رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 50 - الجمعة 25/7/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الخمسون
تم النشر الجمعة
25/7/2025
ـ فلسفة الوجع..
حيفا..١٩٧٣..
صرخت رحيل في وجع لزوجها نعيم: هم دول اللي قلت ساعات وهنخلي بلدهم كوم تراب ونرجع نبقى أسيادهم!.. هم دول اللي قلت هناخد حقنا منهم ونرجع غصب عنهم بعد ما طردونا منها زمان ودلوقت!..
همس نعيم في خزي وهو منكس الرأس: اهدي يا رحيل!.. اهدي.. محدش عارف بكرة فيه ايه!..
هتفت رحيل معترضة: بكرة!.. بكرة فين تاني!. أنت عارف احنا بقينا كام سنة يا نعيم!. احنا كبرنا ومرتحناش فحياتنا.. وانت عشمتني إن دي أرض الراحة والاستقرار.. مشيت وراك زي الهبلة.. واترمينا فالكيب..وتس.. عشان فكرونا من يهود فرنسا.. لما جينا من هناك بعد هروبنا من مصر.. حتى الكيب..وتس كان تجمع كله عنطزة فارغة وناس احسن من ناس.. لا شفت مساواة ولا شفت عدالة.. أنا مش قاعدة يا نعيم.. أنا مسافرة رايحة لولادي فرنسا.. عايز انت تقعد خليك.. وقت ما الأمور تستقر واعرف أسافر مش هستنى يوم واحد.. هستنى ايه لما تتأكد وأنت شايفهم هنا وسطنا ف حيفا..
همس نعيم في نبرة مهادنة: اصبري بس يا رحيل نشوف الدنيا هترسى على ايه!.. القادة عمرهم ما..
قاطعته رحيل في إصرار: القادة!.. خلي القادة وكلامهم وحلم الدولة اللي تلم الشتات ده لك وللي زيك.. اللي بيصدق كلام ووعود فارغة.. أنا خلاص معدش ينفع معايا الكلام ده.. أنا من حقي الراحة في أواخر أيامي..
أنهت رحيل كلامها وخرجت تاركة نعيم وحيدا يقف متخاذلا أمام الراديو الذي بدأ يبث العديد من البيانات عن الحرب ومجرياتها.. والتي تؤكد بما لا يدع مجالا من الشك.. أن المصريين انتصروا بالفعل.. وبدأوا في طرد جيش الدفاع خارج سيناء.. بعد أن عبروا للضفة الشرقية للقناة بامتياز.. واستقروا هناك..
❈-❈-❈
باريس مطلع ١٩٧٤..
منذ أكدت كل وكالات الأنباء خبر قيام الحرب بين مصر واسرائيل، وهي لا يغمض لها جفن.. كانت بالقاهرة قبل الحرب بشهر واحد فقط، كان ناجي قد عاد كضابط عامل بصفوف الجيش المصري.. نزلت في شقته الصغيرة التي اختارها سكنا له وكم كانت فرحتها كبيرة وهي تراه وقد عاد من جديد ناجي الذي تعرفه.. ناجي الذي وقعت في حبه مجهولا مقنعا باسم وهوية مزيفة.. ثم ذابت بغرامه حين أعلن عن حقيقته.. وصبرت وانتظرت السنوات حتى جمع الله بينهما كشريكين حياة.. ناجي الشافعي الحبيب والزوج والفارس..
الآن لا تعرف ما الذي عليها فعله حتى تطمئن على حاله.. حتى يبعث لها أحدهم بخبر عنه..
أرسلت بقدر ما امكنها من الخطابات لعل أحد الأصدقاء يكون قادرا على طمأنتها.. لكن لا خبر.. قررت النزول للقاهرة حين استقرت الأحوال قليلا.. لتكون أقرب للحدث وقادرة على التصرف بشكل أفضل.. لكن كانت النتيجة واحدة.. لا أخبار..
دقات على باب شقة ناجي التي أصبحت مقر إقامتها بالقاهرة.. جعلتها تنتفض مندفعة نحو الباب، لعله هو.. فتحت في عجالة هاتفة باسمه، لكنها خرست ولم تكمل حين تطلعت صوب ذاك الضابط ومرافقيه، وهو يسأل في نبرة حزينة وعين دامعة: شقة حضرة العميد ناجي الشافعي!..
هزت إلهام رأسها بإيجاب في هوادة، ليستطرد الضابط بكلمات منمقة تسرد بطولاته.. لم تعي منها حرفا إلا كلمة (الشهيد).. مادا كفه بخطاب موجها لها، تناولته إلهام في آلية وما أن استأذن الضابط ومن معه بعد الكثير من التعازي وكلمات المواساة.. لتغلق إلهام الباب في بطء قاتل.. متطلعة نحو الفراغ لا تدرك ان كان ذاك حلما لا كابوس.. أم محض هزيان!..
سارت نحو أقرب مقعد في خطوات متخشبة، وجلست كبناية انهارت دون سابق إنذار.. تتطلع نحو بدلة ناجي الميري.. أو بالأدق.. (اڤروله) الأخير.. الذي خاض به معركته الأخيرة.. وكذا سلساله الفضي الذي يُنقش عليه اسمه ورقمه التسلسلي.. موضوعا فوقه.. وأخيرا.. ذاك الخطاب المغلق ظرفه بإحكام.. مكتوب عليه بحروف ظاهرة وبخطه المنمق.. إلى زوجتي الحبيبة إلهام رستم..
تركت كل هذا جانبا.. وفضت الخطاب بكفين مرتعشتين..
"إلهام..
بكتب لك الجواب ده واحنا جالنا أوامر بالعبور.. ومش هيوصلك وتقريه إلا لو ربنا أراد واسترد وديعته وكتب لي الشهادة زي ما كنت بتمنى طول عمري..
إلهام.. أول مرة أبقى مش عارف أقول ايه.. اللي كان بينا أكبر من أي كلام.. وأعظم من إني اختصره في سطور قليلة مكتوبة على عجل.. بس لأنها ممكن تكون آخر سطور ليا.. وآخر ذكرى مني.. عايز أقولك إن العمر لو اتعاد بيا من أوله.. هختارك إنتي.. مرة واتنين وتلاتة وعشرة.. وإن مهما كان عدد مرات رفض والدك لطلبي الجواز منك.. عمري ما كنت هيأس.. عمري ما كنت هبقى لواحدة غيرك وعمري ما اتخيلت إنك تبقى في حضن حد غيري.. وإن مفيش ست مهما بلغ جمالها ورقتها قدرت تحرك شعرة من راس ناجي ولا لفتت انتباه قلبه غيرك انتي.. إنتي سيدة اقداري كلها يا إلهام.. ويكفيني إننا نبقى رفيقين في الجنة بإذن الله زي ما كنا فالدنيا..
إلهام!. اوعديني اوعي تزعلي على استشهادي.. طول عمرك حاطة بالمقام الأول رغباتي وراحتي.. ودي كانت رغبة اتمنتها من رب العالمين.. تقبلي بُعدي.. وادعيلي.. وافتكري أيامنا الحلوة.. اللي كل يوم منهم عيشته فقربك كان حياة كاملة من هنا وسعادة..
بوسيلي الأولاد.. خلي بالك منهم يا حبيبتي.. وخلي بالك من نفسك..
هفضل أحبك لآخر نفس فصدري..
حبيبك.. وزوجك.. وشريك العمر الحلو..
ناجي الشافعي"..
غامت الرؤية أمام ناظري إلهام وهي تغلق رسالة زوجها الأخيرة.. اعادتها لمظروفها ثم تناولت سلساله الفضي واضعة إياه حول جيدها، وأخيرا.. ضمت لصدرها لباس ناجي الميري المخضب بدمائه، وما أن غرست رأسها في عمق النسيج الطاهر، تتلمس عبق زوجها الراحل بين الثنايا.. لعله يسكن ذاك الالم الجارف بأعماق روحها.. حتى انفجرت باكية في لوعة.. لا تصدق أن ناجي رحل للأبد ولن يعود..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٧٦..
في منزل رئيس التحرير الأستاذ سلام، بعد أن طلبته إحدى الجرائد المستقلة لرئاسة تحريرها.. وبدوره وضع فضل كمساعد له.. صرخ فضل منددا: اللي بيحصل ده عبث.. الإفراج عن المعتقلين المتطرفين بحجة محاربة الفكر الشيوعي اليساري لمجرد أن النظام مبقاش على وفاق مع السوفيت ده مش تفكير منطقي ولا سليم أبدا..
هتف سلام مهادنا: أهدى بس يا فضل إحنا مبقيناش صغيرين ع الحمقة دي.. وأنا معاك.. الموضوع محسوب غلط.. الناس دي مينفعش تتساب كده..
أكد فضل في ذعر: مينفعش تتساب أصلا!.. مع إني ضد الاعتقال وتكميم الأفواه وأنت اكتر واحد عارف أد ايه أنا طالبت بالحرية والتعبير عن الرأي.. لكن دول مش أصحاب رأي ولا مبدأ ولا هدفهم البلد دي ولا حرية ناسها.. دول لهم فكر تاني خالص.. خالص يا أستاذ سلام..
طرقات على باب الصالون، ليدخل محمد الابن الأصغر لسلام، والذي وضع صينية الشاي على الطاولة في هوادة مشاركا في الحديث: عندك حق يا أستاذ فضل.. اللي بيحصل فالجامعة ده عمرنا ما شفناه قبل كده.. انتشروا بشكل رهيب وشكلهم اصلا مريب.. لا ده لبسنا ولا دي أشكالنا.. وبيحرمو كل حاجة ومش قابلين حتى يتناقشو..
هتف فضل ساخرا: تناقش مين!.. اللي تناقشه ده حد فاهم وعارف اصول الفكر اللي هو معتنقه.. لكن دول عمر ما كان لهم فكر ولا هتقدر تجادل حد فيهم وتناقشه لأن محدش فيهم فاهم أصلا.. دول حافظين وبيرددو زي البغبغانات.. وفاكرين إن ده الدين ودي أصول الاسلام..
أكد محمد: صدقت يا أستاذ فضل.. الأول كانوا داخلين بشكل مسالم ودعوي.. ومن شاء فليؤمن.. ومن شاء فليكفر.. دلوقت ماشيين بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واللي له تلات مستويات.. هم مختاروش إلا التغيير بالأيد واستخدام العنف..
تطلع فضل نحو سلام متنهدا: سامع يا أستاذ سلام.. اللي بيحصل جوه أسوار الجامعة ومسكوت عليه هيطور ويبقى براها.. لو ملحقناش نفسنا وعدلنا الدفة.. يبقى شكلنا داخلين على مرحلة مش تمام.. الله أعلم هيكون ايه نهايتها..
هز سلام رأسه في إيجاب متفقا تماما مع توقع فضل الذي أدرك من سنوات معاشرته له أن رأيه لا يخيب.. وأن توقعاته تثبت صحتها الأيام..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٧٦..
الساعة بعد السابعة صباحا بقليل.. وصوت أم كلثوم من الراديو العتيق الموجود بقلب البهو داخل السراي.. يسري منغما: بالسلامة يا حبيبي بالسلامة.. بالسلامة تروح وترجع بالسلامة..
لتهتف أمينة مشجعة: انجزو يا ولاد هتتأخرو ع المدرسة..
دفعت أمينة بلفائف الشطائر المدرسية لجوف حقائب أولادها القماش.. دافعة بهما للخارج، مؤكدة على ولدها في صرامة: خد بالك على أختك يا حبيب.. تروح فيدك وتاچي فيدك..
هز حبيب رأسه متفهما، وهو يمسك بيد منيرة نحو الخارج.. ليسلكا الطريق الترابي الضيق نحو الجسر ليمرا باتجاه قلب الرسلانية حيث المدرسة الابتدائية..
سار الأمر كما يحدث يوميا، إلا أن ظهور محسن الحراني مستوقفا حبيب أمرا في سخط: أنت مش راچل ياد!.. كيف مخرچ اختك كده!..
تطلع حبيب نحو محسن متعجبا: أني راچل غصب عنك.. واختى زينة اهي.. مالها!..
هم محسن بالحديث، إلا أن ظهور رؤوف هاتفا في حنق: مالك بالعيال يا واد!.. كدك دول تتعرض لهم وتعمل عليهم راچل!..
صمت محسن الذي فشل في دخول الجامعة مؤكدا حين فشله أنها موضع فسق وفچور والكثير من المعاصي والسفور، حين صعد منبر الجامع ذات جمعة، ملقنا الناس اصول دينهم، متعللا أنه ابن سميح الحراني رجل البر والتقوى، وأنه درس على يد كبار العلماء من أصدقاء والده.. العلم الشرعي، وأصبح قادرا على التصدي للأمور المخالفة للشرع على حد زعمه، وأخيرا هتف مدعيا الثبات: عشان أني راچل حر مجبلش إن بت مسلمة تخرج كده.. بتك كبرت ولازما لها حجاب يسترها.. والافضل لها أن تقر في بيتها..
تطلع له رؤوف ساخرا: أنت بعجلك يا واد! بت مين اللي كبرت وعايز كمان تجعدها م العلام!.. دي منيرة يا دوب ٩ سنين!.. روح اعمل راچل على أهل بيتك وابعد عن عيالنا يا مخبل..
دفعه رؤوف في حنق، مبعدا إياه عن أولاده حبيب ومنيرة، بينما استمر محسن بلا كلل يؤكد: أني راچل على أهل بيتي.. واخواتي البنات مبيخرچوش م الدار، ولو ع العلام.. يكفيهم العلم الشرعي الخاص بكيفية تعامل الفتاة مع زوچها وارضاءه.. وده اللي بطلبه لمنيرة.. لأنها تهمني..
تطلع نحوه رؤوف متعجبا: تهمك!.. تهمك في ايه إن شاء الله!.. لا لك حكم عليها.. ولا..
هتف محسن مؤكدا: هيبجى.. بس أنت ترضى.. وكله على سنة الله ورسوله.. وأنا..
صرخ رؤوف مقاطعا، متطلعا نحو أولاده أمرا إياهما: روحو يا ولاد ع المدرسة ولو اتعرض لكم تاني المسدوح ده تعالو جلولي..
ابتعد الطفلان، بينما أمسك رؤوف في تلابيب محسن يهزه في شدة وهاتفا في حنق: لو اللي فهمته من كلامك ده صح، يبجى أنت اتچننت رسمي يا واد سميح!..
هتف محسن متعجبا: ليه هو الچواز على سنة الله ورسوله دي عيبة!..
صرخ رؤوف وهو يزيد في هزه: چواز ايه يا مخبل! أنت بعجلك!.. بت ٩ سنين لواحد شحط عدا ال ٢٠ سنة.. كنك اتخبلت!.. روح لأبوك جوله رؤوف رسلان بيجلك عدل لي صواميل عجلي شكلها فكت وعايزة حد يجرط عليها.. غور..
دفع رؤوف بمحسن مبعدا إياه في قرف، محذرا في نبرة صارمة: لو عرفت م العيال إنك اتعرضتلهم تاني، والله ما هيكفيني فيك روحك..
نكس محسن رأسه في صمت مبهم، مملسا على ذقنه الغير مهذبة عدة مرات في روية، قبل أن يندفع مبتعدا عن موضع رؤوف.. الذي عاد للسراي أمرا خفيرها: يا عرفان.. جبل خروج الولاد م المدرسة، تكون جدام البوابة، تچيب حبيب ومنيرة فيدك، واعمل حسابك كل يوم أنت اللي هتوديهم وتچيبهم..
هتف عرفان: طب ابعت الواد شبل يچيبهم يا رؤوف بيه وخليني جصاد البوابة!..
أكد رؤوف في صرامة: لاه، اللي بجوله تسمعه، سيب شبل هنا ع البوابة، وتبجي معاهم وهم رايحين وهم راچعين، ولو فمرة جرب منكم محسن واد سميح الحراني لأي سبب تاچي تبلغني حلا.. واعي لحديتي!..
هز عرفان رأسه في طاعة عمياء كعادته، ولم يسأل أبدا عن السبب كما لقنه مصباح والده.. من كيفية التعامل مع آل رسلان الذين عاشرهم عمره كله.. ولم يلق منهم إلا كل مودة واحترام..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
دخل الشركة لا يعلم ان كانت قد قطعت إجازتها وستبدأ العمل، أم أنها ما تزال قابعة بالمنزل للعناية باخيها المريض.. خاصة بعد أن علم أنها لم ترغب في إثارة ذعر أمها وقلقها على جمال، وخاصة أنها بالإسكندرية تحضر ولادة حفيدها الأول.. فما عاد من المنطقي أن تخبرها بمرض جمال فتظل قلقة على حاله وتتعجل القدوم دون أن تبقى بما يتطلب بقاءها جوار أختها الكبري التي وضعت لتوها مولودها الأول والذي تشتاق كثيرا لرؤيته.. فها قد أصبحت خالة للمرة الأولى..
ما أن خطت قدماه حجرة المكتب المشترك حتى رآها تجلس خلف مكتبها.. إذن فقد عادت.. لا يعلم لم أصبح اليوم مشرقا فجأة وما عاد له نفس ثقل ساعاته على نفسه حين كان غيابها يفرض نفسه بقوة!.. سؤال يتكرر كثيرا بباله في الآونة الأخيرة حين يهل بذهنه اي ما يخص مريم.. وما وجود لذلك إجابة.. ألقى التحية في تيه.. تنبهت هي له معتقدة أن أمر ما يجري فسألت في عفوية: مالك! في حاجة!..
تنبه بدوره لسؤالها، وتعجب من قدرتها على إدراك اضطراب نفسه دون أن ينطق.. مؤكدا مع ابتسامة بسيطة: لا مفيش.. أنا تمام..
بدأ العمل.. وغرق فيه كعادته، وأخيرا تنبه أنها لم تفتح اغاني عبدالحليم حافظ المعتادة حين تبدأ عملها، ما دفعه ليسأل في دهشة: اللاه!.. اومال فين عبدالحليم النهاردة! واخد إجازة ولا ايه!..
ابتسمت مريم مخرجة رأسها من خلف الحاسوب، وهي تفرك عينيها كطفلة على وشك النعاس، مؤكدة في نبرة محرجة: الصراحة.. حسيت ان كان عندك حق وان مش كل الناس هتعرف تركز في وجود أصوات جنبها.. فقلت احول ابطل العادة دي حتى ولو هنا فالشغل عشان مسببش ازعاج لحد أو تبقى حاجة مؤذية له وهو مش حابب..
ارتبك ممدوح حين تطلع لقسمات وجهها الناعس، لا يعرف ما الذي دهاه ليبتطلع نحوها بهذا الفضول وهي تقوم بفعل عادي.. فرك عينيها مع التثاؤب الخفيف.. ما حثه ليؤكد منتزعا حاله من دوامة الشعور بالرغبة في متابعة كل أفعالها الطفولية: لا.. مفيش أي إزعاج.. بالعكس إحنا اتعودنا، وحقيقي لما غبتي كان في حاجة نقصانا..
هتفت بعفوية دمرت دفاعاته دفعة واحدة: طب ما كنتو تفتحو عبحليم.. سهلة اهي!..
قهقه ممدوح على اقتراحها المنطقي، ونهض من موضعه، ممسكا بالكاسيت الصغير الخاص بها، واضعا شريط معين لعبد الحليم.. ليصدح صوته وهو ممدوح يؤكد وهو يتطلع صوبها: عبدالحليم من الكاسيت بتاعك له طعم مختلف..
تطلعت مريم نحو ممدوح في تيه.. لا تملك كلمات للرد. ربما للمرة الأولى بحياتها.. تتبعه بنظراتها المتعجبة، وعبدالحليم ما زال يؤكد.. كان يوم حبك أجمل صدفة.. لما قبلتك مرة صدفة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
تطلعت أنس من نافذتها نحو الرسلانية ومعالمها التي أصبحت محفورة في جزء خاص جدا بأعماقها.. تبتسم في راحة لذاك النسيم الذي داعب وجنتيها جاعلا إياها تغمض عينيها في انتشاء.. تعب من هواء العصاري المحمل برائحة الأرض البكر التي حُرثت لتوها استقبالا لموسم غرس البذور..
لا تدرك.. والإدراك يفقد العفوية لذتها وتأثيرها.. أن هناك هائم في لوحة ترسم هي تفاصيلها الدقيقة.. قابعا بالاسفل نظراته معلقة بحالة الهيام التي تتجسد قبالة ناظريه وما عاد له القدرة على مقاومتها فظل معلقا بها في تيه.. حتى تنبه أن هذا لا يجوز.. فهم بالنهوض مغادرا التعريشة في هوادة متحاملا على جرحه..
تنبهت أنس بدورها لتوجه حبيب نحو البوابة مغادرا السراي، ما حثها لتندفع لتلحق به، هاتفة تسأله في استنكار: أنت رايح فين على كده!..
توقف حبيب متطلع نحوها في تعجب، متسائلا بنبرة ساخرة: وه!.. خبر ايه يا أستاذة!.. ايه السؤالات الغريبة دي!.. خارچ.. ايه فيها دي!..
أكدت أنس: الدكاترة محرجين ع المجهود الشديد وقالوا لازم الراحة وخصوصا إنك اصريت تخرج قبل ميعادك من المستشفى.. يعني المفروض تبقى دلوقت فسريرك.. مش سارح وواخد فوشك معرفش رايح فين!..
اتسعت ابتسامة حبيب متسائلا في مزاح: هو أنت حد مسلطك عليا، جولي بس هو مين عشان اخلص منه! ربنا ما يحكمك على رجبة حد يا أستاذة..
اتسعت ابتسامة أنس معترضة: قصدك إني علقة وزنانة!.. وماله.. كله عشان مصلحتك يهون.. أدخل ارتاح بقى..
هز حبيب رأسه رافضا: أني هخرج ارتاح.. الرجدة بتتعبني بزيادة.. هتمشى على خفيف وأول ما أحس بتعب هرچع حلا..
هم بالمغادرة، إلا أنها تبعته مؤكدة: طب هروح معاك.. اهو أنا كمان اتمشى شوية..
هز رأسه معلنا موافقته الضمنية لمرافقته مبتسما لفعلتها وهي ترفع ذاك الشال الخفيف من الشيفون الذي كان ملقا على كتفيها لتضعه على رأسها تستر به شعرها الذي على الرغم من أنها كانت ملتزمة تمام الالتزام من اليوم الأول الذي فيه وطأت قدماها الرسلانية أن يكون مجموعا خلف رأسها في احتشام.. لكن تلك الفعلة جعلته يستشعر راحة داخلية أكبر مؤكدة أنها أصبحت أكثر وعيا وتفهما لطبيعة المكان وطبائع ناسه..
سارا في هوادة باتجاه الطريق المفضي للبراح المزروع والمنثور باللون الأخضر من موضعهما حتى سفح ذاك الجبل البعيد.. كانت خطواتهما متمهلة حتى لا يشعر حبيب بالتعب.. ما جعل الأجواء أكثر سلاما وسكينة.. لم ينطق أحدهما حرفا غلفهما الصمت بردائه.. لكن حتى الصمت في صحبتها له طعم مختلف.. صمت حلو يحمل بشارات الانس والطمأنينة.. ويجعل من رفقتها عالم متكامل في حد ذاته.. عالم مبهر وبسيط في نفس ذات اللحظة..
هم بالحديث ليقطع الصمت لكن ذاك الشدو القريب نسبيا لأحد عمال الأرض الذي على ما يبدو قرر المبيت بها، يسلي حاله ببعض الاهازيج القديمة التي تعينه على قضاء الوقت وحيدا.. حتى تجتمع شلة الصحاب ليلا على أطراف الأرض حول ركوة الشاي..
علا الصوت مترنما:..
فى يوم ٨ / ٤ ... و الجمح لسة أخضر..
الغز چم عـ البلد.. يا دى النهار الأغبر..
أخته شفيجة تجول.. أهرب يا متولي..
يجول ده مش فعل من شيم الرچال و محال..
همست أنس الوجود متسائلة حين أشار لها حبيب لتجلس على إحدى المساطب تحت شجرة الكافور الضخمة: هو بيقول ايه!..
رد حبيب مفسرا: بيحكي حكاية شفيجة ومتولي.. عرفاها!..
أجابت في حماس: مش دي فيلم باين!..
ابتسم حبيب مؤكدا: ايوه.. اتعملت فيلم.. لكنها حكاية جديمة في ناس بيجولو حصلت بحج فاسيوط... وفي ناس يجولو لاه.. اهي حكاوي. بس اللي واعي هيعرف إن كانت صدج ولا حدوتة من الحواديت..
همست أنس متعجبة: هي هتفرق!..
ابتسم حبيب مؤكدا: طبعا يا أستاذة.. لو حصلت يبجى اهو تذكير باللي حاصل.. ولو حدوتة محصلتش دوري ع الحكاية المخباية وراها.. تعرفي اللي حكاها رواها ليه..
همست باسمة: هو كل حكاية لازم يبقى لها معنى وراها.. ما هي ممكن تبقى حكاية وخلاص!..
همس حبيب باسما: إحنا عمرنا ما يكون حكاوينا فارغة يا أستاذة الفلسفة.. كل حكاياتنا مليانة بكتير بس للي عايز يفتح عيون جلبه هيشوف..
سألت أنس الوجود في تعجب: هو أنت خريج ايه يا حبيب بيه!.. إزاي مجاش على بالي أسألك على حاجة مهمة كده!..
اتسعت ابتسامة حبيب متعجبا: أصلك مهياش مهمة صح.. اهو كله علام..
أصرت متسائلة: لا حقيقي عايزة أعرف.. أنت خريج ايه! ولا مكملتش!..
قالت كلمتها الأخيرة متوجسة، فقد خطر على بالها ذاك الخاطر فجأة.. فعلى قدر معرفتها به.. هو يمكنه أن يترك الدراسة من أجل مصالح العائلة ومباشرة مسؤولياتها.. بلا لحظة ندم واحدة..
تطلع حبيب نحوها، معترفا: أنا زميل يا أستاذة.. خريج آداب قسم فلسفة..
شهقت أنس الوجود في صدمة، غير مدركة كيف لم تفطن أن ذاك الرجل كان مجسدا حقيقيا لفكرة التماهي مع البيئة حد الكمال.. ذاك المتكيف مع الظروف والمواجه للتحديات كما الماء إذا ما وضع في أي إناء مهما كان شكله أو حجمه.. يستقر داخله بكل سلاسة.. هادئا.. وديعا.. أملس السطح..
سألت أخيرا بصوت متهدج: وعلى كده فادتك دراسة الفلسفة!..
ابتسم مؤكدا: مفيش علم ملوش فايدة.. بس اللي عرفته صحيح إن الفلسفة مش فالكتب يا أستاذة.. مهياش أرسطو وسقراط وابن رشد.. ولا هي مدارس واستنباط واستقراء.. وشك ويقين.. الفلسفة كلها حواليكي.. الفلسفة هي الحياة..
همست تسأل: قصدك الفكرة اللي بتدير بها الحياة!..
همس بدوره: تجدري تجولي كده.. الفلسفة هي احساس الراچل بإن الدنيا چاية عليه يجوم ايه.. يحاربها!.. لاه.. يبجى غشيم وهينكسر سيفه في أول عركة.. يجوم يعمل ايه.. يغني لها.. يسعد نفسه حتى فعز وچيعته.. ينام محني على حرچه ولا يدور يشحت به الشغجة والعطف من عيون الناس.. في منهم اللي شامت وبيضحك عليه لما يولي ضهره.. وفي منهم اللي حالهم كيف حاله محلتهمش إلا جولة معلش.. دي بجى.. فلسفة الوچع يا أستاذة..
تطلعت أنس نحوه في انبهار، ولم يسعها أن تنطق حرفا، وذاك الشادي يترنم:
لا يا شفيجة .. الحجيجة مش كدة فوجي..
دياب أهو چاى متلفح بتوب العز.. سوق المهابة چبر
اكفى ماچور ع الخبر.. والچرح مهما صبر.. هييچى يوم وينز
والكل بيولي.. فينك يا متولي!..
همس حبيب متسائلا: فينك يا متولي!..
كلمات الحكاية الشعبية استقرت بوجدانها، وبدأت تستشعر كلماتها اللحظة بوقع جديد.. وأدركت بالفعل أن لكل حكاية مغزى.. لكن يا ترى.. ما هو مغزى الحكاية!.. حكايتها!..
يتبع...