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩٢.. 

كان الطبل والزمر على أشده.. مع استقبال حبيب عائدا من المشفى سليما معافى.. قررت الجدة صفية ذبح أكبر بهيمة بالزريبة فرحا لقيام حفيدها من وعكته.. لتأكل منها الرسلانية ويبيت كل جائع وقد شبع وحمد ربه.. 

وصلت العربة التي تقل حبيب وأنس بصحبة نجية التي ترجلت من العربة وولدها بانتظارها أمام بابه.. قبالة أهل الرسلانية كلهم.. لتهتف إحداهن في فرحة: نورتي بيتك يا أم سالم.. بركة رچوعك بالسلامة يا غالية.. 

وارتفعت الزغاريد واحدة تلو الآخرى معلنة تقبل مجتمع الرسلانية لنجية مجددا بعد أن أيقن الجميع من براءتها.. 

لتكمل العربة رحلتها نحو السراي.. وقرع الطبول والمزمار لم ينقطع.. حتى دخل حبيب السراي.. ليجد جدته صفية تفتح له ذراعيها في محبة طاغية، مال حبيب على قدر استطاعته مقبلا هامتها.. لتربت هي على عضده في حنو، وهي تراه حاملا ذراعه القريب من موضع جرحه معلقا لرقبته بذاك الحامل الطبي.. 

أشارت منيرة عليه بالصعود لغرفته حتى يرتاح كما أكد الأطباء، لكنه رفض مفسرا: لله.. كفاياني رجدة.. زهجت.. هجعد تحت التعريشة.. ولو حسيت بالتعب هجوم.. 

انصاعت منيرة لرغباته بينما أنس ظلت صامتة لم تتدخل فقد كان يكفيها أن تراه اللحظة وقد عاد لداره ومحبيه.. وليفعل ما يشاء.. فما كانت تتضرع لأجله قد تحقق.. وها هو ينير بابتسامته الشاحبة قليلا.. دروب كانت قد غطتها العتمة في غيابه.. 

جلس موضعه تحت التعريشة، متطلعا صوب أنس الوجود التي ظلت واقفة على حالها في حالة من الشرود.. ما ايقظها إلا سؤاله متعجبا: مش هتجعدي يا أستاذة ولا ناوية تطلعي ترتاحي!.. حجك برضك.. ما هو..

قاطعته أنس الوجود باسمة: تشرب شاي!.. 

تطلع حبيب نحوها في نظرة غرائبية، قبل أن ترتفع قهقهاته المصحوبة بألم خفيف موضع جرحه، حيث وضع كفه اللحظة، وهو يجيبها في أريحية: نشربوا شاي.. كيف عرفتي اني اتوحشت شرب الشاي!..

اتسعت ابتسامتها وهي تميل على الركوة باحترافية اكتسبتها في بعده.. لتشعل نارها مجهزة الشاي في دقائق.. مؤكدة: اكيد وحشك.. ده انتوا بتشربو شاي اكتر م الميا.. واكيد ممنوع عنك بالمستشفى.. فطبعا وحشك..

همس حبيب وهي تضع كوب الشاي بكفه متطلعا نحوها: أني كل حاچة كانت وحشاني.. 

رفعت أنس كفا مرتجفة خجلا نحو فمها بكوب الشاي.. ليهتف حبيب مؤكدا: مفيش بعد كده!.. 

هتفت أنس تسأل في سعادة: عجبك صحيح!..

ليرد حبيب مشاكسا: تمام.. بس لو كنتي تجلتيه هبابة.. كان.. 

نهضت أنس تحاول أخذ كوبه الذي صنعته من يده هاتفة في اعتراض: قول حلو وجميل ومحصلش وإلا هاخد كبايتي.. وهحرمك من ابداعي.. 

قهقه حبيب على أفعالها الطفولية.. مؤكدا مرغما: حلو وچميل ومحصلش.. كويس كده!.. 

تركت أنس الوجود كوله بين يديه من جديد وقد عفت عنه.. ليسود الصمت بينهما.. إلا من نغم موسيقا جرامفون الجدة صفية.. وصوت ام كلثوم القادم يتهادى مع النسيم صادحا.. 

حلوة .. حلوة الأيام.. حلوة..

حلوة الأحلام.. حلوة..

حلوة حياتي.. حلوة يا سلام..

كلاهما غلفه السكون.. سكون تخللته شرارات خفية.. تؤكد على أمر واحد فقط لا يقبل الشك حياله.. أن قصة عشق تزهر فصولها بين جنبات هذه السراي التي اشتاقت الفرح لسنوات طوال عجاف.. 


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة