-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 52 - الجمعة 1/8/2025

 


قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثاني والخمسون


تم النشر الجمعة 

1/8/2025

 والحكاية... اختيار.. 


الرسلانية ١٩٧٨.. 

تطلعت تلك الفتاة التي تخطت عامها السادس عشر بأشهر قليلة نحو أمها تستجدي تدخلها لعلها تقنع والدها بالعدول عن رأيه في مسألة زواجها، لكن أمها نكست رأسها في خنوع، ولم تلقي بالا لدموع ابنتها التي انسابت على خديها في صمت قاهر، وأخيرا همست مترجية: بلاش يابا، ضاحي اكبر مني بكتير، ياچي خمستاشر سنة، وبعدين كلمتك اللي اديتها لسي مدثر، هترچع فيها!.. 

هتف والد نجية في حنق: أني مدتش حد كلمة، أني جلت له هفكر وأشوف.. واديني فكرت.. وشايف أن ضاحي هو اللي ينفعك.. راچل رايح الخليچ وهيرچع بخيرات ياما.. وهينوب اخوكي وامك من الحب چانب.. تجوليلي مدثر!.. ده لساته عيل ابن عشرين ومحلتوش إلا اوضة ف دار أبوه.. 

هتفت نجية باكية: وهو ضاحي اللي حداه جصر!.. ما هي دار أهله كيف العشة.. هي اه بجت ملكه لحاله لكن مهياش دار كيف دار مدثر وناسه.. 

هتف أبوها: لاه.. ما هو ضاحي جالي دي كده حاچة مش هتدوم.. وبعد سنة ولا اتنين هينزل يبني لك دار عليها الجيمة.. يعني يا بت مصلحتك ومصلحتنا معاه.. 

هتفت نجية في محاولة أخيرة لاثناء والدها عن رأيه: بس سي مدثر مأصل ومن عيلة.. برضك عيلة النچدي مهياش جليلة، دول كانو عمد النچع لسنين.. ايه اللي هيساويه بضاحي ده.. اللي كان اچوري في أرضهم.. 

اندفع ابوها ساخطا، دافعا إياها في حنق لتسقط أرضا، صارخا في محاولة لاخراس اعتراضاتها: وهو أني كنت ايه يا ست نچية! ما أني لساتني اچري في أرض الناس.. بتستعري من ابوكي.. طب يمين تلاتة مفيش چواز إلا من ضاحي . وهي خلصت على كده.. 

لطمت أمها خديها في ذعر، منحنية تحاول اقناع ابنتها بالترهيب: ابوكي عيطلجني بسببك يا حزينة، ماله ضاحي! كنك وش فجر.. بدل ما تستحمديه بعت لك واحد عنده اللي هيعيشك عيشة زينة بدل الفجر والهم اللي كل من چتتنا.. جومي.. غوري على چوه وظبطي حالك.. الكتاب هيكون جبل ما ضاحي يسافر.. 

نهضت أمها مبتعدة تاركة نجية تلطم خديها في قلة حيلة، فحلم حياتها بالاقتران بمدثر.. والذي ظنته قاب قوسين أو أدنى تبخر اليوم أمام ناظريها وما استطاعت التمسك به.. تمثلت صورة ضاحي قبال عين خيالها فشعرت باختناق يكاد أن يزهق روحها.. وبكت كما لم تبكي من قبل.. بكت حلمها الضائع و نفسها.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٧٩.. 

دخل الأستاذ سلام مكتب فضل، هاتفا في لهفة: شفت يا فضل اللي بيحصل!.. 

تنبه سلام أن فضل ليس على مكتبه، جال بناظريه بالرجاء الغرفة ليجدها فارغة ولا أثر له بها.. خرج سلام عائدا لمكتبه فإذا به يبصر فضل يقف بتلك النافذة الطولية بآخر الرواق الطويل .. توجه إليه متعجبا: يعني أنت هنا وأنا قالب عليك الدنيا .. والله اتخضيت قلت قل بعقله ونزل المظاهرات اللي شغالة دي مع الطلبة.. 

لم يحد فضل ناظره عن المظاهرات التي تمر اللحظة بالشارع الحيوي الذي تقع فيه الجريدة.. مؤكدا وهو يتنهد : والله يا ريت .. أنا اكتر حد حاسس بهم.. لأني كنت زيهم ومكانتهم.. 

ربت سلام على كتف فضل متعاطفا: ايه يا فضل!.. رافض اتفاقية السلام زي معظمنا!.. 

هز فضل رأسه نافيا: تصدق يا أستاذنا.. من اول ما سمعت عن زيارة السادات للقدس أيام ما كنت فالمعتقل قلت الراجل ده مش هيسكت وفيه وراه حاجة كبيرة هتقوم الدنيا كلها علينا.. وطلع لنا بكامب ديفيد وبعدها اهو معاهدة السلام.. والغريب إني لأول مرة مش عارف ابقى معاه ولا ضده .. 

دايما كنت شايف وجهتي.. النهاردة حاسس بتشوش .. 

هتف سلام معترضا: وهي دي عايزة كلام يا فضل.. طبعا كلنا رافضين اتفاقية العار دي.. احنا منتصرين ورجعنا سينا أي نعم مش كلها بس اهو محناش قليلين.. واثبتنالهم إننا نقدر حقنا من عنيهم.. تقولي مشوش!.. سامع الشباب فالمظاهرة.. 

يا عروبة فينك فينك.. السادات بينا وبينك!.. 

ابتسم فضل بحسرة: عروبة!.. اه القومية العربية!.. وهو كان فين العرب دول واحنا بنحارب لوحدنا وبطولنا.. مين اللي ادانا بترول وقت الأزمة قبل وف قلب الحرب مش شاه ايران اللي التيارات الإسلامية خربت الدنيا لما طلب اللجوء السياسي لمصر ومصر رحبت به عشان ترد له الجميل .. كانوا فين بقى أيامها ودلوقت بيقطعونا!.. وهم أول ناس كانو بيضربو فضهرنا واحنا مش مدينهم خزانة ومركزين في حربنا مع اليه..ود.. 

هتف سلام محتجا: أنا مبقتش فاهمك يا فضل.. يعني انت مع الاتفاقية ولا ضدها!.. 

ملس فضل على ذراعه المشلولة الفاقدة الحس، مؤكدا وهو دامعة العينين: يوم ما تقال لي لأول مرة من صبرة العدوي يابو دراع.. وجعتني أوي الكلمة دي للحظة، بعدها بصيت لدراعي وحسيت بالفخر إن اللي حصل له ده كان سببه الأسر والتعذيب دفاعا عن أرض فلسطين .. لدرجة أنه بقى لقبي بعدها وبعتز به.. ولما جو حرب ٧٣ وانتصرنا حسيت اني خدت بتار دراعي من السفلة دول.. احساسي دلوقت والسادات بيمد لهم كفه بالسلام كأنه شل ايدي التانية يا أستاذ سلام.. خد بتار المشلولة وجه بعدها شل السليمة .. 

ساد الصمت لبرهة ودمعت عينى سلام تعاطفا، لكن فضل استطرد باسما في أمل: لكن في نفس الوقت وبحسبة العقل بعيد عن أي عواطف.. هو صح.. وصح جدا كمان.. 

تطلع سلام نحو فضل مستهجنا: صح.. وجدا!.. والناس دي كلها مبتفهمش!.. طب فهمني بقى حسبة برما دي.. 

فسر فضل: السادات عرف اللي فيها فبص لمصر ولمصلحة مصر وبس مع طبعا محاولات لحل القضية الفلسطينية بإعطاء الفلسطينين الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة ..لكن طبعا ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية رفضوا العرض.. فبقى قدامه اعمل اللي فيه مصلحة بلدي وبس.. 

تساءل سلام: وايه اللي ف مصلحة مصر فإنه يعادي العرب كلهم باتفاقية مع الي..هود!.. 

أكد فضل: السادات عايز يأمن مكر الصها..ينة بشروط وبنود مكتوبة وبشهود زي امريكا عشان يضمن الاستقرار على حدوده ويبدأ يشتغل داخليا.. السادات من ساعة ما مسك والبلد في حروب وخارجة من نكسة.. وعدم استقرار داخلي.. فعايز يبص لجوة شوية.. يبدأ في مشاريع التنمية والتطوير وهو مطمن لحد كبير أن حدوده متأمنة بس من غير ما يشيل أيده من ع الزيناد.. الجيش عايز له نظرة مطولة وتحسين وتطوير معدات.. التحديات الداخلية كبيرة والموارد مش أد كده.. الجبهة الداخلية عايزة شغل كتير يا أستاذ سلام وانا مينفعش اركز جوه واديله كل طاقتي وتركيزي ضايع بره خوفا من اي هجوم والحدود مفتوحة ولسه جزء من سينا الاوباش دول منسحبوش منه.. والدعم الخارجي السادات بعد تجربة حرب اكتوبر نفض أيده منه.. يبقى بلدي أولى.. وهو هنا طلع ذكي لأنه استفاد من أخطاء عبدالناصر.. وبيحاول يتجنبها.. عرفت ليه يا أستاذ سلام جزء مني ضده وجزء مني معاه!.. 

هز سلام رأسه متفهما، متطلعا صوب فضل في إكبار.. ليصل لمسامعهما بعض الهتافات المناهضة للاتفاقية من شباب بعض التيارات المتأسلمة: الولاء لله.. والبراءة من أعداء الله.. 

أشار فضل نحو المظاهرة في قلق مؤكدا: الخوف الحقيقي من دول يا أستاذنا.. دول التحدي الحقيقي اللي جاي.. ربنا يستر ع البلد منهم.. 

همس سلام في قلق بدوره، مخرجا خطاب مطوي سلمه لفضل: طب ممكن تخف شوية مقالات عليهم.. أنا خايف عليك يا فضل.. وخايف ع الجريدة.. شوف.. 

مد فضل يده متناولا الورقة المطوية فإذا بها خطاب تهديد بقتله وتفجير الجريدة.. 

هتف فضل في هدوء: طب بلغ البوليس والتهديدات دي عشان تأمين الجريدة.. 

أكد سلام: بلغت طبعا بس مين هيأمنك أنت!.. 

قهقه فضل مؤكدا: العمر واحد والري واحد .. واللي بيقول مبيعملش واللي بيعمل مبيقلش.. واعيش وارازي فيهم وأفضح للناس كدبهم .. وتدليسهم.. وتمسحهم في الدين.. 

هتف سلام ممتعضا: يا فضل الموضوع مش هزار.. دي حياتك.. 

ابتسم فضل متعجبا: وايه الجديد يا أستاذنا!.. ما هي الحكاية طول عمرها ف حياتي..شايلها على كفي وماشي ومش عارف فين هحط الرحال.. النهاية واحدة.. كل القضية تيجي إزاي.. وطالما لجل عيون البلد دي .. يبقى والله ربح البيع.. 

دمعت عينى سلام لكلمات فضل جذابا إياه في حنو أبوي محتضنا، رابتا على ظهره في فخر، هامسا: هو أنت اكبر من انك تكون ابني لكن على طول حاسك ابني البكري وبتمنى اشوف ابني محمد زيك.. خلي بالك على نفسك يا فضل.. انت غالي عندي أوي.. 

هز فضل رأسه في إيجاب.. متطلعا نحو أستاذه في تقدير بالغ.. ومعزة حقيقية.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٨٠.. 

سار حبيب جوار منيرة في اتجاه مدرستها الإعدادية، وما أن يطمئن أنها دخلت لقلب المدرسة حتى يتجه صوب مدرسته.. 

لكن ذاك الذي ظهر في قلب الطريق معترضا دفع حبيب ليدفع منيرة خلفه واقفا في شجاعة متطلعا نحو محسن بهيئته المقبضة وهو يشير لمنيرة ساخرا: عچبك شكل أختك كده!..

هتف حبيب متحفزا: عاچبتي! ملكش صالح ياختي ولا شكلها ولا ليك توجفنا كده تجولنا اللي ينفع واللي مينفعش.. 

هتف محسن في حنق: يعني عچبك ماشية بشعرها كده.. هو أنت مش راچل ولك حكم عليها!.. لو راچل على حج ربنا يبجى عندك نخوة وتغير على حريمك..

صرخ حبيب به مندفعا بحمية شاب في الخامسة عشرة من عمره، ممسكا في تلابيب محسن: راچل وارچل منك ومن اللي يتشدد لك يا عويل.. 

حاول محسن التخلص من حبيب لكن الأخير على الرغم من صغر سنه لكنه كان يبدو أكبر عمرا بجسمانه القوي وطوله الفارع.. فهو بحق أكثر أحفاد سعد رسلان شبها به خَلقا وخُلقا، كما أخبره سميح والده.. لكن ظهور رؤوف مناديا باسم حبيب في هذه اللحظة حسم الأمر.. ابتعد حبيب في هدوء احتراما لأمر والده الذي اقترب رابتا على كتف منيرة التي انزوت تبكي في أحد الأركان القريبة مطالبا في هوادة: ادخلي يا منيرة مدرستك.. وعرفان هياچي يخدم.. 

هزت منيرة رأسها في طاعة.. متجهة نحو مدرستها مهرولة بينما تطلع رؤوف لولده رابتا على كتفه متطلعا نحو محسن في نفاذ صبر: هو أنت مش ناوي تچيبها البر يا واد سميح!.. ما تحل عن الرسلانية وعيالهم.. شوف لك شغلانة غيرنا.. ولا إحنا موصوفين لك.. جالو لك طلع چنانك عليهم!.. 

هتف محسن محتجا: وه.. وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجي چنان يا رؤوف!.. ايوه .. ما أني مستغرب ليه.. ما أبوك ليل نهار نازل شتومة وسب فالناس بتوع ربنا أسيادنا اللي..

قاطعه رؤوف صارخا: أسيادك أنت وابوك.. لكن احنا ملناش أسياد.. طول عمرنا أحرار ونعرف ربنا .. مبجاش ناجص إلا أنت وامثال أبوك من مشايخ الفتة اللي بيسافر متعرفش فين ويرچع محمل خيراتها وبالينا بك.. ما تفكر كده يا محسن تسافر معاه تعيش فاليغمة دي وتريحنا كلنا.. چرب كده.. مكنتش خسران حاچة .. والله كلنا هنبجى كسبانين.. 

تطلع محسن في غيظ صوب رؤوف ولم يستطع أن يجيبه بحرف ما دفعه ليهرول مبتعدا.. ليتطلع رؤوف نحو ولده في إكبار.. رابتا على كتفه في فخر: چدع يا حبيب اللي يجرب من حبايبك ترشه بالدم.. بس ايجى خد بالك بعد كده.. لما تدخل عركة ايجى أمن الحريم الأول وبعدها غفلجها ع اللي چابو أبوهم.. وأني معاك.. 

قهقه حبيب وهو يسير في فخر جوار والده.. ملقيا التحية على كل ذاهب وآيب.. 

ظهر شبل قادما يرمح ما استوقف رؤوف في قلق ما أن تنبه لقدومه، والذي هتف وهو يلتقط أنفاسه مؤكدا: أبوي بيجولك ترچع حلا ع السرايا الست أمينة تعبانة جوي.. 

انتفض رؤوف مندفعا وخلفه حبيب.. فمنذ ولادة محمود الأخ الأصغر لحبيب ومنيرة منذ عامين تقريبا والذي جاء للدنيا ضريرا ..ما سبب الكثير من الحزن للعائلة وخاصة أمه أمينة التي لم تكن أبدا بخير.. ومرت من بعدها بالكثير من الوعكات الصحية وعلى ما يبدو هذه إحداها.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٨٠.. 

تطلع ذاك الفتى نحو هذه الفتاة الوحيدة التي تجلس دوما بمفردها، لم تكن هناك العام الماضي، فعلى ما يبدو أنها نُقلت حديثا إلى هذه المدرسة.. زاد اشفاقه عليها حين خطر له هذا الخاطر ما حثه على الإسراع نحو موضع صديقته هاتفا: أنس.. يا أنس!.. 

تركت أنس الوجود شلة صديقاتها على مضض متوجهة إليه متسائلة في نفاذ صبر: في ايه يا ممدوح!.. خير!.. 

أشار ممدوح نحو الفتاة الوحيدة بايماءة من رأسه متسائلا: تعرفي البنت دي!.. صعبانة عليا وهي قاعدة لوحدها كده!..

أكدت أنس متنهدة: ايوه يا سيدي دي البنت اللي لسه منقولة جديد من اسكندرية .. وهي كده .. ساكتة فنفسها وخايفة تقرب من حد.. 

هتف ممدوح: طب ما تيجي نشوفها.. اهو تضميها لشلة البنات.. اصل يعني أنا لوحدي مينفعش.. هقولها ايه!.. تعالي اقفي جون!.  

ضحكت أنس الوجود في أريحية ووافقت على اقتراح ممدوح.. واتجها نحو الفتاة التي استشعرت اقترابهما فشعرت بالتوتر.. إلا أن ابتسامة ابتسامة أنس طمأنتها وهي تمد لها كفها مصافحة في ود: أنا أنس الوجود نجيب الحراني.. 

وفعل ممدوح بالمثل معرفة.. لتهمس الفتاة في صوت خفيض رقيق: أنا هاجر السروجي.. لسه منقولة للمدرسة جديد ومليش أصحاب ..

هتف ممدوح في اندفاع: إحنا نبقى صحابك.. ايه رأيك!.. 

ابتسمت هاجر في وداعة تهز رأسها في إيجاب متحمسة.. ليهتف أحد الصبيان المشاغبين ساخرا من أُنس واسمها مناديا عليها بدون وضع ضمة على حرف اسمها الأول ليكون أشبه باسم صبي: يا أنس.. 

مخرجا لسانه لها ما تنبهت أُنس الوجود لندائه.. ليندفع ممدوح صوب الفتى وتبدأ المعركة.. التي يخرج منها ممدوح كالعادة.. لا غالبا ولا مغلوبا.. 

لتجلس أنس الوجود تضمد جراحه معترضة: مكنتش عبرته يا ممدوح!.. 

هتف ممدوح معترضا: واسيبه يضايقك!.. 

هتفت أنس الوجود به، وهي تضع منديل ورقي على خدش جبهته: وانت ايه ذنبك تضرب كل شوية بسببي!.. 

هتف ممدوح مصححا في كبرياء: بضرب وبنضرب.. عادي.. ده الطبيعي فالخناقات.. بس محدش يضايقك.. مش صح يا هاجر!.. 

أكدت هاجر مبتسمة: صح جدا.. 

اتسعت ابتسامة ممدوح وهو يتطلع لتلك الفتاة الرقيقة التي تشاركه الرأي وتؤكده.. في سعادة تامة.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩٢.. 

تحركت عربة نصير الراوي من داخل فيلته تتبعه هاجر بناظريها لا تعلم ما عليها فعله اللحظة بعد انكشاف المستور.. تطلعت الساعة الحائطي. التي أعلنت لتوها مبلوغ منتصف الليل.. هل عليها اخبار جمال بالمستجدات.. أم أن الأمر لا يستحق وعليها الانتظار للصباح؟.. ظلت تفكر لعدة دقائق وأخيرا قررت أن عليها الاتصال به وفورا.. لكنها لا تملك إلا رقم هاتف المنزل والوقت بالفعل متأخر وقد يزعج ذلك أخته أو أمه التي ربما تكون قد عادت من سفرتها!.  

أعادت سماعة الهاتف لموضعها ولكن شيء ما داخلها بحثها على الاتصال به وليكن ما يكون.. رفع سماع.ة الهاتف وانتظرت انتهاء الرنين على الجانب الآخر دون إجابة ما يخليها من مسؤولية عدم الاتصال وما أن همت بوضع السماعة مكتفية حتى رفعها جمال متسائلا: ألوو!.. 

هتفت هاجر وكان صوت تلك القشة التي تعلق بها الغريق في خضم بحر هائج: ألووو.. جمال!.. الحمد لله انك رديت.. 

هتف جمال مذعورا: هاجر!.. خير ! في ايه!.… انتي كويسة!.. 

أكدت هاجر: نصير أكتشف إني خدت الملف.. 

صرخ جمال: هو انتي معرفتيش ترجعيه!.. 

هتفت هاجر تخبره: حتى لو كنت رجعته.. نصير كان حاطط كاميرات في اوضة المكتب محدش يعرف عنها حاجة.. 

هتف جمال: كاميرات! وانتي شخصيا متعرفيش عنها حاجة.. الراجل ده فعلا وراه قصة كبيرة.. بس انتي عرفتي منين أن هو اكتشف انك اللي خدتي الملف!.. 

هتفت هاجر تفاجئه: هو اللي واجهني.. وعرفني إنه عرف.. 

صرخ جمال من جديد: ايه!.. لا.. كده الحكاية مش تمام ومبقاش في أمان تفضلي عندك.. 

أكدت هاجر تطمئنه: معتقدش نصير ممكن يعمل فيا حاجة يا جمال.. هو لما عرف إني كنت بشوف الملف عشان اطمن على صاحبتي واعرف ان مفيش ضرر عليها سكت.. وسألني.. وعرفتي إن مفيش ضرر وإن الهدف كله الأرض ..قلت له اه بس ليه الأرض دي بالذات.. انفعل وقالي دي ملكيش فيها .. ومدخليش نفسك في اللي ملكيش فيه بعد كده.. لمصلحتك.. 

هتف جمال قلقا: لا .. انا مش مطمن!.. 

همست هاجر تسأل في رقة: خايف عليا!.. 

هتف جمال محتجا: يا دي النيلة عليا .. يعني بقالي سبع سنين بلمح وبشاور وبصرح وحماية دلوقت والدنيا بتطربق فوق راسنا تقوليلي خايف عليا.. وبالصوت ده.. أنا لو انجلطت يا هاجر هتكوني انتي السبب.. 

امسكت ضحكاتها لأقواله، ليأمرها في صرامة: هاجر.. خدي كل حاجة لها أهمية عندك وظبطي شنطتك وأنا جاي حالا اخدك.. 

هتفت هاجر متعجبة: تاخدني فين! مش للدرجة دي يا جمال.. أنا حتى مقلتش إني موافقة على جوازنا.. ف.. 

هتف جمال مذعورا: انتي قولتي ايه!.. جوازنا!.. ده أنا كل الي بتمناه تقوليلي بحبك.. تطلعي داخلة على طمع.. 

قهقهت هاجر وهتفت بأعين دامعة وصوت يقطر دلالا: يعني كنت ناوي تلعب بيا ومش ناوي على جواز يا حضرة الظابط!.. 

هتف جمال مؤكدا في حماس: مين اللي قال! دي جرة رجل وانتي بس توافقي.. ساعتها هتجوزك انتي واللي يتشددلك.. 

قهقهت هاجر لا تصدق ما يحدث، ليأمرها جمال في جدية لا تخلو من مزاح: انتباه حرمنا المصون قريبا جدا جدا.. يا رب .. إن شاء الله.. لمي هدومك يا بتاعة عشان هراس جاي.. قصدي أنا فالسكة وجي اخدك ..مش هأمن عليكي تقعدي لحظة واحدة تاني.. بسرعة .. ياللاه اقفل السكة القيكي عند البوابة.. مفهوم!.. 

أكدت هاجر: تمام يا فندم.. 

وضعت سماعة الهاتف واتظفعت تنفذها أخبرها به في عجالة متعجبة أن نصير لم يعود للفيلا حتى هذه الساعة.. على غير العادة.. 

❈-❈-❈

الإسكندرية ١٩٩٢..

كادت إجازة سراج أن تنتهي وقد تماثل جرح قدمه للشفاء وحان وقت عودته لعمله.. الأجواء بالمنزل منذ عادا هو ووالده منذ مقابلة عنه عدنان خانقة.. غادرت الضحكة وجه أبيه الذي كان طوال الوقت ساهما.. شاردا في أفكاره خواطره وحده.. ولم يشركه كالعادة فيها.. حتى نوال أخته الصغري التي تزوجت بدمنهور وتأتي لزيارتهما كل فترة.. حين جاءت هذه المرة لتطمئن على حال سراج عندما علمت بإصابته.. أخبرت سراج أن أبيهما ليس على حاله التي اعتادتها.. فهو إما شارد أو عصبي لا يحتمل نقاشا أو جدلا عاديا.. وسألته إن كان يعلم ما سبب ذلك.. لكن سراج أنكر.. فهو بالفعل لا يعلم ما الذي دار بين أبيه وعمه عند لقائهما بالمشفى جعل حال والده يتبدل بهذا الشكل.. 

دخل سراج غرفة والده بعد أن طرق بابها وأخذ الإذن بالدخول.. ليجده جالسا على كرسيه المفضل ومسند المصحف الخشبي منصوب أمامه عليه المصحف الشريف مفتوح على صفحة ما حيث توقفت قراءته لتوه.. 

سأل صبري في حنو: خلاص راچع شغلك يا ولدي!.. 

أكد سراج باسما: اه.. الحمد لله بجيت تمام.. نروحو نشوف أكل عيشنا بجى يا حچ.. 

همس صبري: تروح وترچع سالم يا حبيبي.. 

انحنى سراج مقبلا ظاهر كف والده في تقدير وما أن هم بالمغادرة حتى استوقفه صبري متسائلا: هتروح لبيت عمك يا سراچ!.. 

تطلع سراج نحو والده مؤكدا في هوادة: اللي يريحك هعمله يا حاچ.. هتجولي روح هروح.. هتجولي لاه.. يبجى بلاها.. أني كل همي راحتك.. واللي أنت رايده يكون على رجبتي.. 

همس صبري داعيا: تسلم لي ..ويسلم حسك فالدنيا يا ولدي.. 

ثم تنهد تنهيدة حارة. قبل أن يشير نحو المقعد المقابل له مطالبا في ود: اجعد يا سراچ.. الحمل تجل على كتاف أبوك.. وابوك كبر ومو أمك هده.. ومعدش جادر يشيل اكتر من كده.. الچمل برك.. ونخ بحمله.. 

جلس سراج في اضطراب قبالة والده، تاركا إياه يلقي بحموله كلها بحجره.. أحمال وأوجاع ظلت على كاهلي قلبه لسنوات طوال.. أطول من سنوات عمره.. وأسرار كانت بعمق روحه.. حان أوان البوح بها.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩٢.. 

قررت أنس الوجود كما وعدت مدثر ليلة البارحة أن تسأل نجية رأيها في طلب مدثر الزواج بها وعلى الرغم من معرفتها المسبقة لموافقة نجية لاستشعارها وجود رابط ما بينهما.. إلا أن السؤال واجب وعليها أن تقوم بالمهمة على أكمل وجه.. جهزت نفسها للخروج وعلى غير العادة لم يكن حبيب بتعريشته.. ربما شعر بالرغبة في الاستيقاظ متأخرا قليلا عن عادته.. وعندما تعود ستجده ها هنا بموضعه المعتاد تحت التعريشة يعرض عليها احتساء كوب من الشاي.. فتقبل هي بكل سرور.. 

ابتسمت أنس الوجود في رضا وهي تتجه لخارج السراي ملقية التحية على شبل الذي عرض عليها مرافقتها فرفضت في لطف تبلغه أنها ببيت نجية أم سالم.. 

سارت أنس الوجود الدرب الترابي الطويل وحيدة وانتظرت ظهور زفراني بكل لحظة.. متذكرة كيف ظهر لها للمرة الأولى التي تسير فيها ذاك الدرب منذ شهور طويلة.. تحسبها اليوم دهرا.. وكأنها عاشت عمرها كله بالرسلانية.. ولم يخيب ظنها.. فقد ظهر زفراني بالفعل وقد قطعت ما يقارب من نصف المسافة التي كانت تسيرها في هوادة وتؤدة.. 

ألقت التحية على زفراني الذي اعتادته واعتادها.. وما عادت تهابه أو تخشى البقاء معه وحيدة كما السابق.. 

أخذ زفراني يتحجنجل قبالتها راقصا ومترنما.. 

ويا محلى العشج.. للعشاج بيحلي.. 

يرسم ع الوش ضحكة هبلة .. مع ذكر الحبيب..

وينزع الخوف م الجلب ما يخلي.. 

اتسعت ابتسامة أنس الوجود مؤكدة: صدقت يا زفراني.. 

عاد زفراني لحنجلته من جديد في فرحة غامرة.. مؤكدا وهو يشير لقلبه بعصاه الهوجاء: اللي وعى لحديت زفراني يبجى العشج لمس جلبه يا بت الراچل الطيب.. 

همت بسؤاله عما يعنيه، لكنه رسم من موضعها طريقين بعصاه وسألها في نبرة صوت جعلت دواخلها ترتعش: تختاري تمشي في أنهي طريج يا بت نچيب!.. 

توقفت لبرهة لا تعرف بما تجيبه، ولعلمها أن ما يفعله زفراني دوما ما يحمل في طياته قبس من الحقيقة.. كان الاختيار محيرا ومربكا.. وهو كان صبورا ولم يتعجلها.. منتظرا على الجانب الآخر لنهاية الطريقين المخطوطين أرضا في هدوء مثير للدهشة لا يعكس طبيعة زفراني الصاخبة.. 

وأخيرا .. اتخذت أحد الطريقين تسير في بطء على طول الخط المرسوم كأنها تسير على حبل مشدود كلاعب الترابيز في سيرك.. وما أن وصلت نهايته عند موضع انتظار زفراني.. حتى تنهد هو وقرر المغادرة تاركا إياها.. لكنها استوقفته متسائلة في اضطراب: أنت مقلتش ده معناه ايه!.. 

تطلع زفراني نحوها في نظرة تقطر عطفا: راعي خطوتك.. درب العشج.. واعر ومواله كبير.. كبير جوي.. وكيف ما هيچرح.. كيف ما هيداوي.. واللي رايد ينول لازما يلبس توب الصبر.. بس توب الصبر كله شوك.. هتجدري!.. 

دمعت عينى أنس الوجود وهي تهمس بصوت متحشرج تأثرا مجيبة زفراني: هقدر.. ايوه.. هقدر.. 

سار زفراني تاركا إياها هاتفا بصوت جهوري: 

ربنا يعين كل عاشج على جلبه.. ويسهل على كل حبيب دربه..

تطلعت أنس الوجود نحو الطريقين المخطوطين أرضا من جديد لتجد الطريق الذي لم تسلكه وقد انمحى أثره وكأنه لم يكن هنا.. فشهقت في اضطراب مندفعة تكمل الدرب هرولة نحو بيت نجية.. 

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة