رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 51 - الأربعاء 30/7/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الواحد والخمسون
تم النشر الأربعاء
30/7/2025
خارج حدود المنطق..
القاهرة مطلع ١٩٧٧..
وقف فضل بالنافذة جوار رئيسه الأستاذ سلام، يتطلع كلاهما لما يحدث بالخارج، حيث الشارع الذي يتظاهر فيه المئات بل الآلاف من أبناء الشعب المصري.. جراء ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية..
هتف سلام متعجبا: ايه اللي بيحصل ده!.. الدنيا شكلها هتولع والموضوع مش هيعدي على خير..
أكد فضل في نبرة حزينة: نتيجة منطقية لقرارات مش محسوبة..
هتف سلام مؤكدا: بس السادات كان بينفذ نصائح البنك الدولي عشان يعرف ياخد قروض لبناء البلد بعد الحرب.. برضو هدفه كويس.. واحنا لازم نستحمل شوية..
تنهد فضل مفسرا: أنا مش بتكلم على نصايح الشيخ البنك الدولي.. اللي واضح من نصايحه إن سره باتع اهو.. أنا بتكلم على سياسات الانفتاح الاقتصادي يا ريس، دي قرارات جت بسرعة ومش محسوبة ومكنش لازم تطبيقها بالسرعة دي او حتى بالكيفية دي.. احنا بلد عاشت ما يقارب ربع قرن تقريبا في ظل الاشتراكية واللي لحد خلت عبدالناصر يقوم بمشاريع قومية جيدة وخلانا نعتمد ع الإنتاج المحلي عشان محدش يلوي دراعنا لا امريكا ولا روسيا ولا يحزنون.. ودي تحسب له.. فجأة كده في يوم وليلة يجي السادات يقوم فاتح حنفية الرأسمالية فجأة مغرق السوق ببضايع ومنتجات المواطن العادي ميعرفهاش.. ويتحول المجتمع مع كل الاغراءات دي لمجتمع مستهلك بعد ما كان مجتمع منتج مكتفي بالصناعة المحلية ومفتخر بها.. ويتخلق فجوات بين طبقات المجتمع بعد ما كان المتوسط زي الاعلى زي الأقل كله بيلبس كاستور وباتا.. لمجتمع بتتسع الهوة بين طبقاته اللي معاه يلبس المستورد واللي ممعهوش يع يلبس الصناعة المحلية اللي كانت فخر لكل مصري.. شايف إحنا رايحين فين يا ريس.. واللي بيحصل فالشارع ده رد فعل طبيعي.. لسياسات عشوائية جاي البنك الدولي يمليها علينا لا تتناسب مع طبيعة شعوبنا.. وسواء كان ده بجهل أو متعمد.. لكن الخطأ على اللي يقبل بها..
تنهد سلام مقتنعا بكل كلمة قالها فضل، متطلعا بقربه لخارج النافذة وتلك الهتافات المتعالية من الحناجر الغاضبة تعترض في حنق: يا سادات ليه معلش.. كيلو اللحمة ب ٦٠ قرش..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٧٧..
أمر رؤوف ولده البكر حبيب بالذهاب لدار الشيخ معتوق ومصاحبته للسراي حتى يتجهوا جميعا نحو المسجد لصلاة الجمعة، وما أن وصلوا الجامع حتى توجه رؤوف مصاحبا الشيخ معتوق نحو موضع المنبر ليبدأ في خطبة الجمعة بعد تحية المسجد.. لكن فجأة ودون سابق إنذار ظهر محسن الحراني بجلبابه الأبيض القصير ولحيته الغير مهذبة متجها نحو المنبر يهم باعتلائه.. لكن رؤوف كان له بالمرصاد.. فقد جذبه رؤوف في شدة معيدا إياه للصف الأول مقدما الشيخ معتوق ليعتل المنبر في بطء.. لكن محسن لم يستسلم ودفع نفسه بقوة وبشكل مباغت ليعتل المنبر في صلف، ليأمره رؤوف حانقا: انزل يا واد بلا لعب عيال خلي الشيخ يطلع للخطبة..
هتف محسن محتجا: وليه مخطبش أني الچمعة! عندي علم وفصاحة.. يبجى ليه لاه!..
هتف عزام الحراني مؤيدا: ايوه سيبوه، مهياش بالسن.. ومحسن ما شاء الله عليه.. ميتخيرش عن أبوه.. راچل صالح ويعرف ربنا.. ربنا يچيبه من سفره بالسلامة..
سخر رؤوف: ايوه، اومال!.. يعرف ربنا!.. بس ألا جول لي يا عزام يا حراني خالك سميح بيه سفرياته كترت كده فچأة.. يكون بيروح فين!..
ثم حاد رؤوف ناظره نحو محسن، مستطردا: يكون اتچوز!.. مكان ام نچبب الله يرحمها فضي جال يچبب بدالها عروسة چديدة!..
هتف محسن مؤكدا في لا مبالاة: وماله.. يحج له.. راچل ومجتدر يتچوز بدل المرا أربعة..
سخر رؤوف مجددا: بس يا رب متكونش بت عيلة عندها تسع سنين ويرچع يجول وماله ويدي تفسيرات ملهاش أي لازمة!..
أدرك محسن إلى ما يرمِ رؤوف، بينما هتف عزام في حسن نية: لاه، سميح ميعملش الكلام الماسخ ده.. ويوم ما يتچوز هيختار اللي على سنه ومجامه..
هتف أحد الرجال الأكبر سنا، أمرا محسن بالتنحي عن المنبر لصالح الشيخ معتوق حتى لا ينقضي وقت الظهر، ويفوت وقت الصلاة.. ما دفع محسن مرغما للنزول عن المنبر تاركا إياه لبسيخ معتوق ليلق خطبتيه الأولى و الثانية.. قبل أن يهبط عن المنبر معلنا أن قد حان وقت الصلاة ليصطف الجميع في خشوع.. لتنهي صلاة الجمعة وقد كان محسن بن سميح الحراني أول من غادر المسجد في عجالة..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٧٧..
تعالت الضحكات على بعض النكات الملقاة من داخل إحدى الزنازين داخل سجن طرة.. لكن بلا أي إنذار تعالى صوت الإذاعة الداخلية للسجن، معلنة في نبأ كان غريبا على مسامع الجميع.. مؤكدا تواجد الرئيس السادات بالقدس وعزمه على القاء خطاب في الكنيست الإس..رائيلي.. عم الصمت لبرهة وكأن السجن قد خلا من قاطنيه.. ليسأل فضل من زنزانته في تعجب: هو اللي سمعناه ده صحيح!.. الريس هناك.. راح برجليه!..
همس أحد السجناء: ده اللي باين، أنا كنت فاكر إن الكلمة اللي قالها فمجلس الشعب انه عنده استعداد يروح للقدس نفسها ده مجرد كلام للاستهلاك الإعلامي.. لكنه عملها فعلا.. دي مخاطرة كبيرة!.
هتف فضل مؤيدا: مخاطرة كبيرة وهتفتح علينا أبواب مقفولة كتير.. وخطوة مش هتعجب ناس اكتر .. ربنا يستر.. محدش عارف هو ناوي على ايه بعدها..
هتف أحد المساجين: هيكون ناوي على ايه!.. شوية و هتلاقي السجن ده مش ملاحق ع الشباب المعارض لزيارته دي وهيشرفونا هنا.. نتونس بهم ونعرف منهم حال الدنيا بره بقى عامل إزاي!..
ساد الصمت لبرهة وصوت السادات يصدح من فوق منبر الكنيست الإسرائيلي بكلمات الختام بخطابه:
"فيا أيتها الأم الثكلى، في مصر، وفي إسرائيل، وفي كل مكان، لا تفقدي إيمانك بالسلام. لا تفقدي إيمانك بأن هذا العالم، رغم قسوة السير فيه، ورغم عذابات الطريق، ورغم آلام القلب، قادر على أن يحمل إليكِ بشرى السلام. بشرى الأيام التي سيتحقق فيها هذا الحلم الكبير. الأيام التي سيتحول فيها الحلم إلى حقيقة، تعيشها الأسرة البشرية جميعًا.
إن هذه هي رسالتي إليكم، إن هذه هي عقيدتي التي لا تتزعزع، إن هذا هو إيماني الذي لا يتبدد. إيماني بأن السلام لا يزال ممكنًا، بل إنه لا يزال هو الخيار الوحيد، لكل من يتطلّع إلى المستقبل، ويؤمن بأن الله خلق لنا جميعًا هذا العالم، لكي نحياه لا لكي نموت فيه بحروب لا طائل من ورائها، إلا الدمار."
ساد الصمت من جديد، ليهتف فضل مؤكدا: بعد الكلمة دي أنا بقولكم اهو .. إن السادات مش هيسكت وزيارته للقدس دي مجرد بداية.. اللي جاي هيكون اتقل..
لم يرد أحدهم.. ليهتف أحد المساجين، حانقا: يعمل اللي بعمله بقى.. إحنا في أيدينا ايه إلا الرمية هنا.. ما تسمعنا حاجة يا شيخ امام.. لا اسكت الله لك حسا.. ولا نجم مش مشرفنا هو كمان.. تعملو لنا حاجة بمناسبة زيارة السادات الميمونة دي!..
هتف أحد المساجين: لا كفياكم بقى.. عايزين حاجة كده سلطنة.. نبطل سياسة شوية.. القلب تعب يا جماعة.. ريح قلوبنا شوية يا شيخ..
هتف الشيخ إمام مترنما:
وإن كان أمل العشاق القرب.. أنا أملي في حبك هو الحب..
وإن غبت سنة.. أنا برضه أنا.. لا أقدر أنساك، ولا ليا غنى..
ولا أتوب عن حبك أنا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٧٨..
أصبح هو ورفاقه بهيئتهم الغريبة المخالفة لما يرتديه الكثيرون في النجع مظهرا من مظاهر القلق والريبة.. فما مر بصحبتهم إلا وتوجس الخلق وتنحى الناس جانبا اتقاءً لشرهم.. توقف محسن اللحظة وخلفه مرافقيه، أمرا أحدهم في صلف وهو يقف على عتبة تعريشة الجريد المسماة مجازا مقهى: تعالى اجفل المدعوج ده اللي طول النهار والليل ملوش إلا نشر الفسق والفچور من أغاني خليعة عن العشج والغرام..
هم تابعه بالتنفيذ إلا أن صبي المقهى ذاك الشاب الذي يشارك محسن العمر ذاته، منعه في حزم، هاتفا: لاه، نجفله ليه! هو من ميتا الراديو حرام.. جبتوها منين دي!.. ما طول عمرنا بنسمعه.. فچأة كده بجي حرام وممنوع!..
هتف أحد تابعي محسن: ايوه حرام.. المعازف حرام.. المعازف مزامير الشيطان.. عليك الطاعة ولا تناقش الشيخ..
هتف أحد رواد المقهى في عفوية: شيخ مين!.. ده الشيخ معتوج مش جاعد معانا.. شوية وياچي يتسلطن على صوت الست الله يرحمها.. وهي بتجول إنما للصبر حدود..
هتف محسن صارخا: أخرس.. أنت هتعيد الفسق ده كمان!.. مفيش راديو في القهوة من بعد النهاردة.. بلا جلة جيمة..
هتف صبي المقهى معترضا: لاه.. الراديو ده اللي مخلي النهار يعدي فالشجا ده وبيهون علينا وهو اللي بيچمع الزباين.. نجفله ليه!.. مش هيحصل.. على چتتي..
هتف محسن مندفعا نحو الفتى صارخا: يبجى أنت اللي اخترت الحكم على نفسك يا عدو الله..
هم محسن بضرب الفتى بعصا غليظة كان يحملها متكئا عليها في عنجهية كاذبة، إلا أن صرخة فضل بالمقابل، اعادته لرشده وهو يزعق أمرا: عندك يا واد سميح! ايه.. أبوك طالجك ع الخليج ليه!.. مش الاولى يربط توره الهايچ ده بدل ما جاعد يبدل فالحريم!..
ارتفعت ضحكات رواد المقهى لسخرية فضل الذي هل عليهم بعد غياب أشهر طويلة بالمعتقل كما هي عادته، ليرد محسن حانقا: لولا إنك كد أبوي كنت..
قاطعه فضل ساخرا من جديد: كنت ايه يا واد الحراني! علجتني فالفلكة وعلمتني ديني من أول وچديد يا واد يا مؤمن!..
ارتفعت الضحكات من جديد، ليهتف محسن مؤكدا: مش عيب لما نجول ايه الحلال وايه الحرام.. من رأى منكم منكرا يا عمي ولا ايه!..
هتف فضل متهكما: الحلال والحرام من وجهة نظر مين يا شيخ محسن! مش بجيت شيخ واديت لحالك اللقب كده چدعنة.. وانت كل اللي حافظه من قرآن ربنا ميچيش جزء عامة اللي حفظهولك الشيخ معتوج حامل كتاب الله.. اللي مبجاش عاچبك وبتسابجه ع المنبر وإمامة المصلين.. ومنكر ايه اللي بتغيره.. فين المنكر اصلا!..ولا هتحرمو علينا العيشة!.. وبعدين مش تغيير المنكر اللي من وجهة نظر سيادتك منكر.. له ٣ مستويات في الحديث الشريف اللي أنت بتستدل به.. ولا هو (بيده) هي دي اللي ماشية معاكم على طول الخط.. ده أنت حتى مفكرتش تقنع الناس بكلمتين قبل ما تصدر حكمك.. وعايز تنفذ.. وعندك استعداد تموت اللي اعترض.. هي دي مش نفس برضك يا شيخ محسن ولازما حفظها.. ولا أي حد بره جماعتكم دمه مهدور وحلال فيه الجتل!..
لم ينتظر محسن لحظة واحدة بعد كل ما سمع من فضل وما استطاع أن يجدحجج مناسبة للرد عليه ما دفعه للهرولة مبتعدا.. وخلفه أتباعه ومن هم على شاكلته، ليهلل رواد المقهى في سعادة لعودة فضل سالما، والذي شوح لهم مغادرا نحو السراي بعد أن أمر صبي المقهى بفتح الراديو عاليا ليصدح صوت أم كلثوم معاتبا:
حيرت قلبي معاك.. وأنا بداري واخبي..
قول لي اعمل ايه وياك.. ولا اعمل ايه ويا قلبي!..
ليدندن فضل في سلطنة وهو يدخل للسراي متجها نحو الحديقة حيث يعلم أن فوز تجلس هناك في مثل هذه الساعة.. ليعلو صوته صادحا:
بدي اشكيلك من نار حبي.. بدي احكيلك ع اللي فقلبي..
واقولك ع اللي سهرني.. واقولك ع اللي بكاني..
صرخت فوز منتفضة ما أن سمعت صوت فضل مندفعة نحوه في شوق جارف، تضمه بين ذراعيها، ليسلم لها نفسه طواعية تاركا لها وصلة الترحيب التي تليق بشوقها المجنون وهي تقبل كل جزء في وجهه لا تصدق عودته سالما، حتى همس لها أخيرا مازحا: العيال موجودة يا فوز!.. يجولو علينا ايه ف السن دي!..
تنبهت فوز فابتعدت على مضض وصوت ضحكات رؤوف ترتفع في سعادة وهو يستقبل أبيه بين ذراعيه في فرحة مرحبا بعودته..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
فتح نصير تلك الخزينة السرية بحجرة مكتبه بالفيلا ليضع أحد الملفات الهامة.. وما أن وضعه وهم بإغلاق الخزينة حتى عبث بكفه داخلها لبرهة قبل أن يفطن لغياب أحد الملفات التي لا تخرج من هذه الخزينة أبدا.. ذاك الملف فائق الأهمية الذي يتوقف عليه الكثير..
ترك كل شيء موضعه واندفع نحو تلك الكاميرا التي كان قد وضعها سرا بأحد أركان مكتبه دون علم مخلوق حين قرر أن ينقل نشاطه مؤقتا للفيلا بعد خروجه من المشفى.. وعودته لاستئناف عمله.. بعيدا عن مقر شركاته..
اخذ يعبث في بعض الأزرار متطلعا نحو الشاشة التي تسجل كل ما حدث بهذه الغرفة لحظة بلحظة.. أحداث وأحداث مرت أمامه حتى ظهرت هاجر فجأة وهي تتسلل صوب الخزينة في ليلة ما.. شهق نصير في صدمة وهو يتابع ما تفعله هاجر وقد فتحت الخزينة بلا مشقة فعلى ما يبدو اسعقها الحظ يومها وكان عقله غائبا حتى ينسى أو حتى يغفل عن غلق الخزينة بإحكام.. لتمد هاجر يدها عابثة بمحتويات الداخل مؤكدة أنها تبحث عن شيء ما بعينه.. ملف محدد هو ما أخرجته في حرص متطلعة نحو محتوياته في عجالة لتدسه بطيات ثيابها قبل أن تدفع باب الخزينة لتغلقه بشكل محكم حتى لا يعود هو مدركا غفلته يتأكد أن لا شيء قد فُقد.. فيفسد ذلك عليها سرقتها للملف..
تطلع نصير نحو الشاشة وهو يرى هاجر تغادر غرفة المكتب في هوادة وحذر متسائلا في حنق وغصة في حلقه: ليه يا هاجر تعملي كده! ولمصلحة مين!.. ليه!..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
هتف مدثر في نبرة مترددة: بجولك ايه يا حبيب!.. أني خلاص فاض بيا.. عايز اتجدم لنچية حتى اخطبها.. الواحد ما صدج إن موال چوزها وأخوها ده خلص على خير.. وبجت راسها مرفوعة فالبلد كلها.. يبجى ايه اللي فاضل!..
أكد حبيب من بين ضحكاته، وهو يضع كفه على موضع جرحه الذي بات على أعتاب الشفاء والالتئام: باجي عدتها يا أخ!.. هي معدودة أرملة دلوجت، ولها عدة اربع شهور وعشر أيام.. معداش منهم من يوم ما راح المجحوم چوزها إلا هو الشهر.. باجي لك تلات شهور وعشر أيام بالتمام و الكمال يا حبيب أخوك..
هتف مدثر معترضا: كتير يا حبيب.. بص اجولك.. اخطبها ال تلات شهور دول وبعد ما يخلصوا نبجى نكتب.. ايه جولك!..
هتف حبيب مازحا: ايه جولي ف ايه يا مخبل انت!.. هو أني العروسة!.. ده يرچع لها هي.. مش چاي تسألني أني!..
سأل مدثر في اضطراب: طب ده أني كنت رايدك تفاتحها.. هي برضك شيفاك كبيرها.. ولا ايه!..
هتفت أنس الوجود باسمة وهي تقر: أنا هفاتحها عشان خاطرك يا أستاذ مدثر!
هلل مدثر فرحا: صح يا أستاذة!.. هتفاتحيها أنت صح!..
اتسعت ابتسامة أنس وهي تجلس على اريكتها المعتادة مؤكدة: ايوه هفاتحها، واطلب لك ايديها واضمن لك موافقتها كمان.. ايه رأيك!..
انتفض مدثر تغرقه الفرحة: ربنا يبارك لنا فيكي يا أستاذة.. والله فيكي الخير.. مش عارف اتشكرك كيف!..
قهقهت أنس الوجود مازحة: أجل الشكر بس لحد ما اجيب لك الموافقة.. ولا ايه!..
هز مدثر رأسه متفهما: لاه، تشكري على كل حال يا أستاذة..
وما أن هم بالمغادرة إلا وعاد متسائلا في حرج: مجلتيش يا أستاذتنا.. هتكلميها ميتا!..
امسكت أنس ضحكاتها، مؤكدة: في أقرب فرصة.. ممكن بكرة ولا بعده بكتيره..
هتف مدثر: يبجى بكرة بالمشيئة يا أستاذة.. خير البر عاجله..
واندفع مدثر مبتعدا حتى لا تجادله أنس مقرا الميعاد المناسب وحده، دون أن يترك لها حرية الاختيار ما دفع أنس لتطلق ضحكاتها التي كتمتها وهي تراه يبتعد مهرولا..
كان حبيب يراقب ذاك الانسجام التام الذي خلقه وجودها حين هلت مع الجو العام الذي تغير عبقه وطل انسه.. وظلل إناسه على خلاياه فبات مستمتعا لكل شاردة وواردة تصدر عنها حتى تلك الضحكات التي رفرفت حرة حوله حين أطلقتها منذ لحظات بدلت كيمياء مزاجه للانتشاء..
تنبهت أنس لشرود حبيب، ما دفعها لتسأله في اضطراب: أنت سرحان في ايه كده!..
أشار حبيب نحو غرفة جدتهما القريبة نوعا ما، وصوت أم كلثوم يعلو مواسيا، أهل الحب صحيح مساكين.. صحيح مساكين..
ليهتف حبيب مرددا الكلمات مستطردا: ايوه.. كنها بتشرح حال مدثر.. ونچية.. صح.. والله مساكين..
ثم استكمل باسما: بس ايه كده!.. واثقة جوي من رد نچية.. مش يمكن تجول لاه!..
أكدت أنس باسمة: لا.. هتقول اه.. هتوافق.. يمكن تمانع شوية لحد ما عدتها تخلص.. موضعها ينام.. ساعتها ممكن تقبل لأني عارفة إنها ميالة لمدثر.. وهو الصراحة يستاهلها..
سأل حبيب: شكلك مالية يدك جوي.. هي جالت لك حاچة!.. نطمنو الواد الحيران ده اللي جاعد لا على حامي ولا على بارد!..
قهقهت أنس مؤكدة: ايوه شفته.. والله صعب عليا عشان كده قلت هكلمها.. بس هي مقالتش حاجة.. بس في أمور الواحد مش لازم ينطقها بلسانه عشان تتعرف..
همس حبيب مازحا: ادي الفلسفة واللي خدناه منها..
همست أنس مؤكدة: لو على الفلسفة يبقى لازم اشوف بعيني أفعال واسمع بودني الاعتراف عشان اصدق بالمنطق إن هي بتحمل مشاعر لمدثر وإلا مصدقش... لكن حاجة من الحاجات اللي اتعلمتها هنا إن في أمور قياسها خارج حدود المنطق.. لكنها موجودة ومحسوسة.. يمكن اكتر من لو تم الاعتراف بها.. مشاعر لا بتخضع لقياس ولا وسائل .. مدلول مجرد.. أعظم من أي حقيقة مؤكدة.. دي بقى يا واد خالي.. أنا سمتها.. فلسفة العشق.. يا بتاع فلسفة الوجع.. عن إذنك..
تاه حبيب في التفاصيل والكلمات وهي تنطقها بهذه الحماسة حتى أنه ما انتبه لاستئذانها إلا بعد ابتعادها عدة خطوات، ليستوقفها متسائلا بأول سؤال ساذج قفز لذهنه الضبابي الفكر في تلك اللحظة: مش هتجعدي تشربي الشاي!..
توقفت أنس واستدرات تجيبه: لا.. شربت شاي كتير النهاردة.. تصبح على خير..
همس حبيب وهو يتابعها بناظريه حتى غابت داخل المندرة: وإنتي كل الخير..
ظل جالسا وحيدا، عيونه معلقة بضوء نافذة حجرتها حتى أطفأته مؤكدة أنها خلدت للنوم بالفعل.. ما اشعره بفراغ عجيب وكأن الأرض قد خلت من قاطنيها.. ذاك السكون الذي حل ما أن شعر بغيبتها جعله يدرك أنها باتت تحتل مكانة غالية بقلبه ما وصل لها مخلوق.. وإنه بالفعل.. إنه..
انتفض حبيب فزعا.. لا رغبة لديه في مواجهة نفسه.. مندفعا للداخل مقررا النوم بدوره حتى يوقف سيل المشاعر التي تدفقت داخله نحوها.. وسيل الاسئلة عن ماهيتها..
دخل السراي متجها صوب الدرج الداخلي إلا أن جدته صفية استوقفته منادية: يا الحبيب!..
عاد منحنيا بالقرب من قدميها ملثما كفها المتغضنة في مودة، هاتفا في نبرة مازحة: لساتك صاحية يا صفية!.. مش خطر ده ع اللي كدك يا چميل!..
قهقهت صفية في ود مؤكدة: اللي كدي نامو من بدري يا حبيب أني معرفش أني جاهدة فالدنيا لحد دلوجت ليه!..
هتف حبيب معترضا: وااه يا ستي! ده كلام برضك!.. ده انتي بركتنا نوارة السرايا والنچع كله.. ده احنا عايشين على حسك يا غالية.. وكل همنا راحتك وسعادتك..
هتفت صفية منتهزة الفرصة: رايد سعادتي.. اتچوز..
هتف حبيب متطلعا لها في صدمة: اتچوز!.. ايه النغمة الچدبدة دي يا ستي!.. چواز ايه بالديون اللي على كتافي دي كلها.. وكمان منيرة!.. اتچوز جبل ما اطمن عليها فعصمة راچل يصونها.. لساتها بعيدة جوى الحكاية دي يا ستي..
همست صفية في مكر: وهي بجت جريبة يا ولدي.. جريبة جوي.. متفتهاش تبعد.. كفايانا بعاد..
تطلع حبيب لتصفية متعجبا: انتي جصدك على مين يا ستي!.. أني معدتش فاهمك..
هتفت صفية مؤكدة مباشرة بلا مواربة: أنس الوچود يا حبيب.. اطلب يدها.. هي كفة ميزانك.. وأنت كيالها.. هي توبك.. وأنت سترها وكل ناسها..
ربتت صفية على صدر حبيب بكفها في حنو موضع فؤاده، هامسة في وجل: أنت خيالها يا حبيب.. أنت خيالها يا ولدي..
شهق حبيب في تيه، وكأنما قد رأت صفية جدته ذاك السر الدفين المخبأ بحرص بين حنايا روحه، والذي أزاحت ربتة يدها عنه الستار ليصبح الاعتراف بالعشق فرضا.. والبوح أمرا مفروغا منه..
يتبع...