رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 53 - الثلاثاء 5/8/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثالث والخمسون
تم النشر الثلاثاء
5/8/2025
سرب حمام..
الرسلانية.. ١٩٨١..
كان ذاك النهار الخريفي بامتياز يذكرها بأيام لقاءها الأولى بفضل، ابتسمت فوز وهي تتطلع نحو الرسلانية من نافذة حجرتها التي تقبع بها وحيدة منذ أن اقتادوا فضل للمعتقل للمرة التي لم تعد تذكرها.. فيما عرف باعتقالات سبتمبر التي تم فيها القبض على الكثير من المثقفين وأصحاب الرأي على نطاق واسع.. ممن كان لهم الكثير من الآراء وكذا المقالات اعتراضا على سياسات السادات تجاه الانفتاح الاقتصادي واتفاقية السلام وكذا دفعه لتيارات الإسلام السياسي في مواجهة الفكر الشيوعي.. وأخيرا تعديل المادة ٧٧ من الدستور المصري التي تسمح بانتخاب الرئيس لعدد غير محدد من الفترات..
علمت منذ نظرت لعينيه لأول مرة أن ذاك الرجل هو رجل حياتها الأوحد وأن ثورته الداخلية لنصرة الحق واعلاء قيم الحرية والعدالة التي كانت جزوتها تستعر بناظريه هي محركه الأول في الحياة.. فاقسمت بينها وبين نفسها عهدا أمام الله.. أنه لو قدر لها وأصبحت رفيقة دربه أن لا تحاول يوما أن تطفيء تلك الجزوة أو تمنعه من استكمال طريقه مهما كانت عواقب ذاك الطريق. يكفيها من العمر كله أيام قضتها في رحابه وساعات هنأت بها في صحبته وتمتعت بحنانه وتفهمه.. اعتقد البعض أنها مجنونة أو ربما لا تحبه وخاصة حين كانت النسوة تدفعها لقص أجنحته والضغط عليه للبقاء قربها وأبناؤها.. لا يعلمن أن محبتها لفضل فاقت محبتها لنفسها حتى أنها فضلت ما يرغب على رغبتها وقدمت ما يحب على ما تحتاج.. إنه نوع من الحب لن يبلغه البعض ولن يفهمه من لم يذقه.. لذا لم تشرح ولم تفسر بل نفذت وظلت على عهدها مع الله حتى هذه اللحظة وهي في هذه السن .. التي تود لو تركن فيها للهدوء والدعة في صحبة حبيب العمر وشريك الدرب..
تنهدت فوز في راحة، تتمنى لو يعود فضل سريعا من المعتقل.. فقد اشتاقته هذه المرة كثيرا على غير العادة.. فقد وطدت نفسها أن تحتمل نوبات الحنين وموجات الشوق التي تضرب روحها إلى صحبته واحساس السعادة الذي يتملكها في حضرته..
طرقات على باب حجرتها جعلتها تننبه من شرودها على دخول حفيدتها منيرة وهي تحمل أخيها محمود الباسم دوما على الرغم من تلك العتمة التي ولد في سطوتها.. لتؤكد منيرة في رقة: الفطار چاهز يا ستي.. أمي چهزته تحت..
ابتسمت فوز لحفيدتها حاملة عنها محمود الذي تعلق بفوز ما أن مدت يدها تحمله، وكأنه تعرف عليها من رائحة تميزها أدركها الصغير بفطرته فألقى رأسه في وداعة على كتفها.. وهبطا سويا الدرج، ليجتمعا بحبيب وأمينة وصفية بعد أن غادر رؤوف مبكرا لقضاء بعض الأعمال خارج النجع..
ساد الصمت في أثناء تناول الطعام.. وراديو البهو الواسع يلقي بأخباره من هنا وهناك.. حتى تنبه الجميع لأنين فوز الذي ارتفع كأهات قوية.. انتفض لها كل من كان حاضرا على المائدة.. ليندفع حبيب للخارج أمرا عرفان بإحضار العربة سريعا عند مدخل السراي.. ليعود للداخل حاملا جدته في عزم باتجاه العربة مهرولا.. أمرا عرفان بقيادتها لأقرب مشفى لنجدة جدته الحبيبة..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٨١..
توقفت أمام المرآة تتحسس وجهها في حنق، وتمرر كفيها على جسدها في صدمة، أين ذهب جمال الوجه الذي ما طالته أفاعيل الزمان!.. وأين جسدها المشدود العود الذي ينافس جسد فتاة في السابعة عشرة من عنفوانها!.. لمَ تبخر كل هذا فجأة.. ولمَ خلف المجهول بعهده معها!. ألم يكن الشباب الأبدي هو جائزة طاعتها وتنفيذها لكل مطالب ذاك المجهول وكذا أوامر نعيم اليهودي!.. إذن لمَ ذهب كل هذا في غمضة عين!.. تكاد تجن ولا تغادر المنزل فقد تبدلت خلقتها تماما.. ما عادت زينات عوني تلك الفاتنة التي تزداد شبابا وتألقا عام بعد العام.. والتي كان الجميع لا يعرف سر شبابها الدائم وكأنها ملكت اكسيره وحدها..
تطلعت زينات من جديد لوجهها المتغضن بالمرآة وجسدها المترهل وصرخت في حنق وهي تمسك بإحدى المزهريات القريبة من يدها دافعة بها نحو المرآة محطمة إياها رغبة في عدم التطلع إلى نفسها من جديد.. صارخة في غضب قاهر: أنا عملت ايه!.. طب أنا غلطت في ايه عشان تعاقبني كده!.
رد عليا.. كنت دائما لما بنده لك بلاقيك بترد على طول ليه بتتجاهلني دلوقت!.. طب رد مرة واحدة.. متسبنيش كده أنا هتجنن..
قهقه ذاك المجهول على ما يراه من حيرة زينات واضطرابات ما دفعها لتصرخ في ثورة هادرة: رد عليا.. عملت فيا كده ليه!.. طب لك طلبات اعملهالك وترجعني زي ما كنت!..
قهقه المجهول من جديد، مؤكدا في صوت أشبه بالفحيح: مبقاش حيلتك حاجة تعمليها يا زينات بقيتي كارت محروق.. كان لكي لازمة أيام الملك ومع حاشيته وشوية مع الظباط وسلطتهم وشوية مع رجال الأعمال ونفوذهم.. دلوقتي اللي زيك مبقاش نافع دخل أعضاء جداد اللعبة.. ودول بقى عكسك ف كل حاجة.. حتى متنفعيش تبقي واحدة منهم.. ولا تبقي حتى وسيط استغلك تحركيهم لخدمتي لأنهم ماشيين ورا كلامي في الأساس لا محتاجك ولا لك عوزة..
تنبهت زينات متسائلة في ذعر: هتموتني!.. اهون عليك بعد خدمتي لك السنين دي كلها!..
ابتسم المجهول في سخرية: خدتي تمنهم عز وهنا محدش شافه.. وخلاص كده.. لكم عمر يا بني ادمين مهما طالت قعدتكم على الأرض دي مفارقين.. عمركم قصير يا عيني.. ملكمش لازمة.. أنا قلت كده من زمان بس مش عارف هو كرمكم على ايه!..
اقترب منها المجهول فصرخت زينات محاولة الهرب، ليتهكم المجهول منها ساخرا: مش دي أحضاني اللي كنتي بتجلها ف بيت الخالة مكحلة.. نستيها!.. ولا نسيتي البيت! حاكم انتوا صنف نمرود بينسى أصله بسرعة.. زي ما نسيت زينات إنها فالأصل حتة غازية اسمها شفاعات..
جذبها المجهول بين ذراعيه عنوة مع كل الاعتراضات ومحاولات الهرب التي حاولتها بلا طائل.. لحظات ووجدت نفسها بقلب دار الخالة مكحلة.. حيث بدأت حكايتها... تطلعت حولها في تيه وصدمة لا تصدق أنها انتهت ها هنا من حيث كان بدء اللعنة والقصة المشؤومة.. تركها المجهول تسير في اتجاه الخارج معتقدة أنها يمكنها الفرار.. ليصلها صوته داخليا كأنه يجلس داخل رأسها محدثا.. متحاوليش تخرجي بره عتبة الدار عشان مش هتقدري وحاولي وانتي تتأكدي..
وكأنها أخذت منه الإذن.. فمدت قدمها خطوة خارج عتبة الدار بالفعل فانتفضت ألسنة اللهب قبالة ناظريها قادمة من قلب الجحيم .. ما دفعها لتتقهقهر عائدة خطوة للداخل تتطلع للرسلانية أو ما تيسر لها رؤيته من معالمها من موضع وقوفها كأنها تبصره من خلف ستار شفاف.. هامسة تسأل في تيه: ده أنا غيبت كتير أوي..
أكد المجهول متهكما: كتير لدرجة أن اللي كانوا ف سنك وأصغر منك كمان ماتو.. شفتي أنا كنت مدلعك إزاي ..
اندفعت شفاعات نحو المجهول تلقي بنفسها عند قدميه تقبل أقدامه هاتفة في مذلة: احلفك بأغلى ما لك.. خليني.. طب أنت هتخسر ايه لو أنا عشت لي كام سنة تاني! .. سبني واعتبرني مت.. وأنا مش هطلب حاجة ولا أي حاجة بس سبني أعيش..
هتف المجهول وهو يدفع بها بعيدا عن قدميه التي تتشبث بهما شفاعات في محاولة لاستعطافه: إنتي عارفة عندك كام سنة دلوقت يا شفاعات!.. داخلة على ٩٥ سنة.. قوليلي عايزة تعيشي ليه ولمين!.. بقالك فوق العشر سنين من بعد ما بدا يظهر عليكي العجز والشيب الافلام والشهرة سابتك والرجالة اللي كانو حوليكي زي النمل كلهم زهدو فيكي وراحوا لستات أصغر وأجمل ..وفلوسك صرفتيها ومبقاش منها اللي يأكلك عيش حاف.. وبناتك محدش يعرفك ولو عرفوكي هيتبرو منك.. يبقى تعيشي ليه!..
هتفت شفاعات وقد بدأت تنهار باكية: اعيش عشان.. عشان مش عايزة أموت ..مش عايزة أروح للحتة اللي طول عمري بنكر وجودها.. واللي معرفتش إنها موجودة إلا دلوقت.. أنا مش عايزة أقابله.. معدش ينفع.. أنا كنت معاك عشان مقبلهوش.. اخد حقي م الدنيا وممتش.. مش انت قلت لي كده.. اللي معايا هيعيش ويأبد فالدنيا!..
قهقه المجهول ساخرا: لهو انتي صدقتي!.. وأنا مين عشان أقدر اعيشك للأبد.. أنا جايبك هنا عشان خلاص ميعادك قرب.. وأنا كان نفسي اشوف حد منكم بيقع ويفضل معايا للآخر.. كنتي مخلصة ليا... خسارة.. بس الصراحة أنا سعيد بانتصاري..
تطلعت شفاعات له في تيه، واستمر بكائها في قهر، لوهلة شعرت برغبتها في التضرع لله مستغفرة لعله يرضى ويغفر إلا أن المجهول اندفع نحوها يطوقها بذراعيه حانقا: اياكي.. انتي كده مش بتسهلي على نفسك الموضوع.. وطالما أنا معرفش ساعتك هتحين امتى.. فخليكي بقى متعذبة كده لحد ما يبعت رحمته ليكي ويسترد وديعته..
بدأت صرخات شفاعات في الارتفاع رويدا رويدا مع تلك النيران التي بدأت تستعر في جنبات دار مكحلة الغجرية وبدأ أهل النجع في الإنتباه لها.. حتى أن الجميع حاول اطفاءها بكل ما لزم ولكن بلا فائدة.. والعجيب أن النار لم تخرج عن نطاق دار مكحلة قط ولم تمتد ألسنتها لخارجها.. لكن ما لم يستطع مخلوق تفسيره أو اخراسه تلك الصرخات المتوجعة التي كانت تصدر من قلب النيران لامرأة لم يستدل على حقيقتها ومعرفة كينونتها.. صرخات استمرت لليلة كاملة دون انقطاع قبل أن تصمت فجأة وتهمد معها النيران لتصبح حكاية الدار المشتعلة والمرأة الصارخة قصة تناقلتها الألسن لسنوات.. وما زال السبب مجهولا والمرأة كذلك.. وكذا سبب اختناق أي شخص من أهل النجع يحمل دماء آل رسلان.. حين كان يقترب من موضع الدار محاولا المساعدة في عملية الاطفاء.. والتي اختبرها حبيب و رؤوف حين حاولا المشاركة في عملية إخماد النيران العجيبة التي كانت المياه تزيدها اشتعالا.. وتزيدهما اختناقا وسعالا على العكس من أهل النجع.. وما نبهما لهذه الحقيقة سوى الشيخ معتوق حين حاول عدة مرات قراءة القرآن الكريم لعل تلك الصرخات التي تهز القلب رهبة تخف وطأتها فيتلجم لسانه عن النطق بحرف.. فأدرك أن ذاك موضع عذاب.. أمرا الناس بالتراجع وعدم المحاولة.. فما عادت محاولات العالم تجدي نفعا في تغيير ما خطته الأقدار.. وقد حان أوان دفع ثمن الاختيار..
❈-❈-❈
باريس ١٩٨١..
كانت ىمائدة الافطار يغلقها الصمت كالعادة، إلا من صوت تقليب صفحات الجريدة المصرية والتي كانت عادة إلهام تصفح اخبارها على المائدة يوميا..وكأنها تستشعر بقراءتها لجريدة تحمل أخبار الوطن الذي امتزجت دماء حبيبها برماله وخطب ثراه الطاهر أنه قريب وما زال هناك على الرغم من كل تلك السنوات من الفراق ..
هتفت إلهام تبلغ بهجت الذي كان يجلس في صمت مقدس أشبه براهب بوذي: فضل ابن عمتك اعتقله السادات مع باقي المثقفين..
همس بهجت متعجبا: ايه الجديد!.. فضل طول عمره صاحب رأي ومبدأ وده كان دايما مصير أصحاب المباديء يا إلهام.. فضل وناجي الله يرحمه أصحاب مباديء .. وميعرفوش يبقو إلا كده.. أتربو يكون لهم قضية يدافعو عنها ولو كلفتهم حياتهم..
ضمت إلهام سلسال زوجها الراحل الذي كان يطوق جيدها في حنين وشوق.. ولم تنطق حرفا لبرهة، قبل أن تهمس تشاكسه: ومذكرتش مختار الله يرحمه معاهم ليه!.. لسه القلب غضبان!..
قهقه بهجت مشاكسا إلهام: إحنا عندنا كام سنة دلوقت يا إلهام!..
امتعضت إلهام لسؤاله معترضة بالفرنسية عن سؤاله الوقح الذي لا يجب من باب اللياقة والذوق توجيهه لامرأة أبدا .. لترتفع قهقهات بهجت من جديد ناصحا: يبقى نكبر بقى على الاسئلة دي.. أنا جوازي من ناتالي كان هو القرار الصح اللي عملته وخاصة في بدايات عملي هنا يا إلهام.. نفوذ والدها حمى تجارتي وشركاتي وخلاني ابني الإمبراطورية اللي انتي شيفاها دي .. اينعم ربنا مرزقنيش منها بأولاد.. بس البركة في أولادك ..اهم شايلين حمل كبير عني.. وأنا خلاص بقى زي ما كنا بنقول فمصر.. يااللاه حسن الختام..
هتفت إلهام معترضة: متقلش كده يا بهجت وتوجع قلبي.. مبقلناش إلا بعض.. كل الحبايب راحوا.. ربنا يخليك ليا..
ربت بهجت على كتف أخته الصغرى، وانحنى في هوادة يقبل هامتها في حنو، وما أن هم بالمغادرة حتى ألتفت لأخته باسما وهو يقول بنبرة متحسرة: اخوكي اه شاطر فعقد الصفقات وحساب المكسب والخسارة.. لكن مكسب القلوب طول عمري تاجر خايب فيه يا إلهام.. وتجارتي بايرة.. أصل الحب ده رزق.. مش لكل الناس.. عمره ما كان من نصيبي.. بس إنتي نلتيه مع ناجي.. ومتهيء لي كان أحلى رزق.. ندمتي ولو للحظة يا إلهام!..
هزت إلهام رأسها برفض قاطع دامعة العينين: معرفتش الندم أبدا.. ناجي الدنيا كانت فقربه حياة.. حياة بتمنى تتعاد معاه بكل تفاصيلها بس نحذف منها كل لحظة بُعد وفراق..
سالت دمعات إلهام على خديها في رقة، تاركة بهجت يبتسم في وداعة لكلمات أخته التي لم يتذوق قلبه معناها يوما.. ليدخل مكتبه.. بينما ارتفع صوت أم كلثوم بالبهو كعادة إلهام حين تضربها موجة شوق لحضرة ناجي الذي كان يهديها دوما تذاكر حضور حفلات أم كلثوم .. ليحضراها سويا.. ليصدح صوتها عاليا..
أنت خلتنى أعيش الحب وياك ألف حـــب..
ابتسم بهجت وكلمات الأغنية تصل مسامعه وهو يدخن غليونه نافسا دخانه في هوادة.. متطلعا نحو الأفق الذي اكتسى بالأبيض الثلجي كعادة الطقس الباريسي في مثل هذا الوقت من العام.. مدركا أن الحب كسرب حمائم مهما طاردته لتحن عليك حمائمه وتستقر ببرجك الذهبي الذي بنيته خصيصا لأجل راحتها.. لن تفعل .. طالما هدف السرب أن يستقر ببرج آخر حتى ولو كان من طين ..
❈-❈-❈
القاهرة مطلع.. ١٩٨٢..
كان وقع خبر اغتيال السادات على منصة العرض يوم الاحتفال بالذكرى الثامنة على انتصاره بأكتوبر.. كان عنيفا.. فما حدث لم يكن متوقعا في اسوء السيناريوهات وعلى الرغم من التنبيه على خطورة وتغول تيارات الإسلام السياسي المتشددة إلا أن ذاك الحدث هو الاقسى على الإطلاق والابعد توقعا.. أن تصل هذه الأفكار المتطرفة إلى قلب الجيش ويقوم بعض من رجاله بهذا الفعل الخسيس.. فذاك كان أبعد من أن يصدق..
كانت الشهور التالية لاغتيال السادات فاصلة ومحورية والأشد حساسية لذا كانت الأولوية القصوى هي إعادة الاستقرار عن طريق ملء سدة الحكم بمن يناسب تلك التبعات الصعبة التي خلفتها فترة حكم السادات وخاصة محاربة أصحاب الأفكار المتطرفة الذين مدو اذرعهم كالاخطبوط.. وكان لابد من أن يتولى نائبه محمد حسني مبارك حكم البلاد سريعا بعد ما يقارب الأسبوع على اغتيال السادات لتستقيم الأمور بالبلاد وتبدأ حقبة جديدة من عمر الوطن..
خرج معتقلي سبتمبر أخيرا.. وكان فضل رسلان أحد أهم المفرج عنهم.. والذي اندفع نحو الجريدة ليلق التحية على أستاذه الذي ما أن رآه حتى هلل مرحبا: أهلا بالبطل الهمام.. حمدالله على السلامة..
هتف فضل وهو يلق بنفسه بين ذراعي أستاذه وصديقه الأوحد: معلش بقى واحشني وبحضنك وأنا لسه بلبس المعتقل وقرفه.. بس أنا نازل البلد حالا ويمكن اطول هناك شوية.. فوز والولاد وحشوني.. فقلت اعدي عليك الأول.. اسلم واطمنك وامشي..
همس سلام في نبرة مترددة: فوز هنا يا فضل..
تطلع فضل صوب سلام متعجبا وقد عاد إليه بعد أن هم بالمغادرة: هنا فين!.. هو في ايه!..
فسر سلام: رؤوف كلمني أول امبارح وقال لي لو أعرف ممكن يطلعوك امتى عشان.. عشان يعني..
صرخ فضل في ذعر: عشان ايه! فوز كويسة!..
همس سلام: هي في المستشفى يا فضل.. لازم تدخل عمليات النهاردة.. تعبت جامد من ..
قاطعه فضل صارخا: مستشفى ايه بسرعة..
أخبره سلام باسم المشفى.. ليندفع خارج الجريدة لعله يلحق بها قبل أن تغيب داخل غرفة العمليات دون أن يخبرها أنه ها هنا جوارها وينتظر خروجها..
سار السرير المدولب بفوز نحو غرفة العمليات بوجه شاحب يسير خلفها رؤوف وأمينة.. لتسألهما هي بصوت واهن ظهر بصعوبة متزامنا مع صرير عجلات السرير المندفع صوب غرفة العمليات: فضل لسه مطلعش.. كان نفسي اشوفه ..سلمو لي عليه..
هتف رؤوف بصوت متحشرج تأثرا محاولا المزاح : هتسلمي عليه بنفسك وانتي زي الفل.. لما يطلع بجى ويلاجيكي ايه رچعتي ولا بت تمنتاشر..
هتفت فوز باسمة: فعيون فضل.. عمري ما كبرت عن سن ال ١٨ .. عن سني يوم ما قابلته..
بكتب أمينة ..فتطلعت نحوها فوز باسمة وقد توقف السرير المدولب وقد وصل لباب غرفة العمليات.. لتهتف بها فوز على قدر استطاعتها: أمينة.. خلي بالك على رؤوف ..والعيال.. اشوفكم بخير..
دفعت الممرضات السرير لداخل غرفة العمليات وعيون رؤوف معلقة بجسد أمه الذي غاب خلف الأبواب الباردة..
كان صرير عجلات السيارة التي جاءت مسرعة عند ذاك الدوران الذي كان يقف على ناصيته فضل من أجل استجداء سيارة أجرة للذهاب به للمشفى.. مثيرا للإنتباه وخاصة حين خرج من خلف نوافذ السيارة التي كانت مشرعة قليلا .. فوهات لأسلحة آلية.. اندفعت رصاصتها وعلا دويها مصاحبا لصرخات المارة.. وحالة الهرج التي صاحبت صوت إطلاق النيران.. ليسقط فضل مدرجا في دمائه عيونه شاخصة للسماء.. وانفاسه تتردد في صدره بصعوبة..
خرج الطبيب بعد مدة ليست بالقليلة.. منكس الرأس هاتفا لرؤوف في نبرة آسفة: حاولنا على أد استطاعتنا ..بس أمر الله نافذ.. البقاء لله..
شهقت أمينة في صدمة، بينما استند رؤوف على الحائط خلفه، لا يصدق أن أمه رحلت بلا عودة..
تجمع الناس حول جسد فضل النازف.. هذا يصرخ من أجل الإسعاف في محاولة أخيرة لإنقاذه.. وآخر يدفع الناس بعيدا من أجل بعض الهواء النقي ليدخل رئتيه.. والبعض الآخر يقف ممصمصا متعاطفا مع ذاك الصحفي صاحب الرأي الذي يجود بآخر أنفاسه اللحظة في سبيل نصرة الحرية.. لا يدرك أحدهم معنى تلك الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه فجأة.. بعد أن كان الشحوب يكسو وجهه.. فقد رأي قبالة ناظريه فوز وقد اقتربت باسمة وهي تسأله معاتبة: كنت ناوي تمشي من غير ما تودعني يا فضل!..
همس فضل باسما: ولا أقدر يا فوز.. بس شايفة.. جسمي كله دم.. مش عايز احضنك وابهدلك وإنتي حلوة كده..
اتسعت ابتسامة فوز وهي تضم فضل في محبة هامسة: ريحتك مسك يا فضل.. ريحتك حرية..
انكمش فضل بصدرها هامسا: دندني يا فوز وضميني .. حاكم أنا بردان..
ضمته فوز بين ذراعيها تبثه الدفء وتدندن له كما اعتادت..
اتسعت ابتسامة فضل وعيناه ما زالتا شاخصتان للسماء تتابع سرب من حمام مر بها.. ليهمس آخر كلماته في رضا تام وهو بأحضان محبوبته.. (وأخيرا.. حرية).. ظلت عيناه معلقة بالسرب المبتعد حتى فارقت آخر أنفاس الحياة.. صدره..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
خرجت أنس الوجود من دار نجية، بعد أن أخذت منها وعدا قاطعا أن تفكر في عرض مدثر الزواج بها بعد أن تنتهي عدتها وحتى تمهد لولدها الخبر.. فهو لم يعد صغيرا.. وعليها أن تؤهله لتقبل وجود رجل بحياتها بعد أن كانت حياتها مقتصرة على وجوده وحده..
لا تعرف ما الذي دفعها وهي في حالة التيه التي تشملها منذ حديثها مع زفراني تأتي إلى هنا.. ساقتها قدماها إلى سور دار الحرانية وللعجب وجدت سيارة فارهة تصطف بعيدا بعض الشيء.. سيارة غريبة المظهر لبس من المألوف رؤية مثيلتها هنا بالنجع.. لمن هي يا ترى!..
لم تشغل بالها كثيرا ومرت لداخل الدار بكل أريحية فلم يكن الخفير يجلس موضعه العتاد على البوابة الخشبية.. فكرت في صعود الدرج والدخول لقلب الدار فهي من أهله على كل حال.. لكنها فضلت أن تنتظر بمجلس جدها المفضل حيث التقته في المرات السابقة.. جلست لدقيقتين دون أن ينتبه لقدومها مخلوق.. ما جعلها تنهض لتسير حول الدار قليلا حتى يظهر أحدهم فتبلغه بوجودها.. سارت نحو الحديقة الخلفية ولبرهة هيء لها أنها تسمع صوتا مألوفا لمسامعها..صوتا مميزا وعميقا تقسم أنها تعرف صاحبه لكن.. لحظة.. لا يمكن أن يكون.. كيف أمكنه القدوم إلى هنا!..
مدت رأسها ليتأكد شكها ويتحول إلى يقين..لكن .. لم يكن وجود ذاك الرجل هو المشكلة في حد ذاته.. يل ما يسعى إليه.. وما يحاول إقناع جدها عزام الحراني وابن عمها مظهر بفعله.. وكلاهما يمنحه إذن مصغية بسخاء..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢...
دفع جمال باب شقته مناديا على مريم التي حضرت على عجل، ليدخل وخلفه هاجر على استحياء هامسة: أنا كده هعمل لكم قلق.. مش كان أحسن انزل في فندق لحد ما..
قاطعها جمال هاتفا وهو يكور قضبة يده مدعيا رغبته في اخراسها: فندق!.. يعني بيت سيادة النقيب جمال أبو العينين موجود ..البيت اللي كله أمان وانضباط واحترام والتزام و..
هتفت مريم تستوقفه: خلاص يا سيادة الكونستبل.. البنية تلاقيها تعبانة وعايزة ترتاح.. طرقنا بقى..
هتف جمال مازحا: شايفة!.. بذمتك في احترام اكتر من كده.. مرعوبة كده وهي بتكلمني.. بترتجف م الخوف..
قهقهت هاجر على أقوال جمال ومزاحه مع مريم والتي هتفت مازحة بدورها: ايون.. عتريس بشحمه ولحمه يا خواتي.. ياللاه بقى سيب شنطة هاجر واعتبر الشقة منطقة محظورة منزوعة السلاح متعتبهاش برجليك إلا لما تشوف موضوع الأخ نصير ده وتعرف ايه حكايته..
هتف جمال محذرا: بقولك ايه يا مريم اوعي اللي حصل ده يطلع لأي حد ولا لجنس مخلوق.. مريم قريبتنا من بعيد وجت لنا زيارة.. وأنا يوميا هعدي عليكم اطمن وأشوف لو محتاجين حاجة..
قررت مريم مشاكسة أخيها فهتفت تعترض: وليه تيجي وتتعب نفسك كل يوم ما التليفون يقوم بالواجب..
هتف جمال موجها حديثه لهاجر: شوفتي ..والله ما حد هيحولني من ظابط لمجرم إلا البت دي..
ضحكت هاجر على مزاحهما، ليستطرد جمال موجها حديثه لأخته: ادخلو نامو على طول بلاش حكايات البنات اللي بتبقى آخر الليل دي.. حاكم أنا عارفك.. رغاية..
هتفت مريم معاتبة: بقى كده! وأنا اللي كنت ناوية اقضي الليل كله بشكر فيك وبتغنى بمميزاتك واقول فيك أشعار.. طلعت ما..
قاطعها جمال في لهفة مخرجا كل النقود التي كانت بحوذته: بجد يا بت يا مريم.. طب خدي عشان طلعتي بت جدعة وحبيبة أخوها.. قولي بقى وميهمكيش.. أشعري بقى الليل كله.. هااا.. مش محتاج وصاية.. شغل المعلم لابنه..
هتفت مريم: وجب يا معلمي..
لترتفع قهقهات هاجر من جديدعلى أقوالهما.. وهما يتحدثان هكذا وكأنها لا تشاهد هذا العبث الدائر..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
تسللت أنس الوجود لخارج دار الحرانية تحاول أن لا يعترض طريقها مخلوق مندفعة نحو السراي.. فما سمعته اللحظة يجب أن تخبر به حبيب ليتخذ المناسب من إجراءات..
وصلت للسراي ومرت ملقية التحية على شبل في عجل مهرولة نحو التعريشة لكنها لم تجد حبيب جالسا بها كعادته.. فاندفعت لداخل السراي لتسأل عن مكان تواجده.. أخبرتها نبيهة أن حبيب مع الجدة صفية بحجرتها..
عادت أنس أدراجها في اتجاه حجرة صفية التي كانت مشرعة الباب وصوت حبيب يهتف معترضا على أمر ما: مش هينفع يا ستي.. آه أني رايدها.. لكن الحال مش ولابد عشان اجول يا چواز..
تسمرت أنس الوجود موضعها.. هل قال زواج!.. ومِن مَن يا ترى!..
استطرد حبيب: هي برضك تستاهل تعيش مرتاحة..
هتفت صفية معترضة: يبجى بتظلم نفسك.. سبني أني اخطبهالك.. ومليكش صالح أنت .. وهتتدبر..
هتف حبيب: بس أنس لسه عايزة مالها.. وأكيد هطالب به..
هتفت صفية في حزم: يبجى تجول لها الحجيجة.. إن ملهاش فورثكم مليم.. وإن لو أنت هتديها يبجى بس كرم اخلاج منك لچل ما تنفذ وصية أمك الله يرحمها.. لكن لو ع الحجوج.. محدش له حج ومخدهوش..
اكتفت أنس الوجود بما سمعت، فقررت الخروج مبتعدة عن السراي.. تكتم دمعات صدمة لا تعرف أين يمكن لها أن تزرفها!..
❈-❈-❈
الإسكندرية ١٩٩٢..
رحل القطار لتوه من محطة سيدي جابر .. كان ذلك هو القطار الثاني الذي يفوته.. بعد أن قرر تجاهل موعد قطاره الذي كان من المفترض أن يستقله ليعود إلى الرسلانية .. فما كان والده بصدد اطلاعه عليه من أسرار تستحق أن يترك الدنيا كلها خلف ظهره في سبيل معرفتها..
تنهد سراج في قلة حيلة وهو يرى القطار يبتعد وقد وصل المحطة منذ لحظات.. فاضطر للمكوث بالمحطة حتى يحين موعد القطار القادم للقاهرة ومن هناك يمكنه أن يستقبل قطارا متجها نحو الصعيد.. صوب الرسلانية التي كان يستشعر داخليا أن خيط ما يربطه بأهلها ويجذبه بشكل خفي نحو آل رسلان بالخصوص ليكتشف أن عمة حبيب ومنيرة التي تعيرت بها مرارا لهروبها مع ابن عمدة العرابة.. لم تكن سوى أمه.. وأن حبيب ومنيرة ومحمود هم أولاد خاله.. الذي لا يعرف شكله ولا كان يعلم بوجوده إلا من ساعات قلائل..
أدرك الآن لم هذا الوجع الذي كان يسطر احرفه على جبين والده حين أبصر عمه عدنان بالمشفى.. ولم كان عمه عدنان مصرا أن لا يخبره بالحقيقة المخزية تاركا هذه المهمة الدقيقة لوالده!.. وهنا ايضا ..التمس العذر لوالده في رفضه مسامحة أخيه على ما جرعه له ولوالدته من معاناة طوال سنين عمرهما..
ظهر القطار المتجه صوب القاهرة.. دفع بنفسه داخله جالسا على أقرب مقعد.. وسرح من جديد.. وأخذه خياله لمنيرة.. منذ أنقذها هنا بالقرب من السياج الخارجي للمحطة وهو يشعر أن ثمة قيد لا مرئي يربطه بها ومع كل خطوة يخطوها يجد نفسه يدنو أكثر فأكثر.. حتى اكتشف اليوم صلة القرابة التي تجمعهما.. ويا لها من صلة!.. ابتسم في سعادة وقد أدرك أن وصلها بات قاب قوسين أو أدني..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
قضى حبيب الليل بطوله لم يغمض له جفن.. فما اشعلته جدته داخله من رغبة.. كان كفيلا بجعله يتقلب على فراشه في اضطراب.. يفكر كيف له أن يعرض على أنس الزواج وهويحمل كل هذه التبعات!.. وهل ستوافق!.. كيف ستترك القاهرة ورغبتها في إكمال دراستها العليا والبقاء هنا تحمل معه أحمال كتب عليه حملها.. وتحديات عليه مواجهتها!..
لقد جاءت إلى هنا من أجل الحصول على المال والعودة لحياتها هناك بالمدينة بعيدا عن نجع الرسلانية وكل ما يعج به من حكايات.. فإذا بها تتورط بالحكايا وتتوه بالقصص حتى أنه يخيل إليه أنها نسيت المطالبة بمالها أو ما تظن أنه مالها.. لحظات يأتيه اليقين أنها ستوافق بل سترحب وسيكون بقاءها بالنجع مرحبا به من قبلها.. ولحظات آخرى يكاد يلتهمه الشك من قبولها عرضه.. بل والسخرية منه كذلك.. إنه ممزع وممزق بين هذين الخاطرين منذ البارحة.. ولن يرسو قارب رغبته على شط اليقين حتى يسألها وليكن ما يكون.. فلعل في القادم.. ذاك الفرح الذي انتظره قلبه البكر طويلا..
شعر بحركة.. وخطوات اقدام تقترب.. هل محياها وزغرد قلبه ونهض هو يستقبلها في وجل.. لكنها لم تكن وحيدة.. فقد ظهر بعدها وعلى بعد خطوات منها رجل غريب ببصره للمرة الأولى هنا بالنجع.. من يكون!..
هتف مرحبا: يا مرحبا يا أستاذة!.. معاكي ضيوف.. يا ترى مين!..
هتفت أنس الوجود بنبرة ثلجية لا تحمل مدلولا.. كانت غريبة على مسامع حبيب وهي تقدم ضيفها: نصير بيه الراوي..
مد نصير يده ملقيا التحية ليمد حبيب يده بدوره، ونصير يكمل في نبرة مرحة: نصير الراوي رجل أعمال.. وخطيب أنس الوجود..
جذب حبيب كفه في هوادة من يد نصبر، وعيناه مسلطة على وجه أنس الوجود.. وهو يرد في نبرة أودع بها كل ما يملك من قوة حتى تخرج بكل هذا الثبات: مبروك يا أستاذة..
يتبع...