-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 54 - السبت 9/8/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الرابع والخمسون


تم النشر السبت 

9/8/2025

- كبوة الحزن.. 


الرسلانية ١٩٨٢.. 

كان الحزن ما زال يخيم على الرسلانية كلها، فقد نبأ وفاة فايزة واغتيال فضل قاصما.. ودخول نعشيهما للرسلانية حتى يدفنا بمقابر العائلة بهذا التل هناك جوار من سبقهما للدار الآخرة كان مشهدا مهيبا لم يمر على النجع مثيله.. استمر الحداد لأسابيع طويلة لا في الرسلانية وحدها بل عرابة آل حفني اتشحت بالسواد كذلك.. على الرغم من أن الصلات قد طعن بين النجعين بعد حادثة هرب صبري الحفني مع سعاد ابنة فضل رسلان.. وما خلفه ذلك من أثر على العلاقات التي انفصلت أواصرها.. 

كان رؤوف أكثر المتأثرين لموت والديه بهذا الشكل النفجع.. كان يعلم علم اليقين أن روح كل منهما كانت معلقة بالآخر لكن ما خطر له يوم على بال.. أن يكون يوم رحيلها واحد وأن يفجع فيهما بهذا الشكل. وعلى الرغم من قوة تحمل رؤوف وتحمله الكثير من الصدمات سابقا إلا أن هذه الصدمة كانت بحق قاصمة لظهر صبره وكاشقة تماما لكون الإنسان مهما ادعى الصلابة فأمام سطوة الحزن هو مجرد طفل يحتاج لمف تربت وذراعين لإحتوائه.. وأمام سلطة الوجع يكون الإنسان كريشة في مهب الريح تحمله اينما شاءت وتتركه ليسقط اينما شاءت.. 

اعتزل رؤوف الدنيا كلها لأسابيع طويلة.. ولم يفلح مخلوق في إخراجه من حالة الجمود التي اعتبرته.. حتى أمينة حبيبة القلب التي تشبثت كفه اليافعة بكفها الصغيرة حين نطقت اسمه للمرة الأولى.. وحين كان يضعها بحجره في وداعة حين تبكي ما أن تسقط بعد أن بدأت أولى خطوات المشي على أرض قلبه.. التي عرف معنى الشوق على يديها حين شبا وأصبح من الصعب لقياها كما كان بالسابق فكان يتحجج بزيارة مصطفى رحمه الله حتى ينل منها نظرة إذا ما جاد عليه الزمان باللقاء صدفة.. والتي علم القلب الفتي مع ترديد حروف اسمها أنه عاشق للمرة الأولى.. وحين تأكد أنها لن يكون إلا له.. حين نطق جده سعد بكلمات وداعه.. كل حبيب يتبت فيد حبيبه.. أدرك أنه لن يفلت يدها أبدا.. 

حاولت أمينة الكثير والكثير من المحاولات.. لعلها تنجح في إحداها وتنتزعه من بئر الأحزان التي سقط فيها.. 

باتت السراي أشبه ببناية مهجورة نظرا لغياب حضور رؤوف عن المشهد.. وعلى الرغم من محاولات حبيب أن يحل محل والده في الكثير من الأمور إلا أن حداثة سنه جعلت بعضها لا يسير على النحو المرجو .. وكان ذاك بيت القصيد.. دخل حبيب يوما على والده الذي أصبح الجلوس قبالة نافذة حجرتها هو سلواه الوحيدة يمد ناظريه هناك بالبعد متعلق النظرة بذاك التل البعيد الذي يحوي ذكرى الأحباب كلهم والتي لم يبق منها إلا شواهد القبور حاملة أسماءهم.. وقف حبيب خلف مقعد والده وتطلع إلى تلك النقطة التي يركز عليها.. وهمس بجملة واحدة: أنت شايفهم وبتطلع عليهم من على كرسيك وعارف إنهم بخير.. وهم كمان أرواحهم حاضرة وواعيين للي بيچرا.. بس تفتكر عاچبهم حالك وحالنا بعدهم!.. 

تنبه رؤوف متطلعا صوب ولده.. ليهمس حبيب وهو يربت على ظاهر كف والده منحنيا يتطلع لقسمات وجهه التي زادت نحولا: جلت لي مرة إنك سمتني حبيب على جولة چدي الكبير سعد.. كل واحد يتبت فيد حبيبه وميفلتهاش أبدا.. طب ليه دلوجت بتفلت يدنا من يدك!.. 

جذب رؤوف ولده بين ذراعيه، وهتف في ذعر: لاه، مسيبتش يدي ولا ممكن اسيبها ولو بموتي.. أنت وأخواتك وأمك وعمتي صفية ونچع رسلان كله أمانة في رجبتي.. وأني مفرطش ف الأمانة أبدا.. 

همس حبيب دامعا: يبجى تجوم وتشد حيلك حاكم الشيلة تجيلة عليا.. أني مش جادر عليها لحالي.. 

ربت رؤوف على كتف ولده هامسا: حجك عليا.. معدش الوجت وجت حزن.. الصدمة كانت كبيرة صح.. واللي راحو غلاوتهم ما تتجدرش.. بس ده اللي المفروض يكون.. ندفن حزننا چوانا ونوجف.. حاكم اللي يسهى عن حاله فزمنا ده . يتكاترو عليه الديابة.. 

نهض رؤوف من موضعه وهو أكثر عزما.. ما جعل حبيب يوقن أنه استعاد أبيه أخيرا بعد كبوة الحزن تلك.. أبوه الذي يعرفه بكل عنفوانه وسطوته.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٨٢.. 

توقفت العربة الفارهة أمام دار الحرانية ليترجل منها سميح مرتديا جلباب فاخر الصنع أشبه بالجلابيب العربية منه للجلباب الصعيدي المتعارف عليه.. وفوقه عباءة موشاة بالقصب على أطرافها تؤكد على فخامة الصنع وغلو الثمن.. 

كان أشبه بأمير عربي فاحش الثراء وهو يهبط من سيارته في اتجاه الداخل وقد تحمل الدار بالكثير من أعواد الانوار الملونة من كل جانب والتي امتدت احبالها لخارج الدار لمسافة كبيرة من كلا الجانبين وكذا الساحة الواسعة قبالة الدار التي نصب بها صوان كبير وفي أحد أركانها المتطرفة كانت تنحر الذبائح.. ويتجمهر الناس.. 

ما أن هل سميح داخل الدار حتى انتفض محسن ولده البكري مندفعا صوبه في سعادة معللا: يا مرحبا بالحچ سميح.. عاش من شافك يا حچ.. ولاه من لجي أحبابه.. 

قهقه سميح حين أدرك المعنى المستتر المراد خلف تلميحات ولده، معاتبا في مزاح: طب ما أني جلت لك تعال وأنت اللي ماسك لي فالمخروبة دي ومش راضي تفوتها!.. تعالى وسيبك من النچع ده بناسه الفجريين وشوف العز وعيش بجى بعيد عن الناموس والبهايم .. اجعد فالمكيف واتعامل كيف الأمرا.. اللي تطلبه ياچيك.. 

هتف محسن باسما: كله بأوانه يا شيخ.. بس سيبك أنت.. الچوازة الچديدة شكلها واخدة حجها معاك وصغرت ياچي 

عشرين سنة.. 

هتف سميح محتجا: عشرين ايه!.. جول أربعين يا عديم المفهومية.. دي بت صغار بتاع ١٣ سنة.. رچعت شباب شبابي.. مش أنت اللي جاعد لي من غير چواز ده كله واجولك تعال اچوزك تجول لي منيرة.. منيرة ايه دي اللي حاططها ف بالك.. دي عيلة نسوانها ما ياچي من وراهم إلا الفجر والنحس.. 

هتف محسن مشاكسا: يعني عينك انت مكنتش على واحدة منهم برضك!.. اللي خدها الخواچة وطار.. 

همس سميح في وجل: وهي وداد دي كان لها زي يا مغفل.. كانت نسخة من أمها .. چمال مفيش منه.. بس ملهاش ف الطيب نصيب.. عشان كده بجولك نسوان الرسلانية فجرية ومياجيش من وراهم إلا النحس والشوم.. ما هو عمك خد اختها .. نابه ايه.. راح مع الچيش اليمن ومن ياميها مسمعناش عنه خبر والله يرحمه بجى بعد السنين دي كلها.. ألا هي منزلتش النچع من بعد راحت مع چوزها الخواچة!

هز محسن رأسه نافيا: من بعد موت امها منزلتش النچع تاني .. واستطرد بعدها محتجا: وبعدين خلاص يا حچ ما أني اهااا عملت بنصيحتك وخدت بت الشيخ اللي جلت لي عليها ونصبنا النصبة لليلة الكبيرة اهي.. اومال يعني كنت مسيبك عروستك كده .. ما هو لچل ما افرحك..  

قهقه سميح ساخرا: وأني اللي جلت الواد جايم بالواچب أول ما جلت له إني راچع النچع ومعلج الهارب.. اتاريك نويت تحصل أبوك.. ايوه كده.. هو ده الكلام.. مش تجلي سميرة.. 

هتف محسن مصححا: منيرة يا حچ.. 

هتف سميح في لا مبالاة: بلا منيرة بلا مطفية.. النسوان كلها واحد.. اتبسط واتچوز وخلف عيال على كد ما تجدر واللي مش على هواك تغور.. الواحدة تبجى تحت رچلك لمزاچك وماعون لعيالك.. عاچبها تجعد.. معچبهاش الباب يفوت چمل وتچيب بدالها عروسة بكر.. ست ستها.. واعي لحديتي!.. 

ابتسم محسن مؤكدا: واعي جوي يا حچ سميح.. كلامك حكم.. 

أمره سميح مشيرا لخارج القاعة التي يجلس بها وولده: منك لله چبتني لجضايا.. طب ياللاه روح وصي لنا على كوارع ولحمة راس خلي الواحد يرم عضمه.. 

تطلع محسن حيث أشار والده، ليجد أمه وزوجة أبيه الثانية تزاحمها على مدخل القاعة حين علما بوصول زوجهما.. ما دفع محسن للضحك وهو يتطلع لوالده الذي كان يتطلع بغير رغبة نحو زوجتيه التي كانت كل منهما تنتظر أن يختارها سميح لتكون شريكة مخدعه الليلة بعد طول غياب عنهما.. 

❈-❈-❈ 

بورسعيد ١٩٨٢.. 

كان دوما ما يتساءل عن ذاك الحزن العجيب الذي غمر قلب أمه يوم أن شاهدت ذاك الحادث بالتلفاز.. صرخت في قهر وسقطت فاقدة الوعي لينتفض أباه نحوها غير مدرك لسبب ذلك.. في البداية أعتقد أن أمه تحمل طفلا وذاك كان سبب فقدانها لوعيها فهو يذكر أن ذاك حدث لإحدى الجارات وسمع بعدها أنها في سبيلها لترزق بمولود.. لكن للأسف لم يكن ذاك سبب تلك الحادثة.. 

يذكر أن والده ما أن رأى الحادث بالتلفاز صرخ بدوره ضاربا كفا بكف وهو يحوقل في صدمة وحزن شديد.. من هذا الرجل الذي قُتل برصاص بعض المسلحين من ذوي اللحى والجلابيب البيضاء القصيرة!.. ولم حزن والده عليه لهذه الدرجة الكبيرة!.. 

كان سراج يقف عند باب حجرة والديه في قلق بحمل كوب الماء الذي أتى به مهرولا حين حمل صبري والده جسد أمه الذي تمدد أرضا ما أن سمعت خبر مقتل ذلك الصحفي.. 

أخذ صبري كوب الماء من يد ولده في عجالة مغلقا الباب في هوادة وقد وصل لمسامع سراج صوت أمه الهامس في هزيان: راح يا صبري.. راح من جبل ما يسامحني.. 

توقف سراج ابن الخامسة عشرة أمام هذه الكلمات كثيرا.. وخاصة حين ظلت أمه بفراشها لأيام تهزي وأبيه يراعيها ويطيب بخاطرها وقد كان البكاء هو سلوتها الوحيدة.. حتى بعد أن أن استعادت عافيتها قليلا واستطاعت أمه الوقوف لصنع الطعام ومزاولة اعمال المنزل المعتادة لم تكف عن البكاء.. سألها ولدها سراج يوما: ليه البكا ده كله! على مين!.. وليه إنتي زعلانة جوي كده!.. 

لم تنطق سعاد حرفا.. بل زادت وتيرة بكائها للحظة ثم انقطع الدمع فجأة ولم يرها تبكي بعدها أبدا.. حتى وهي تتألم من جرعة العلاچ الكيميائي عندما هاجم جسمها المرض اللعين . كانت صامدة ولم تزرف الدموع بعد هذه الحادثة أبدا.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٨٤.. 

ارتفعت الزغاريد من صفية وأمينة على حد سواء في فرحة .. فقد كان مجموع حبيب بالثانوية العامة مبعثا للسعادة التي هبت على السراي أخيرا بعد سنوات من الشجن الذي كساها .. 

هتف رؤوف باسما وهو يربت على كتف ولده البكر: ها يا بطل ناوي على ايه!.. مجموعك ما شاء الله يدخلك سياسة واقتصاد بالراحة.. تبجى سيادة السفير حبيب رسلان.. ايه رأيك!.. 

هتفت أمينة في فرحة: وليه لأ.. لهو أجل م السفرا دول.. 

قهقه حبيب مازحا: ايوه.. الجرد في عين أمه.. لاه.. سفير ايه.. هي كلية الآداب فجامعة أسيوط وحلو على كده.. ايه اللي يحدفني على مصر وابعد عنكم كل ده.. أني كل اسبوع هتلاجوني هنا.. 

هتفت صفية باسمة: كني شايفة رؤوف يوم نتيچته.. دخلناه الزراعة بالزج والمحايلة.. كان رايد يجعد معانا لما كنا حريم لحالنا وفضل فالمعتجل.. سنة والتانية ومكملش.. شال الليلة على كتافه من بدري.. يا نضري..

هتف رؤوف باسما: كله بياخد نصيبه يا عمتي.. وانت يا حبيب أعمل اللي يريحك واللي شايف فيه مصلحتك.. أني موچود ولسه كتف أبوك عفي ويشيل.. متشيلش همنا.. لو لك شوج فچامعة تانية.. روح.. 

أكد حبيب في صدق: لاه.. هي آداب.. وكده تمام جوي.. 

أمر رؤوف باسما: طب ياللاه.. عايزين نوزع شربات نچاحك ع النچع كله.. وندبح لنا دبيحة زينة كده تفرح الغلابة.. 

همس حبيب بالقرب من والده: ما بلاها الدبيحة يا حچ رؤوف.. الظروف مش ولابد.. كفاية الشربات.. 

تطلع رؤوف نحو حبيب هامسا: لاه.. طول ما بيدك تطعم الغلابة جول يا رب وهي تفرچ.. 

كان حبيب على علم دون غيره أن الأرض أو ما تبقى من أرض الرسلانية في حوزة العائلة وارثها بعد قوانين الاصطلاح الزراعي وما حاول رؤوف الحفاظ عليه دون تفريط ببيع الأرض نفسها.. يكلفهم الكثير .. لأن الأرض حالتها تسوء عقد بعد عقد وما كانت تعطي المرجو منها .. ما دفع فضل ومن بعده رؤوف في رهن الأرض للبنك مقابل قروض تمكنهما من محاولة إصلاحها والحصول من واردها على ما يكفي لسداد ديون البنك وفوائده وكذلك ما يكفل لهما حياة كريمة بلا عوز أو حاجة.. وها هي دائرة القروض وديونها وفوائدها تدور وتزداد ولا تنتهي.. 

لم يعقب حبيب بحرف.. تاركا والده يفعل ما يراه مناسبا.. 

وهناك بالساحة الواسعة تجمع أهل الرسلانية حول الذبائح كما كان يحدث قديما أيام سعد باشا رسلان .. 

بحث رؤوف بعينه عن بعض الأسر التي يعرف مدى حاجتها.. فوجد البعض حاضرا.. والبعض الآخر ليس هنا على غير العادة.. ما دفعه ليسأل الشيخ معتوق الذي كان يجاورها: هو فين المجدس بطرس.. وبيت الحچ يوسف.. همس الشيخ معتوق مفسرا: الحچ يوسف تعبان ربنا يجومه بالسلامة.. لكن بطرس بجى منه لله واد سميح ربنا ما يريح جلبه.. فات على بيوت النصارى بيت بيت .. وجال ايه .. لازما يفوتو النچع الليلة وإلا مش هيشوفو خير.. تلاجيهم بيلمو عزالهم .. وما هماش هنا.. 

انتفض رؤوف زاعقا: بجي يحصل ده كله وأني معنديش خبر يا شيخ!.. 

أكد معتوق: ما هو أنت كنت بره النچع لك ليلتين .. وچيت على فرحة ولدك.. 

اندفع رؤوف في اتجاه بيت المقدس بطرس، ليجده فعلا في سبيله للرحيل .. فهتف به متعجبا: على فين يا مجدس! ده برضك كلام!.. لا عاش ولا كان اللي يسيبك دارك.. اياك تخرچ ..مش على أخر الزمن حتة عيل هيجول للناس تعمل ايه وتعملش ايه.. 

أكد بطرس متأثرا: لاه أني ماشي يا رؤوف يا ولدي.. ما ليش حمل بهدلة أني ومرتي كبار فالسن.. وكمان بهدلة ولدي العاچز.. هروح اسيوط ولا المنيا عند ناس جرايبنا لحد ما ربنا يفرچها.. 

أكد رؤوف في حنق: لو مش هجدر على كلمتي وتبجى جعدتكم تحت حمايتي مبجاش واد رسلان يا مجدس..

أكد بطرس: كد الجول يا واد الأصول.. بس محسن ده واللي وراه واخدين فوشهم.. وأني مش رايدك توجف جصادهم.. 

أكد رؤوف في حزم: مفيش خروچ لك من النچع يا مجدس.. واللي هيمس شعرة منك او من أي نصراني فالنچع كله يبجى ياچي يوريني دافنين راس ناسه فين عشان ادفنه چارهم.. اجعد يا مجدس ف دارك.. واللي يكلمك ابعتهولي.. 

هز المقدس بطرس رأسه في طاعة بينما ارتفعت دعوات زوجته المغلوبة على أمرها بالداخل تتضرع من أجل أن يحفظ الله رؤوف من كل شر.. 

اندفع رؤوف تاركا دار المقدس بطرس في اتجاه دار الحرانية.. دافعا بوابتها الخشبية بقدمه ومن خلفه حبيب ولده وعدد من رجال الرسلانية الذين تبعوه بعد ما كان عند بيت المقدس بطرس.. انتفض خفير البوابة ولم يعقب أو حتى يعترض بحرف حين وقف رؤوف زاعقا فانتبه محسن وخرج يقف على الدرج متطلعا للجمع في تعجب، ليهتف رؤوف محذرا: بجولك ايه يا واد أنت.. لم روحك وإياك تجل ادبك على الناس.. لهي الرسلانية دي عزبة أبوك جاعد تجول مين يجعد فيها ومين يغور منِها!.. 

هتف محسن في قلة حياء: ايوه. .ما هي عزبة أبوك أنت..

هم حبيب بالاندفاع نحو محسن لتلقينه درسا لم تسعفه الظروف تلقينه إياه يوم أن تخطى أدبه وتعرض له ومنيرة .. لكن رؤوف استوقفه تاركا محسن يدلو بدلوه في صفاقة مستطردا: ايه.. مش جادر تنسى إنه ماعادش فيه رسلانية كيف ما كان زمان سعد باشا رسلان.. الدنيا اتغيرت وكل وجت وله أدان يا رؤوف يا رسلان.. 

هتف رؤوف في هدوء قاتل: مش بجول لك لساتك عيل .. والاذان كله واحد هواه لكل صلاة.. كلامك ده ميخرچش إلا من العيال.. بس هتچيبها منين تربية الرچالة!.. معلش معذور برضك.. أبوك من كتر الحريم اللي شغلاه مكنش فاضي لربايتك.. بس ملحوجة يا واد سميح.. ربايتك على يدي أني.. وناخدو فيك ثواب كمان.. ونعرفك إنك يوم ما تكلم الرچالة.. تبجى كد كلامهم.. واديني بنبهك تاني جدام الناس دي كلها.. وعين الحكومة مفتحة عليكم زين اليومين دول انت واللي زيك.. أبعد عن ناس الرسلانية يا واد.. سوا مسلم أو نصراني.. وإلا حسابك كله عندي.. أنت واللي خلفك.. والحساب جديم وتجل جوي.. واعي لحديتي يا فسل أنت!.. 

لم يرد محسن بحرف واحد مع صرخة رؤوف بجملته الأخيرة التي جعلته والجميع يدرك بحق من هو صاحب هذه الأرض.. ومن هو من نسل ساداتها.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩٢.. 

كان الصمت المغرق للأجواء بعد إعلان نصير الراوي خطبته لأُنس الوجود جارحا وشائكا.. حتى أن حبيب قد قام بجهد خرافي ليستطيع أن يهمس بكلمات بسيطة مباركا ومشيرا نحو الآرائك مستطردا: اتفضل.. 

جلس نصير حين جلست أنس مجاورا لها.. كأنه يؤكد على أحقيته في القرب منها ما زاد استعار النيران بقلب حبيب وهو الذي لم يستفق بعد من خبر خطبتهما المشؤوم... وقد تساءل في نبرة حاول أن يداري ذاك الغضب المكتوم الذي يغلفها: وده من ميتا!.. اجصد الخطوبة يعني.. أصلك الأستاذة هنا بحالها شوية يعني ومبچبتش سيرة عن حضرتك من أساسه!.. 

فسر نصير باسما في سماحة: آه.. اصل الموضوع كان مجرد قراية فاتحة كده ع الضيق.. والصراحة لما لقيت أنس طولت هنا.. قلت اجي اشوفها واتعرف ع العيلة الكريمة واطلب أيدها منك.. ما أنت ف حكم أخوها الكبير.. مش كده برضو!.. 

انتفض حبيب من موضعه صارخا يستدعي شبل، الذي ما أن حضر حتى زعق بصوت هادر لائما: مشيفش الضيوف!.. غور أعمل شاي وچهزو الغدا.. 

جلس حبيب موضعه مجددا وكأنه يجلس على جمرات مستترة من قلب الجحيم مؤكدا وهو يجز على أسنانه في محاولة لضبط النفس: ايوه اومال ايه.. معلوم.. أني ابن خالتها.. يبجى تطلبها مني.. بتفهم فالاصول يا أستاذ نزيه والله!.. 

صحح نصير باسما: نصير مش نزيه.. نصير الراوي.. 

لم يرد حبيب على تصحيح نصير إلا بصرخة قوية محتجا: أنت يا زفت يا اللي اسمك شبل فين الشاي!.. 

وانتفض حبيب واقفا، مشيرا لداخل السراي: عن إذنك.. ستي بتنادم.. چاي حلا.. 

واندفع حبيب للداخل مبتعدا عن مشهد جلوس أنس جوار نصير بهذا الشكل الذي يثير حفيظته للدرجة التي قد تدفعه لقتله اللحظة بدم بارد.. دون لحظة ندم واحدة.. ليواجه صفية جدته والتي سألت في فضول: مين اللي جاعد معاك بره وسبت أنس جاهدة معاه!.. 

هتف حبيب وهو يجز على أسنانه في محاولة لعدم الصراخ: خطيبها يا ستي.. خطيبهاااا.. الهانم جاعدة وسطينا هنا وهي مجري فتحتها ع الباشا من جبل ما تاچي من مصر.. 

همست صفية. متعجبة: طب مجلتش ليه!.. 

هتف حبيب حانقا: اسألي الهانم.. والبلشا چاي يتعرف علينا ويطالبها مني.. ما أني فنجان أخوها الكبير.. جال وأني اللي كنت زي الچردل رايح ا.. 

ساد الصمت.. فتطلعت صفية نحو حبيب وقد هالها قدر الوجع المرسوم على قسماته المحببة.. ما جعلها تهتف في تعاطف: تكون في يدك وتجسم لغيرك.. محدش عارف خيره فين يا ولدي.. النصيب غلاب.. 

هز حبيب رأسه في تفهم،. وعيناه قد أدركت اللحظة شبل وهو يضع صينية الشاي أمام نصير الذي رفع أحد الأكواب يناولها لأنس الوجود.. التي ما أن تناولتها من كفه في هدوء حتى كاد أن يمسك حبيب السماء بيديه ثورة.. صارخا في غضب.. الصبر من عندك يا رب.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩٢.. 

كانت هي عجيبة.. وافعالها هذه الفترة كانت مريبة بحق.. تأتي الشركة متأخرة على غير العادة .. لا تتبادل الأحاديث والثرثرات المعتادة مع زميلاتها.. لا تنتقل كالفراشة هنا وهناك كعادتها التي لا ترسو على حال .. ولا تركن لموضع ساعة كاملة دون أن تغادره لأي سبب متحججة كي لا تظل به .. العادة الوحيدة التي لم تعملها هي السماع لأغاني عبدالحليم حافظ مع تكرارها بحماس عجيب.. ثم الاندفاع مهرولة حين تأتي ساعة الانصراف.. كمسجون انفرادي جاءه الإفراج على غير توقع فوجد نفسه على أعتاب الحرية.. ما الذي يحدث!.. 

هذا اليوم الرابع على التوالي الذي يحصل فيه كل هذه المتغيرات بشكل استدعى انتباهه بشكل كامل.. لدرجة أنه لم يحتمل أكثر من ذلك وغلبه فضوله ليستوقفها بغتة على غير طبيعته المتحفظة: آنسة مريم!.. هو في حاجة!.. 

سألت مريم وهي تعبث داخل بطن حقيبتها باحثة عن نظارتها الشمسية في عجالة: حاجة ايه!.. 

وما أن هم أن يسأل حتى هتفت في سرعة وهي تضع نظارتها: طب بعدين يا أستاذ ممدوح عند إذنك.. 

تعجب ممدوح من أحوالها وقد داخله الشك أنها قد تكون شعرت بما بدأ يدل داخله من مشاعر نحوها فقررت الإبتعاد حتى لا تمنحه الأمل في شعور خاص قد ينمو ويتطور بينهما يوما ما!.. هل يكون الأمر كما يظن!.. ربما.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩٢.. 

جمعت كل ما كان لها بالحجرة دافعة به لبطن حقيبتها تشعر بخواء رهيب داخلها.. وكأنها جسد قد فارقته روحه.. تتحرك وتتكلم بآلية وكأنها تؤدي دور مكتوب لها لا حقيقتها.. تحاول أن تستعيد طبيعتها فتشعر أنها فقدتها بمكان ما في لحظة ما ولا تدرك كيف تستعيدها.. تاهت أنس الوجود.. 

هبطت الدرج نحو قلب الدار لتجد منيرة في انتظارها لتوديعها.. احتضنتها في محبة مقبلة خديها.. ثم اتجهت صوب جدتها صفية وللمرة الأولى تكون هي المبادرة.. ملقية نفسها بين ذراعيها.. لعلها تبكي.. لعلها تستفيق.. لكن حضن الجدة لم يكن بذاك الدفء الذي خبرته مرة.. ولم تتشبث بها ذراعيها الحانيتين.. 

تطلعت نحو حبيب في نظرة طويلة.. كانت ترغب في أن تخبره خلالها كل ما يجول بخاطرها ويعتمل في نفسها.. لكنه لم يكن ينظر إليها من الأساس.. نظراته معلقة هناك عن. صف الصور الفوتوغرافية التي شردت أمامها طويلا متخيلة حياة أصحابها بين جدران هذه السراي وعلى هذه الأرض التي عشقت.. 

مدت كفها نحو حبيب مودعة: أشوف وشك بخير يا واد خالتي.. 

تنبه حبيب لكفها الممدودة نحوه، لكنه لم يشأ أن يظهر ذلك، هاتفا وهو يسبقها للخارج حيث ينتظرها نصير: تروحي وترچعي بالسلامة.. 

كان عاقلا بما يكفي حتى لا يسلمها كفه لتعانق كفها.. فقد كان يدرك أنه إن فعل.. فلن يكون قادرا على تركها تذهب وذاك ما عاد مقبولا.. 

ضمت أنس كفها في وجع تتبع حبيب للخارج.. تتطلع نحو كتفيه في وجل.. كتفاه العريضتين القويتين حمالتا الحمول.. أما آن لهما أن يحطا عنهما الأحمال ليرتاح صاحبهما قليلا.. صاحبهما.. ذاك الرجل الذي يستحق كل سعادة الدنيا وهناها!.. 

دمعت عيناها حين ابتسم نصير مقترحا: مش ياالله بقى عشان نوصل مصر بدري شوية!.. 

هزت أنس الوجود رأسها في طاعة ولم تنطق حرفا.. أشار لها نصير لتكون بالمقدمة ليتبعها ملقيا التحية على حبيب الذي سار خلفهما حتى هما بركوب السيارة وقد اتجه نصير ليفتح لأنس الباب.. فظهر زفراني من العدم كعادته.. استوقفها مناديا: يا بت الراچل الطيب.. 

ما أثار ضيق نصير الذي حاول أن يدفعه بعيدا عنها.. لكنها استوقفت نصير مؤكدة: سيبه.. مفيش خوف منه.. 

تراجع نصير على مضض، وزفراني يتطلع صوب أنس الوجود في هوادة عجيبة.. وأخيرا همس وابتسامة ترتسم على شفتيه في وداعة: طريجنا واخترناه.. سألتك جولتي هجدر.. خليكي على كد الشيلة الواعرة.. وحاسبي م اللي عامل حبيب.. وهو ديب.. 

وانحنى زفراني يجمع حفنة من ثرى أرض الرسلانية مادا كفه منتظرا من أنس الوجود أن تضع كفها فوقه.. لكن نصير أعترض هاتفا: مش كفاية بقى اللي بيحصل ده!.. 

كان حبيب يقف صامتا ولم يتدخل تاركا لأنس حرية التصرف خاصة وقد اضحت في كنف رجل آخر.. والتي مدت كفها على عكس رغبة نصير لتنام فوق كف زفراني الذي صب على باطنها الثرى رويدا رويدا.. ثم نفخ نفخ واحدة ليتطاير معظمه ثم اطبق أصابعها على ما بقى في بطء.. وابتعد قليلا وكأنما يخبرها أنه أنهى مهمته.. 

صعدت أنس الوجود السيارة واندفع نصير يصعد على الجانب الآخر.. أمرا السائق في عجالة أن ينطلق مبتعدا فما عاد يحتمل صحبة هؤلاء المجاذيب.. بينما ظلت أنس محتفظة ببعض الثرى الذي علق بكفها بعد أن نفض زفراني معظمه في نفخة قوية.. تتطلع نحو كفها كلما استشعرت أنها تبتعد أكثر وأكثر عن الرسلانية .. وصورة حبيب المنعكسة على مرآة السيارة الجانبية لا تبرح مخيلتها.. 

ابتعدت السيارة بالفعل وحبيب يقف موضعه ولم يحرك ساكنا.. يتطلع نحوها عبر الغبار الذي أثارته متسائلاً في تيه.. ليه چيتي يا أنس.. حتى اللي كنتي چاية وريداه مخدتهوش.. بس خدتي اللي أغلى بكتير.. خدتي جلبي اللي حلفت ما أفرط فيه لمخلوج.. چيتي ليه!.. 

هتف زفراني وكأنه يجيب على سؤال حبيب الداخلي، متحنجلا في مشاكسة:

رميت حچر فجعر البير لچل ما أعرف إن كان فاضي.. 

اتاري البير بحر غويط.. عمران محبة وتراضي ..

يا بختك ياللي تدلي الحبل.. معونك ما يطلع فارغ.. ع الفاضي..

تنهد حبيب لكلمات زفراني واندفع مبتعدا عن كل ما يجري وما عاد قلبه يحمله.. وزفراني يترنم صادحا:

سافر حبيبي وچه خلي يودعني..

بكى وبل المحارم جلت إيه يعني..

أنا جلت ده فراج ياخيي.. ولا جلع يعني!..

جالي أنت أدرى بالفرجة وما فيها..

والله فراج الحبايب مر يوچعني.. مر يوچعني.. 


                           يتبع ..


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة