رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 56 - الأربعاء 20/8/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السادس والخمسون
تم النشر الأربعاء
20/8/2025
متشح بالسواد..
الرسلانية ١٩٨٦..
رفضت أمينة الذهاب للمشفى على الرغم من وجعها الذي يزداد شدة، ما دفع رؤوف لإرسال شبل لإحضار الدكتور وصفي من أجل معاينتها ورؤية ما إذا كانت في حاجة بالفعل لتتقل للمشفى دون إبطاء ليعود شبل مسرعا وبصحبته الدكتور سرور ابن الدكتور وصفي معتذرا في أدب جم: معلش يا عمي بابا مش موچود وچيت أنا بدالهلو معندكش مانع..
أكد رؤوف في إكبار: معلوم يا دكتور سرور اتفضل أنت وابوك واحد.. تعالى شوف نعملو ايه في اللي مش رائدة تروح المستشفى دي!..
أكد سؤور: أن شاء الله خير يا عمي ومتحتاش تروح ولو حتى مؤقتا عشان الدنيا محاولة بره وحظر التچوال موجف الدنيا..
دخل سرور الغرفة حيث تستلقي امين. على فراشها بوجه شاحب، رفع رأسه بلا هدف وهو يتجه لموضعها فابصر منيرة تقف في هدوء على طرف الفراش من الجانب الآخر.. كانت المرة الأولى التي يبصرها فيها عن كثب بعد سنوات طوال من الدراسة خارج النجع.. فقد كلفته دراسة الطب سنوات طويلة كان في معظمها بعيدا عن الرسلانية لحد كبير .. حتى أنه تذكر أن المرة الأخيرة التي رآها فيها كانت ما تزال في الصف الثالث الإعدادي.. متى أصبح فتاة يافعة بهذا الطول والجمال .. لقد تبدلت تماما عن تلك الطفلة التي كانت عليها لتضخى شابة على أعتاب الجامعة.. وعلى الرغم من القلق المرتسم على وجهها الصبوح خوفا على حال أمها وصحتها إلا أن ذلك لم ينقص من جمالها شيئا..
تنبه لحال المريضة بعد أن غض الطرف عن منيرة.. وبدأ في فحصها في هدوء وروية.. لينتهي في اضطراب مؤكدا وهو يقترب من رؤوف هامسا: للأسف يا عمي.. لازما ننجلها للمستشفى حلا.. أي تأخير فيه خطر عليها.. النزيف اللي مش بيوجف ده مؤشر خطير.. وله دلالة مش تمام..
هتف رؤوف مؤكدا: أني جلت كده بس هي مبتسمعش الكلام..
وتوجه رؤوف بحديثه لمنيرة أمرا: چهزي أمك هنطلع ع المستشفى دلوجت..
همت أمينة بالاعتراض إلا أن رؤوف أصر في حزم: خلاص مفيش كلام بعد كده.. همي يا منيرة چهزي أمك وساعديها..
ثم أعاد انتباهه لسرور ممتنا: متشكرين يا داكتور.. عملت الواچب وزيادة..
أكد سرور: ربنا يجومها بالسلامة.. وأنا موچود ف أي وجت يا عمي.. سلام عليكم..
حمل رؤوف أمينة نحو العربة التي جهزها حبيب، واضعا إياها في المقعد الخلفي وحين قرر حبيب ومنيرة اصطحابهما، رفض رؤوف أمرا: لاه.. حبيب خلي بالك من اخواتك وعشان محمود ميفضلش لحاله.. لسانه صغار.. وعاچز.. وأني مش عارف الطريج هيكون كيف عشان حظر التچول.. تتسهل بإذن الله..
اطاع حبيب ومنيرة بلا معارضة.. لينطلق رؤوف بالعربة في اتجاه المشفى لإنقاذ أمينة على وجه السرعة..
❈-❈-❈
اسيوط ١٩٨٦..
في ذاك البيت المتهالك بإحدى القرى الواقعة على أطراف محافظة أسيوط كان جميعهم عل استعداد لتنفيذ المهمة الموكلة إليهم من جانب جماعتهم..
هتف كبيرهم الذي عدل من وضع غطاء رأسه الأبيض المسدل على كتفيه، وبدأ في شرح الخطة وخطواتها في دقة، ليسأله أحد المشاركين وهو يعبث بذقنه التي استطالت بلا تهذيب: واحنا هنقوم بالحماية دي لوحدنا، ولا فيه دعم!
أكد قائدهم: متقلقوش، في دعم طبعا واحنا مش لوحدنا، المطلوب ضرب كماين الشرطة في اكتر من موضع عشان نعمل لهم ربكة كبيرة تخليهم يلفو حوالين نفسهم وسط حظر التجول والحكاية بتاعت الأمن المركزي دي.. إحنا نسقنا مع الإخوة في كذا محافظة عشان تبقى ضربة قاصمة عن حق..
هتف أحدهم في حماس: الصراحة توقيت مبارك لعملية مباركة بإذن الله..
هتف القائد في نبرة متفائلة: إن شاء الله هتكون غزوة مباركة على أنصار الكفر واحدى أهم أدواته اللي بينكلو باخوانا في سجونهم.. حان الوقت للأخذ بالثأر من أعوان الشيطان أداة الطاغوت..
هتف أحدهم في حماس: الله أكبر.. هنفذ المخطط بالضبط يا أميرنا.. وعلى الله قصد السبيل..
أكد الأمير في فخر: النصر أو الشهادة ومن بعدها جنة عرضها السموات والأرض اُعدت للشهداء منكم ينتظركم على أبوابها الحور العين فلا شقاء بعد ذلك أبدا.. على العهد يا إخوة..
هتف الجميع في حماية: على العهد يا أميرنا..
هتف الأمير في إكبار: بارك الله فيكم.. هيا.. حي على الجهاد..
اندفع الشباب لخارج المكان المتطرف لتنفيذ مهمتهم الجليلة ..
❈-❈-❈
الطريق العام خارج الرسلانية ١٩٨٦..
كانت سرعة السيارة معتدلة لحد كبير فعلى الرغم من أن الطريق الرئيسي معبد جيدا لسير السيارات بسرعة كبيرة إلا أن رؤوف كان حريصا على وجود أمينة بالمقعد الخلفي مستلقية وقد نال منها الألم وبلغ مبلغا كبيرا.. فلم يرغب في زيادة السرعة حتى لا يؤثر ذلك عليها.. وقد أدرك أن ما تبقى له إلا مسافة صغيرة لبلوغ المشفى العام حيث يقصد..
لكن فجأة وبلا سابق إنذار انفجر الإطار الخلفي للعربة أو هكذا ظن في البداية .. فصوت ذاك الانفجار في البداية جعله يصدق أن ما سمع هو انفجار الإطار لكن مع توالي صوت الانفجارات وارتفاع صداها ايقنةان الأمر لا يمكن أن يكون كذلك..
حاول أن يتحكم في العربة وبوقفها جانبا لكن ما كان يتوقع حدوثه هاةقد حدث بالفعل وانفجر إطار السيارة وبدأت تتمرد على سيطرته وإمساك مقودها بكفين من حديد لاعادتها للطريق لكن اصوات الرصاصات المدوية هنا وهناك وهما بالقرب من إحدى كمائن الشرطة التي كان هذا موضعها.. أكد له أن ما يحدث متعمد .. ان الكمين يتعرض لهجوم ضاري مع كل هذا الوابل من الرصاص الذي سمع دويه..
وللأسف خانته قدرته وزاد تمرد السيارة لتنحرف بشدة قبل أن تنقلب رأسا على عقب على قارعة الطريق ..
ساد الصمت داخل السيارة لبرهة لكنه لم يهدأ خارجها وضباط الكمين وعساكره يحاولون قدر امكانهم سد الهجوم المتتدد الجبهات ضدهم.. تحرك رؤوف سريعا على قدر استطاعته ما أن استعاد بعض من وعيه منتفضا صوب أمينة التي وجدها فاقدة الوعي.. صرخ في محاولة لافاقتها حتى يطمئن أنها بخير لكنها لم تنطق.. ما كاد أن يورثه الجنون.. فلا هو بقادر على البقاء وهو يراها أمام ناظريه تموت نزفا ولا قادر على إخراجها ونفسه لخارج السيارة المقلوبة وضرب النار والرصاص المتطاير فوق رؤوسهم بالفعل .. البقاء يعني الموت .. والخروج من السيارة يعني الانتحار حرفيا.. وما بين موت وموت يحاول هو أن يتشبث بأمل الحياة..
صمتت الأجواء قليلا فأعتقد رؤوف أن الأمر قد انتهى وما أن هم بالخروج من السيارة حتى عاد إطلاق النار من جديد وهذه المرة ليس فياتجاه الكمين الشرطي ولكن صوب السيارة .. ما جعله يتراجع محاولا أن يحتمي على قدر إمكانه وحماية أمينة.. لكن تلك الصرخة التي أطلقها لتوه نبأته أن رصاصة ما قد اخترقت جسده بالجانب الأيمن وبدأ الجرح في النزف .. وعلى الرغم من محاولته التماسك حتى يستطيع أن ينجو وزوجته لكن تلك الرؤية الضيايبة قبالة ناظريه قد زادت.. وبدأ يفقد وعيه تدريجيا حتى أضحى العالم كله قبالة ناظريه متشحا بالسواد..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٨٦..
هتفت برلنتي في حنق وهي ترى ابنتها أنس الوجود تجلس أمام التلفاز تشاهد أحد الأفلام: إنتي مش المفروض تبقى قاعدة على مكتبك بتذاكري.. ده الامتحانات خلاص ع الأبواب وانتي مطنشة ع الآخر!..
هتفت أنس الوجود معترضة: فين ده اللي مطنشة ..ده انا قلت أخد بريك وأخرج من اوضتي شوية.. هو انا في معتقل يا ماما!.. ما انا ممكن اقعد جوا اوضتي ومذاكرش..
هتف نجيب في محاولة لفرض حالة الهدنة بين طرفي الحرب التي لا تنتهي داخل المنزل: محصلش حاجة يا برلنتي.. خليها تفرج عن نفسها شوية .. مش كله ضغط ضغط كده... بالراحة.. والبنت فعلا كانت بتذاكر.. وخرجت ترتاح مفيهاش حاجة يعني!..
هتفت برلنتي في حنق: ايوه طبعا ما انا اللي غلطانة دايما.. كأني مش أمها وعايزة مصلحتها ..
اندفعت برلنتي نحو حجرتها مغلقة الباب خلفها بعنف.. همت أنس الوجود بالنهوض مغادرة المكان بدورها لتعود لحجرتها كذلك لكن نجيب ربت على كتفها في حنو مطالبا: لأ متقوميش إلا لما تخلصي الفيلم.. وراجع لك همتحنك فيه..
ابتسمت أنس في محبة وعادت تجلس أمام التلفاز في شغف بينما توجه نجيب نحو حجرته دافعا بابها في هدوء متجها نحو زوجته بعدان أغلق الباب خلفه في هوادة.. متطلعا إليها في تعجب، متسا:لا بنبرة العالم ببواطن الأمور وهو يجلس قبالاتها على الفراش: في ايه يا برلنتي! مالك.. فيمي ايه.. متقلبش إن اللي عملتيه بره ده طبيعي.. انتي في حاجة مضيقاكي.. في ايه!..
انفجرت برلنتي باكية كالطفلة، فتلقفها نجيب بين ذراعيه في ذعر لا يعلم ما الذي جرى لكل هذه الدموع، ليسأل مجددا بنبرة مضطربة: ايه يا برلنتي! ماتخضنيش كده.. ليه البكا ده كله!..
همست برلنتي من بين دموعها وشهقاتها المتكررة: مش عارفة يا نجيب مش عارفة.. روحي متاخدة.. وقلبي مقبوض.. وحاسة إن صدري طابق عليا.. مش عارفة فيه ايه.. أنا خائفة تكون.. تكون أمينة جرا لها حاجة!..
تعجب نجيب: أمينة أختك! ليه بعد الشر! هيكون حصل ايه يعني!.
أكدت برلنتي باكية: هي جاتلي فالحلم من كام يوم.. فاكر يوم ما قمت مفزوعة من النوم.. كانت هناك.. كأنها بتودعني.. أنا عايزة اطمن على أمينة يا نجيب.. أنا متأكدة إنها مش بخير..
هتف نجيب محاولا أن يطمئنها: بعد الشر عليها.. هي بخير إن شاء الله.. ده شيطان .. أفكار بيضايقك بها .. لكن كله تمام..
همست برلنتي مستجدية: مينفعش نفكر ننزل الرسلانية!..
انتفض نجيب معترضا: لأ.. مينفعش يا برلنتي.. مينفعش.. الرسلانية لأ.. واوعديني مهما حصل متنزليش هناك ولا تخلي أنس الوجود تقرب من هناك.. عشان مصلحتك ومصلحتها.. اوعديني يا برلنتي..
همست برلنتي في تردد: اوعدك يا نجيب.. أوعدك..
تنهد في راحة.. رابتا على كتفها في حنو.. قبل أن ينهض تاركا إياها لترتاح عائدا لصحبة أنس الوجود أمام التلفاز..
❈-❈-❈
أسيوط ١٩٨٦..
اندفع حبيب داخل المشفى العام، ما أن ابلغته المشفى بوصول والديه الطواريء.. كان يحاول أن يصل للاستقبال مع كل هذا الزحام الشديد في مدخل المشفى من رجال صحافة وأطباء وممرضين.. وسيارات إسعاف تركض هنا وهناك لنقل الضحايا في حادث الهجوم على الكمين الشرطي.. بجانب أهالي الضحايا والمصابين.. والصرخات والعويل الذي ملء الإرجاء مع آلام وتأوهات المرضى..
كان الوضع كارثيا لم تشهده المشفى من قبل .. وما أن وصل حبيب للاستقبال حتى سأل عن موضع والديه فأجابته الممرضة: ادخل أسأل چوه.. لأن في حد لسه داخل العمليات.. اديك شايف الوضع عامل إزاي..
اندفع حبيب مهرولا بأروقة المشفر، يسأل هنا وهناك.. لعل أحد يستطيع أن يدله على حال والديه وحالتهم.. وأخيرا هتف به أحد الممرضين: اه.. الناس اللي چم مع الحادثة.. هتلاجيهم ف اوضة العمليات دلوجت!.. ربنا ينچيهم.. حالتهم صعبة بالذات الست نزفت كتير وكانوا بيدو لها على متبرع لنجل الدم.. البنك فالمستشفى خلصان.. واديك شايف المصيبة اللي احنا فيها..
وقف حبيب لا يعرف ما عليه فعله وهو يرى والديه كلاهما بالداخل بين الحياة والموت.. يتضرع إلى الله طالبا لهما النجاة..
خرج ممرض من خارج غرفة العمليات مهرولا، استوقفه حببب يسأل في ذعر: ايه اللي چرا!..
هتف الممرض: محتاچين دم ضروري.. الست بتموت..
صرخ حبيب مطالبا: أني اديها.. دي أمي.. خد اللي يكفيكيها وزيادة..
جذب الممرض يد حبيب خلقه وكأنما جاءت النجدة أخيرا.. ليتأكد أن فصيلة دمه مطابقة.. لعل وعسى ينقذ ذلك أمه التي تتأرجح بين حافتي الحياة والموت.. تمسك بمقبض باب الدنيا مودعة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٨٦..
اندفع سميح لداخل دار الحرانية باحثا عن ولده محسن في حنق بالغ.. اندفع محسن صوب أبيه مرحبا لكن سميح لم يمهله الوقت للترحيب دافعا به نحو القاعة البعيدة نسبيا عن مدخل الدار.. ليدخلاها مغلقا سميح بابها خلفه في إحكام.. أمرا حريم الدار اللائي تجمعن ما أن وعين وجود سميح ووصوله من سفرته: كل واحدة تروح لحالها مش عايز اشوف چنس مخلوج جدامي.. غورو...
نفذت النسوة في طاعة على الرغم من الحنق البادي على قسمات وجوههن.. ليغلق سميح الباب في احكام متطلعة نحو ولده في نظرة عميقة قبل أن يسأل بشكل مباشر وبلا مواربة: أنت وزمايلك اللي جمتو بعملية الكمين دي!.. صح!..
هم محسن بالإجابة لكن سميح لم يمهله ليجيب فقد هتف في نبرة شديدة الحدة: أني عرفت م الشيخ حساني.. مش محتاچ تجول ولا تعيد.. هو أبوك جليل ومش هيعرف أخبارك ولا يعرف أنت مديرها كيف!.. بس كان ع الأجل تجول لي.. تديني خبر.. مش أعرف م الغريب..
هتف محسن في محاولة لترضية والده: أيوه الشيخ حساني .. حماك التجيل جوي ده.. بس أنت صح..حجك عليا يا حچ.. بس الحكاية چت بسرعة كده .. بس أني محجوج لك ومش هتكرر..
أكد سميح بهدوء: ما هي مش هتتكرر صح يا واد سميح..
هتف سميح متسائلا: يعني ايه! مش فاهم.. هتمنعني يا حچ سميح عن الچهاد و..
قاطعه سميح أمرا: بجولك ايه!.. أنت مكانك مش هنا.. وأني بحضرك لحلچة كبيرة.. أنت لا ما تخفى دلوجت عن العيون.. وبعدها لينا تصريفة نسفرك بها بره مصر.. وبعدها يحلها الحلال..
هتف محسن متعجبا: بره مصر!.. ليه وفين!..
أكد سميح: ليه وفين دي اكبر مني ومنك.. أصبر وهعرفك كل حاچة.. بس المهم دلوجتتركب العربية من سكات.. والسواج عارف هيروح بك على فين.. ومهما حصل متخرجش من هناك لحد ما اجي لك.. واعي!..
هم محسن بالخروج من القاعة ليستوقفه سميح مستفسرا: اللي حصل لرؤوف واد رسلان ومرته لك يد فيه.. مش كده!..
أكد محسن بايماءة إيجاب من رأسه.. هاتفا: اهو حظه چه كده معايا.. كان معدي واحنا بنضربو الكمين وخد اللي فيه النصيب وهو يستاهلها.. كان عامل لنا فيها الكبير.. والكل تحت طوعه.. كبير على نفسه بجى.. بلا عنطزة فارغة..
قهقه سميح هاتفا في فخر وهو يربت على كتف ولده في إكبار: والله عفارم عليك.. بس ده مينعش انك خدت بتارك لما رفض يچوزك بته.. طلعت اچدهع من ابوك وقعد بحسرته سنين .. بس اديك چبت حجي وحجك مجاولة..
هتف محسن: لا عاش ولا كان اللي يحسرك يا حچ.. اهو دلوجت ياچينا خبره..
أكد سميح أمرا: ياچي ولا ميچيش.. انت هتمشي دلوجت كيف ما جلت لك.. روح..
هز محسن رأسه في طاعة منفذا فورا..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
وصل جمال لشقته، وما أن هم بفتح الباب بمفتاحه حتى تذكر أن عليه أن يطرق الباب لوجود هاجر بصحبة مريم.. رن الجرس بالفعل حتى إذا ما ظهرت مريم دفع بكل ما يحمله بين ذراعيها متنحنحا وهو يندفع لقلب الشقة لرؤية هاجر..
صرخت مريم معترضة وهي تضع كل ما كانت تحمل على الطاولة الفريبة، هاتفة في حنق: أستاذة هاجر مش هنا..
اندفع جمال يسأل في ذعر: اومال راحت فين !.
أكدت مريم في حنق حاولت مداراته: كنت جارية من الشغل جري زي كل يوم عشان متقعدش لوحدها طول النهار.. بس كنت محتاجة شوية طلبات عديت احبها وأول ما طلعت لقيت الأستاذ ممدوح واقف ع الباب بيكلمها وقالت له استناني على الكافيه اللي في اول الشارع.. يا رب ده يكون ريحك..
سأل جمال: ممدوح اللي شغال معاكي ف الشركة!..
أكدت مريم: ايوه.. ليه!.. وبعدين هو عادي بالنسبة لك كده.. ممدوح أو غيره!..
أمرها جمال: روحي البسي..
سألت: طب والعشاء..
هتف جمال أمرا: قلت البسي وتعالي.. ونبقى نتعشى برا.. ياللاه..
تعجبت مريم من انفعال أخيها هكذا فجأة.. لكنها نفذت في سرعة.. مهرولة خلفه للخارج..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
كان موعد زيارة أمها قد حان.. هو يعلم ذلك.. يحفظ السعاده عن ظهر قلب.. وعلى الرغم من أنها لم تساعده.. إلا أنه وعدها بزيارة دورية للاطمئنان على صحة الوالدة..
هتف سرور مستدعيا الممرض الذي يرافقه دوما في زياراته الخارجية لمساعدته في بعض الأمور إذا لزم الأمر.. أمرا إياه في عجالة: چهز شنطة الكشف.. عشان طالعين على بين ابو زكيبة ..
هتف الممرض متعجبا: محدش جال أن حد تعبان هناك!..
هتف سرور حانقا: وأنت مالك.. أني اللي جلت..
هتف الممرض في غباء: جبت كيف يا دكتور!.. انت هتمرض الناس بالغصب.. عچيبة والله..
هتف سرور محاولا السيطرة على أعصابه: عوض.. تعرف تسكت.. اسكت وتعالى ورايا.. وبس..
برطم عوض حانقا، فتطلع نحوه سرور في قلة حيلة.. ليسيرا نحو دار أبو زكيبة لمعاينة سنية زوجة العمدة السابق وأمها.. أم مجيدة.. التي احتلت عقله وتفكيره طوال الفترة الماضية.. نظراتها من خلف خصاص النافذة نحوه وهو يرحل مبتعدا لم تفارق مخيلته للحظة..
وصل عند الباب.. الذي كان منفرجا قليلا كعادته.. ليهتف سرور في تأدب: يا رب يا ساتر.. يا آنسة مچيدة..
اندفعت مجيدة تهبط الدرج مهرولة ثم ركضت نحو الباب هاتفة في فرحة: يا مرحبا يا داكتور سرور .. اتفضل..
سأل سرورو ونظراته أرضا في تهذيب: كيفك يا آنسة مچيدة وكيف الوالدة النهاردة.. يا رب تكون أحسن!..
هتفت مجيدة في حسرة: مفيش تحسن يا داكتور.. كيف ما وعيت لها المرة اللي فاتت.. أنا بديها الدوا ف مواعيد بالمظبوط.. بس لسه غائبة عن الدنيا.. مبتنادمش غير على عزت الله يرحمه..
هز سرور رأسه متفهما: معلش.. تعالي نشوفها.. ونطمنو عليها وبإذن الله يكتب لها الشفاء عن جريب.. الحالات دي بتكون شوية معلش.. بس خير..
أكدت مجيدة وهي تصحبه لحجرة امها بالطابق العلوي: متعشمين في ربنا.. ومن بعدها فيك يا داكتور..
همس سرور وقد دخل غرفة المريضة: كله على الله..
ساد الصمت وهو يتابع فحصه لسنية التي كانت مستسلمة في هوادة بلا اعتراض.. حتى إذا ما انتهي.. تنبهت مجيدة أنها نسيت أمرا ما بالاسفل.. فاستأذنت مسرعة وهرولت للطابق السفلي.. جمع سرور أدواته واتجه هابطا الدرج لترتفع صرخات قادمة من موضع مجلة حيث غابت لتوها.. ليجد نفسه يلحق بها في ذعر..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
عيناها معلقة بالسقف كالعادة.. وعقلها وكل تركيزها لم يكن هناك بالرسلانية كما اعتادت منذ عودتها.. لكن كان مع صوت امها وهي تحكي للمرة اللا معروف عددها حكاية جدها سعد رسلان والبرنسيسة التركية أنس الوجود والتي أسمتها تيمنا بها والتي أعطت لأمها اسمها في الأساس.. برلنتي.. فقد كان من اختيارها.. ظلت برلنتي تحكي لحمدية الخادمة وأذن أنس واعية لكل حرف وكلمة حتى أنها وبلا وعي منها وجدت نفسها تتسلل في هدوء نحو موضعها.. لتجلس قبالة أمها لتسمع في استمتاع عجيب كان حديثا على حالها .. ما أثار تعجب حمدية التي هتفت في دهشة: ايه ده ست أنس قاعدة بتسمع.. دي مجالتش كفاية يا ماما بقى الحكايات دي اللي مبقاش حد يصدقها..
قهقهت برلنتي على أقوال حمدية وهي تقلد أنس بالسابق، لكن أنس نفسها لم تضحك، بل أكدت في هدوء: ايوه يا حمدية مكنش حد يصدق الحكايات دي فعلا.. بس اللي شاف بعينه يصدق ونص.. وأنا لما كنت فالرسلانية شفت حاجات ميصدقهاش عقل.. وكل اللي ماما حكته ده حقيقي وحصل.. فيه حكايات هي محكتهاش.. وحكايات معشتش مع ناسها.. بس أنا شفت الناس دي كلها.. صورهم محطوطة قدامك على حيطة كبيرة أول ما تدخلي السرايا تفتكري نفسك داخلة متحف.. كل صورة فيهم بتحكي تاريخ صاحبها.. وبتقول إنه كان هنا في يوم من الأيام..
همست برلنتي بصوت متحشرج: هو لسه الصور دي متعلقة فمكانها متغيرش!..
همست أنس بدورها في تأثر: ولا عمره هيتغير..
ساد الصمت بينهما.. قطعه جرس الباب الذي ارتفع رنينه اندفعت حمدية لتفتح.. متسمرة موضعها .. لا تعرف ما عليها فعله..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
كان يجلس موضعه المعتاد تحت التعريشة.. لا يعرف ما القادم في خفايا الأيام.. يستشعر أمرا قريب الحدوث..امرا ما لا يقين عنده لوقعه.. لكنه يستشعر ذلك بشكل حدسي لا يخطيء ما اورثه المثير من القلق.. حتى أن النوم خاصم عينيه.. لا سهدا لبعادها على الرغم من أنه لا ينكر ذلك.. ويستشعر وحشة في غيابها لم يخبرها من قبل.. كأن عالمه الباهت لا يعود عالما يصلح للحياة إلا بحضورها الطاغي.. وطلتها المبهجة.. لكنه اقسم على محاولة تطويع القلب على نسيانها فقد أصبحت ملكا لرجل آخر.. وما عاد التفكير فيها .. مجرد التفكير.. فعلا لائقا..
انتفض حبيب موضعه.. مستفيقا من خواطره.. وشبل يهرول صوبه هاتفا: چواب يا حبيب بيه... چواب من البنك..
هتف حبيب حانقا: ايه في يا شبل! چواب عادي م البنك.. ليه الهوليلة دي كلها.. هو أني ناجص!..
مد شبل كفه بالخطاب المميز المظروف، ليتناوله حبيب في ضيق، مؤكدا لنفسه وقد صرف شبل: تلاجيهم بيستعچلو دفع المتأخر.. خلاص خربت يعني.. البنك هيفلس لو اتاخرت جسط ولا اتنين!..
فض حبيب المظروف.. وبدأ في قراءة الخطاب بكل هدوء.. لكنه انتفض واقفا ما أن وصل لتلك النقطة: كيف ده!.. هي سائبة!..
تلك النقطة التي تحمل في طياتها مصيبة كبرى قد لا يقدر حبيب على مواجهتها وتحمل تبعاتها وحده..
يتبع...