رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 44 - الأربعاء 2/7/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الرابع والأربعون
تم النشر الأربعاء
2/7/2025
ـ قبض ريح..
الرسلانية ١٩٦١..
كانت أنس الوجود تجلس في المقعد ذاته الذي كان سعد يحب الجلوس عليه، حين يرغب في التطلع لأرضه كاملة من شرقها لغربها.. شاردة تجدها تبتسم تارة.. ويسيل الدمع من عينيها في سكون مقدس تارة آخرى.. وما زاد من حزنها هو وصول خبر اغتيال نوري من معارضين في ميدان تقسيم في أحد الاحتفالات القومية التركية.. رفضا لسياسته..
ذهب كل رجالك الطيبين.. فماذا بقى لك يا أنس الوجود!.. همست لنفسها في وجع..
مستطردة: أولا سعد.. ثم أنت الآن يا نوري.. ما عاد بالأرض متسع للنزاهة.. ولا موضع للشرفاء..
مسحت أنس الوجود دموعها ما أن دخلت وداد تجلس في صمت قبالتها، فاستشعرت أنس أن وداد ما جاءت إلا لتخبرها أمرا ما، كان ذاك جليا على ملامحها المليحة التي على الرغم من الحزن الذي يكسوها اللحظة، ما قلت فتنتها، كانت نسخة مجسدة منها حين كانت في مثل عمرها..
همست أنس تستحث ابنتها على الحديث، متعجبة اين ذهبت وداد الصغيرة المشاكسة، التي ما كانت تكف عن المزاح والضحك: هناك خبر.. المفترض معرفته.. صحيح!..
هزت وداد رأسها في إيجاب، وارتعشت في مقلتيها الدموع، وهي تهمس في نبرة منكسرة: وصفي هيتچوز يا أمي.. عشان العيال.. أتأخر كتير على أمل.. وكرامة لبابا.. لكن خلاص.. صبرهم نفذ.. وهو كمان له رغبة..
هزت أنس رأسها متفهمة، وربتت على كف ابنتها متسائلة: وإنتي قررتي ايه!.. هتكملي معاه.. ولا..
هزت وداد رأسها رفضا: مش هجدر.. وصفي بيجولي خليكي.. لكن أنا مش عارفة استوعب.. ده كتير عليا..
فتحت أنس ذراعيها لاستقبال ابنتها، التي اندفعت لأحضان أمها، وبدأت دموعها في الانهمار، لتهمس أنس في حنو: اعملي اللي يريحك.. خدي حريتك.. وتعالي اقعدي معايا.. وكملي في مهنة التدريس لأطفال المدرسة الإبتدائية.. السرايا واسعة.. فضل بيجيء ويروح.. وفايزة معظم الوقت عند أهلها مع أمها بعد مرضها الأخير.. رؤوف مقسم وقته ما بين هنا وهناك.. لكنه لا يتركني وحيدة.. وصفية ببيتها وتأتيني كثيرا.. اعملي ما فيه راحتك.. رتبي حياتك بالشكل اللي يرضيكي.. .. لا إجبار يا وداد..
اومأت وداد في تفهم.. ممتنة لأمها دعمها..
بينما اندفع عرفان أكبر أبناء مصباح الذي تولى حراسة بوابة السراي عوضا عن والده رحمه الله.. هاتفا في ذعر، قادما من الأسفل تجاه موضع أنس الوجود ووداد.. صارخا: إلحجي يا هانم! سيدي مصطفى أنضرب بالنار..
لتنتفض أنس من موضعها في صدمة، مصاحبة لصرخة وداد الفزعة..
❈-❈-❈
عرابة آل حفني١٩٦١..
هتفت سعاد في رقة مستعطفة: عشان خاطري يا عدنان، بلاش تموتهم.. دي عصافير غلبانة.. عملو لك ايه!.. اطلجهم لحال سبيلهم.. بلاش تنشن عليهم.. سبهم لله..
هتف عدنان غير مبال باستعطاف سعاد الباكي، وهو يرفع بندقيته للسماء باحثا عن صيد ثمين: ملكيشي صالح.. ابعدي إنتي لو جلبك وچعك عليهم..
هددت سعاد: هجول لخالي عامر..
هتف صبري معترضا: ما خلاص يا عدنان.. جالت لك مش بتحب تشوف العصافير بتموت.. راعي ده وخليك حسيس وبلاها الكلام ده دلوجت..
هتفت سعاد في هوادة: قول له يا صبري، يمكن يسمع منك، موت له بتاع عشر عصافير لحد دلوجت ومش مستكفي.. والله حرام..
هتف صبري في هوادة: خشي چوه بلاش تجعدي وتضايجي حالك.. واني هخليه يخلص الحكاية دي..
نفذت سعاد مطلب صبري، ودخلت للدار، بينما هتف صبري لأخيه الأكبر: يعني ما جالت لك بكفاياك! ايه استفادتك انت م اللي بتعمله ده!
هتف عدنان متهكما: وايه كمان يا حنين! وهي جالت لي بكفاية هجول حاضر.. ايه في!.. يا خسارة الرچالة!..
هتف صبري حانقا: هي المرچلة باللي بتعمله ده!.. مكنش حد غلب!.. وخلص بجى ف ليلتك دي.. هي ضيفة عندنا برضك.. ولها راحتها.. وعمتك فايزة چاية تخدم أمها.. يعني لازما تراعي وچودهم.. وإلا أني بنفسي اللي هجول لأبوك على عمايلك..
تطلع عدنان صوب أخيه في حنق، قبل أن يندفع مبتعدا، ليدخل صبري للدار.. استقبلته سعاد في امتنان شاكرة: متشكرة يا صبري.. ربنا يخليك.. أنا زعلانة جوي ع العصافير اللي ماتت دي..
همس صبري: لاه.. متزعليش.. عمرهم.. المهم تكوني ارتحتي!..
هزت سعاد رأسها مؤكدة في سعادة، وابتسامة صافية على شفتيها.. ليهم صبري بالابتعاد.. إلا أن وصول رؤوف متعجلا بهذه الطريقة جعله يتوقف متطلعا لرؤوف الذي اندفع مهرولا لداخل الدار دون أن يلق التحية بأدبه المعهود، أمرا سعاد في طريقه: اچهزي.. هنرچع السرايا حلا..
قالها وهرول للداخل باحثا عن أمه، ليعيدها للرسلانية، حتى أنه لم يجب على سؤال صبري عما يحدث.. والذي استشعر أن الأمر لابد خطير..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٦٢..
عم الرسلانية أيام طويلة من حزن لم ينقشع سحابه القاتم عن سمائها، فما حدث لم يكن على بال، ولا خطر على خاطر.. رصاصة من سلاح مختار الميري الذي كان يعبث به كل من نجيب ومصطفى.. بفضول.. فخرجت منه عن طريق الخطأ رصاصة أصابت مصطفى.. فيسقط على إثرها مصابا.. أيام وليالِ بالمشفى على أمل إنقاذه والعودة به لأحضان أمه التي سقطت من فورها.. فاقدة الوعي لا تستفيق لبرهة..
لكن قدر الله نفذ.. ورحل مصطفى.. لتشير أصابع الاتهام كلها نحو نجيب.. الذي كان يحمل السلاح لحظتها..
كان الأمر أشبه بكابوس.. ولد توفاه الله.. وولد قد يحكم عليه بضياع مستقبله.. لكن مختار تدخل.. مؤكدا أن الحادث قدريا وأن الأمر كله جاء على سبيل الصدفة.. لكن ما زاد الطين بلة.. أن السلاح الذي تمت به الحادثة، لم يكن سلاح مختار الميري كما كان يظن هو وأعتقد البعض.. بل كان سلاح يخص سميح.. وجده مصطفى صدفة مخبأ في أحد أدراج المكتب.. وبدأ العبث به.. في صحبة نجيب.. ليحدث ما كان مقدر له الحدوث..
شهور طويلة.. حتى بدأت صفية تستعيد عافيتها قليلا.. لكنها أقسمت ألا تعود لدار الحرانية مجددا.. وقد انصاع مختار لرغبتها.. فقد كان مقدرا أن لا قبل لها على الوجود في المكان الذي فقدت فيه ولدها الوحيد.. كما أنه كان يعلم أنه سيغادرها قريبا.. فأقر أن ذاك هو الأفضل لها ولتوأمتيه.. أمينة وبرلنتي.. ومع وجود وداد خالتهما بالقرب بعد طلاقها.. لتكون قادرة على العناية بهما جوار العناية بصفية نفسها.. والتي ما عادت قادرة على الوقوف بشكل ثابت على قدميها لدقائق معدودة.. الكثير من الأطباء أجمعوا بعد فحصها أن الأمر لا علاقة له بأمر عضوي.. وأن عدم قدرتها على المشي له علاقة بحالتها النفسية وتأثرها بما حدث..
دخل مختار عرفتهما، التي أصبحت لهما في سراي الرسلانية، ولحالة صفية وسهولة تحركها على كرسيها المدولب.. فضلت أن تكون بالطابق الأرضي.. اتكأ بالقرب من قدميها، متطلعا نحوها في نظرة عشق طويلة، فاستشعرت صفية أنه يخفي عنها أمرا ما.. فهمست متسائلة في رقة، وهي تضم وجهه يكفيها: ايه في! مخبي عني ايه يا مختار!..
همس مختار في نبرة متحشرجة: غصب عني يا صفية، والله مش ب أيدي.. إنتي عارفة..
قاطعته مستفسرة: أنت مسافر الحرب اللي بيجولو عليها دي فالراديو!..
هز مختار رأسه مؤكدا: ايوه.. الريس عبدالناصر قرر إنه يرسل قوات مصرية لليمن.. وأنا هكون من ضمن أول فوچ هيطلع على هناك..
همست في ذعر: اليمن! وايه اللي يخلينا نحارب بره بلادنا!..
ربت مختار على كفها في محبة: دي أوامر.. واحنا بنفذ يا صفية.. أنا بس اللي مزعلني.. إني سايبك إنتي والبنات فالظروف دي.. كان نفسي أسافر وأنا شايفك حتى واجفة على رچلك من تاني..
تطلعت صفية نحوه، وأكدت دامعة العينين: لو كان بيدي كنت جمت، بس مش جادرة يا مختار..
ربت مختار مجددا على كفها متفهما، لتهمس متسائلة: هتغيب كتير!..
رد مختار وهو يجمع بعض حاجياته: دي فعلم الله.. مقدرش أحدد ممكن أرچع امتى.. دي حرب يا صفية.. وكله بتاع ربنا..
تطلعت صفية نحوه، تملي عينيها من محيا رفيق عمرها، مدركة بعد رحيل مصطفى المفجع.. أن عليها دوما أن تطل كثيرا في وجوه الأحبة.. لتحفظ ملامحهم.. وتعتق روائح أرواحهم بين الحشا.. زاد لأيام البعاد.. وترياقا لوجع الشوق إذا ما هاج وطغى.. فلا علم لمخلوق متى تكون النهاية.. ومتى يعز اللقاء!..
همست صفية في نبرة مرتجفة: مختار!..
تنبه مختار لهمسها، فتطلع نحوها، ليجدها تفتح ذراعيها على مصرعيها لاستقباله، فهرول صوبها وألقى برأسه بأحضانها، لتعتصره ضما بذراعيها، وهو ينتحب بقوة، كانت المرة الأولى التي يبكي فيها منذ رحيل ولدهما مصطفى.. كان بكاء مخنوق، كماء مخزن خلف سد انهار بلا مقدمات.. مؤكدا على عمق الوجع الذي كان يستره بصدره..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٦٣..
ألقى رئيس التحرير بجريدة ما فوق سطح مكتبه في حنق بالغ، هاتفا في ضيق موبخا: بقى ده اسمه كلام يا فضل!.. يا بني الأمور متتاخدش قفش كده!.. أنا عارف عندك حق في كل كلمة كتبتها بس مش كده.. أنا خايف عليك..
هتف فضل في ضيق مماثل: مقدرتش غير اني اقول الحق.. هو اللي بيحصل ده يرضي ربنا.. مين يقول نرمي خيرة شباب جيشنا في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل واليهود على حدودنا مش ناسيين ٥٦.. متربصين لحظة بس نغفل أو نضعف فيها.. عشان يرجعوا لسينا.. مين عاقل يقول إن ٥٠ الف عسكري وظابط مصري مع معداتهم وسلاحهم يتحدفو ع اليمن بمزاعم القومية العربية.. ولسه كمان الحرب مستمرة والعدد هيزيد..
هتف رئيس التحرير مبررا: عشان نساعد اليمن في التحرر من الملكية زي ما ساعدنا الجزائر..
اللي اهي نالت استقلالها بفضل دعم القيادة المصرية..
زعق فضل معارضا: مقارنة مغلوطة ومش فمحلها.. احنا ساعدنا الجزائر بالدعم الإعلامي والتدريب للقيادات وحتى بالسلاح.. لكن هم نالوا الاستقلال بدم أولادهم ومجهودهم.. لكن اللي بيحصل في اليمن ده عبث.. دم عيالنا غالي.. مهواش هدية ولا مجاملة.. عشان يتقدم بمزاعم فارغة ومبررات ملهاش منطق..
تنهد رئيس التحرير هامسا: صدقت.. بس مين اللي يقدر يتكلم!..
أكد فضل: أنا هتكلم.. أبو دراع لا يمكن يخرس.. ولا هيبلع لسانه عن كلمة الحق.. واللي مش هيقدر ينطق به فضل.. أبو دراع هيصرخ به في كل حتة..
أشار رئيس التحرير لفضل أن يصمت، واتجه في هوادة وفتح الباب متعجلا، ليتأكد أن ما من أحد كان يتصنت بالباب، ليعاود إغلاقه من جديد مشيرا لفضل في عتاب: وطي صوتك الحيطان لها ودان.. معرفوش يمسكوا عليك كلمة هنا.. هتوصلهم لاسمك المستعار اللي بتكتب به في جريدة بير السلم اللي محدش عارف يوصل لمقرها فين من أصله!.. أبو دراع ده بقى ماركة مسجلة.. الناس بتستنى تحليله للأمور.. أنا شخصيا بستناه.. تعرف إني شفت صبره العدوي ماسك مرة الجريدة وقاعد يقرأ مقالك.. والغريب انه معترضش كالعادة.. كان ساكت بشكل غريب.. زي ما يكون مقتنع باللي مكتوب بس خايف يقول..
أكد فضل: للأسف اللي خايفين يصدقوا كتير.. بس يا خوفي اللي يفوقهم تبقى مصيبة كبيرة.. منقدرش نخرج منها.. وساعتها هنقول يا ريت اللي جرا ما كان..
هز رئيس التحرير رأسه متفهما.. ولم ينطق حرفا حين سمع صوت صبرة العدوي يهلل في فخر لمساندة مصر لليمن.. مباركا الدفع بالجنود المصريين للحرب هناك.. ما جعل رئيس التحرير يتطلع صوب فضل في صمت لبرهة.. قبل أن ينفجرا ضاحكين.. لكنه ضحك أشبه بالبكاء..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٦٣..
اندفعت برلنتي في فرحة عارمة صوب رؤوف مهللة: ألف مبروك يا رؤوف.. مچموعك كبير يدخلك الكلية اللي تعجبك.. هاااا.. ناوي على ايه!..
رد رؤوف ولم يجب على كل هذه الأسئلة، إلا بكلمة واحدة: الله يبارك فيك.. متشكر..
لتهتف أنس الوجود جدته: ناوي على ايه يا رؤوف.. الطب ولا الهندسة.. ولا الحقوق مثل والدك..
أكد رؤوف في هدوء: أنا مش ناوي على حاچة.. أنا جاعد وسطيكم.. لا رايح ولا چاي.. هراعي أرض چدي.. وخصوصا إن بابا معظم الوجت فمصر.. وعمي مختار ربنا يرده بالسلامة.. وانتوا لازم لكم راچل معاكم..
أكدت وداد متعجبة: لا يا رؤوف.. الچامعة مهمة برضك.. خدها وبعدين أعمل اللي يعچبك..
تعجب رؤوف: واخدها ليه م الأساس طالما كل اللي فبالي دلوجت أرض چدي.. وجعدتي معاكم..
هتفت فايزة تقنعه: طب أنا عندي حل يرضي چميع الأطراف.. ايه رأيك في دراسة الزراعة.. تبجى مهندس زراعي كد الدنيا وتتخصص في رعاية أرض چدك بالأصول.. هاااا!..
هتفت أمينة في رقتها المعهودة، وقد وصلت لتوها لموضعهم، قادمة من حجرتها بالطابق العلوي: فكرة ممتازة يا طنط فايزة..
وتطلعت نحو رؤوف في حياء: وألف مبروك يا باشمهندس..
تطلع رؤوف نحو أمينة لبرهة، قبل أن يهتف مبتسما: طب على بركة الله.. أنا موافج..
تنبه رؤوف لعمته صفية التي كانت تجلس ساهمة على كرسيها، لا تلقي بالا لما يجري إلا حين انحنى قبالة كرسيها المدولب، يسألها في حنو: إنتي ايه رأيك يا عمتي! ادخل زراعة!..
ربتت صفية على خده مشجعة: ايوه يا حبيبي ربنا يوفقك..
همس رؤوف وكأنه قرأ أفكار عمته التي سترتها عن الأعين، رابتا على كفيها المتشابكتين بحجرها: هو راح لحتة أحسن يا عمتي..
هزت صفية رأسها متفهمة، هامسة بصوت متحشرج: كان نفسي أفرح بنچاحه معاك يا رؤوف.. كان نفسي يبجى هنا..
همس رؤوف محوقلا: أنا ومصطفى واحد يا عمتي.. وكنه سافر سفرية طويلة حبتين.. بس هو لساته موچود وسطينا..
هزت صفية رأسها في قناعة.. لينهض رؤوف مقبلا جبينها.. ليهتف حينها صوت جهوري قادما من أعتاب السراي الداخلية.. مهللا بالتحية في نبرة قوية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
كان سميح يقف على أعتاب السراي ودخل حين أذن له رؤوف، هاتفا: اتفضل يا عمي..
دخل سميح متنحنحا، يلقي التحية من جديد على جمع النساء، متخذا مقعدا في صدر المجلس حتى يصبح موضع تركيزهن، حين هتف مهنئا: مبارك يا رؤوف.. سمعت إنك نچحت فالبكالوريا..
هتفت برلنتي مصححة: اسمها ثانوية عامة يا عمي.. بكالوريا دي اتلغت من زمان.. دي كانت على أيامكم...
هتف سميح ممتعضا: طيب يا ست الحسن.. اهو محدش چايبنا ورا إلا لماضتك وطولة لسانك دي..
همت أنس الوجود بالرد، إلا أن صفية هتفت في ضيق: البنت بتهزر معاك يا سميح مش جصدها حاچة تزعلك.. وبعدين.. هو أنت چاي عشان تبارك لرؤوف وبس، مظنيش!..
تنحنح سميح مؤكدا: الصراحة يعني.. لاه.. أنا جلت نخلي الفرحة فرحتين.. اچي اهني بالنچاح.. واكرر طلبي اللي كان من سنين.. واطلب يد وداد..
شهقت صفية في صدمة، بينما تطلعت أنس الوجود له وكأنه مجنون فاقد للأهلية، وأن ما على المجنون من حرج، ليهتف رؤوف متعجبا: طب وهي المواضيع دي.. تتجال للحريم كده يا عمي.. مش لهم راچل.. ع الأجل تستنى لما بابا ينزل من مصر وبلغه طلبك.. ولا ايه!..
هتفت أنس الوجود في استحسان: عفارم عليك رؤوف.. عفارم..
هم سميح بالتحدث، إلا أن وداد هتفت مؤكدة: لا يا رؤوف مش محتاج الرد يستنى فضل، عشان ردي لسه متغيرش من ساعتها.. من سنين ردي على طلبك كان لأ.. والنهاردة وأنت چاي فاكر بجى اني لما اطلجت عشان مبخلفش.. هجبل باللي مرضتش به زمان.. لاه يا سميح.. مش هيحصل ومش هكون ليك.. ولو كنت آخر راجل في الدنيا..
نهض سميح في تحفز، فما كان يتوقع أن يكون رد وداد بهذا الشكل الصارم، معتقدا أنه قد ظفر بها أخيرا بعد طلاقها، ما دفعه ليهتف في ثورة: على ايه! ده أنا كنت شفجان عليكي.. جلت اطلجت من غير عيل ولا تيل... اكسب فيها ثواب واتچوزها.. مع إني يوم ما بختار.. بچيب مرا لها عايزة تچيب بدل العيل عشرة.. مش مرا كيف النخلة العچفانة من غير طرح..
زعق رؤوف ليخرس سميح، مهددا: بكفاياك جلة جيمة، ولو مخرچتش من غير مطرود.. أني هعملها بنفسي.. ومش هراعي بعد اللي انت جلته ده إنك راچل كد أبويا..
نهضت فايزة تربت على كتف ولدها، تحاول تهدئته، ما دفع أنس الوجود للتدخل لإنهاء الموقف: بره يا سميح.. لقد تخطيت حدود الأدب.. اخرچ ولا تعود مجددا..
اندفع سميح مغادرا كما العاصفة.. لتتلقف فايزة وداد بين ذراعيها باكية في قهر حالها.. فقد كانت كلمات سميح كالخناجر المسمومة..
ليهتف رؤوف مستشهدا: اهو عشان اللي چرا ده، مش عاچبني اسبكم لحالكم وأروح الچامعة..
هتفت أمينة في وداعة كعادتها: روح شوف مستجبلك.. ده يهمنا كلنا.. بس متغبش علينا..
وارچع بالشهادة بسرعة..
هتفت برلنتي تقاطعها معترضة: لاه، رؤوف بيتكلم صح.. لازما يبجى معانا راچل.. يجعد والچامعة ملهاش لازمة.. يعني هم اللي دخلوها عملوا ايه.. بجو موظفين في الآخر..
وتطلعت لرؤوف في لهفة، متسائلة: ها يا روؤف، هتجعد مش كده!..
تطلع رؤوف نحو أمينة في محبة، متجاهلا برلنتي وكلماتها، مؤكدا: هروح بإذن الله..
ما دفع برلنتي لتهرول نحو الدرج صاعدة لحجرتها، لا رغبة لديها في البقاء.. وهي ترى رؤوف يعاملها كسراب ولا يرى بمحيطه إلا أمينة.. أمينة فقط..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٦٥..
توقفت سيارة ناجي الشافعي قبالة فيلته الصغيرة بحي الزمالك، التي أهداها زوجته إلهام في عيد زواجهما الخامس، معلنا عن محبته التي تزداد يوما بعد يوم.. ومحاولا إعادتها لنفس مستوى معيشتها الأول في قصر رستم باشا أبيها..
دخل ناجي الفيلا متخطيا عتباتها ليظهر البواب قادما من منطقة ما خلف الفيلا، ليحاسبه ناجي في صرامة: مش واقف ليه مكانك!.. مش دي شغلتك!.. أفرض حد من الولاد كان بيلعب وخرج بره.. يبقى ايه التصرف!.. أنت متتحركش من قدام البوابة.. مفهوم!..
هز البواب الأسمر رأسه في طاعة، واندفع يقف موضعه أمام البوابة حارسا، بينما اندفع ناجي للداخل، وما أن وطأت أقدامه الفيلا.. حتى خلع عنه كابه الميري، واضعا إياه في موضعه المعتاد.. يصله صراخ ولديه وشجاراتهما.. لتظهر إلهام قادمة من الداخل.. اتسعت ابتسامتها في فرحة حين وقع ناظرها على محياه، سارت نحو متعجبة: ايه ده! ايه المفاجأة الحلوة دي!.. أول مرة تيجي بدري عن ميعادك كده!..
همس ناجي: اهو تغيير..
سار ناجي للدرج صاعدا حجرته وهي تتبعه كظله، مستشعرة أن الأمر يشي بحدوث عارض ما، جعله على غير العادة يأتي للمنزل بهذا الوقت المبكر..
دخل الحجرة وهي بإعقابه، ساعدته على خلع سترته الميري ووضعتها على مشجبها الخاص، وأخيرا عادت تجلس قبالته، تتطلع صوب عينيه.. وقد كانت تعلم أنه يحاول أن يتجنب تلاقي نظراتهما، لتهمس في هدوء: ناجي! في حاجة عايز تقولهالي!..
تنهد ناجي، واضعا رأسه ما بين كفيه، معبرا عن ضيقه وقلة حيلته، قبل أن يرفع عينيه نحو إلهام فترى بهما مزيجا من القهر والحنق، وهو يهمس في نبرة ليست له: جالي احساس في لحظة إني اللي سعيت له طول عمري.. لحد ما وصلت له يا إلهام سراب..
لم تنطق إلهام بحرف، بل تركته يدلي باعترافاته ليخفف عن كاهل روحه ما يعانِ، مستطردا في صوت خفيض قادم من أعماق مجهولة: معقول اللي كنا بنحلم به ودفعنا فيه شبابنا، وأرواحنا.. يطلع وهم.. ولا أنا اللي كنت واهم وحالم.. وكنت فاكر إن الدنيا طابت وأخيرا هنحقق العدل والحرية اللي كنا بنحلم بتحقيقهم!.
همست إلهام وهي تربت على كف زوجها في تعاطف: مين قال يا ناجي!.. أنت حققت نجاحات كتير.. واسمك من اسماء الناس النزيهة، واللي عمرها ما قبلت بالظلم واللي رأيها دايما كان في مصلحة البلد والناس..
ساد الصمت لبرهة، لتسأل إلهام في نبرة قلقة: هو في حد قال حاجة غير كده!..
أكد ناجي مبتسما ابتسامة تنضح حسرة: متخديش في بالك.. إلهام!.. أنا عارضت كتير في موضوع قوات اليمن اللي أصرت القيادة على إرسالها لهناك.. من أول المبدأ لحد العدد.. ٧٠ ألف جندي وظابط مصري اتبعتو لحد دلوقت.. بكل معداتهم وسلاحهم... اللي بيحصل ده مهزلة.. الخسائر كبيرة يا إلهام.. حروب عصابات وطرق جبلية مش بتاعت حرب لجيش نظامي.. إحنا رايحين لسكة مش كويسة.. والكارثة أنا حاسس بها.. سواء ليا أو للبلد.. فالحالتين وجع..
تطلعت إلهام نحو زوجها، هامسة: مش أنت عملت اللي عليك.. وارضيت ضميرك.. والقرار الاخير مش في ايدك!..
أكد ناجي بايماءة من رأسه في إيجاب، لتهمس إلهام مؤكدة: يبقى سبها على ربنا..
تطلع نحوها ناجي.. في نظرة ممتنة ملقيا رأسه على كتفها، في محاولة لإراحة عقله المكدود من التفكير الذي بات قاتلا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٦٥..
دخل عزام الحراني دار الحرانية، ليستقبله سميح مهللا: يا مرحب يابو مچاهد.. ايه الشجة الغريبة دي! مش بعادة!..
أكد عزام منفرج الاسارير: يعني مش ناجو نهنو ونباركو.. نچاح ولدك نچيب.. ومچموعه العالي.. واها هيدخل الچامعة.. ناوي على ايه بالمشيئة.. هندسة كيف أبوه!.. صح!..
أكد سميح: لاه، هندسة ايه! مش ناجصة جلبان راس.. ولا في چامعة م الأساس.. لهو إحنا هنوظفوه!.. يجعد يشوف مال أبوه وتچارته..
أكد عزام في خبث: وماله!.. عين العجل.. هيعمل بها ايه الشهادة!.. ما هو برضك هيفضل واد سميح الحراني على سن ورمح.. وأخرته تحت يدك..
تطلع سميح لعزام مستفسرا: ايه في يا عزام! حاكم أني حافظها الدخلة دي!.. هات اللي عندك مش ناجصة لف ودوران..
هتف عزام مفسرا: جصدي يبجى زيتنا في دجيجنا يا خالي.. وأني عندي البت وأنت عندك الواد.. وألف مبروك..
قهقه سميح متفهما: عجبتني حكاية خالي دي، مع انك أكبر مني، بس الاحترام واچب برضك.. وبعدين ايه.. هو أنت مكفكش الشراكة اللي بينا والشغل اللي بسهلهولك.. لحد ما عبيت كرشك ومليته.. عايز النسب كمان!..
قهقه عزام مؤكدا: وليه لاه!.. البحر يحب الزيادة..
هز سميح رأسه متفهما، قبل أن يهتف واعدا: على رأيك، وليه لاه!.. سنية بتك تجول للجمر جوم وأنا اجعد مطرحك.. ونچيب طوع.. عمره ما هيكسر لي كلمة.. وخلاص بجينا العلام واستكفينا على كده.. يبجى على بركة الله.. نجرو الفاتحة..
وضع عزام كفه بكف سميح، وبدآ في قراءة الفاتحة، ونجيب بالداخل لا يعلم ما يحاك من خلف ظهره، فمنذ حادث مصطفى الذي تورط فيه وأشارت كل أصابع الاتهام له.. وهو معتكف داخل حجرته.. لا يخرج إلا نادرا.. يعتزل الناس جميعا.. حتى لا يرى بأعينهم نظرة تحمل عنوان واحد.. ها هو قاتل ابن عمه.. لم يستوعب أحدهم كم الكوابيس التي راودته ولا مظهر الدماء التي ما زال يراها ملطخة كفه وملابسه.. دفن نفسه في الكتب والموسيقى التي كان يتسمع إليها سرا.. حين يكون أبيه خارج الدار.. متجنبا لقاء أي من كان.. حتى يحقق رغبته في الذهاب للجامعة بالقاهرة.. ليبتعد عن كل منغصات حياته..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
تطلع ممدوح صوب مكتبها، ربما للمرة الثالثة في خلال ربع الساعة المنصرم، متطلعا لساعة يده، فما كان من عاداتها التأخر عن موعد وصولها للعمل.. فهي منضبطة جدا فيما يخص مواعيد الانصراف والحضور.. عليه الاعتراف بذلك.. حتى ولو من وراء قلبه.. وعليه أيضا.. أن يكون منصفا فيما يخص الكثير من الأمور التي تتعلق بمريم.. فعلى الرغم من أن بداية تعارفهما شابها الكثير من الصراعات.. وكان وجودها بالقرب منه طوال ساعات العمل بصوت مسجل الأغاني الذي لا ينقطع عن بث أغاني عبدالحليم حافظ.. حتى يكاد أن يحفظها غيبا، حتى أنه أمسك نفسه عدة مرات يكرر بعض المقاطع ويدندنها في انسجام.. يسبب له الكثير من التوتر وقلة التركيز.. إلا أنه اللحظة يقر أنه يفتقدها..
يفتقد وجودها المفعم بالأنس.. وحماسها الناري لتعلم كل جديد.. ومزاحها العفوي.. ومشاكساتها الطفولية.. وصوت عبدالحليم من مذياعها هي خاصة.. وبالأخص.. همهماتها حين تدندن مقطعا ما أعجبها..
تطلع من جديد صوب مكتبها، وقد تأكد له أنها لا محالة غائبة.. ولا أمل في حضورها اليوم.. فحاول على قدر استطاعته أن يدفع الساعات.. حتى يحين موعد الانصراف.. دون أن يفكر للمرة الألف بعد المليون في سبب غيابها.. الغير معتاد..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
دخل مساعد الأمير، مؤكدا في نبرة طائعة: كل ما طلبته جاهز ورهن اشارتك ايها الأمير..
سأل الأمير: احضرتوا أمانته كما اتفق!.
أشار مساعد الأمير: أحضرها الإخوة بالداخل.. فاقدة الوعي..
انتفض عزت حين تناهى لمسامعه الحديث، مشترطا: الاتفاج اشوفها بعيني.. يمكن تكون مش هي..
أشار الأمير لمساعده حتى يصطحب عزت لرؤيتها والانتهاء من هذا الأمر السمج، حتى يتسنى لهم الحصول على ما لديه.. وينتهي الأمر عند هذا الحد..
اصطحب مساعد الأمير عزت صوب الفوهة الجبلية الصغيرة.. التي اودعوا فيها منيرة على حصير بأرضها الصخرية.. فاقدة تماما للوعي..
اندفع عزت للداخل كما المجنون.. يبعد طرف حجاب رأسها عن محياها، ليتأكد له أنها منيرة بشحمها ولحمها.. طلت من عينيه نظرات شهوة وهو يجول بناظريه على وجهها وجسدها.. وهي بلا حول ولا قوة.. هامسا لمساعد الأمير بصوت أجش: روح طب دجيجتين.. وأني هحصلك.. وهتاخدو اللي انتو رايدينه كله.. بس سيبوني ارچعها لأخوها بعارها.. عشان يبجى يعمل لنا فيها راچل واد رسلان.. يوريني هيرفع راسه كيف وسط الخلج!..
هم عزت بالاقتراب من منيرة، إلا إن مساعد الأمير منعه في حزم: مخدتش أوامر من الأمير بطلبك.. كان غرضك التأكد.. وتأكدت.. احضر ما لنا بسرعة وتعال خذها وافعل ما يحلو لك بها.. اعتبرها غنيمة ونلتها نظير خدمتك للجماعة وأميرها..
ابتعد عزت على مضض، مندفعا للخارج مؤكدا على مساعد الأمير: ساعة بكتيره وطلبكم يكون هنا.. هاتوها عند المكان اللي اتفجنا ع التسليم فيه.. تاخدوا اللي ليكم.. وأني اخدها.. وكله كده يبجى مرضي.. تمام!..
أكد مساعد الأمير: تمام يا أخ عزت..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩١..
ظهرت هاجر على مدخل المقهى الفخم القريب نسبيا من فيلا نصير الراوي، تجول بناظريها بالأركان باحثة عن طاولة جمال.. فقد أخبرها أنه ينتظرها لأمر هام..
أشار جمال لها حتى تنتبه لموضعه، بذاك الركن المتطرف من المقهى، ولم يفته نظرات الإعجاب التي حاوطت دخول هاجر للمكان بطلتها الرقيقة.. ما جعله يجز أسنانه حنقا وغيرة.. حتى إذا ما ألقت التحية في وداعة كعادتها، زعق فيها جمال بلا وعي: ممكن نخف شوية!.. شوية صغيرين بس عشان خاطر أعصابي! هو أنا مبصعبش عليكي يا هاجر!..
تطلعت إليه هاجر في دهشة، هامسة في تساؤل بريء: هو في ايه يا جمال!.. أنا مش فاهمة حاجة بجد!.. هو الملف م..
قاطعها جازا على أسنانه هاتفا: يولع الملف، أنا بتكلم على اللي انتي جاية به ده.. يا أمي أنا لو واحدة من أخواتي البنات فكرت تلبس اللي انتي لبساه ده قدامي.. هعلقها فالنجفة واقول من ده بكرة بقرشين!..
تطلعت هاجر لجمال كأنه فقد عقله، لا تعي ما يقول، ولا تفهم إلى ما يرمي، لذا أشارت له بكفيها في محاولة لتهدئة الوضع، مطالبة في رقة اهلكته: بليز يا جمال، قولي بس أنا عملت ايه مزعلك كده!.. الملف فيه حاجة مش مظبوطة!..
همس جمال ساخرا: والله ما حد مش مظبوطة إلا أنا!.. هتجبيلي فصام يا بت عم السروجي..
همست هاجر وهي تميل نحو جمال: أنت بتكلم نفسك يا جمال!.. واضح إنك أرهقت نفسك فالشغل كتير.. شكلك تعبان.. صح!..
أكد جمال في غيظ: والله ما حد تاعبني إلا إنتي.. بصي يا هاجر.. ممكن أطلب منك طلب!..
هزت هاجر رأسها مؤكدة: شوور يا جمال.. اتفضل..
أكد جمال وهو يشير لملابسها: بلاش اللبس المفتوح أو القصير ده.. عشان خاطري.. انتي مش واخدة بالك الناس بتبص لك إزاي من أول ما دخلتي!..
جالت هاجر بنظرة سريعة حولها متعجبة: لا مخدتش بالي..
زعق جمال: بس أنا خدت بالي.. ارحمني يا رب.. واحدة بالجمال ده كله.. وبالبراءة دي كلها.. طب أنا هقدر على كده إزاي.. دي هبلة!.. يا بنتي الستات بصو عليكي غيرة من جمالك والرجالة مش هقول بصو ليه عشان دي فيها حبس ست أشهر..
اتسعت ابتسامة هاجر هامسة: جمال أنت بتبالغ أوي!..
أكد جمال: طب وحياة راس أمي اللي ما بحلف بها باطل أبدا.. ما ببالغ..
قهقهت هاجر على أقوال جمال، ليهتف في اضطراب لأثر ضحكاتها: يا منجي م المهالك يا رب.. بصي.. بقولك ايه!.. اللي بيحصل ده خطر على عقلي الباطل.. أنا كنت جاي أقولك إن الملف اللي جبتيه مش هو ملف الأرض بتاعت أنس صاحبتك.. بس طلع فيه حاجات مهمة برضو.. اهو معانا خيط يوصلنا..
هتفت هاجر في حزن: طب وبعدين!.. وموضوع أنس!
أكد جمال: للأسف مش هقدر اعمل فيه اي حاجة الا لو الملف ده ف ايديا فعلا.. غير كده مش هقدر افدها..
هزت هاجر رأسها متفهمة.. مدركة أن الأمر لم ينته بعد.. وعليها المحاولة للحصول على الملف مجددا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩١..
اندفع شبل لداخل السراي مهللا: يا حبيب بيه!.. إلحج يا حبيب بيه!..
انتفض حبيب من موضعه تحت التعريشة وقد قرب موعد أذان الفجر.. وهو على حاله لم يتحرك من موضعه.. في انتظار أي بادرة تشير إلي موضع أخته.. ليعيدها سالمة ولو كان هذا آخر ما يفعله بدنياه.. ليستطرد شبل مؤكدا: الحكومة محاوطة الچبل، سراچ بيه وناس من الداخلية عساكر وظباط ياما.. كنهم هيدكو الچبل الليلة ع المجاطيع اللي هربانين هناك..
زعق حبيب في اضطراب: ومنيرة!.. دي ممكن تكون هناك!..
اندفع حبيب مؤمنا على سلاحه، وما أن هم بمغادرة السراي يتبعه شبل، إلا ونهاه حبيب أمرا: خليك واجف ددبان ع السرايا يا شبل.. اللي چوه كلهم حريم.. متتحركش من مطرحك ولو ايه حصل.. دي امانتك.. واعي لحديتي!..
أومأ شبل برأسه في ايجاب، مؤكدا في صوته الاجش: برجبتي يا حبيب بيه..
هرول حبيب نحو موضع القوات.. باحثا عن سراج.. حتى إذا ما وجده، هتف به سراج مؤكدا: هنهچم ع الچبل يا حبيب بيه.. ونضفه م الانچاس دول.. واختك لو معاهم فوج.. رچوعها ولو تمنه آخر نفس فصدري.. هرچعها يا حبيب بيه.. خد لك ساتر بس.. واطمن..
اطاع حبيب في اضطراب، متخذا ساترا يجعله قادرا على رؤية منطقة الصراع.. والاشتراك فيه إذا لزم الأمر..
ظهر عزت عند هذه النقطة المنحدرة من الجرف المتفق على التسليم عنده، حاملا مع بعض رجاله عدة صناديق من الزخيرة الحية.. منتظرا قدوم رجال الأمير.. الذين اقتربوا بدورهم.. جاذبين منيرة خلفهم وقد بدأت تستعيد وعيها قليلا.. لكنها كالسكيرة.. تترنح لا تعلم أين هي.. أو ماذا يحدث حولها..
توقف جمع رجال الأمير، ليتجه أحدهم نحو الصناديق حتى يتأكد أن هذا هو المطلوب.. قبل أن يتسلمه.. وما أن أكد على كفاءة محتوى كل صندوق أمرا الرجال بحملها.. حتى بدأت تنهمر على رؤوسهم الطلقات النارية من كل صوب..
جمع رجال الأمير شتاتهم، وهرولوا خلف بعض السواتر من الأحجار والصخور.. بينما استطاع عزت الوصول لمنيرة التي بدأت في استعادة وعيها قليلا مع اصوات الطلقات النارية المتبادلة بين الطرفين في غزارة.. مرغما إياها على التستر معه خلف أحد الاحجار الضخمة.. ممتنعا عن المشاركة في تبادل إطلاق النار على الرغم من سلاحه العامر بالزخيرة، لكن كل ما كان يشغل فكره في هذه اللحظة.. هو كيفية الهرب من الجبل بصحبة منيرة.. وليكن ما يكون بعدها.. كانت منيرة قد بدأت تعترض على وجوده جوارها وتشبثه بيدها بهذا الشكل.. مع علو صرخاتها عند وصول الرصاص لموضعها.. واصطدامه بالصخرة التي تسترهما خلفها، ما دفع عزت لينهرها أمرا وهو جازا على أسنانه في حنق مكتوم: اخرسي حسك ده خالص.. مش رايد اسمع نفسك.. لچل ما نغور من هنا.. سمعاني!..
هزت منيرة رأسها في طاعة، وهي تبكي في صوت مكتوم.. لا تعرف ما الذي يچري حولها وكيف اصبحت هنا بصحبة عزت!..
جاء صوت سراج عاليا من خلال ميكرفون محذرا: سلموا نفسكم.. احنا محاصرين الچيل كله.. يعني نهايتكم هتكون هنا.. ولو حكمت هندك الچبل فوج روسكم.. فسلمو روحكم.. وده فمصلحتكم..
هتف أحد رجال الأمير ومساعديه في صوت جهوري: النصر أو الشهادة.. هذا شعارنا يا شباب.. الجنة في انتظارنا.. لا تيأسوا ولا تحط كلماته من عزيمتكم.. نحن على حق.. وهم الفئة الكافرة الباغية.. أثبتوا.. مؤيدون إن شاء الله.. مؤيدون.. بنصر من الله..
كان الرد على طلب سراج بعد هذه الخطبة العصماء، المزيد من تبادل إطلاق النار.. لتأمر الشرطة لقواتها بالتقدم نحو الجبل..
وما أن وجد عزت أن الشرطة على وشك الوصول لموضعه، حتى خرج متخذا منيرة درعا ساترا.. حتى يصل لموضع أمن.. يتخذه مخبأ.. لكن سراج لمح عزت وهو يجذب منيرة عنوة، وهي تقاومه قدر استطاعتها، صارخة باسم أخيها.. تحاول دفع عزت عن الالتصاق بها متحاميا خلفها بهذا الشكل الخانق.. هم سراج بإطلاق النار نحوه في حرص.. حتى يصيب أي موضع مكشوف من جسده، ليفلت منيرة ولو للحظة تمكنه منه، لكن الرصاصة طاشت للأسف.. ليكون نصيب عزت قادم من ناحية آخرى لم يحسب لها حسابا.. رصاصة من سلاح حبيب الذي لم يستمع للتعليمات حين تيقن أن منيرة هناك بين يدي عزت.. وقد وصلته صرخاتها المستغيثة باسمه.. لكن رصاصة حبيب للأسف لم تكن في مقتل بالنسبة لعزت.. هي فقط كانت كفيلة بجعله يفلت منيرة التي اندفعت تركض في ذعر صوب موضع أخيها.. لتكون رصاصة النهاية لعزت من سلاح سراج حين حاول أن يصوب باتجاه منيرة المندفعة فزعا صوب أحضان أخيها.. الذي تلقفها بالفعل بين ذراعيه.. وما أن هم بالتستر خلف أقرب ساتر لهما.. حتى انطلقت رصاصة صوبهما.. مصحوبة بصرخات سراج المحذرة.. باسم حبيب..
يتبع...