-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 47 - السبت 12/7/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل السابع والأربعون


تم النشر السبت 

12/7/2025

ـ أي دمعة حزن.. لا.. 


عرابة آل حفني ١٩٦٧..

اندفع رؤوف لداخل دار الحفناوية، مهرولا نحو المندرة حيث جاءته أصوات تعلو مختلطة في اضطراب، هاتفا من الخارج وهو يقف على عتباتها: يا ساتر!.. يا حچ عامر!.. 

هتف عامر من الداخل: مين!.. رؤوف ده! اتفضل يا ولدي.. 

تنحنح رؤوف وهو يدخل حين لاحظ أن امرأة ما تهرول مبتعدة، وقد تناهى إلى مسامعه شهقات بكائها الحارة، مدركا أنها خالته عفيفة أم عدنان وصبري.. 

وقف رؤوف في منتصف الحجرة الواسعة، متسائلا في هدوء متحفز: ينفع اللي چرا ده يا حچ عامر! ولدكم يعمل فينا كده!.. ياخد بتنا من بينا ويروح!.. 

هم عامر بالرد، إلا أن عدنان رد ساخرا: ايه في! مچراش حاچة.. ما هي بت عمتها عملته‍ا جبلها.. يعني.. 

انتفض رؤوف منقضا على رقبة عدنان ممسكا بخناقه، مخرجا سلاحه من جيب جلبابه، صارخا في حنق: والله ما لك إلا السلاح ده يتفرغ براسك، لچل ما تحسن جولك، وتوزن كلامك يا عويل.. 

لم يحرك عامر ساكنا، على الرغم من شهقة الفزع التي أكدت وجود الخالة عفيفة بالفرب، لم تغادر الغرفة بالفعل.. 

احتقن وجه عدنان اختناقا ليد رؤوف المطبقة على رقبته تكاد تزهق روحه، ما دفع عامر للحديث مؤكدا: والله عويل بصح.. ولا يستحج الرصاصة اللي تخرچ من سلاحك يا رؤوف يا ولدي.. 

كانت كلمات عامر كالبلسم على غضب رؤوف، فهدأ قليلا، مبتعدا عن عدنان، ليشير عامر لموضع بالقرب من مجلسه، جلس به رؤوف تاركا عدنان يسعل في ضيق، ليستطرد عامر: اللي حصل ده ميتسكتش عليه يا ولدي.. ولازما نتصرفو جبل ما حد ياخد خبر وتبجى الفضيحة بچلاچل.. 

هتف رؤوف موافقا: ايوه، يا ريت.. راسنا بجت فالطين م اللي بيچرا.. لو عندكم علم ممكن صبري يكون راح فين بعد ما مشي من هنا، نروحو نشوفو.. وعهد عليا ما همس حد فيهم بضرر، بس يرچعو ونساو الليلة بدل الفضايح والچُرس.. 

أكد عامر: ملناش حد بره العرابة يا ولدي كنت جلت راحو له.. 

هتفت عفيفة في حزن، وقد علا صوتها باكيا: ما هو ده اللي حارج جلبي، يكونو راحة فين.. دول لساتهم صغار ع البهدلة دي.. وولاد عز ملهمش فالمرمطة.. يا وچع جلبي عليك يا صبري.. يا ريتك كنت سمعته يا حچ يوم ما جالك أني رايد سعاد.. 

هتف رؤوف متعجبا: هو مش عدنان اللي كان رايدها!.  

تطلع رؤوف صوب عدنان متسائلا: مش أنت چيتني وجلتي لي رايد سعاد.. وإنك فاتحت أبوك وهاتاچو تخطبوها!.. 

هتف عامر متعجبا: محصلش الكلام ده!.. أني لما دريت إن اللي التنين رايدينها جلت بلاها خالص.. 

صرخ رؤوف حانقا في وجه عدنان، الذي نكس رأسه حرجا ما أن أدرك أن ملعوبه قد انكشف: يبجى أنت كنت چاي عشان لما ياچبني صبري يطلبها اجول له كيف ما الحچ عامر جال.. لا انت ولا أخوك.. وتضمن إن الچوازة خربت.. يبجى سعاد مكذبتش في اللي جالته..

أخرج رؤوف رسالة سعاد من جيب جلبابه، مسلما إياها لعامر، الذي شرع في قراءتها، ليسود صمت حاد، قبل أن يؤكد الحج عامر صدق فحواها: ايوه.. كل اللي جالته صح.. 

هتف رؤوف وهو يمسك تلابيب عدنان من جديد زاعقا: ليه كده! ارتحت دلوجت.. عملت ليه فأخوك كده، وچر بتنا معاه!.. 

دفع عدنان بكفي رؤوف عنه، صارخا في غل: ايوه ارتحت.. غار.. بعد عن هنا وبجي كل الدنيا تحت طوعي.. أني عارف إن أبويا كان بيجول من ورا ضهري وأني سمعت بوداني كمان، إن صبري الأصغر بس الاعجل.. وإن هو الاحج بالعمودية من بعده لو عايز العرابة تتمسك بيد من حديد.. حتى أمي.. صبري عندها هو الفرخة بكشك.. الكلام الحلو لصبري والدعوات الزينة لصبري.. طب وعدنان فين من ده كله!.. مش أني الكبير.. اللي المفروض يبجى يد أبوه اليمين فكل كبيرة وصغيرة.. ويبجى عند أمه حاچة كبيرة تملأ العين وتتحالف بحياة بكريها.. وأول فرحتها.. يبجى زعلانين ليه جوي إن صبري راح.. أهو راح وخد اللي هو رايده وفات لي اللي أني رايده.. جسمة العدل اللي متزعلش حد.. 

اندفع عدنان كما الريح مع آخر حرف في كلماته الثقيلة مهرولا للخارج، تاركا ورائه صمتا حادا.. قاطعا.. ما دفع رؤوف لينهض هامسا: معدش منه فايدة يا حچ عامر.. الفضيحة طالتنا واللي كان كان.. 

ضرب عامر عصاه بالأرض في ضيق، هاتفا لرؤوف في اشفاق: نعمل اللي يجدرنا عليه ربنا.. يمكن نلاجيهم.. أني هبعت اللي يجلب عليهم الدنيا فمصر.. ونجول يا رب.. 

همس رؤوف متضرعا في قلة حلة، مستأذنا ليرحل وقد أثقل كتفه بهم كما الجبال الرواسي متربع فوق كاهليه لا يبرحهما.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٦٨.. 

كان على أحدهم أن يدفع الثمن.. أن يكون خروف المحرقة.. أن يدفع ثمن الإهمال.. ثمن التراخي.. ثمن القرارات الغير مدروسة.. وغير محسوبة العواقب.. فما من أمر يحدث إلا وله أسباب ومن ورائها تأتي النتائج تتهادى.. وها قد انتحر عبدالحكيم عامر أو قتل.. ما من أحد يدري ما هي الحقيقة!.. لكن بصفته أحد أهم رجالات هذه الفترة ووزير الدفاع فقد اختفى من المشهد تماما.. تاركا ذلك لغزا لم يدرك حله.. بينما عاد عبدالناصر لكرسي الحكم بعد خطاب تنحيه، كأثر لمظاهرات العاطفة المخدرة التي أرجعته ليستكمل مسيرة الاصلاح.. بعد نكسة نكراء ما دُفع ثمنها إلا بدماء الشباب.. وعُقدت المحاكمات العسكرية والتحقيقات لكثير من القادة الذين اُعتقد تورطهم في الكثير من الأخطاء التي أدت للهزيمة.. 

دخل ناجي لفيلته في هوادة، لتنتفض إلهام من موضعها ما أن لمحته، تسأل في اضطراب وقلق، وقد بات وجهه خاليا من أي تعبير: خير!.. هااا.. خير مش كده!.. ما هو أصل مش ممكن ي..

قاطعها ناجي خالعا كابه العسكري متطلعا إليه في تيه، واضعا إياه جانبا في حرص، سائرا نحو الدرج يرتقيه في بطء قاتل، تتطلع إليه إلهام في حسرة حقيقية، فمظهر زوجها لا يوحي بخبر جيد أبدا.. والمحاكمات لم تدع قائدا والتحقيقات تمت بشكل قاس على الجميع.. تنبهت إلهام حين توقف ناجي على قمة الدرج، مستديرا نحوها، قائلا في نبرة أمرة لم تكن من عادته: مش كنتي عايزة تسافري فرنسا ومستقر هناك.. مع بهجت وولدتك.. حتى بعد وفاة والدك.. تمام.. أنا موافق.. معدش باقي لنا حاجة هنا.. مبقاش مكانا.. 

دخل ناجي غرقتهما، لتتبعه إلهام مستفسرة في تردد: طب حاضر.. اللي تقوله هنفذه.. بس طمني يا ناجي.. ايه اللي حصل معاك في التحقيقات!.. 

ابتسم ناجي في حسرة: كان عندك حق.. يا ريتني كنت سمعت كلامك وهاجرنا.. كان أشرف لي ألف مرة من إني اتحول للاستيداع بتهمة عدم التقدير الصحيح للموقف وإبلاغ القيادات بمعلومات خاطئة.. 

ساد الصمت وسال دمع إلهام في هوادة وهي تتطلع لحال ناجي مشفقة، وقد انفجر ضاحكا كمن فقد عقله، هاتفا في استهزاء: جميلة صيغة الاتهام.. سوء تقدير الموقف.. أنا يا إلهام!.. أنا اللي صوتي راح واتهددت عشان أخرس من كتر ما بقول اللي بيحصل ده غلط.. اللي بيجرا ده مش مظبوط.. النهاية مش هترضي حد.. ولا حد سمع.. ولا كأني قلت حاجة.. وف الآخر.. أنا الغلطان... أنا اللي يتمسح تاريخي وشرفي العسكري بتهمة أنا بريء منها.. أنا يا إلهام.. أنا اللي.. 

شهق ناجي في وجع، لتتلقفه ذراعي إلهام في حرص، تاركة إياه يفرغ كل ما اعتمل داخله من حزن وقهر.. مشاركة إياه أحزانه.. فهي تدرك تماما كم هو عميق حزن ناجي اللحظة.. وهو يطعن غدرا من موضع مأمنه.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٦٨.. 

كانت قد أنهت جولتها مع أطفال صفها داخل الحديقة التي اصطحبتهم لها في إطار تلك الرحلة المدرسية التي كان من المفترض القيام بها منذ شهور.. وتأجلت نظرا لأحوال البلاد بعد النكسة وتبعاتها.. جلست تتابعهم وهي تتناول مشروبها المفضل.. عيناها مركزة النظرة على الأطفال.. وعقلها شارد بعيدا في حياتها ما حققته فيها.. حب فاشل لسميح اورثها ندما لسنوات.. حتى أتى وصفي.. كان الشخص المناسب في كل شيء.. لكنها هي التي ما ناسبت خططه ورغباته.. وفشلت في اهدائه طفلا واحدا يحمل اسمه وينقذ ماء وجهها أمام عائلته التي كانت تعلم حتى ولو لم يكن ذلك جليا أمام ناظرها انها تضغط عليه حتى يتم زواجه بآخرى من أجل الإنجاب.. عشر سنوات ليست بالمدة القصيرة.. ووصفي كان رجلا صالحا.. رغب فيها وتعاملها بأفضل ما يمكن أن يعامل رجل زوجته.. لكنه رضخ بالآخير لسطوة الأهل وضغوطهم.. 

هي لا تلومه على إتخاذ مثل ذاك القرار.. فهذه حقه على أي حال.. وهي ايضا اختارت أن لا تبقى وتكمل فما كان التواجد في مثل هذه العلاقة يناسبها.. فهي لا تقدر إلا أن تكون امرأة الرجل الأولى والأخيرة.. المفضلة بلا شريكة تنازعها حبه، وتزيحها لتأخذ موضع كان لها بقلبه.. 

جاءت إحدى زميلاتها لترافقها هاتفة: ساعة ونتحرك.. أنا ببقى متوترة في يوم الرحلة ده.. 

ابتسمت وداد متعجبة: ليه بس ما اليوم جميل اهو والولاد مبسوطين!.. 

أكدت زميلتها: الواحد بيبقى خايف ولد يقع كده ولا يتخبط كده.. دي مسؤولية برضو.. وأولياء الأمور مببرحموش.. كل واحد فيهم فاكر إنك الحارس الخصوصي لبنته أو ابنه.. بس احيانا بعذرهم.. الضنا غالي برضو.. 

تنبهت زميلتها أنها ألقت الكلمة بلا تريث، حين تغيرت ملامح وداد، لتعتذر الزميلة في حرج: أنا آسفة يا وداد مش قصدي والله.. دي جملة اتقالت كده.. ما.. 

قاطعتها وداد باسمة، وهي تربت على كتفها متفهمة على الرغم من وجيعة قلبها: ولا يهمك.. حصل خير.. و.. 

تناهى لمسامعهما صرخات طفل يتألم.. اندفعت وداد صوبه تطمئن على حاله، وصلت موضعه لتجد رجل ما ينحني يفحص الطفل في اهتمام.. مؤكدا في نبرة متعاطفة تحمل لكنة ليست مصرية: خير.. خير.. 

سألته وداد في اضطراب: هو حضرتك دكتور!.. الولد كويس!.. 

هز الرجل رأسه في تأكيد، هاتفا ليطمئنها: كدمة بسيطة.. سيكون بخير.. 

نهض الطفل وبدأ الحركة، لتهمس وداد وهي تنهض من موضع انحنائها: متشكرة جدا.. 

رفع الرجل رأسه، وهو ينهض مستقيما بدوره: لا شكر على واجب.. أنا.. 

توقف عن الكلام.. لم ينطق حرفا وهو يتطلع لوداد في ذهول.. نظراته تشي بأنه قابل شخصا يعرفه منذ سنوات طويلة، وقد فقد الأمل في لقياه وها هو يقابله بلا ترتيب.. صدفة.. لا يجيد ترتيبها إلا قدر رحيم.. 

استأذنت وداد مسرعة تلبي نداء إحدى زميلاتها، ولم تفطن لذهول ملامحه.. ولا تبدل قسمات وجهه.. وقد بدأن في جمع الأطفال وترتيب صفوفهم استعداد للمغادرة.. تاركة ذاك الغريب واقفا على حاله الشاردة.. لا يحرك ساكنا.. نظراته لا تفارق وداد.. تتابعها حيثما حلت.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٦٨.. 

اقترب الصول في حذر من زنزانة فضل، مشيرا إليه بطرف خفي، فتنبه فضل مقتربا من الباب الحديدي، ليدس الصول ورقة مطوية في حرص بيد فضل.. الذي أطبق عليها كفه في استماتة، قبل أن يهرول الصول مبتعدا وهو يصرخ محذرا بعض المساجين بصوت جهوري كنوع من أنواع الترهيب الغير مبرر.. 

جلس فضل القرفصاء في أقصى ركن بزنزانته الضيقة الرطبة، رمادية الجدران، لا يصدق أن بكفه اللحظة رسالة ما.. تحمل أخبار الأحباب الذين اشتاقهم.. وتعرفه على أحوالهم بعد غياب.. 

فض الرسالة في بطء وحذر شديد.. كان صوت ورقاتها، أشبه بصوت دوي قنبلة على مسامع رهبته من اكتشاف أمره فقد ينزعوها من بين كفيه.. قبل أن يبل ريق الروح العطشى لأخبارهم.. تعلقت عيناه بالحرف الأول من السطر الأول في لهفة.. وبدأ القراءة في هوادة.. كأنما يتذوق الأحرف في لذة.. 

"فضل.. 

يا صديقي.. ومعلمي.. وصاحبي.. وحبيبي.. وزوجي.. اشتاقتك عيناي يا قرة العين.."

توقف فضل عن القراءة.. وسالت دموعه شوقا وفرحا.. إنها بخير.. فوز بخير وها هي تبعث له بكلماتها التي تجيد صياغتها فتهدهد القلب الفزع المتوق لجرعة ولو شحيحة من طمأنينة.. 

مسح دموعه بظاهر كفه، حتى يجلي ناظريه لرؤية الأسطر قبالة عينيه، مستطردا القراءة..

"أنا بخير.. أجريت الجراحة.. نصحني الطبيب بعدم التوتر والبعد عن أي ضغوط.. ابتسمت بل ارتفعت ضحكاتي عاليا، فمنذ عرفتك يا فضل وأنا انام في أحضان القلق ذاته.. لكنه قلق لذيذ قد اعتدته.. قلق على حالك وحالتك.. يشقيني ويسعدني بالوقت ذاته.. فأنا حين رأيتك للمرة الأولى أدركت أنك رجل فريد.. وأنا امرأة لها نظرة عميقة في أصل الأمور.. وما كان من الممكن أن أترك امرأة سواي تنعم بشرف صحبتك.. يا رجل بين ذراعيه أدركت ذاتي.. وعلى كفيه أزهر حبي.. وعلى نقر خطاه.. اضطربت عشقا نبضات قلبي.. وحين كتب مع الحرية عهدا.. ظل به وفيا حتى هذه اللحظة.. 

آه يا فضل.. لو الأمر بيدي ما توقفت عن الكتابة لك أبدا.. لكن دعنا من لواعج القلب التي توقظ الشوق الكامن قصرا بجنباتنا.. ودعني اطلعك على ما جرى طوال فترة بعادك.. تزوج رؤوف وأمينة.. ورزقا ب حبيب.. ومنذ اشهر قليلة هلت منيرة.. أصبح لك حفيدين.. يا لك من عجوز!.. 

أمك صحتها بخير.. تجلس بالموضع المفضل لعمي سعد لا تبرحه.. وترسل لك الكثير من قبلاتها.. والكثير الكثير من دعواتها.. 

رؤوف لم يرغب في استكمال دراسة الزراعة بعد إنهاء سنته الثانية الجامعية.. حتى لا يتركنا وحيدات بلا رجل يتولى أمورنا.. لا أدرك ان كان ما قام به صحيحا أم كان عليّ الضغط عليه أكثر لاستكمال دراسته.. لا أنكر راحتي في وجوده بيننا.. لكني رغبت في استكماله دراسته كذلك.. 

وداد ترسل لك محبتها.. ما تزال تعمل بتلك المدرسة الابتدائية بقنا.. تسكن بيت المغتربات وتزور السرايا مرة كل أسبوع.. 

كلنا بخير.. ولا ينقصنا إلا وجودك.. آه يا فضل لو يطوى الزمان واجدك في لحظة قبالة ناظري!.. اشتاقك فوق حد الشوق.. زوجتك فوز.."

تنبه فضل أنها لم تأتي على ذكر أخبار برلنتي وسعادة.. ربنا لا جديد فيما يخصهما!.. كذلك طمأن نفسه.. طوى فضل الرسالة في حذر، دافعا إياها في حرص بأقرب جيب من قلبه، رابتا عليها في هوادة كأنما يربت على كتف عزيز.. فأنتشر دفء الكلمات الحانية لخلايا جسده خالقة شعور بالنشوة، جعله يترنم في سعادة: 

أى دمعة حزن لا لا لا لا..

أى جرح فى قلب لا لا لا لا..

أى لحظة حيرة لا لا لا لا..

حتى نار الغيرة لا لا لا لا..

هتف أحد المساجين مازحا: عفريت السلطنة حضر على عم فضل!.. 

ليرد الآخر ذا الصوت الشجي مترنما: 

وقال إيه جى الزمان يداوينا..

من إيه جى يا زمان تداوينا!..

ده الأمل فى عينينا.. والفرح حوالينا..

لتعلو أصوات المساجين في نشوة.. وقد انتشرت عدوى السعادة بينهم: رد الزمان وقال.. ايه غير الأحوال!.  

قلنا له: حبينا.. حبينا… حبينا.. وارتاحنا ونسينا.. وارتحنا ونسينا.. الجرح بتاع زمان..

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٦٨.. 

توقف ذاك الغريب خارج السراي، متطلعا في تيه لأسوارها.. واقترب في تردد ناحية بوابتها الحديدية.. يسأل البواب الأسمر القائم على حراستها: من فضلك!.. هل هذه هي سراي سعد باشا رسلان!.. 

هز عرفان رأسه مؤكدا: ايوه يا بيه!.. خير!. عايز مين! ونجوله مين! 

ابتسم الرجل الغريب في مودة: لا أحد يعرفني بالداخل.. لكن أنا أريد مقابلة السيدة أنس الوجود.. هل ما زالت على قيد الحياة!.. 

أكد عرفان في رهبة: ربنا يجعلنا فعمرها.. ايوه الهانم موچودة وبخير.. اتفضل لحد ما نعطيها خبر.. اتفضل.. 

دفع عرفان بوابة السراي، ليدخل ذاك الغريب، بينما هتف مستدعيا ولده صاحب السبع سنوات عمرا، أمرا: واد يا شبل.. روح بلغ أنس الوجود هانم إن في ضيف طالب مقابلتها.. 

هرول الصبي ملبيا تعليمات والده، عائدا بعد بعض الوقت.. مفسحا للضيف الطريق، مطالبا في تأدب: اتفضل.. الهانم منتظراك فالصالون..

ابتسم الغريب لفصاحة الطفل رابتا على رأسه في مودة، يتبعه لداخل السراي، حتى أشار لحجرة ما، دفع بابها الموارب في الأساس.. ليدخل الغريب ملقيا التحية على المرأة التي جلست في بهاء في صدر المجلس بانتظاره، والتي ما أن رفعت رأسها صوبه تستطلع الضيف القادم لملاقاتها.. حتى شهقت في رقة، وترددت لبرهة في مد يدها للتحية، والتي تلقاها الغريب في تأدب، منحنيا مقبلا ظاهرها في احترام كما كان يفعل الرجال الأفاضل في الأيام الخوالي.. 

أشارت أنس الوجود لمقعد ما قبالتها، فجلس متنحنحا في أدب هاتفا: أنا.. 

قاطعته أنس الوجود وما كان ذاك من عاداتها: أنت!.. أنت لك صلة قوية ب القائد نيكوس.. تشبهه كثيرا حتى أني ظننت لوهلة هو.. 

أكد الغريب: رحمه الله!.. 

همست أنس الوجود في شجن: هل رحل عن دنيانا.. متى كان هذا!.. 

أكد الغريب: منذ خمس سنوات.. كانت صدمة كبيرة.. فقد كان هو المربي بعد وفاة والدي.. حين عاد من تركيا.. بعد هزيمتنا.. خلع عنه رداء العسكرية.. وعمل بالتجارة لبضع سنوات.. وحين مات والدي.. أخيه الأصغر.. أصبحت تحت وصايته.. جبت معه العالم.. وعشنا لسنوات في تركيا.. وأعلن إسلامه هناك.. وأطلق على نفسه اسم سعيد.. واسماني فاضل. بديلا عن اسمي الأجنبي.. فقد تبعته للإسلام كذلك.. 

همست أنس الوجود متعجبة: سعيد!.. 

هز فاضل رأسه مفسرا: نعم.. سألته مرة لما هذا الاسم وما معناه.. أخبرني أن معناه مشتق من السعادة الخالصة.. التي ذاقها يوما ما حين كان بتركيا.. وأنه قابل امرأة هناك.. غيرت له كله مفاهيمه.. بدلت دنياه.. وقلبت كل معتقداته عن النساء والوفاء والحب والحياة.. 

همست أنس الوجود متسائلة وقد برقت الدموع بعينيها: ولمَ لم يتزوج وينشيء أسرة!..

أجاب فاضل: أخبرني أنه اكتفى.. ما عاد بقلبه متسع لامرأة سواها.. وحياته مغلقة على التجارة والصلاة وأنا.. ورحلاتنا سويا حول العالم.. إلا أنه كان يتجنب القدوم إلى مصر.. 

همست أنس الوجود متعجبة: لماذا!.  

رد فاضل: لم أكن أعلم السبب.. حتى قرأته في رسالة تركها لي مع وصيته بعد وفاته.. مفسرا أنه ما استطاع أن يفعل حتى لا يدفعه فضوله للبحث عنكِ.. ما قد يسبب لكِ مشكلة ما.. ففضل ألا يأتِ.. لكنه ترك لكِ هذا.. 

تنبهت أنس الوجود لتلك اللفافة التي كان يحملها حين دخل، تاركا إياها على الطاولة.. هم فاضل بالنهوض ليحضرها لأنس، إلا أن صوت الطرقات السريعة على الباب استوقفه، لتندفع وداد لداخل الغرفة في عجالة هاتفة: أنا وصلت يا ست الكل.. ا..

ساد الصمت، مع صدمة وداد، وابتسامة فاضل، والذي قطعته أنس الوجود معرفة: ابنتي وداد..

هز فاضل رأسه في تفهم معترفا: سبق وأن تعرفنا.. أليس كذلك آنسة وداد!.. 

ترددت وداد لبرهة في الاجابة، حتى استجمعت شتات نفسها، مؤكدة: مدام وداد.. ونعم.. تعرفنا في الموقع الأثري.. في تلك الرحلة المدرسية منذ أسبوع.. تشرفنا.. 

قالت وداد كلمتها الأخيرة، لتنتبه لتغير ملامحه حين أخبرته أنها ليست آنسة.. وتساءلت في نفسها عما يفعله ذاك الأجنبي الغريب في سراي سعد باشا رسلان.. جالسا مع أمها والتي تعامله بحفاوة عجيبة!.. من يكون هذا الرجل!..

أجابت أنس الوجود عن تساؤلات وداد ابنتها في جملة وحيدة مقتضبة: صغيرة هي الدنيا يا وداد.. وكل حي ومسيرنا نلقاه.. 

❈-❈-❈

المشرحة ١٩٩٢.. 

لم يكن الأمر سهلا.. وكأن كل ما مر على هذه المسكينة هينا، حتى يكون ذاك الأمر بسيطا!.. فقد كانت حياة نجية كلها مصاعب وكسرة قلب.. واليوم وهي تقف أمام باب المشرحة حين استدعاها سراج للتعرف على زوجها المحتمل واخيها.. كانت تقف مرتجفة.. دموعها تسيل بلا توقف.. وقلبي ترتفع دقاته اضطرابا وقلقا.. رجالاها .. والمفترض أن يكون كلاهما أو حتى أحدهما سندا وداعما لها.. لم يكونا يوما.. وها قد خسرتهما معا.. وكأن الدنيا أن عليها الوقوف وحيدة بهما أو بدون.. ما عاد الأمر بشكل فارقا.. هي الوحدة والشعور بالخواء.. وعمر ضاع بلا طائل.. 

أمرها الطبيب في وجود سراج الذي كان يقف متعكزا لإصابة قدمه التي ما برأت: قربي.. 

جذب إحدى أدراج الثلاجة مخرجا جثمان ما مغطى، كشف عن وجهه لبرهة، أمرا نجية التي بدأت ترتجف بالتطلع للوجه الشاحب الذي فارقته الحياة، لتؤكد إذا ما كان ذاك أخيها أم زوجها، نظرت نجية نظرة عابرة مسرعة، قبل أن تهتف مؤكدة: ده ضاحي چوزي.. 

سأل سراج: متأكدة يا ست نچية!.. 

هزت رأسها في تأكيد وإيجاب وقد بدأ دمعها يسيل على خديها، أغلق الطبيب الخزانة الأولى.. متجها لغيرها معيدا الكرة.. رافعا الغطاء عن وجه المتوفى، لتشهق نجية في حزن: ليه كده يا رفعت.. وديت نفسك فالسكة دي يا خوي!.. 

سأل سراج متأثرا: يعني ده رفعت اخوكي!.. 

هزت رأسها في إيجاب مجددا.. ليشكر سراج الطبيب مغادرا المشرحة بصحبة نجية التي كان البكاء فاطر كبدها.. 

تلقفتها أنس الوجود، التي ما أن علمت حين عادت للسراي برغبة سراج في استدعائها للمشرحة للتعرف على جثامين أخيها وزوجها المزعوم.. ضمتها مدركة حجم المعاناة التي عاشتها نجية بالداخل.. جلسوا جميعا على أقرب مقاعد لموضعهم، ليأمر سراج بإحضار بعض الماء والعصائر لتهدئة نجية التي انهارت بعد هذه التجربة المريرة.. 

ليهتف سراج أخيرا: كده انتي براءة يا ست نچية، هنجف جصاد النچع كله ونجول إن اللي مات ده ضاحي چوزك.. واخوكي رفعت.. ارفعي راسك وحطي عينك في عين التخين فيهم.. 

رفعت نجية رأسها من احضان أنس، هاتفة وهي تمسح دموعها: هيحصل يا سراچ باشا، ربنا يسعد جلبك وما يوجعك فضيجة أبدا.. بس لما نطمنو على حبيب بيه ويرچع داره بالسلامة.. تبجى الفرحة فرحتين بإذن الله.. 

ربتت أنس الوجود على كتف نجية في إكبار.. هامسة متضرعة: ربنا يسمعنا عنه خير بإذن الله.. 

أكد سراج باسما: أنا لازم أرجع المستشفى لأن الدكتور خرچني على ضمانة، عشان خاطرك يا ست نچية.. كان لازم اطمن إن حجك رچع.. وكمان اطمن على أحوال حبيب بيه.. والآنسة منيرة.. 

هتفت أنس: أنا جاية معاك المستشفى..

اعترضت نجية: بس ده انتي ملحجتيش ترتاحي ولا دخلتي السرايا من ساعة اللي حصل.. ارچعي ارتاحي لك ساعتين.. وبعدين روحي.. 

رفضت أنس الوجود العودة.. لتتمسك نجية بالذهاب معهما بدورها للاطمئنان على حبيب..

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩٢.. 

كانت برلنتي تجلس بشرفة حجرتها، متطلعة للبراح القابل في تيه، يسير شريط حياتها قبالة ناظريها في بطء وروية.. متجسدا بكل تفاصيله وذكرياته.. بأحداثه وحوادثه.. بافراحه واتراحه.. لتنتفض ما أن استشعرت كفا تحط على كتفها، فتنبهت لوجود درية، صديقتها ورفيقة دربها التي كانت لها عوضا عن الأهل ومن أوفى الأصدقاء.. جلست درية جوارها هاتفة تسأل في اهتمام: كفاية عزلة يا برلنتي.. التفكير كتير وحش عليكي .. ومش هيغير حاجة.. اللي كان كان.. 

تنهدت برلنتي مهادنة: خايفة يا درية.. عمري ما كان فبالي إننا نرجع لحوار الرسلانية ده تاني.. فجأة ألاقي بنتي بقت هناك.. 

همست درية معتذرة: سامحيني.. أنا اللي تحت ضغط أنس وممدوح حكيت لهم اللي اعرفه من الحكاية.. ما انتي السيرة دي كانت بتضايقك ومكناش بنتكلم فيها.. واللي أعرفه قلته.. بس كان غصب عني.. الدكتور قال لازم جراحة وفلوسها مش معانا.. فكان لازم نتصرف.. قلت لأنس عن قرايبها اللي فالصعيد وقلت اكيد لك حق عندهم بعد السنين دي كلها تروح تاخده عشان عمليتك.. 

هزت برلنتي رأسها متفهمة، هامسة بقلة حيلة: اللي حصل حصل وخلاص.. دي تصاريف ربنا.. يمكن يكون رجوعها في مصلحتها.. آه مكنش مروحها هناك في خطتي أبدا.. لكن اكيد اللي حصل ده من وراه حكمة.. 

همست درية متسائلة: عشان كده كنتي عايزة أنس تقبل بجوازها من نصير!..

أكدت برلنتي: ايوه.. كنت خايفة على أنس من وجودها هناك.. قلت عريس غني وكويس وواضح إنه شاريها.. يبقى ليه نغامر بوجودها في مكان ممكن يكون خطر عليها.. أنا كل يوم بصحى على كوابيس يا درية.. أنا مش باقي لي الا أنس في الدنيا.. دي أمانة نجيب.. وخايفة بجد عليها.. أنا عارفة إني مش أد المسؤولية دي.. طول عمري معتمدة عليه.. عمر نجيب ما شيلني هم حاجة.. كان هو كل حاجة.. عائشة معاه وانا مطمنة.. لكن بعد ما راح مبقاش جوايا إلا الخوف.. زي اللي رموه فعرض البحر وهو يا دوب بيضبش.. لا عارف يلحق نفسه ولا يقدر يلحق اللي حواليه.. فينك يا نجيب!

ربتت درية على كتف برلنتي في تفهم مشغقة على حالها.. وصوت فيروز يتهادى من بيت الجيران.. مؤكدة لحبيبها.. بعدك على بالي..

❈-❈-❈

المشفى ١٩٩٢..

اندفع مدثر مهرولا في سعادة باتجاه سراج ونجية وأنس الوجود، مؤكدا: حبيب فاج!.. 

هرول الجميع نحو حجرة العناية القائقة لكن مدثر استوقفهم مشيرا لرواق آخر: لاه.. نجلوه م العناية.. راح اوضة عادية الحمد لله.. والست منيرة كمان بجت عال.. 

توقف سراج ما أن سمع الخبر الاخير متعللا بألم قدمه، مؤكدا أنه سيتبعهم.. لكن عليه العودة لغرفته الآن.. 

غير الجميع وجهتهم.. ليتوقفوا أمام باب حجرة حبيب حيث كان الطبيب بالداخل.. والذي أكد حين انتهى مقابلا إياهم بعد خروجه من الغرفة: بقى احسن الحمد لله.. بس لسه محتاج الراحة.. يا ريت منتقلش عليه في الزيارة.. دقايق كفاية عليه.. 

غادر الطبيب، ليدخل الجمع الحجرة حيث كان يرقد حبيب.. كان مدثر ومن خلفه نجية ثم دخلت أنس الوجود على استحياء.. 

تنبه حبيب لوجودهم.. ففتح عينيه متطلعا لوجوه زائريه، حتى توقفت عيناه على محيا أنس التي كانت تتستر في اضطراب خلف نجية، هتف مدثر في سعادة: حمدالله بالسلامة يا حبيب.. ربنا ما يعيدها تاني.. وترچع دارك بألف سلامة.. 

ابتسم حبيب في وهن: تسلم يا مدثر.. فينها منيرة.. هي بخير!.. 

أكد مدثر في عجالة: ايوه تمام.. بس لسه محدش بلغهم فالسرايا كانت چت ترمح تطمن عليك.. 

هز حبيب رأسه متفهما، مقتنعا بكذبة مدثر حتى يتم له ترتيب الأمر ومجيء منيرة لرؤية أخيها، بينما هتفت نجية دامعة العينين: ترچع دارك وتنوره عن جريب يا حبيب بيه.. 

همس حبيب: كلك خير يا أم سالم.. 

تنحنح مدثر مطالبا: الداكتور جال منطولش، هنجعد بره، ياللاه يا ست نچية.. 

تفهمت نجية الوضع، وخرجت مسرعة وخلفها مدثر، ليجلسا خارج الغرفة.. سأل مدثر في اضطراب: ايه الأخبار!.. 

هزت نجية رأسها في تأكيد: هم يا سي مدثر.. ربنا يرحمهم ع اللي عملوه فالناس وفيا...

على الرغم من سعادة مدثر لبراءة نجية أخيرا..

إلا أنه ما كان له إلا اظهار بعض التفهم لحزنها.. على الرغم من كل ما كان منهما.. فللموت رهبة على أي حال.. همس مدثر مؤكدا في نبرة مترددة: فكرك كان هامنني.. بس اهو كده جدام الخلج تحطي عينك فعين الكل.. لكن إن كان عليا أني.. فلو كانوا چابوا الدنيا بحالها وجالوا ما جالوا.. عمر كلامهم ما كان هيغير من رأيي.. انتي نچية.. ولا يمكن نچية تعمل حاچة شينة أبدا.. 

تطلعت نجية نحو مدثر لبرهة في نظرة امتنان شابها الحياء، فنكست رأسها خجلا.. وقد اتسعت ابتسامته لسعادتها.. 

طرق سراج باب غرفتها، ليدفع الباب ما أن أذنت له.. واقفا على الاعتاب في هوادة، متسائلا بنبرة حاول أن تكون ثابتة على قدر استطاعته: حمدالله بالسلامة.. شكلك احسن الحمد لله.. 

هزت منيرة رأسها في إيجاب لا تقدر أن تنطق حرفا خجلا، لكنها ردت على استحياء أخيرا: الحمد لله.. 

أشارت لاصابته، فابتسم مؤكدا: متعودين.. الحمد لله بخير.. على فكرة حبيب فاق وبقى كويس.. 

أكدت منيرة: الحمد لله.. اطمنت عليه أول ما الممرضة بلغتني.. 

وعلى ذكر الممرضة، هلت مندفعة لداخل الغرفة، هاتفة في تخابث: بقت زي الفل اهي يا سراج بيه.. 

وتطلعت نحو منيرة مؤكدة: ده على طول كان بيسأل عليكي يا آنسة منيرة.. واضح إن المعزة واحدة.. ده انتي مبطلتيش منادية عليه هو و حبيب اخوكي.. تعيدي وتنادي.. مبطلتيش منادية.. 

اضطرب كل من سراج ومنيرة لكلمات الممرضة، وحين استشعر سراج حرج منيرة وخجلها الذي أضاف على قسماتها لونا ورديا محببا أخفى شحوبها.. هتف بالممرضة في مرح: انتي اللي لو مبطلتيش هحبسك.. 

هتف الممرضة: عملت ايه!.. طب خلاص مش هتكلم تاني اهو.. ولا اقولكم.. أنا خارجة أحسن.. 

اندفعت الممرضة لخارج الغرفة، تاركة سراج يقف على الاعتاب هامسا: حمدالله ع السلامة مرة تانية.. عن إذنك.. 

هزت منيرة رأسها في حياء.. وما أن أغلق سراج باب الغرفة راحلا.. حتى علت ضحكاتها المنتشية.. 

خرج مدثر ونجية تاركي أنس الوجود بلا ساتر تتخفى ورائه عن مواجهة حبيب بعد اعترافها المدوي لنفسها بعشقه.. توقفت متسمرة موضعها.. قلبها يرتجف شوقا، ولسانها معقود خجلا، وعيناها مغشية النظرة دمعا.. ليهمس حبيب مشاكسا: طب مفيش حتى حمدالله بالسلامة!.. 

رددت أنس في صوت متحشرج تأثرا، فما كانت تعتقد أنها لهذه الدرجة قد افتقدت حتى نبرة صوته الرخيم تلك.. والتي زلزلت قلبها فرحا: حمدالله بالسلامة يا واد خالتي.. 

قهقه حبيب لبرهة، ممسكا موضع جرحه في ألم، ثم ابتسم في سعادة غامرة أزاحت عن قسمات وجهه المتعب شحوبه، وهو يتطلع لأنس الوجود في عشق.. وهو يراها اللحظة أنس آخرى.. أنس بروح جديدة.. روح عاشقة.. 

هامسا في محبة: يسلمك من كل شر يا بت خالتي.. 

اتسعت ابتسامتها.. فاضطرب قلبه.. لا وجعا من أثر جرحه.. بل عشقا أثر نظراتها.. التي تخلت عن عنادها.. وتخلصت من ثورة شكها.. وما عادت تحمل إلا الود الصافي.. 


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة