رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 46 - الثلاثاء 8/7/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السادس والأربعون
تم النشر الثلاثاء
8/7/2025
ـ نكسة
الرسلانية ١٩٦٦..
اختفاء نجيب بهذا الشكل.. وضع سميح في حرج مؤقت أمام عزام الحراني.. الذي ثار وهاج.. حين ظهر حقيقة وضع نجيب وما وراء اختفائه.. ومدى الحرج الذي تعرض له عزام وما جرى لابنته سنية التي ظهر للجميع أن نجيب ما كان راغبا فيها من الأساس.. وهي التي لطالما تمنته لنفسها زوجا وحاولت الاقتراب منه لكنها لم تفلح لانغلاق نجيب على ذاته.. وما كان من عزام في طلب نسب سميح إلا بدافع من أمها حين استشعرت رغبة ابنتها في نجيب.. فدفعت زوجها دفعا مصدقا لقول.. أخطب لابنتك ولا تخطب لابنك.. وقد فعل عزام ولم ينله من وراء هذا الأمر إلا الغمز واللمز الذي مسه وطال سيرة ابنته الوحيدة.. وخاصة بعد اكتشاف اختفاء نجيب وكذا برلنتي ابنة مختار الحراني.. فكان الأمر ليس من الصعب استنتاجه.. الغريب في الحكاية أن سميح لم يلق لفرار ولده بال.. ولم يشغل حتى فكره بموضعه.. وكأن نجيب لا يعنيه.. على عكس اهتمام سميح البالغ بولده الأول محسن من زوجته الثانية ابنة أحد قادة الجماعة التي ينتمي إليها..
لهفي على مديحة وحالها في غياب ولدها!.. كان دمع عينيها لا يجف حزنا على فراقه.. على الرغم من معرفتها بنية ولدها وتشجيعه خوفا عليه من حياة لا أمل له فيها.. لتحقيق ما يرغب ونيل ما يتمنى.. لكن دموعها تلك كانت شفيعا لها فما نالها من سميح ما قد تناله في أمر جلل كهذا.. تركها واهملها كعادته.. وهي فوضت فيه أمرها لله كعادتها.. في انتظار استقرار ولدها وانهائه دراسته، حتى يستطيع أن ينتشلها من هذه الدار التي ما وجدت فيها إلا كل صلف وتعنت.. حاول نجيب إقناعها كثيرا بالفرار معه.. لكنها رفضت بشكل قاطع مدركة أن ما حاولت تدبيره له من مال وبعض قطع من مصاغها.. لن يكفيه إلا لفترة معقولة.. وخاصة حين أدركت أنه راغب في اصطحاب عروسه معه.. إذا ما وافقتها فكرة الفرار معه.. رغبة في التخلص من كل هذا الظلم الواقع عليه.. وخاصة ما قرره والده بشأن زواجه من فتاة لا يحبها ولا رغبة له في ربط حياته بحياتها..
لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد.. فسميح يعلم كما عزام، أن كلاهما لا غنى له عن الآخر.. وجهان لعملة واحدة.. فعلى الرغم من الشقاق الظاهر بينهما قبالة العامة، لكن فيما بينهما كان الأمر يسير على ما يرام.. فعندما تتحدث المصالح ويعلو صوتها.. مخرسا كل ما عداها..
حتى أن عزام على غير عادته الحريصة المتخابثة، قد أفضى لسميح ببعض أسراره التي كانت تخص علاقته بنعيم اليهودي قبل أن يطرده سعد رسلان من النجع.. حين حاول أن يلصق بفضل ولده تهمة الاعتداء على ابنته استير التي أضحت فيما بعد.. خديجة زوجة الشيخ معتوق اخو زوجة سميح الأولى مديحة..
سأل سميح عزام في فضول: هو جال صح إن نعيم اليه..ودي ده كان عايز يحط يده على أرض البركة اللي اتبنى عليها سراية الرسلانية!..
أكد عزام في ثقة: ايوه.. سمعت الكلام ده.. آه أني عاشرت الخواچه نعيم.. لكن كان ميا من تحت تبن.. كهين ولا يمكن أبدا يجولك ع اللي فباله.. بس على مين!.. محسوبك واعر برضك.. وعرفت هو كان بيحوم حوالين ايه.. وليه كان عايز يلبس فضل في چوازة من بته حتى ولو بفضيحه..
انتبه سميح متسائلا: ليه بجى!.. أني كنت حاضر يومها.. مشفتش أنت خالي سعد لما طبج فزمارة رجبة نعيم اللي بجي كيه السخل تحت يده.. شوية كان هيلطم ولا النسوان ويحب على رچليه عشان يسيبه وميطردهوش بره الرسلانية..
هتف عزام في حنق: ايوه، أنت هتجولي، خالك ده كان جادر.. بس اللي فيده كان مطمع للكل.. وأولهم نعيم.. اللي كان عايز يبجى له چذر ووصل مع نسل رسلان ب أي طريجة.. عايز يبجى له رچل داخل السرايا.. بس الليلة خربت.. وچت على دماغه..
نفث سميح دخان نرجيلته، متسائلا في خبث: برضك معرفتش أني ايه السبب اللي مخلي نعيم رايد أرض كانت بور ملهاش عازة واتبنت خلاص عليها السرايا!.. ايه في!..
أكد عزام: لاه.. معرفش.. ما جلت لك واد المركوب ده مكانش بيعرف حد سره..
أكد سميح: يبجى برضك في سر.. حتى ولو مش عارفينه.. في سر ورا الأرض دي.. وهيبان أكيد..
هز عزام رأسه في لا مبالاة، وهو ينفث دخان نرجيليه بدوره في استهانة.. وعدم اهتمام..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٦٦..
دوت صرخات طفل في أرجاء السراي، معلنة عن ميلاد أمل جديد في نسل الرسلانية.. لتخرج فايزة مبشرة أنس الوجود وولدها رؤوف وصفية.. الذين كانوا بانتظار البشارة على أحر من الجمر، يتآكلهم القلق مع تعالي صرخات أمينة المتوجعة بالداخل.. حتى أتى الفرج.. مع تهليل فايزة في سعادة: الحمد لله.. جامت بالسلامة.. وربنا رزج بولد كيف البدر..
هلل الجميع، وما أن هم رؤوف بالدخول للاطمئنان على أمينة، حتى استوقفته أمه مفسرة: لسه الداكتور چوه.. يخرچ وكلنا ندخل نطمن عليها..
خرجت الممرضة حاملة الطفل، لتتلقفه كف فايزة تتطلع إليه في محبة، لا تصدق أنها أصبحت جدة، واضعة إياه بين ذراعي رؤوف، الذي أطال النظر صوبه في تيه، متوجها نحو جدته أنس الوجود واضعا ولده بين كفيها، هامسا في مودة: كنه حتة من چدي سعد يا ستي!.. اطلعي.. ملي عينيكي..
دمعت عينى أنس الوجود وهي تتشرب ملامح الصغير في شوق، مؤكدة على ما قاله رؤوف.. مانحة الطفل لصفية، التي ضمته لصدرها في سعادة طاغية، مؤكدة: والله صح.. كنه سعد الصغير.. هتسميه ايه يا رؤوف!.
أكد رؤوف هامسا في وجل: حبيب..
هتفت أنس الوجود في استحسان: جميل جدا..
لترد فايزة: حلو يا رؤوف ربنا يحبب فيه خلجه..
خرج الطبيب وممرضته من غرفة أمينة.. ليتواجد الجميع في الغرفة دفعة واحدة في فرحة، ليضع رؤوف الطفل من جديد بأحضان أمه، هامسا: سميته حبيب.. حبيب رؤوف فضل الله سعد عبدالمجيد رسلان..
دمعت عيني أمينة مؤكدة في رقة: اسم حلو چدا يا رؤوف.. بس عمرك ما قلت انك ناوي تسميه!..
أكد رؤوف: كان في نيتي من ساعة ما سمعت چدي سعد الله يرحمه وهو بيودعنا.. ساعتها جال.. كل حبيب يتبت ف يد حبيبه وميفلتهاش.. يوميها جلت عمري ما هفرط في محبتي ليكي.. ولو ربنا رزج بواد.. هسميه حبيب.. عشان يفضل متبت في وصل الحبايب وميفتهمش يضيعو أو يبعدو.. مهما چرا..
دمعت عينى أنس الوجود وسال دمع صفية.. وهللت سعاد التي وصلت السراي لتوها.. معبرة عن فرحتها أن أصبحت عمة أخيرا.. بينما أطلقت فايزة عدة دفعات من الزغاريد الرنانة.. معلنة في فرحة مقدم فرد جديد يحمل اسم الرسلانية ويرث إرثها الثقيل على كتفيه..
❈-❈-❈
عرابة آل الحفني ١٩٦٦..
كان قد ترك سعاد لتوه، مؤكدا عليها أنه سيفاتح والده الليلة في شأن خطبتهما، دخل دار الحفناوية منتشيا، وكأنه يسير على السحاب، ينتظر الليل فارغ الصبر حتى يستطيع الانفراد بوالده واخباره برغبته في التقدم للزواج من سعاد رسلان.. لكن استوقفه ذاك الهمس والجدل الدائر في الغرفة التي مر عليها لتوه، توقف ليستطلع الأمر ليجد عدنان أخيه يقف مع أمهما عفيفة، مطالبا في رجاء: كلمي أبويا يروح يخطبهالي من أخوها.. أني رايدها ومش هتچوز غيرها.. بس بجولك ايه!.. أني ولا كني كلمتك!.. جولي للحچ عامر إن ده شوجك إنتي وشيفاها عروسة زينة ومأصلة لولدك الكبير.. واعية ياما!..
أكدت عفيفة في مودة وهي تربت على كتف عدنان ولدها البكر: وماله!.. هو أني هتسعني الفرحة لما اچوز ولدي.. وسعاد كمان زينة البنات و..
صرخ صبري مقتحما الغرفة، متسائلا في غضب.. سؤال هو يعلم إجابته مسبقا: انتو بتتكلمو عن مين!.. عن سعاد بت عمي فضل رسلان!..
أكدت عفيفة في اضطراب: ايوه يا ولدي.. ايه في!.. أنت سمعت حاچة كده.. ولا..
هتف صبري في إنكار: سعاد دي ست البنات، بس ملجيتش إلا سعاد يا عدنان وعايز تخطبها، ما بنات العرابة كتير.. ولا أنت مش بيحلالك إلا اللي ف يد أخوك..
شهقت عفيفة في صدمة: معناته ايه الكلام ده!.. ايه في!.. اني معدتش فاهمة حاچة..
هتف صبري في وجع: خلي ولدك البكري يجولك إنه واعي إن أخوه رايد سعاد من زمن.. وكنت مستني افاتح أبويا النهاردة لچل ما نروحو نخطبوها.. چاي ولدك... بيجولك تفاتحي الحچ عامر يخطبهاله.. اسميها ايه دي يا أم عدنان!..
هتفت عفيفة تدافع عن عدنان مؤكدة: مكنش يعرف إنك رايدها يا صبري..
أكد صبري متطلعا صوب أخيه في خزلان: لاه يعرف.. أني جايل له.. سعاد ليا يا عدنان وأني رايدها.. جايل له ومعرفه عشان ميحطهاش فباله.. يجوم ايه.. يدور ويلف ويبجى رايدك تكلمي أبوي على أساس إن ده رأيك ورغبتك.. وهو ملهوش صالح بالحكاية.. مش كده يا عدنان!. ما تنطج!..
كان صوت صبري الزاعق وجعا عاليا، حتى أنه ما تنبه لوجود والده بالغرفة، قادما على صوت صياحهم إلا اللحظة، حين هتف عامر زاعقا بدوره مخرسا الجميع: ايه في!..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن تهتف عفيفة في نبرة مهادنة: مفيش يا حچ عامر.. متشغلش بالك أنت.. حكاوي ملهاش عازة.. وهتروح لحالها..
ليهتف صبري مفسرا: أني كنت هفاتحك يا حچ في طلب يد سعاد، ومعرف عدنان بالحكاية دي.. اچي ألجاه بيطلب من أمي تفاتحك تطلب سعاد له هو.. ده ينفع يا حاچ!..
ساد الصمت لبرهة ونظرات عامر تصب جام غضبها على ولديه، الذين نكسا رأسهما أرضا.. حتى هتف عامر أخيرا: يعني العركة دي على بت فضل رسلان!.. خفيت البنات!.. ريحو بالكم لا هتبجى لك ولا له.. أني مدخلش بيتي واحدة تعمل فرجة ما بين الأخوات وبعضيها..
أيدت عفيفة: عين العجل يا حچ عامر.. كيف واحد فيكم ياخدها وهو عارف إن أخوه كان رايدها.. وتبجو عايشين تحت سجف بيت واحد!..
اعترض صبري: لكن يا حچ.. أني اللي..
هتف عامر أمرا في حزم: خلصنا على كده.. محدش يچيب سيرة الموضوع ده جدامي تاني..
غادر عامر الغرفة وخلفه عفيفة في عجالة، ليتطلع صبري صوب عدنان أخيه الأكبر في حزن جارف، هاتفا بنبرة مقهورة: مش مسامحك يا عدنان.. والله ما مسامحك..
ليغادر صبري الغرفة بدوره تاركا عدنان لا مباليا.. لحزن أخيه أو وجعه..
❈-❈-❈
القاهرة مطلع ١٩٦٧..
تطلعت إلهام لزوجها ناجي وهو يدخل الفيلا تاركا كابه العسكري موضعه المعتاد، متجها نحوها ملقيا التحية في نبرة تحمل الكثير من السأم.. ما دفع إلهام للتساؤل في قلق: ايه يا ناجي! لسه الحال زي ما هو!..
تطلع نحوها ناجي في نظرة مهزومة، قائلا: يا ريته زي ما هو.. كل يوم اسوء.. أنا كل يوم بتركن على الرف وبتتقلص صلاحياتي أكتر.. حتى فيما يخص شغلي ومهام منصبي.. كأنهم عايزين الموضوع يجي مني..
ترددت إلهام لبرهة قبل أن تهتف مقترحة: بقولك ايه يا ناجي! تعالى نسافر!..
تطلع لها ناجي في تعجب: نسافر فين! قصدك نطلع يومين اسكندرية أو راس البر نغير جو.. بس ده احنا فعز يناير.. قصدك بقى نطلع على أسوان أو...
قاطعته إلهام في عجالة: فرنسا!.. نطلع على فرنسا يا ناجي!..
هتف ناجي معترضا: عايزة تزوري أهلك يا إلهام روحي معنديش مانع، هو أنا من امتى مانعت، ما انتي بتسافريلهم كل سنة انتي والولاد.. ولما بقدر بحصلكم..
أكدت إلهام في نبرة ثابتة، في انتظار رد فعله: نهاجر يا ناجي!.. مش نسافر!.. خلاص معدتش..
صرخ ناجي محتدا: انتي بتقولي ايه يا إلهام!.. هجرة!.. يعني سفر بلا رجعة! اسيب مصر.. اسيب شغلي!..
هتفت إلهام باكية: سيبه يا ناجي قبل ما هو اللي يسيبك، تعالى نسافر ونبعد عن كل الضغط والمشاكل.. أنا خايفة يا ناجي.. خايفة عليك وعلى ولادنا.. خايفة فلحظة اصحى ملقكش جنبي.. زي حال صفية اللي رمو مختار جوزها فاليمن ومفيش اي خبر عنه ولا عن غيره كتير.. ناجي عشان خاطري.. أنا..
قاطعها ناجي في حزم: إلهام.. لو سمحتي الموضوع ده ميتفتحش تاني.. وهجرة.. مش هيحصل.. أنا متخلقتش إلا عشان أموت فالبلد دي.. انتهينا..
قال ناجي كلمته الأخيرة في صرامة.. مندفعا يرتقي الدرج مبتعدا.. تاركا إلهام تبكي ذعرا على مستقبل قاتم لا تستبين ملامحه..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٦٧..
اندفع رؤوف لداخل السراي صارخا: الراديو بيزيع بيانات مهمة..
ضغط زر تشغل الجهاز ضابطا مؤشره على إذاعة صوت العرب.. لتقترب فايزة من الراديو.. تستمع إلى البيانات الحماسية التي تؤكد أن الجيش الإسرا..ئيلي اعتدى على المطارات والمواقع المصرية وبدأ الجيش المصري في الرد..
سكتت فايزة لبرهة، قبل أن تهمس في اضطراب: قلبي مش مطمن..
تعجب رؤوف: ليه يا ماما.. وما الأمور تمام اهي.. والبيانات مبشرة..
تنهدت فايزة قائلة: لو كان فضل هنا.. كان زمانه مفهمنا اللي بيحصل.. مفيش كلمة جالها طلعت مش في محلها..
أكدت أنس الوجود التي كانت تجلس شاردة تتطلع لخارج النافذة التي تجلس جوارها: ايوه.. فضل طول عمره شايف اللي محدش شايفه.. عشان كده محدش كان بيصدقه.. عشان كان البصير فى بلد عميان.. يا يخرس.. يا يعموه زيهم.. وهو لا خرس.. لكن كان لازم يتحبس فالقمقم عشان لا يشوف ولا حد يسمع له كلمة..
ثم نظرت نحو فايزة قائلة: فضل وحشني أوي يا فوز..
هتفت صفية دافعة كرسيها المدولب.. التي جاءت على صوت البيانات العالي: واحشنا كلنا يا ماما.. الغايبين كلهم وحشونا.. معدش حاچة معيشانا دنيتنا إلا انتظار رچوعهم بالسلامة..
أكدت فايزة بأعين دامعة: صدجتي يا صفية..
ليهتف رؤوف في قلق، حين رأي تأثر أمه وبكائها: لا.. بلاش تتعبي نفسك يا أمي.. الدكتور كان جايل ايه.. بعد العملية مفيش لا زعل ولا توتر ولا أي حاچة تضايجك..
هزت فايزة رأسها في طاعة.. وهم يستمعوا لباقي البيانات التي تبثها الإذاعة المصرية في حماس..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٦٧..
صرخ أحد الشباب من آخر زنزانة بالرواق الضيق الذي يجمعها، معترضا في ثورة: مش ممكن يكون ده حصل!.. أكيد كذب.. كله كذب..
ليصرخ آخر معترضا في حنق بالغ: خرجونا من هنا.. احنا مكانا بره.. ده مش مكان كل صاحب صوت حر.. خرجونا نشوف عملتوا ايه فبلدنا يا ولاد....
دفع السجان الباب الرئيسي الحديد للرواق زاعقا في غيظ: فيه ايه يا ولاد الكل... ايه وحشتكم الطريحة!..
هتف أحد الشباب مهادنا: ايه اللي بيحصل بره يا شاويش!..
هتف الشاويش حانقا: يعني وصلكوش كلمة كده ولا كده من الاذاعة.. ولا راديو اوضة المأمور! .بيقولوا أن اليهود دخلوا سينا بينا وبينهم الكنال.. وفي ناس كتير راحو فيها.. شباب ياما..
صرخ فضل من داخل زنزانته: قلنا الكلام ده من زمن.. قلنا احنا رايحين على سكة مش مظبوطة هتجيب خراب.. اهو حصل.. حرام عليكم.. جيش منهك سنين في حرب اليمن جايبه من الدار للنار يحارب اليهود.. دم ولادنا اللي راحت دي في رقبة مين!.. دم الشهدا اللي روى سينا ولسه بيرويها في رقبة مين!.. حد يجاوبني يا فجرة!..
صرخ الشاويش مهادنا: ارتاحوا اهو الريس ألقى خطاب التنحي..
هتف فضل ساخرا: تنحي!.. دلوقت.. وف الظروف اللي البلد فيها دي!.. والي..هود بينا وبينهم تعدية القنال!..
هتف أحد المساجين ساخرا بدوره: اهي مسرحية من ضمن المسرحيات وهتلاقي الناس نازلة مظاهرات دلوقت بتقوله خليك عشان خاطرنا..
هتف الشاويش متعجبا: أنت عرفت منين! ده صحيح الناس نزلت الشوارع وبيطالبوا الريس بالرجوع في قراره..
قهقه فضل في حسرة.. ثم علت مزيد من الضحكات الساخرة من هنا وهناك.. من داخل الزنازين.. أصبحت كضحكة مجمعة واحدة.. ضحكة خرجت من قلب مكلوم..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٦٧..
تقدم عرفان بواب السراي من مجلس رؤوف الذي كان يجلس حاملا حبيب طفله تحت تلك التعريشة التي كانت موضع سلواه مع جده، والتي وضع الأخير شتلتها الأولى في فترة انتظاره عودة جدته أنس الوجود وأبيه فضل الله من تركيا.. ثلاث سنوات أو يزيد قليلا واليقين لم يفارق جده في عودتهما، وتلك الكرمة تكبر ويبدأ طرحها في أشهر عودتهما.. تلك الكرمة التي كان لها الكثير من الذكريات تحت تعريشتها وستظل تحمل المزيد..
مد عرفان يده بمظروف مغلق، استلمه رؤوف في تعجب، ليفسر عرفان: الست سعاد سابته الصبح بدري، وجالت لي اسلمه لحضرتك..
هز رؤوف رأسه ممتنا، ليفض المظروف مندهشا، لم تترك له سعاد مظروف اي كان محتواه! لمَ لم تقول ما ترغب دون الحاجة لمظاريف أو رسائل!..
فض رؤوف الرسالة، وبدأ في قراءتها، لينتفض مذعورا، مع أول كلمات خطت بسطورها "رؤوف..
عشان خاطري متزعلش مني، ولا تخلي ماما اللي هتوحشني اوي ولا بابا اللي واحشني فعلا يزعلوا مني.. مش عارفة إذا كان هيبقى مكتوب لنا نتلاقى تاني ولا لأ.. بس اللي عايزة اقولهولك إني عمري ما هنساكم.. أنا موجوعة اوي يا رؤوف وأنا بعمل اللي هعمله ده.. بس صدقني مفيش قدامي حل تاني.. اتقفلت في وشنا أنا وصبري كل الحلول..
أخوه عدنان منه لله مش مكفيه يخلي الحج عامر يرفض جوازي بصبري لأ.. ده جه من وراهم وطلب يدي منك.. وقال لك هجيب أبويا يطلبها وهو عارف أن ابوه رفض من أساسه.. عشان لما جه صبري يطلبني منك ويقولك ع الحكاية كلها ترفض زي ما حصل ورفضت فعلا.. ابوهم رفضني لأي واد من ولاده.. وأنت رفضت ولاده الاتنين وقلت مفيش نسب بينا.. هو خاف على عيالهم والفرقة بينهم.. وانت اضايقت من عدنان واللي عمله وقلت ده لعب عيال وميصحش ولما جه صبري رفضته عشان ميكسرش كلمة أبوه.. ومحدش عمل اعتبار لا لرغبته ولا رغبتي.. وأنا لا يمكن هكون لحد غير صبري ولا هو كان هيقعد فالعرابة بعد اللي حصل.. عارفة انك مش هتسامحني ع اللي عملته.. ويمكن تقول مش عايز اشوف وشها تاني.. وعندك حق.. عمري ما كان يخطر على بالي إني أعمل حاجة تسيء لك او للعيلة.. ولا كنت اتخيل إني أبعد عنكم وعيالي ميتربوش بينكم مع عيالك وفحضن أمي وبابا..
احضن لي امي اوي يا رؤوف وكمان بابا لو خرج بالسلامة.. قول له إنه كان واحشني أوي.. وإنه يمكن لو كان موجود معانا مكنش اللي جرا ده حصل.. هتوحشوني..
سامحني يا رؤوف.. أختك سعاد"..
انتفض رؤوف بعد انهائه رسالة أخته مندفعا للداخل.. وضع حبيب بين ذراعي أمه.. ملقيا خطاب سعاد في حجر فوز أمهما.. مندفعا لداخل مكتب جده سعد.. خارجا منه بعد برهة.. وشهقات بكاء فوز تعلو في صدمة لوقع رسالة ابنتها عليها.. بينما صرخت في ذعر حين لمحت رؤوف يدفع للخارج بسلاح جده.. ولم يتوقف لبرهة مع صرخاتها هي وصفية باسمه..
❈-❈-❈
عرابة آل حفني ١٩٩٢..
هل العام الجديد بهدوء عجيب على الرسلانية والعرابة والنجوع المجاورة بعد أن دكت قوات الأمن المركزي التابعة للداخلية ذاك الجبل الذي كان يأوي العديد من معتادي الإجرام من أبناء الليل.. والهاربين من أحكام قضائية.. وأخيرا تلك المجموعات الإرهابية المسلحة التي كانت تتخذ من الدين ستارا لممارسة عقائدها ومبادئها المشوهة.. والتي كانت تنوي مهاجمة بعض أهدافها ليلة رأس السنة الميلادية..
اندفع ذاك الشاب لداخل دار الحفناوية، مرتقيا سلمها العتيق حتى وصل لحجرة بآخر الرواق، طرقها لمرة قبل أن يسير في أدب باتجاه سرير الحج عدنان.. هاتفا في نبرة تفيض تبجيلا: يا حچ.. تعرف اللفندي اللي چانا من فترة ده.. وجلت لي ده جريبنا.. عرفت إنه ظابط نجطة الرسلانية وكان من بين الحملة اللي دكت الچبل وبيجولوا انصاب وفالمستشفى..
انتفض عدنان مذعورا: وه.. انصاب!.. طب هم ساعدني وخدني له..
هتف الشاب معترضا: بس كنك تعبان يا حچ.. بلاها.. اروح اشوف ايه في وارچع اطمنك!..
هز عدنان رأسه رافضا، مصرا على الذهاب.. ليستجيب الشاب لمطلبه طائعا..
❈-❈-❈
مشفى المدينة ١٩٩٢..
استغل أن الوقت ما زال مبكرا على الزيارات وازدحام المشفى باقارب المرضى وذويهم.. مغادرا غرفته مستندا على عكازه.. على الرغم من تنبيه الطبيب له بعدم الحركة إلا للضرورة القصوى.. لكنه لم يقدر على البقاء حبيس حجرته دون أن يطمئن عليها.. علم رقم حجرتها وحمد الله أنها بنفس الطابق، فما كان له الصعود أو هبوط لأي درجات سلم وهو بهذه الحالة.. وصل لحجرتها وتقف قبالة بابها لبرهة، طرقه في اضطراب مرة ثم آخرى.. ولم يجبه مخلوق.. أدار مقبض الباب في حرص.. متطلعا للداخل، فوجدها ممددة على فراشها، ما تزال تغط في سبات عميق.. كان يعلم أن ذاك أثر الدواء المنوم الذي حقنه الطبيب بأوردتها رغبة في تخفيف صدمتها بإرسالها لعالم اللاوعي..
هم بالانصراف.. فما كان يرغب في أكثر من طلة تشفي غليل الشوق لرؤيتها.. لكن وصول الممرضة المناوبة على حالتها جعلها تسأل في فضول: مين حضرتك!.. وبتعمل ايه هنا الساعة دي!..
عرفها سراج بنفسه، متسائلا: هي مفاقتش خالص!..
أكدت الممرضة: مرة واحدة.. وكانت قاعدة تصرخ جامد وتنادي على اسمين بتكررهم.. شكلهم حد عزيز عليها..
رد سراج مؤكدا: اه.. ده أخوها.. هو...
قطع استرسال سراج إشارة الممرضة له ليقترب، مشيرة لمنيرة، التي كانت تهمس في أحرف متقطعة باسم ما: اهي يا فندم.. يمكن ده يفيد فالتحقيق.. سامع!..
ارهف سراج السمع، محاولا أن يحيد ناظريه عن قسمات وجه منيرة المليحة على الرغم من شحوبها.. انتابته رجفة داخلية، حين أدرك أنها تهمس باسم أخيها فعلا.. لكن ذاك الاسم الآخر.. كان له.. عاودت الهمس به مجردا.. واضحا.. بلا شبهة خطأ صغيرة.. حتى أن الممرضة تنبهت متعجبة وعلى وجهها ابتسامة لا تخلو من بعض الخبث الأنثوي: دي بتقول سراج!.. هي تقصد حضرتك.. ولا ايه!..
كان موقف لا يحسد عليه، ما دفع سراج ليتنحنح في محاولة لضبط نبرة صوته التي خرجت مهتزة بعض الشيء، وهو يستدير مغادرا الغرفة، أمرا الممرضة بموافاته بأي جديد يطرأ على حالتها..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
وصلت للرسلانية قادمة من المشفى بعد ليلة عصيبة، وبعد ضغط شديد من سرور ومدثر.. دفعا بها دفعا لتعود للسراي.. حتى تحظى ببضع ساعات من نوم، والعودة من جديد مع موعد الزيارة القادم.. ليترك لها أحدهما موضعه لتبيت ليلتها فالمشفى إذا ما رغبت.. فحالة حبيب ما تزل على حالها، مستقرة لكنه لم يستفق.. ولا زال في حيز الساعات الثمان والأربعين الخطرة التي لم تمر بعد..
وصلت للسراي.. لكنها وبدافع من شعور ما لم ترغب في الدخول.. تركت قدميها تقودها نحو دار الشيخ معتوق.. الذي تناهى لمسامعها اللحظة وهي على أعتاب باب داره الخشبي المتهالك.. دفعت الباب قليلا، تعلي صوتها بالتحية، ليرد الشيخ معتوق، متسائلا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. مين!..
همست أنس في نبرة متحشرجة وجعا: أنا أنس الوجود يا عم الشيخ معتوق.. ولا أقولك يا جدي..
تنبه الشيخ معتوق مبتسما: يااااه.. حمدالله بالسلامة يا بتي..اتاخرتي اوي يا بت نچيب.. تعالي خشي.. طمنيني.. حبيب عامل ايه دلوجت!..
سالت دموع أنس مؤكدة: لسه على حاله.. فالعناية المركزة مش حاسس بالدنيا..
ادعيله يا جدي..
رفع الشيخ معتوق يديه متضرعا، وبدأ في الدعاء بقلب وجل.. فانسابت دموع أنس أنهارا..
ساد الصمت لبرهة، قبل أن يهتف الشيخ معتوق مشيرا نحو موضع ما جوار مجلس أنس.. محاولا إخراجها من حالة الحزن التي تسربلها: بالك الكرسي اللي چارك ده كان مين اللي بيجعد عليه أول ما يدخل من الباب ده!.. ابوكي الله يرحمه.. مكنش بيجعد على غيره.. ياچي يسلم ويدخل يجعد عليه ساكت.. طول عمره ساكت وكاتم في نفسه جهرة جلبه وظلم أبوه له ولأمه.. الله يرحمك يا مديحة ياختي.. ويچعل كل اللي عشتيه مع سميح الحراني في ميزان حسناتك..
ساد الصمت لبرهة قبل أن يستطرد معتوق مؤكدا: بالك انتي!. ابوكي لما جلبه دج.. چه وحال لي يا خال.. أني عاشج.. جلت له الحلال.. وتوكل على الله.. وطلعت أمك اللي عليها الجصد والنية.. ولما جال أني مش جاعد وهطفش ومحدش هيعرف لي طريج.. جلت له سافر تچد عوضا عمن تفارقه.. روح شوف حالك يا ولدي بعيد عن أبوك وچبروته.. وراح ومتجبلتش الوشوش بعدها.. لكن الجلوب والأرواح كانت مسلمة.. ولما چيتي أول مرة مع حبيب ربنا يجومه بالسلامة.. شميت ريحته هلت عليا مع وچودك.. عرفت إنك مشيتي أول خطوة في مشوار الرچعة.. وجلت لك يومها.. كلام انتي مفهمتهوش.. مش كل اللي انتي شيفاه بعينيكي هو الحجيجة.. ايه رأيك دلوجت!.. كان عندي حج!..
همست أنس الوجود مؤكدة، وهي تمسح دموعها عن وجنتيها: ايوه يا جدي كنت على حق، وحبيب كان دايما على حق.. أنا اللي كان في غشاوة على عنايا.. مكنتش شايفة حاجات كتير على حقيقتها ويمكن لسه في حاجات مشفتهاش.. بس اللي أنا متأكدة منه أن أنس اللي جت أول مرة الرسلانية مش هي أنس اللي قاعدة قدامك دي..
تفهم الشيخ معتوق مقصدها، ليعلو صوت أذن العصر.. أمرها معتوق في لين: جومي خديني فطريجك للچامع.. وروحي ارتاحي.. ومتجلجيش ع الحبيب.. هو في رعاية المولى..
هزت دواخلها كلمة الحبيب.. وكأن الشيخ يقرأ ما وراء الحجب، فافصح بدقة.. عما هو مسطور على لوح روحها من أجل ذاك الحبيب الغائب عذرا..
❈-❈-❈
مشفى المدينة ١٩٩٢..
دخل زملاء سراج لحجرته مهللا، تعلو أصواتهم مرحا لنجاة صاحبهم، ليهتف أحدهم مازحا: صيتك سمع جامد على فكرة.. كانت ضربة معلم بصحيح.. احنا اكتشفنا إن ولاد الرفضي دول كانوا ناويبن على مصايب سودا.. وكانوا هيولعوا الدنيا.. ماشية معاك حلاوة يا عم!..
أشار سراج نحو قدمه المصابة مازحا: تعالى خد لك شوية حلاوة يا خويا..
قهقه أصحابه، ليهتف أحدهم: بس بالمناسبة يا سراج.. الموضوع فعلا مسمع جامد.. أنت متعرفش احنا لقينا مين وسط الجثث بعد التحري عنهم!..
هتف سراج متسائلا في فضول: مين!.. حد م الروس الكبيرة للجماعة وكان هربان فالجبل!..
أكد الضابط: أخطر.. واحد من أهم رؤوس تنظيم القا..عدة.. ودراعه اليمين هنا فمصر..
يعني عصفوين بحجر واحد.. دول لوحدهم مكسب ولا اعظم من كده.. اسمه أبو سالم الكربلائي.. الأخ كان عامل مصري عادي فالعراق.. وانخرط فتنظيم المجاهد..ين.. وراح طالع على أفغانستان.. قعد سنين هناك.. يترقى هنا وهناك.. لحد ما بقى الاسطى بتاعهم.. وجت له طبعا الأوامر يرجع مصر.. ويبلونا به.. عشان يلضم مع قيادة من قيادتهم هنا.. قربه له بسرعة على غير العادة.. الأخ أبو الوفا القناوي.. طبعا دي اسماء حركية.. الاسماء الحقيقية طبعا غير.. وجثامنهم فالمشرحة..
سأل سراج في شك: واحد منهم اسمه الحقيقي رفعت!..
هتف الضابط منبهرا: ايوه صح! انت مخاوي ولا ايه!..
لم يلق سراج بالا لمزاح صاحبه بل سأل في مجدية: والتاني قلت لي كان فالعراق، وبقاله سنين غايب، واسمه ابو سالم.. واسمه الحقيقي.. تقريبا.. ضاحي..
تطلع الضابط لسراج في صدمة، هاتفا في انبهار: ايه ده يا بني! بركاتك يا شيخ سراج.. هي الإصابة فعلا فرجلك!.. أنا بدأت أشك..
قهقه باقي الأصدقاء، بينما انتفض سراج في عجالة، أمرا أصحابه: خرجوني م المستشفى بسرعة.. المسألة متتأجلش..
انتفض أصحابه يساعدوه على إنهاء ارتداء ملابسه، وأخذ تصريح بالخروج حتى ولو مؤقتا، فما هو بصدده الآن.. هو لحظة فارقة.. في حياة البعض.. فظهور الحقائق ما عاد قابلا للتأجيل..
يتبع...