-->

رواية جديدة مرايا الروح لفاطمة الألفي - الفصل 7 - الأربعاء 16/7/2025

 


  قراءة رواية مرايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية مرايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة فاطمة الألفي


الفصل السابع


تم النشر يوم الأربعاء 

16/7/2025



يبدو أن هذا الصباح مختلفًا، ليس مجرد يوم عاديًا، بل خطوة نحو التغيير، نحو محاولة إنقاذ روحٍ أنهكها الألم لسنواتٍ طويلة.


عندما استيقظت "راما" أول شيء فعلته هو الاتصال بالعيادة الطبية، حجزت موعدًا، ثم هاتفة مدير عملها، تعتذر عن عدم الحضور اليوم ، وكأن هذه اللحظة باتت أكثر أهمية من أي شيء آخر. اليوم كان مخصصًا لهديل فقط.

استعدت جيدًا، أرادت أن يكون كل شيء على ما يرام، فاختارت أن تكون والدتها بجانبها، فهي الوحيدة القادرة على رواية قصة هديل منذ طفولتها، القادرة على تفسير وحدتها، عزلتها، كل شيء لم يُقال من قبل.

 لم يكن الأمر مجرد زيارة طبيب، بل كان مواجهةً لشيء ظل طي الكتمان لسنوات، كانت محاولة لفهم ما لم يُفهم، لكسر صمتٍ استمر أكثر مما ينبغي. 

داخل غرفة "هديل"جلست "راما"بجوارها ، نظراتها كانت مليئة بالحب، تُحاول أن تنتقي لها الثياب التي تُشعرها بالراحة، وكأنها طفلتها، وكأنها تُحاول أن تُعيد إليها شيئًا من الأمان.

لم يكن الأمر سهلاً، فهديل كانت شاحبة البشرة، آثار بكائها واضحة، عيناها منتفختان كأنهما حملتا كل ليالي الألم، وصوتها بالكاد يُسمع، مبحوحٌ من كثرة الصراخ الذي أطلقته في لحظات الانهيار.

و راما لم تستسلم، ابتسمت لها بحنان، مشطت خصلات شعرها بلطف، تركته منسدلا بنعومة على ظهرها، تُريد أن تمنحها شعورًا بالخفة، وكأن بعض العبء سيتلاشى مع خصلاتها الحريرية.

 لكن هديل اعترضت، لم تحتمل ذلك الانسياب الحر، كأنها لا تزال ترغب في التحكم ولو بشيء صغير، فعقصت شعرها لأعلى، كأنها تُريد أن تُبقي كل شيء داخلها، أن تمنع حتى خصلاتها من التمرد عليها..

عادت مريم بخطواتٍ ثقيلة، تحمل بين يديها أغراضها، لكن أثقل ما تحمله كان ما في قلبها، ما تركته خلفها مع طليقها بعد حديث طال ليُفرغ سنواتٍ من الصمت المؤلم.

 لم يهزها حتى إفصاحه عن مرضه، عن رغبته الأخيرة في رؤية ابنته قبل أن يفارق الحياة، فقد كانت تعلم أن الوقت ليس المشكلة، بل الماضي الذي لم يُمحَ، والجرح الذي لم يندمل. 


دلفت لداخل الشقة وهي تتنهد بعمق، وكأنها تُحاول أن تزيح ثقل هذه المواجهة عن كتفيها، توجهت إلى المطبخ، بدأت بإعداد الإفطار، تركت يدها تعمل تلقائيًا بينما عقلها لا يزال غارقًا في ما حدث.

قامت بسكب حبات الفلافل الساخنة بالطبق والطبق الاخر وضعت الفول بالزيت الحار كما تفضله ابنتها، وملئت رائحتهما المكان ورائحة الخبز الشهي.

وسارت إتجاه غرفة ابنتها طرقتها برفق ثم مرت لداخل بابتسامة مشرقة:

-صباح الخير على الحلوين

اقتربت منهن، طبعت قبلات دافئة على وجوههن، كلماتها كانت حانية:

-يلا عشان نفطر والفطار سخن، ثم تساءلت بمرح:

-هو عندكم زكام ولا ايه؟ مش شامين الروايح اللي تخلي عصافير البطن تصوصو!

ضحكت راما بينما ابتسمت هديل برقة، لم تكن ضحكتها كاملة، لكنها كانت ابتسامة مجاملة، مجرد محاولة لإظهار أنها على ما يُرام، حتى لو لم تكن كذلك.

  أما راما فسارت بجانبها وهي تقول:

-فعلا ها الروائح بتشهي ، ومعدتي عم تزقزق.

التفوا ثلاثتهم حول المائدة، ولكن لم تكن شهيتهم حاضرة، بل يتناولون الطعام بشرود، كل مهن غارقا في أفكاره.

 فقد تسربت لحظات السعادة من حياتهم فجاة، وحلت مكانها التعاسة، وهن يحاولون التخفي خلف الابتسامات الكاذبة، فقط لمحاولة الشعور بشيءٍ من الأمان. 

❈-❈-❈

 انتهوا من طعامهم بصمت، لم يكن حديثهم عابرًا، لكنه كان مُحمّلًا بالتفكير العميق فيما هو قادم، فيما ينتظرهم بعد دقائق قليلة. 

استعدوا للخروج، تأكدت "راما" أن كل شيء على ما يرام، مريم وضعت يدها على كتف ابنتها، كأنها تُخبرها أنها لن تكون وحيدة في هذه الرحلة، وأنها ستظل إلى جانبها حتى النهاية.

حينما وصل سائق "أوبر"، استقلوا جميعًا المقعد الخلفي، بينما انطلقت السيارة نحو الوجهة المحددة.

الطريق بدا لها وكأنها طويلا، نظراتها كانت مُعلقة بالخارج، تتابع الشوارع التي تمر أمامها دون تركيز، وكأنها تحاول أن تجد في المارة إجابة لما تشعر به، أو تفسيرًا لما ينتظرها بعد قليل. 

وحين وصلوا أخيرًا، توقفت السيارة أمام البناية، أعطت "مريم"السائق نقوده، ثم ترجلوا باتجاه البناية، خطواتهم كانت ثابتة، لكنها حملت شيئًا من التردد غير المرئي.

استقلوا المصعد، حيث الطابق العلوي، الصمت لا يزال سيد اللحظة، حتى الهواء داخل المصعد بدا وكأنه يُشاركهم هذه المساحة المشحونة.

وحين دلفوا إلى داخل العيادة، تغيرت المشاعر فجأة، بين الخطوات الواثقة التي تحاول أن تُبقي هديل ثابتة، وبين خطوات أخرى خائفة، مترددة، كأنها تتقدم خطوة ثم تتراجع خطوة أخرى للخلف، كان الأمر واضحًا، هديل لم تكن جاهزة بالكامل، لكن هل هناك وقت يُمكن أن تكون فيه جاهزة حقًا؟ 

 هذه لم تكن مجرد زيارة لطبيبة، بل كانت لحظة مواجهة، لحظة انكشاف، لحظة قد تحمل معها بداية جديدة أو تعيدها إلى نقطة البداية، حيث كل شيء لا يزال معلقًا بين الألم والأمل معا..


❈-❈-❈


كان يتجول داخل المتجر برفقة زوجته، بحثا عن ثوبًا انيق يليق بها.

بينما هي عيناها كانت تبحث بين التصاميم، لكن اختيار"نادر" سبقها، انتقى لها ثوبًا ورديًا فاتحًا، ينساب بنعومة على جسدها، بسيطٌ لكنه راقٍ، يحتضن خصرها ثم ينحدر بانسيابية دون أن يُجسّد، وكأنه خُلق ليمنحها حضورًا مميزًا دون تكلّف. 

نظر لزوجته وهو يشير إلى ذاك الثوب قائلا بحماس:

-حبيبتي الفستان ده هيكون تحفة عليكِ، بجد شكله يجنن.

رغم ترددها في البداية، ابتسمت، لم تكن معتادة على هذا التصميم، لكنه كان اختيارًا مختلفًا، يحمل بصمته، وكأنه يُريد أن يكون جزءًا من هذه البداية.

هزت رأسها بايماءة خفيفة ولا زالت البسمة تنير وجهها:

-اوكية يا بيبي... مدام عاجب حبيبي وذوق حبيبي يبقي هأخده.

ارسل لها غمزة وهو يشهر ثلاثة من إصبعه، ثم هتف بمرح:

-هو ده...

لم يتردد في تنسيق حضوره معها، اختار بذلة رصاصية، ورابطة عنق وردية تُكمل انسجامه معها، كأنهما معًا يشكلان لوحة مُتناغمة لافتتاح حلمها المنتظر.

قبل العودة إلى المنزل، قرر أن يُرافقها إلى الجاليري، أراد أن يُشرف بنفسه على الاستعدادات، أن يكون هناك بجانبها، داعمًا، مُساندًا، حاضرًا بكل طاقته في هذه البداية.

 لم يكن مجرد اهتمام، كان حضورًا يُشبه الوعد، وعدًا بأن هذه الخطوة ليست لها وحدها، بل لهما معًا، وأن النجاح سيكون مشتركًا كما كانت كل لحظاتهما السابقة. 

لم تستطع"تيا" أن تخفي سعادتها، شعرها تطاير مع خطواتها السريعة، عيناها تلمعان، ابتسامتها اتسعت، فقد كان وجوده بجانبها في هذه اللحظة هو الشيء الذي جعلها تُدرك أن الحلم ليس مجرد فكرة، بل حقيقة باتت قريبة.


❈-❈-❈


عودة إلى العيادة النفسية، حيث جاء دور "هديل" كانت اللحظة ثقيلة، لكنها ضرورية.

حين دلفت هديل إلى غرفة الطبيبة ، كانت خطواتها مُضطربة، ليست خوفًا فقط، بل حيرةً تُحاصرها، ترددٌ يُثقل قلبها، لكن اليد التي أمسكت يدها – يد والدتها – كانت طوق الأمان وسط الضوضاء التي تسكن روحها.

بينما اقتربت "راما"من الطبيبة ، صافحتها بثقة:

-راما راكان.

بادلتها ضي المصافحة بود، فقد أخبرها شقيقها بما حدث وكانت على علم مسبق بقدومها، رحبت بهما، ثم نظرت إلى الفتاة الأخرى التي يبدو عليها التية، فهي تعلم جيدا تلك النظرات الضائعة، ثم قالت بنبرة مطمئنة لكي تخترق قلبها:

-ماتخفيش يا هديل، أنا دوري أسمعك واساعدك بدون خوف.

هزت رأسها برفق أما مريم تقدمت منها تصافحها و قدمت نفسها بأنها والدة هديل، لكن رغبتها كانت واضحة، أرادت الحديث معها وحدها أولًا، دون وجود الفتيات.

حيث طلبت "ضي" من راما وهديل أن ينتظرا في الغرفة المجاورة، كانت تريد أن تتحدث مع مريم وحدها، لتضع أمامها بعض الحقائق قبل أن تبدأ الجلسة الأولى مع هديل.

لم يترددوا في الامتثال، لم يكن الأمر غريبًا عليهم، كانوا يعلمون أن بعض الأسرار لا يمكن أن تُقال إلا أمام الأهل أولا.


دلفوا إلى الغرفة الأخرى، وجدوا أمامهم بابًا داخليًا، فتحوه، وعند الدخول، كان المكان أكثر هدوءًا، أكثر دفئًا، وكأنه مُصمّم ليكون مساحةً آمنة.

يوجد الشازلونج الرمادي يُشعر الداخل بالراحة، الكرسي الهزاز الذي يُشبه الأرجوحة بدا وكأنه وُضع ليمنح الجالسين نوعًا من الاسترخاء، الطاولة الصغيرة بجواره تحمل القليل من الأوراق.

 لكن أكثر ما لفتهم كان لون الجدران، السماوي الناعم، لونٌ يُشبه السكينة، يُشبه الهواء النقي الذي يُهدّئ القلب حين ينظر إليه، وكأن المكان لم يكن مجرد غرفة، بل مساحةً تُرحّب بالبوح، بدلا عن الصمت..


جلست "مريم" أمام ضي، ينتابها الشعور بالقلق والتوتر ، لا تعرف من أين تبدا حديثها ؟ 

بدأت ضي حديثها بهدوء :

-مدام مريم مش عاوزة حضرتك تقلقي خالص، أحنا هنتكلم مجرد فضفضة عن حياة "هديل" علاقتها بحضرتك ... علاقتها بوالدها.. أصحابها ، أيه سبب وجودها هنا ؟ هديل اللي طلبت مساعدة؟ .. حصل أيه ،حضرتك ملاحظة تغير في سلوكها؟ كل حاجه خاصة بهديل محتاجه أعرفها قبل ما ابدا اقعد معاها، حياتها الخاصة ، دراستها ، حصلها حالة فقد في حياتها ، حصلها دروب.. كل ده محتاجه اعرف عنه ،اكون شخصية عنها وأحدد هي بتعاني من أيه؟

أنسابت دموع مريم ولم تتمالك نفسها وهي تخبرها قائلة:

-هديل حصل لها صدمة في طفولتها ... أنا. انا كنت فاكره أن هديل طفلة وأنها نسيت ومش هتفكر ،. والله ما كنت أعرف أن اللي حصل معاها وهي طفلة هيأثر عليها لحد دلوقتي .

حاولت ضي تهدئتها واعطتها كوب الماء الذي أمامها : 

-اتفضلي أشربي ، وخدي نفس عميق ، عشان نعرف نتكلم بهدوء ، نفهم واحدة واحدة .

التقطت منها الكوب بأطراف مرتجفة ثم قربته من فاها رشفت منه القليل ثم عادت تضعه أعلى المنضدة الصغيرة التى أمامها .

بترت ضي كلماتها بتساءل واضح:

-ممكن أعرف ايه حصل مع هديل وهي طفله ولسه مأثر عليها لحد الآن ؟

بدأت مريم تقص ما حدث مع ابنتها منذ خمسة عشر عامًا، عندما كانت "هديل" ذات الخمس أعوام وتم انفصالها عن زوجها السكير، الذي تحاملت كثيرا من أجل أتمام تلك الزيجة، لم تريد هدم منزلها ولا تشتت ابنتها، تزوجت والد "هديل" وهو يُكبرها بأربعة عشر عاما، زواجًا تقليدًا، أحبته بعد الزواج ، لكن سرعان ما تغير سلوكه معها بعد شهرا من الزواج ، كان دائم السهر خارج المنزل، يحتسي الخمر ، يعود إلى المنزل فجرا بجسد منهك متعب ، إذا تساءلت ، اعترضت ، صدر منها أي صوت ينهال عليها بالسب والضرب ، في ذلك الوقت علمت بحملها ، رضت بنصيبها، خضعت لتلك الزيجة وهي تجاهد وحدها لكي تستمر ، لكن طوال الست أعوام تجرعت بهما المر ، ذاقت المرار والقهر والمهانة ، مرت بكل أنواع التعذيب النفسي قبل الجسدي، وعندما أتمت ابنتها عامها الخامس، طلقها زوجها والقاها خارج المنزل.

حينها لم تجد مالا لإطعام صغيرتها وليست تمتلك عملا ولا دخلا لجني المال، بدأت في التوجه إلى القضاء مطالبة الاب بالاتفاق على صغيرته، جن جنونه وبدأ في وضع خطة للانتقام من زوجته في ابنته، لم يراها طفلته فقد غيبه عقله وتجردت مشاعر الابوته من قلبه، ولم يشفق على صغيرته ، حيث تودد لكي تذهب إليه ابنته يومين من كل أسبوع مقابلا أن يدفع نفقتها، وكان أحد الجيران يتطوع بأن يأتي ليأخذ الصغيرة لكي يراها والدها وتقضي معه اليومان، ولكن لم تكن على علم بما يحدث خلف الباب المغلق على طفلتها وطليقها، لم تكن تتوقع بأن والد يفعل تلك الأفعال في ابنته فلذة كبده، كان أبعد من الخيال على استيعاب بشر.

طوال عامين وهو ياخذ الطفلة وتبيت بجواره داخل فراشه ولكنه لم يحنو عليها كقطعة منه، بل تعامل مع صغيرته كأنها فتاته، حبيبته، يدللها كعشيقة ويطلب منها منادتاه باسمه مجردا من لقب الاب، كأنها سلعة رخيصة أشتراها يريد تفريغ فيها شهوته..

ازدادت نوبة بكاءها ثم أكملت حديثها بقهر:



عندما كانت تعود "هديل "بعد كل زيارة، تكون شاردة، متعبة بلا سبب، تتشبث بأحضان والدتها أكثر من المعتاد، وكأنها تبحث عن دفء غائب، كانت ترفض الطعام، تتهرب من الأسئلة، وتبتسم ابتسامة لا تصل إلى عينيها.  

شعرت الأم أن هناك شيئًا غامضًا، لكنها لم تعرف كيف تصل إليه، لم تكن طفلتها تلك الصغيرة المليئة بالضحك واللعب، بل أصبحت كائنًا خائفًا يختبئ خلف صمته، روادتها الكوابيس ليلا وعلت صراخاتها وخوفها بدأ واضحًا للعلن.

 وفي كل مرة يُطلب منها الذهاب إلى والدها، كانت تمرض، تتشبث بسريرها، تبكي بصمت، ترتجف دون تفسير.  

 أنتاب "مريم" القلق على صغيرتها واقتحم عقلها بعض الشكوك، لم تعد تتحمل الصمت أكثر، قررت أن تطلب من شقيقتها التدخل.

جلست الخالة أمام الطفلة، لم تضغط عليها، لم تسألها مباشرة، فقط بدأت بالحديث عن الأمان، عن الحب، عن الأسرار التي يجب ألا تخيفنا، وإلا تخفي ما بداخلها  


عندها فقط، بدأت الطفلة تبوح، وكأن الكلمات كانت تسجنها كل هذا الوقت، قالت ببطء، بصوت خافت يشبه صوت الرياح عندما تمر بين الأشجار، قالت بأن والدها يخبرها بأنه يلعب معها لعبة..

حينها اندهشت الخالة وتساءلت عن تلك اللعبة وكيف يلعبها معها؟

نطقت أسمه مجردًا من لقب أبي، قالتها بهمس ورجفة سارت في جسدها الضئيل وقصت ما يفعله معها كل مرة تكون بمنزله، يلامس جسدها الضئيل، يلتصق بها كثيرا، بعد فترة من اللعب، تشعر الصغيرة بالتعب والخمول وقبل عودتها إلى منزل والدتها، يحمم جسدها بالماء ويظل يردد على مسامعها بألا تخبر أحد بما يحدث بينهما..

تحجرت الدموع داخل مقلتي خالتها رافضة التحرر لكي لا تشعر بها الصغيرة، ثم تركتها داخل غرفتها محتضنه دُميتها ووقفت أمام شقيقتها تنهمر دموعها كالشلال ، لطمت الأم صدرها، تأكدت من شكوكها، كبتت صرختها، تفتت قلبها لاشلاء، أنهارت قواها وكأن العالم حولهما تلاشى للحظات، زلزال قوي زعزع كيانها وشعرت بأنها تختنق تحت الرُكام، انكسر قلبها إلى ألف جزء، وكأنها فقدت قدرتها على التنفس، أصبحت جزءًا من الألم الذي حملته طفلتها طوال هذه الأشهر.  

استجمعت شتاتها المبعثر وكان عليها أن تفعل شيئًا، كان عليها أن تنقذ طفلتها، فأخذتها إلى الطبيبة، طالبةً إثباتًا، دليلاً، شيئًا يجعل العدالة تتحرك، لكن الطبيبة رفضت إصدار تقرير رسمي، قالت كلمات باردة، كلمات لا تحمل في طياتها أي إنسانية، كلمات جعلت الأم تشعر وكأن العالم قد اختار أن يُغمض عينيه عن معاناة طفلتها.  

القانون لم يُنصف، الحقيقة لم تجد صوتًا يكفي لجعلها تُسمع، في النهاية، كانت هديل مجرد طفلة أخرى سُرق منها الأمان، طفلٌ صغير لم يعد يعرف الفرق بين الحب والخوف، بين الحضن والترهيب، بين الحياة والموت الذي يسكن في الداخل.  


لكنها أقسمت بعدم الاستسلام، تعرف أن طفلتها تحتاجها، تعلم أن عليها أن تكون السند الحقيقي، أن تمنحها الأمان الذي فقدته، أن تجلب لابنتها حقها الذي سُلب ودُعس وهُتك بلا رحمه على يد والدها.

حملت طفلتها بين ذراعيها كل ليلة، همست لها بكلمات مطمئنه، أنها جانبها ولن تتركها أبدا..

لكن هل يكفي ذلك؟ هل تستطيع كلمات الأم أن تمحو الرعب الذي تمكن من قلب طفلتها؟ هل يمكن للحب أن يعيد بناء قلبٍ هشٍ تحطم قبل أن يفهم معنى الحياة؟  

بقيت هديل صامتة، تنظر إلى أمها، ثم تغمض عينيها محاولةً النوم، لكن في أعماقها، كانت تعرف أن بعض الكوابيس لا تنتهي أبدًا.  

ومنذ ذلك اليوم وأصبحت هشة ، منطوية، منعزلة عن العالم، تخشى التجمع، لديها رُهاب، لم تعرف كيف تتعامل مع الآخرين ..

عندما يتحول الأمان إلى خوف، يصبح العالم مكانًا مضطربًا، حيث يفقد المرء ثقته في الملاذات التي كانت يومًا تحميه، تصبح الجدران التي كانت توفر الطمأنينة ضيقة، كأنها تزداد قربًا لتخنق الأنفاس بدل أن تحتضنها، ويصبح السند الذي كان يومًا ثابتًا، مصدرًا للتهديد بدل الحماية.

إنه أمر مفزع حين يُشوه معنى الأمان، حين يتلاشى دفؤه ويصبح مجرد ظلٍ غامضٍ يحمل معه القلق والتوجس، الإنسان بطبيعته يبحث عن الطمأنينة، عن مساحة يشعر فيها بأنه آمن، لكن ماذا لو كانت تلك المساحة هي نفسها مصدر التهديد؟ 

حينها، لا يكون الخوف مجرد إحساس، بل يتحول إلى شيءٍ يطارد القلب، يسكن الروح، ويتغلغل داخل العقل، يتصارع كما تتصارع الأسود على فريستها، حتى يصبح الهروب مستحيلاً

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة فاطمة الألفي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة