رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 49 - الأحد 20/7/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل التاسع والأربعون
تم النشر الأحد
20/7/2025
الأيام دول..
الرسلانية..١٩٦٩..
علم فضل بما كان من برلنتي ومن بعدها سعاد، فاعتزل بعض الشيء داخل حجرته، وما عاد راغبا في مقابلة مخلوق، كان دافع كل بنت في ترك أهلها خلفها بهذا الشكل المخزي لا يقره عقل ولا منطق سليم.. كان دوما يعتبر أنه لم يكن يوما ذاك الاب القاسي الذي قد يضع أولاده موضع الاختيار المهلك بين اهلهم ورغباتهم.. لكن سعاد خزلته.. كان يتمنى مثل كل أب أن يزوجها ويفرح بذريتها.. أن تظل قرة عينه ما حيا.. لكنها تركت كل هذا خلفها من أجل الحب.. هو يتفهم اندفاع الشباب ورغبتها في الاقتران برجل أوحد.. لكن جل ما يقلقه أن لا يكون اختيارها في محله.. ولا يكون ذاك الذي تركت كل ما لها خلف ظهرها من أجله.. لا يقدر تضحية بهذه الضخامة ولا يعاملها بكل تقدير تستحقه.. آه يا فضل.. بعادك كلفك الكثير.. حاول ألا يزيد اللوم على نفسه.. حين دخلت فوز تربت على كتفه مواسية: مش كفاياك كده يا فضل! من يوم ما عرفت بعملة برلنتي وسعاد وأنت حابس نفسك الحبسة دي!..
همس فضل بحسرة: حاسس اني لو كنت موجود مكنش ده كله جرا!..
هتفت فوز مواسية: ويعني هو أنت كنت بعيد بخطرك يا فضل!.. ما أنت كنت فالسچن بعيد عن الدنيا كلها.. ومحدش كان عارف امتا هيشوفك تاني.. ده بركة إنك خرچت مع اللي افرچو عنهم..
هز فضل رأسه مؤيدا.. ليقتح حبيب حفيدهما الغرفة مهللا، ما دفع فضل ليبتسم في سعادة للمرة الأولى منذ أيام طوال.. فاتحا ذراعيه بعرضهما مستقبلا حفيده في فرحة.. ضاما إياه لاحضانه مستشعرا محبة طاغية تجاه ذاك الصغير الذي أصبح قادرا على تبديل مزاجه في لحظة..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٧٠..
دخل نجيب إلى تلك الشقة بالزمالك.. والتي تم شراؤها كبديل عن شقة مصر الجديدة التي قامت برلنتي ببيعها حتى لا يتمكن أي مخلوق من تتبع خطواتهم والوصول لمقر إقامتهم..
مناديا على برلنتي التي قدمت من الداخل حاملة طفلتهما أنس الوجود.. البالغة من العمر عاما.. ملبية ندائه، ليطالبها باسما: تعالي اقعدي عندي ليكي خبر مهم..
هللت أنس حتى يحملها نجيب بين ذراعيه مداعبا، لتجلس برلنتي متسائلة: خير!..
أكد نجيب باشا: طلبوني انتداب في السد العالي.. ايه رأيك!..
هتفت برلنتي في اضطراب: السد العالي! يعني هنسافر اسوان! لا يا نجيب.. ايه اللي يودينا أسوان.. أنا عايزة اقعد هنا.. انا ما صدقت بقى ليا حياة ومعارف وصداقات.. اروح هناك اتوحد تاني!..
ابتسم نجيب متفهما: عندك حق.. المعيشة هناك مش هتبقى سهلة.. بس ايه قولك لما تعرفي إن الباشمهندس سرحان منتدب معايا كمان ..ودرية هتسافر معاه.. اعتقد كده ملكيش حجة.. أقرب صاحبة ليكي هتكون معاكي هناك.. هااا.. كده تمام!..
ابتسمت برلنتي مؤكدة: طبعا كويس أوي.. هروح احضر لك الغدا..
هتف نجيب يشاكسها: اوعي يكون محروق زي كل يوم، معدتي تعبت يا برلنتي!..
هتفت برلنتي من الداخل في تهديد: نجيب!..
قهقه نجيب مؤكدا وهو يتطلع نحو طفلته التي إصابتها عدوى ضحكاته: خلاص.. سماح.. هاكل وأنا ساكت..
وتطلع نحو طفلته هامسا: لكن انتي متكليش.. أخاف عليكي يا حبيب بابا..
قهقهت أنس الصغيرة في سعادة.. كأنها أدركت مزحة أبيها..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٧٠..
توعكت صحة أنس الوجود هانم.. وأرجع كثير من الأطباء ذلك إلى تقدمها في العمر وأمراض الشيخوخة المعتادة في مثل هذه السن.. فقد ناهزت الخامسة والثمانين عاما.. تبدو ظاهريا أكثر شبابا.. لكنها بالفعل باتت تعاني الكثير من الأمراض التي أقعدتها عن الحركة مع تأكيد الأطباء على الراحة التامة وعدم إجهاد القلب..
كان كل من بالسراي يقوم على خدمتها.. وما كانت تترك وحيدة أبدا.. حتى في أثناء نعاسها كانت هناك ممرضة تباشرها.. وتظل ساهرة على راحتها إذا ما استيقظت في منتصف الليل..
لكن على ما يبدو أنه في تلك الليلة الباردة التي ساد فيها ذاك الصمت المحمل بالرهبة.. استيقظت أنس الوجود مخالفة كل قواعد السلامة المتبعة لحالتها.. مغادرة فراشها على مهل مستغلة خلود الممرضة للنوم بعد أن دثرت حالها بشالها الصوفي الثقيل اتقاء للسعة البرد في مثل هذه الساعة من تباشير الفجر الأولى..
سارت أنس الوجود في هوادة نحو الخارج قاطعة ذاك الرواق الطويل في تأنِ وقد كان صوت السكوت يعم الأرجاء وقد خلد كل شخص لحجرته.. هذه الحجرات التي تمر بها وهي في طريقها للبهو الذي وصلته أخيرا تقطع الخطوات في هوادة نحو مقعد سعد المفضل.. جلست متنهدة في راحة بعد هذا المشوار الطويل الذي قطعه من حجرتها حتى استقرت ها هنا.. متطلعة لمعالم الرسلانية وقد بدأ الضوء الشاحب يتسلل إليها من الأفق البعيد.. ابتسمت في وداعة هامسة: عمر من سعادة قضيته على الأرض دي.. لكن أنا افتقدك سعد باشا.. الدنيا بلا وجودك باهتة لا لون لها..
همس سعد الذي تمثل لها طيفه بالأفق هناك: وأني برضك اتوحشتك يا أنس.. طول بعادك جوي.. وسيبتيني لحالي كل السنين دي.. هونت عليكي يا حبة الجلب..
همست أنس الوجود دامعة: مچبرون سعد باشا.. الرحيل ليس بأيدينا.. ولو كان الأمر بيدي.. كتت غادرت برفقتك.. فما عاد للدنيا من معنى بعد فراقك.. لكن على ما يبدو.. قد حان اللقاء أخيرا.. لقاء لا فراق بعده سعد باشا..
همس سعد باسما: خلاص.. هتحني عليا يا أنس وتاچي تونسيني!..
مدت أنس كفها نحوه باسمة بدورها: خذ بيدي سعد باشا.. ما عادت تعنيني الدنيا.. رفقتك هي الباقية.. دعني أرحل بصحبتك التي افتقدتها..
مد سعد كفه بالمقابل، لتضع أنس الوجود كفها أخيرا بكف حبيبها ورفيق دربها لترحل بصحبته.. حيث تجتمع وتأنس أرواح الأحباب..
❈-❈-❈
القاهرة نهاية ١٩٧٠..
اندفع فضل صوب الدرج يصعد درجاته في حماسة، عاد أخيرا إلى مقر عمله.. لكم اشتاق كل ركن بهذه الجريدة التي قضى فيها الكثير من سنوات العمر مدافعا بقلمه ومحاربا بكلماته عن الحرية والعدالة.. اندفع منتشيا بعد أن ألقى التحية في عجالة، مدفوعا صوب مكتب رئيس التحرير ليلتقي رئيسه ومعلمه.. بعد غياب كل هذه السنوات.. كان عليه القدوم منذ خروجه من المعتقل.. لكن ذهابه للرسلانية كان ضرورة ملحة شوقا للأحبة ليصفعه القدر هناك بخبر هروب برلنتي ومن بعدها سعاد.. وعلى الرغم من سعادته بفرحة زواج وداد من فاضل.. الذي ظنه لوهلة عمه نيكوس حين أبصره للمرة الأولى.. لكن ذلك لم يخفف من الغضة التي تركها غياب سعاد عن داره بهذا الشكل المهين الذي ما عاد بالإمكان مداواته..
وزاد الحزن أضعافا مع رحيل أمه أنس الوجود عن دنيانا في ليلة باردة حين وجدوها تجلس على كرسيها المفضل الذي كان لسعد والده من قبل.. تتشبث كفها بأستار النافذة المطلة على الرسلانية.. وقد أسلمت الروح مبتسمة في وداعة.. كأنما السعادة تغمرها وهي في سبيلها لمقابلة حبيب غائب..
أبعده كل هذا عن العودة لممارسة عمله واستئناف حياته الطبيعية.. واليوم وقد مرت أشهر على وفاة أمه أصبح من اللازم عليه الخروج من شرنقته ونفض أحزانه عن كاهليه ومعاودة نشاطه..
دفع باب رئيس التحرير في أريحية كعادته، مهللا ملقيا التحية.. لكنه تسمر موضعه.. حين رأي ذاك الصعلوك المدعو صبرة العدوي يحتل مقعد رئاسة التحرير كما توقع معلمه يوما ما في لعبة الكراسي السياسية الحقيرة.. وهو يغازل فتاة على ما يبدو هي إحدى الصحفيات المتدربات هنا بالجريدة..
نهض صبرة من فوق مقعده في تكاسل مرحبا، بينما اندفعت الفتاة الشابة في عجالة مهرولة للخارج: أهلا.. خرجت امتى!..
لم ينتظر صبرة جواب فضل الذي كان يقف في تيه يحاول استيعاب ما يحدث: يا رب بقى نمشي ع الطريق المستقيم.. عشان دلوقت غير زمان.. واللي كان مسموح لك به زمان مبقاش مسموح لك به دلوقت .. وخاصة فتح الباب بالطريقة الهمجية دي.. مفهوم!..
وكأن فضل لم يستمع لكل ما قيل، وسأل في فضول: فين أستاذ سلام رئيس التحرير!.
ابتسم صبرة: قصدك اللي كان رئيس تحرير.. ع العموم معرفش.. اتفضل بقى.. ولو هتفضل في الجريدة يا ريت الكلام اللي سمعته تنفذه..
أكد فضل في هوادة وهو يجذب قلم وورقة من على المكتب في عزة: اتفضل.. استقالتي اهي.. أنا ميشرفنيش اشتغل مع شخص وصولي ومتسلق زيك..
قهقه صبرة العدوي معايا: وأنت بقى كسبت ايه يا بتاع الوطنية.. يابو دراع!..
هتف فضل في ثبات: كسبت احترامي لنفسي.. اعتقد دي حاجة متعرفهاش ومسمعتش عنها قبل كده..
اندفع فضل مغادرا المكتب ثم الجريدة بأسرها.. طارقا باب شقة في حي السيدة زينب ليطل من خلف بابها رئيسه ومعلمه الأستاذ سلام الذي تطلع لبرهة في قسمات فضل قبل أن يهلل في سعادة وهو يتلقفه بين ذراعيه مرحبا بعودته سالما..
جلسا يتبادلان أطراف الحديث.. ليؤكد فضل في حنق: ركب صبرة العدوي رئاسة التحرير زي ما توقعت حضرتك.. ايه اللي بيحصل ده!..
أكد سلام باسما في حسرة: النتاج الطبيعي لقمع الحريات وتكميم الأفواه.. كان لازم اللي زي صبرة ده ومن على شاكلته هم اللي يبقو فوق لضمان استمرار السيطرة والهيمنة..
سأل فضل: طب وحضرتك فين دلوقت!..
ابتسم سلام متصالحا مع الأمر الواقع: من منازلهم.. قاعد بقرا ومستمتع بصحبة أحفادي ولا جديد..
وعلى ذكر أحفاده دخل أحدهم حاملا صينية عليها أكواب من الشاي، ملقيا التحية قبل أن يهتف حفيدا آخر من خارج الغرفة: في بيان مهم فالراديو يا جدي..
أمرهم سلام برفع صوت الراديو الذي أقر في نبرة حزينة.. "فقدت الجمهورية العربية المتحدة اليوم، زعيمها وقائدها، جمال عبد الناصر".
❈-❈-❈
باريس ١٩٧٢..
اندفع ناجي من الخارج، متجها رأسا نحو غرفة نومه، تنبهت إلهام لوصول زوجها فاستأذنت من ضيوفها، واتجهت نحو غرفتها في قلق، دخلت تتطلع نحو ناجي الذي كان يجلس القرفصاء أرضا، فذعرت وجاءت لتجلس قابلته تسأله في هوادة: في ايه يا ناجي!.. خبر تاني من مصر!..
هز ناجي رأسه نافيا، ورفع رأسه المنكس وعيناه تنصب نظراتها على عمق نظرات زوجته حبيبته ورفيقة دربه التي كافح لسنوات حتى اجتمعا تحت سقف واحد، مقرا في صوت متهدج إرهاقا: أنا تعبت يا إلهام.. تعبت اوي ومش قادر اكمل كده..
همست إلهام وهي تضم كفيه بين كفيها في محاولة لاحتواء نوبات حزنه التي زادت عن حدها مؤخرا، وما كان يفصح عن أسباب: تعبت من ايه يا حبيبي!.. في حاجة حصلت في الشغل! في أي خلاف حصل بينك وبين بهجت!.. ده حتى بهجت دلوقت مبقيناش نشوفه.. توسعات شركته مخلياه في كل بلد شوية.. يمكن عشان سايب مسؤولية الشغل عليك!.. طب وهو هيثق في مين أفضل منك يا ناجي!.. أنا..
قاطعها ناجي مقرا: أنا راجع مصر يا إلهام..
رددت في تعجب: راجع مصر ليه!.. ولأيه يا ناجي! احنا مش قفلنا الموضوع ده من سنين . من ساعة ما قررنا نستقر هنا.. ايه اللي جد!..
أكد ناجي بصوت مخنوق مبعثر الأحرف: أنا من ساعة ما جيت يا إلهام وأنا مش لاقيني.. مش لاقي ناجي.. كأني خلعت روحي ونفسي مع بدلة الميري.. وجيت ادور عنهم هنا ومش لاقيهم.. تلت سنين يا إلهام بحاول اندمج واعيش وانسى.. بس أنا بموت بالبطيء.. أنا مكاني مش هنا يا إلهام.. أنا راجع مصر..
همسات إلهام في اضطراب متعجبة: هترجع مصر لإيه يا ناجي!..
همس ناجي: القيادة السياسية اتغيرت وأنا ع الاستيداع وهطلب الرجوع للخدمة.. أنا مكاني هناك بين العساكر والسلاح.. ولو هموت.. يبقى على أرض بلدي فوسط جنودي.. مش هموت هنا مخنوق ورا مكتب مزوق.. أنا راجع..
همست إلهام في قلة حيلة: ده آخر كلام عندك يا ناجي.. طب فكر عشان خاطري وخاطر الأولاد..
ضم ناجي كفيها هامسا: الولاد كبرو وانتي عملتي لك حياة هنا يا إلهام.. أنا راجع لوحدي.. مش ممكن اقولكم هدو ده كله وتعالو معايا.. وأنا أصلا لسه معرفش الأوضاع هتستقر على ايه في مصر.. وخاصة بعد أزمة طرد الخبراء الروس.. اكيد الأوضاع رايحة في سكة مش متوقعة.. احساسي بيقول لي كده.. وده الوقت اللي لازم أكون فيه هناك يا إلهام.. فهماني!..
هزت إلهام رأسها في إيجاب، ليضمها لصدره تبكي فراقه الوشيك..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٧٣..
كان فضل يجلس في وداعة تحت تعريشة سعد رسلان يتطلع للحديقة الخلفية للسراي حيث يلهو حفيديه حبيب ومنيرة.. صوت صرخاتهما وضحكاتهما يرسم البسمة على شفتيه في حبور ورضا.. جاءت فوز من الداخل تحمل بعض التمر في وعاء كعادتها منذ بدأ الشهر الفضيل.. تجلس لتنوع اللحم عن النواة.. لعمل مشروب الخشاف المفضل لرؤوف على الإفطار.. وكعادتها مؤخرا.. لا يفارقها ذاك الراديو الترانزستور أينما حلت.. فأصبح انيسها دوما.. ضبطت مؤشره على إذاعة القرآن الكريم.. التي تبث الابتهالات والأدعية الخاصة بشهر رمضان المبارك مع الكثير من آيات الذكر الحكيم بصوت ملائكي للعديد من المقرئين الذين أقرتهم واجازتهم الإذاعة المصرية..
همس فضل في تكاسل: اذاعة القرآن الكريم من الحاجات اللي هتفضل مرتبطة بسيرة عبالناصر.. إنها من أفضل الحاجات اللي أمر بإنشاءها.. الله يرحمه..
تطلعت فايزة نحو فضل متعجبة، وهتفت في حنق: اللهم إني صائم.. الواحد مش عايز يخوض في سيرة حد.. بس أنت اتبهدلت كتير في عهده يا فضل.. إزاي جادر تبجى بالتسامح والرضا ده!..
ابتسم فضل مؤكدا: عشان أنا عارف إن سواء أنا أو هو.. كان لنا هدف واحد.. مصلحة البلد دي.. بس الخلاف كان في أسلوب والطريقة.. أنا عملت بأسلوبي وهو كمان.. أصاب أو أخطأ هو في الأول والآخر بشر.. لكن الهدف الأخير كان مصلحة مصر يا فايزة..
همت بالرد إلا أن حبيب هروب نحو طاولتهما بدأ العبث بمؤشر الراديو، لتصرخ فايزة: يا ولا يا عفريت.. والله لأجول لأبوك.. ها..
غرق فضل في قهقهاته على أفعال حبيب الذي أثار حنق جدته التي نهضت تركض خلفه، لا تعلم أن حبيب ما فعل ذلك إلا لاستقزازها حتى تقوم لتلهو معه قليلا.. لكن بغتة.. وفي وسط صيحات منيرة وحبيب السعيدة لمزاح جدتهما وركضها خلفهما، انتفض فضل ممسكا بالراديو بين كفيه في عدم تصديق.. حتى أنها دار مؤشر الصوت لأعلى مستوى حتى يتأكد له أنه لا يحلم.. وصوت المذيع من إذاعة صوت العرب يؤكد في قوة وثبات..
“أيها الإخوة المواطنون،
قامت قواتنا المسلحة اليوم بتنفيذ مهمة قتالية لرد العدوان الإسرائيلي على أراضينا في شبه جزيرة سيناء.
وقد أسفرت العمليات حتى الآن عن عبور قواتنا لقناة السويس على طول المواجهة، واقتحامها لخط بارليف، وإقامة عدة رؤوس كباري على الضفة الشرقية للقناة.
كما قامت القوات الجوية بحماية عملية العبور، وقصفت مواقع العدو في عمق سيناء.
وقد حققت قواتنا نجاحًا كبيرًا في تنفيذ مهامها، وكبدت العدو خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات.
وإننا نتابع تطورات الموقف، وسنوافيكم ببيانات أخرى في حينها.
النصر لنا بعون الله.
عاش كفاح شعب مصر، وعاشت قواته المسلحة الباسلة.”
أمسك فضل بالراديو في تيه، متجها نحو فايزة التي رأته على هذه الحالة فتوقفت عن اللهو مع احفادها مندفعة نحوه مستفسرة في قلق: ايه في يا فضل!
همس فضل في شرود: عبرنا يا فوز.. عبرنا لسينا يا فوز.. تعب السنين مرحش هدر يا فوز..
العمر مرحش هدر يا فوز..
جذبت فايزة الراديو من يد زوجها لا تصدق ما يهزي به.. فبيانات نكسة ٦٧ الخادعة ما زال أثرها باقِ لم يمح من الذاكرة.. ما دفع فايزة لتدير مؤشر الراديو على إحدى محطات الإذاعة الأجنبية.. ليتأكد لها الخبر من أكثر من مصدر.. بكت وهي تحتضن فضل الذي كان ما يزال على تيهه.. والذي انتفض فجأة مستفيقا مندفعا صوب السراي.. لتسأله فايزة في اضطراب وقلق: على فين الساعة دي.. ده المغرب كمان كام ساعة!..
أكد فضل: لازم انزل مصر حالا.. زمان الجريدة واقفة على رجل.. مصر كلها واقفة على رجل يا فوز.. ضروري أكون موجود هناك في أسرع وقت..
تركته فايزة يفعل ما يحلو له.. فما من قوة بالكون يمكن أن تجعل فضل يغير رأيه أو قناعاته.. هكذا كان منذ وقعت ناظرها عليه للمرة الأولى.. ثائرا.. حرا.. وهكذا سيظل..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
كان مشهد نقل التليفون الميري من دار العمدة القديم لدار العمدة الجديد احتفالية لا تنسى في أي قرية أو نجع صغير.. فقد كان ذاك المشهد يدرس ويوثق لجانبي الحياة وشقيها.. الحزن والفرح.. السعادة والسخط.. الصعود والهبوط.. العزة والمذلة.. الحياة والممات.. ضحكات وزغاريد وطبل وزمر من جانب ناس العمدة الجديد وأهله ومحبيه وهم يحملون التليفون الميري في اتجاه داره التي ستصبح مقرا للحكم ولإدارة شؤون النجع.. بينما صرخات العويل والحسرة على الجانب الآخر.. دار العمدة القديم الذي فقد الهيلمان.. وتسربت السلطة من بين يديه.. وأصبحت امرأته بعد أن كانت سيدة نساء النجع الأولى.. إلى امرأة مكروهة الكل فيها شامت.. لا عاد يودها حبيب مدعِ ولا يدق بابها مجامل متملق لطلب مصلحة لن تقضى إلا بمعونتها..
وهذا ما كان حين حمل الخفراء التليفون الميري من دار السيد أبو ذكيبة حتى دار
صالح النجدي.. وكأن التاريخ يعيد نفسه.. مؤكدا أن الأيام دول.. يداولها الله بين الناس.. ليدرك الإنسان حقيقة واحدة.. أن دوام الحال من المحال..
كان حال بيت أبو ذكيبة عدم.. فقد فرغ الدار على قاطنيه، حتى الخدم تسلل أحدهم تلو الآخر راحلا بلا مبرر.. تاركا مجيدة ترعى امها سنية وحيدة.. بعد أن سقطت بلا حراك منذ جاءها نبأ مقتل ولدها عزت بين مجرمي الجبل.. وغياب أبيها في الكثير من التحقيقات.. حتى تم عزله عن العمودية.. وأخيرا اختفائه بلا رجعة حتى اللحظة وعدم عودته للنجع أو الدار.. لا أحد يعلم أين ذهب! ولا يدرك مخلوق متى تكون عودته!..
تنحنح سرور هاتفا في تأكيد على وصوله وهو يقف على أعتاب الدار الخاوية وقد هجرها الخفراء والخدم: يا رب يا ساتر.. أنا وصلت يا أهل الدار..
تنبهت مجيدة لندائه فاندفعت من جوار أمها صوب الخارج، لتقف أعلى الدرج هاتفة: اتفضل يا داكتور سرور..
تنحنح سرور مجددا، وهو يصعد الدرج في هوادة منكس الرأس غاضا البصر.. فهو يدرك أن ما عاد بالدار رجلا.. وأن مجيدة تجلس تحت أقدام امها لخدمتها..
دخل الغرفة بعدما أشارت له مجيدة في نبرة هادئة: اتفضل.. اهي.. طول الليل تزوم.. معرفاش ايه فيها.. وأول ما طلع النهار شيعت لك تشوفها..
هز سرور رأسه متفهما، وبدأ فحصه لسنية التي كانت تتمدد على فراشها بوجه شاحب، وعقل ذهب صوابه.. بعد خبر مقتل وحيدها..
كان وضعها مثيرا للشفقة حقا.. فمن رأى هذه المرأة منذ أيام قلائل فقط وهي تحكم في رقاب الخلائق وتسير في انفة وكبر بين النساء.. لا يتوقع أنها نفسها من ترقد بين كفيه يقلب فيها كالخرقة البالية بلا حول ولا قوة وقد زال عنها جاهها وسلطانها.. سبحانه المعز المذل!.. متى يدرك الانسان أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا!..
أنهى سرور فحصه، مؤكدا في هوادة: بإذن الله خير.. هكتب لها على شوية مهدئات.. مع التأكيد على التغذية السليمة بس أكل مش تقيل.. حاجات مغذية بس خفيفة.. وأنا هاجي أشوفها تاني بكرة..
هتفت مجيدة، هذه المسربلة بالاسود هناك على الطرف الآخر من الفراش: هنتعبك كده يا داكتور!..
أكد سرور وهو يجمع أدواته: مفيش أي تعب.. وفي أي وجت.. ابعتي عيل صغير هتلاجيني هنا حلا.. و..
سألت بغتة في نبرة مقهورة: هي أمي هتفضل على الحال ده كده على طول!..
رفع سرور رأسه نحوها وسقطت نظراته على دموعها التي انسابت بلا توقف، ارتبك وما عاد يدرك ما عليه قوله أو فعله إلا الإجابة في محاولة لتهدئتها ولو كذبا: ربك جادر.. تشد حيلها وتبجى أحسن وترچع كيف الأول.. أصلك اللي حصل مهواش هين برضك..
ارتفعت شهقات بكائها، ما دفعه للشفقة عليها وقد أدرك أن ما من أحد دفع ثمن كل هذه الاغلاط إلا هذه الفتاة الوحيدة التي تقف بلا سند حقيقي.. أخ رحل عن دنيانا..موصوم بالعار.. وأب تخلى بلا ذرة ندم.. وأم سقطت مريضة بلا أمل فالشفاء.. أين هي من كل هذا!..
مسحت مجيدة وجهها بكل يدها، وردت في نبرة حاولت أن تودعها بعض من ثبات: صدجت.. مكنش هين.. ومحدش عارف ايه اللي چاي كمان!.. بس ربنا موچود..
همس سرور وهو يهم بالخروج من الغرفة: ونعم بالله..
وما أن أصبح خارج دار أبو ذكيبة، حتى رفع رأسه نحو النافذة العلوية لحجرة سنية التي غادرها لتوه.. ليجد مجيدة تقف خلف النافذة تتطلع نحوه.. تعلق ناظره بموضعها لبرهة قبل أن يهرول مبتعدا.. لكن شيء ما تعلق هناك.. حيث تقف تلك الباكية.. ظل مرهونا بنافذتها.. وهو ما يدرك بعد..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
دق جرس الباب فتوقعت مريم أن القادم هو ممدوح.. فقد أخبرها بقدومه للاطمئنان على صحة جمال، الذي يرقد بالداخل مريضا منذ ثلاثة أيام.. ولم يبرح فراشه.. لكن ما أن انفرج الباب حتى ظهرت هذه الفاتنة التي كانت تقف في اضطراب متوترة النبرة تسأل: دي شقة سيادة النقيب جمال أبو العينين!..
تطلعت مريم لها في ذهول، من هذه الرائعة الصارخة الجمال التي تسأل على جمال أخيها بهذه الرقة، برهة مرت قبل أن تؤكد مريم في تيه: أيوه هي.. نقول له مين!..
أجابت هاجر في سلاسة: قوليله هاجر..
أشارت مريم لها بالدخول.. تاركة إياها تختار المقعد المناسب لها وما أن همت بالذهاب لتبليغ جمال بحضور هذه الضيفة الاستثنائية حتى رن جرس الباب من جديد.. لتعود مريم
لتفتح وقد نسيت أمر ممدوح لبرهة وعقلها تائه فيما يربط جمال بهذه الفاتنة.. حتى أنها تطلعت لممدوح في شرود وكأنها تراه للمرة الأولى ما دفع ممدوح ليتطلع حوله في قلق لنظراتها التي كانت أشبه بنظرات ريا وسكينة
وهما في طريقهما لارتكاب جريمة.. ما دفعه ليسأل في اضطراب: آنسة مريم!.. إنتي كويسة!..
تنبهت مريم أخيرا: اه.. أستاذ ممدوح.. اتفضل..
رد ممدوح وهو يتقدم للداخل في تردد: شكلك اتعديتي ولا ايه!.. انتي تمام!.. هو جمال بيه تعبان ب ايه!..
امسكت مريم ضحكاتها على أفعاله مؤكدة: نزلة برد بس شديدة حبتين.. اتفضل هبلغه وصولكم..
وصولنا!.. تنبه ممدوح معتقدا أن حالتها تتدهور، لكن ما أن دخل إلى الصالون حتى تفاجأ بوجود هاجر تجلس في الانتظار.. والتي هتفت في تعجب: ممدوح!.. انت هنا إزاي!.
همس ممدوح بنفس سؤالها: وانتي هنا ليه!..
قاطعت مريم إجابة أحدهما لسؤال الآخر متعجبة: هو انتوا تعرفوا بعض!..
هز كلاهما رأسه مؤكدا في إيجاب.. لتشير مريم للخارج نحو حجرة جمال، موضحة: اتفضلوا.. معلش جمال مش قادر يقوم.. فانتو ادخلوا له لحد ما اجيب لكم حاجة تشربوها..
هتف ممدوح: مفيش داعي تتعبي نفسك.. أنا هسلم واطمن على جمال بيه وماشي على طول مش هقعد..
لم تعر مريم اعتراضه بالا.. بل تركته يدخل برفقة هاجر لحجرة جمال الذي كان يرقد بمنتصف فراشه شاحبا وقد لاحظ ممدوح بعين رجل يستطيع أن يقرأ مفردات المحبة بأعين مغلقة فقد ذاق بعض حلوها والكثير من مرارتها كيف تبدلت سحنة جمال وكساها اللون وكأن الحياة دبت باوصاله ما أن وقعت عيناه على محيا هاجر.. أدرك أن هناك أمر ما تنسج خيوطه بينهما.. ابتسم داخليا في سكينة وتعجب أن الأمر ما عاد يعنيه.. يتذكر حين شعر باهتمام جمال الواضح بهاجر أيام قضية حادثة نصير الراوي كان يشعر أن حمضا حارقا يغلي بعروقه ما أن يجدهما معا.. تجلس برفقته وتضحك ملء فيها.. لكن الآن وقد تأكد له أن هناك ما يحاك بينهما في الخفاء.. لم يهتز لبرهة حتى.. وتعجب من حاله.. كيف يمكن للقلب أن يتبدل بهذا الشكل في فترة ليست بالطويلة!.. وكان الجواب حاضرا عند دخولها الغرفة حاملة صينية عليها بعض المشروبات.. كانت جميلة وواثقة و..
وماذا يا ممدوح! ارتبك ممدوح وهو يتناول من كفها كوب مشروبه، مرتشفا منه لتوه مزيلا تلك الغصة التي استقرت بحنجرته، ما دفع مريم لتشاكسه: أنت مش قلت مش عايز أشرب حاجة.. وهمشي على طول!
ابتسم ممدوح مجيبا وقد تعود على أسلوبها: وإنتي طلعتي كريمة وجبتي.. اكسف ايدك يعني!..
أشار جمال نحو أخته الصغرى هاتفا في مزاح مقترنا بالسؤال: مريم .. اختى الصغيرة. آخر العنقود.. وآخرة صبري.. الله يكون في عونك يا أستاذ ممدوح.. مستحملنها إزاي عندك فالشغل!.. تحياتي وتقديري..
قهقه ممدوح وهاجر، بينما امتعضت مريم حانقة: بقى كده يا جمال! طيب.. ع العموم هتقع تحت ايدي وأنت بتاخد حقنة بالليل.. وكله بحسابه..
قهقهت هاجر وكاد ممدوح أن يغص برشفة من مشروبه، مؤكدا في وداعة: لا إزاي يا جمال بيه!.. والله دي عاملة جو في المكتب لدرجة ان المكتب من يوم غيابها ملوش طعم..
تطلعت مريم نحو ممدوح لا تصدق ما قاله لتوه، هل حقا افتقد وجودها وأثر فيه طول بعدها!..
تنبهت مريم على مزاح جمال: طبعا لازم تعمل جو في المكتب.. تلاقيها قلباه عنبر العقلاء..
امسك ممدوح ضحكاته، لتهتف مريم بلهجة تهديدية: اغلط براحتك خالص.. مسيرك يا ملوخية تيجي تحت المخرطة..
سعل جمال قليلا قبل أن يهتف مستغيثا: أنا بقول نخليكم يا جماعة.. وده مش عشان حاجة.. عشان خاطري..
قهقهت هاجر متطلعة نحو جمال، مدركة أن هذا الرجل غير في نفسها الكثير.. وجعلها ترى العالم بشكل مختلف.. انتبه ممدوح لنظرات هاجر صوب جمال.. فابتسم في تقبل.. متمنيا لهما السعادة.. رافعا ناظريه نحو تلك المشاغبة التي يعترف اللحظة أنها خطفت قلبه.. وأنه وللمرة الأولى يدرك شعور عجيبا يتسلل لدواخله.. شعور بالطمأنينة المغلفة بالرضا..
يتبع...