رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 57 - الجمعة 22/8/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السابع والخمسون
تم النشر الجمعة
22/8/2025
ـ رائحة الحبايب..
المشفى العام بأسيوط ١٩٨٦..
انتهى حظر التجوال بعد انتفاضة الأمن المركزي التي شلت حركة البلاد لمدة يومين كاملين، حتى عادت الأمور إلى طبيعتها.. لكن حبيب لم يتحرك من موضعه أمام حجرة العناية الفائقة التي تقل إليها والديه معا.. أمه وزادك النزيف الذي كان قد ازداد عليها في الأيام الأخيرة ليكتشف من الأطباء أنها كانت تحمل جنينا لم يكتب له الحياة وحفاظا على حياتها تم استئصال الرحم وها هي حالتها ما تزل بعيدة عن الاستقرار الفعلي متأرجحة قليلا وتميل أكثر السوء منه للاحسن. أما حالة أبيه فقد كانت الرصاصة التي أصابته من جراء الهجوم الإرهابي على الكمين.. قد اخترقت جانبه الأيمننحو القفص الصدري مستقرة هناك.. ما استدعى التدخل الجراحي لانتزاعها وها هي حالته لا تختلف كثيرا عن حالة أمه.. وما بين ما يجري لأبيه تارة وأمه تارة آخرى تائه هو لا يعرف ما عليه فعله..
جاء الكثيرون للزيارة والمواساة ومحاولة تقديم الدعم والمساندة.. لكن كل ما بباله الآن هو العودة للحظة ما قبل خروج والديه من السراي.. لو بيديه ارجاع الزمن لهذه اللحظة حتى يمنعهما من الخروج.. لفعل.. ليضمن بقاءها بخير.. يكون على مائدة الافطار معهما الآن لا يجلس على مقعد قبالة حجرة العناية الفائقة في انتظار خبر لن يستطيع تحمله.. فهو غير قادر على إخراج منظر منيرة ومحمود وجدته صفية حين أتى بهم سرور ومدثر.. صديقيه.. وذاك البكاء والعويل على حال والديه.. وخوفهم من فراق يطل برأسه مؤكدا أنه باقِ ها هنا حتى يحصل على مبتغاه .. ف رائحة الموت كانت حاضرة وبقوة مع كل تلك الصرخات والعويل من أهل ضحايا الكمين بالمشفى..
رائحة خانقة تزكم الانوف وتقبض الصدر.. وتحمل الإنسان ما لا يطيق من لوعة الحزن وألم الفراق..
انتفض حبيب موضعه حين تقدمت نحوه إحدى الممرضات التي خرجت لتوها من داخل حجرة العناية الفائقة قائلة: والدتك فاقت.. وعوزاك ضروري.. ده خطر عليا بس هسيبك تدخل لها دقيقة واحدة بس..
هز حبيب رأسه في طاعة وهو يتبعها مستسلما، وسألها في لهفة: طب وابويا.. ايه أخباره!..
همسات الممرضة: ادعيله.. لسه على حاله..
دفع حبيب لكف الممرضة ببعض النقود لعرضها ابقائه قليلا مع أمه.. دافعة باب حجرة العناية الفائقة مشيرة نحو سريرها مؤكدة: دقيقتين بس عشان في مرور من الدكاترة..
أكد حبيب بإيماءة من رأسه قبل أن تغلق الباب ليندفع نحو فراش امه، هامسا يناديها في اضطراب، لتفتح عينيها في بطء خامسة: حبيب!.. تعالى..
امسك كفها بين كفيه مقبلا، لتهمس بكلمة لم يسمعها ما دفعه لينحني مقتربا لتهمس من جديد وهي تزدرد ريقها الجاف: فين أبوك!.. هو معاي هنا.. أني حاسة.. لسه كان معاي حلا.. كان بيجرا قرآن.. أني سامعة صوته لكني مش شيفاه..
دمعت عينى حبيب ولم يعقب، لتستطرد أمينة في وهن: خلي بالك على حالك.. وعلى أخواتك ..وعلى أمي.. الشيلة تجيلة عليك يا ولدي..
همس حبيب وقد باغتته دمعة سقطت على إحدى خديه: وهاخد بالي منك ومن أبوي بس تجومو بالسلامة.. جومي بس بخير وشوفي أني هعمل ايه!..
قبل حبيب ظاهر كف أمه في محبة خالصة، لتبتسم أمينة في شحوب، مؤكدة: كد الجول.. وكد كلمتك.. بس حط اخواتك تحت چناحك.. وأمي ف عنيك.. وبرلنتي أختي..
همس حبيب متعجبا: برلنتي أختك! مش دي اللي سابت الرسلانية من زمن.. ومحدش يعرف لها طريح!..
هزت أمينة رأسها في هوادة إجابة على سؤال حبيب، قبل أن تهمس مفسرة سبب رغبتها: لو عاودت الرسلانية او حد من تبعها.. أوعاك تزعله.. راضيه كرامة لأمك مهما طلب.. كان نفسي الوشوش تتجابل.. بس ملناش في نفسنا حاچة..
كلنا له..
ساد الصمت لبرهة، وأغلقت أمينة عينيها في هوادة، ليهمس حبيب مناديا في ذعر، وقلبه قد سقط بين قدميه، لتفتح أمينة ناظريها من جديد متطلعة نحوه في تيه كأنها ما تعرفت عليه لبرهة، قبل أن تهمس في أحرف متقطعة: روح يا حبيب.. أني تعبانة وعايزة ارتاح.. روح..
ترك حبيب كفها على الفراش في حنو وقد سمعها تهمس في طاعة: حاضر اهو يا رؤوف.. مش هتأخر عليك.. حسك حلو أوي وأنت بتجرا قرآن.. متوجفش..
نهض حبيب مبتعدا وقد دفعه الفضول للبحث عن فراش والده بين الأسرة المتراصة والتي يفصلها عن بعضها تلك الستائر التي تحجب الرؤية.. نظرة إلى ما خلف كل ستار جعلته يعثر على سرير أبيه فالمرة الثالثة.. كان وجهه الشاحب مغطى بقناع الأكسجين والمثير من الخراطيم والأنابيب الطبيبة تخرج من عدة مواضع بجسده النصف عارِ وقد ظهرت بقعة حمراء قانية على ذاك الشاش الطبي الذي يضمد جرحه.. أزاح حبيب الساتر قليلا وما أن هم بالدنو من والده إلا وارتفعت صفارة أحد الأجهزة مدويا في إصرار ما دفعه للهرولة بحثا عن طبيب وما أن أصبح خارج الغرفة حتى كان أحد الأطباء وبعض الممرضين بالفعل داخلها متجهين نحو فراش والده في محاولة لإنقاذه.. لكن أمر الله نافذ.. ولا راد لقضائه..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٨٦..
نداء من عمق الروح أطلقته برلنتي منادية: لا يا أمينة متمشيش.. أنا مش عايزة حاجة.. أنا عايزاكي إنتي.. أمينة.. صرخة أطلقتها برلنتي منتقضة من منامها تبكي في لوعة، لينتفض نجيب بدوره، فزعا يتحسس موضع مفتاح التشغيل للمصباح المجاور للفراش، أضاءه في عجالة متطلعا نحو برلنتي التي كانت تشهق باكية تغطي وجهها بكلتا يديها متسائلا في اضطراب: كابوس تاني يا برلنتي!.. أمينة برضو!..
همست برلنتي وقد رفعت كفيها عن وجهها منتخبة: أمينة راحت يا نجيب.. أمينة راحت..
همس نجيب محوقلا وهو يربت على كتف برلنتي في حنو: لا حول ولا قوة إلا بالله.. ليه كده بس!.. بعد الشر عنها وعنك.. والله ده شيطان وقاعد يلعب بدماغك..
أكدت برلنتي باكية : لا مش شيطان يا نجيب.. أمينة دي حتة من روحي.. محدش يحس بها ادي.. وأنا بقولك اهو.. أمينة مشيت خلاص.. راحت وخدت حتة من روحي معاها.. أنا جوايا بيتقطع يا نجيب.. أنا بموت.. بموت..
ضمها نجيب في ذعر، كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها برلنتي بهذا الشكل، والمرة الاولى كذلك التي تعبر فيها عن مشاعرها الصادقة تجاه اختها وتوأمتها أمينة.. عاش معها سنوات طوال كانت دوما ما تتجنب الحديث عن الرسلانية وأهلها وتحاول قدر استطاعتها أن لا يأتي الحديث على ذكر أهلها وخاصة توأمها.. كان يتفهم أن يبتعد الحديث عن مصطفى وحادثته وتورط نجيب فيها.. وحساسية هذا الأمر لكليهما.. لكن أن يخلو الحديث من ذكر أختها تماما.. فذاك ما كان يتعجبه لكنه لم يتساءل عن السبب ولم يتوقف عنده كثيرا.. ملبيا رغبة غير معلنة لحبيبته ومنية قلبه منذ وعى أن له قلبا..
همس نجيب وهو يضمها بين ذراعيه مملسا على شعرها.. يحاول أن يبثها الطمأنينة: وحدي الله يا برلنتي.. وبإذن الله خير.. وحتى لو كان اللي بتقوليه صحيح.. إحنا ف أيدينا ايه نعمله قدام حكم ربنا وقضاه.. هنسلم لأن كلنا رايحين..
وأنا هحاول الطقس كده من بعيد عن حال البلد وأعرف ايه الأخبار.. وبإذن الله هتكون بخير وتتطمني وترتاحي..
رفعت برلنتي رأسها من بين أحضانه هاتفية في لهفة: صحيح يا نجيب.. هتسأل بجد!..
أكد نجيب: على الرغم انك عارفة رأيي في الموضوع ده وأني رافض أعرف أي أخبار عن الرسلانية لكن عشان خاطرك هعمل كده بس عشان اطمنك واريحك من الأوهام اللي فى دماغك.. ومش مهنيانا على نومة..
ابتسمت برلنتي ملقية نفسها بين ذراعي زوجها، هاتفة في محبة: ربنا يخليك ليا..
ضمها نجيب بين ذراعيه، وعلى الرغم من أنها راحت في سبات عميق بين ذراعيه إلا أنه ظل مؤرقا لم يزر النعاس أجفانه مستشارا صدق ما تبثه أحلام برلنتي ورؤياها..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٨٦..
أسبوع فقط يفصل بين وفاة رؤوف جراء الطلق الناري الذي استقر بالرئة.. وتبعته أمينة زوجته ورفيقة دربه بعد العملية الجراحية التي أجرتها لاستئصال الرحم بعد نزيف عنيف.. كان الأمر متوقعا فحالة كليهما لم تكن مطمئنة أبدا.. كان حبيب هناك يقف على باب حجرة العناية. الفائقة طوال فترة مكوثهما بالمشفى وكان يدرك من المؤشرات التي كان يتداولها الأطباء فيما بينهم أن الأمور تتجه للاسوء.. لكنه ظل يكابر متمسكا بأهداب الأمل لآخر لحزظ وخاصة حين استفاقت أمه وحدثته لدقائق معدودة.. كان يعتقد أنها تخطو أولى خطواتها في درب الشفاء والعافية لكنها كانت صحوة المودع.. استفاقت لحظات فقط حتى تخبره بوصيتها الأخيرة قبل أن ترحل مودعة لاحقة بوالده الذي ما استفاق لحظة ولا كان لديه الفرصة لسماع صوته للمرة الأخيرة وتوديعه..
اتشحت الرسلانية بالسواد.. كان جنازة رؤوف مهيبة بحق.. فقط ازدحم الطريق من مدخل الرسلانية وحتى مقابر العائلة.. وعلى الرغم من غياب الحرانية عن المشهد إلا أن ظهور عزام الحراني وحفيده مظهر كان كفيلا بتمثيل وجودهم الغير مرغوب فيه.. وخاصة بعد انتشار إشاعة كان مفادها أن محسن وجماعته كان له يد فيما جرى .. ولذا هو غائب عن النجع منذ مدة قصيرة من توقيت الحادث تقريبا وان سميح قد دبر له طريقة مضمونة للسفر خارج مصر حيث ألحقه بصحبة والد زوجته الجديدة في إحدى بلاد النفط حتى تهدأ الأمور.. وتستقر الأحوال..
لا احد يعرف مدى صدق هذا الإدعاء.. لكن المؤكد أن محسن قد اختفى عن المشهد تماما ولم يظهر بالرسلانية من جديد..
مرت الأيام قاسية وبطيئة لا طعم لها على قاطني السراي.. جرامف ن الجدة صفية. الذي كان يصدح دوما بالانغام خرس عنها تماما.. وأصبح القرآن الكريم جليسها.. فقد فقدت فلذة كبدها الغالية.. أمينة .. الوحيدة التي كانت لها خير معين وصاحب بعد رحيل مصطفى أبنها في تلك الحادثة المشؤومة.. وغياب زوجها مختار لسنوات وفقدان الأمل في عودته.. وأخيرا هروب برلنتي مع نجيب الحراني ابن سميح وقاتل ولدها..
لطالما دخل عليها حبيب فوجدها تستمع لآيات القرآن الكريم وتبكي ..فيقترب منها في حنو معاتبا: مش بكفاياكي يا ستي!..
تهمس صفية في وجع: الحبايب راحوا واحد ورا التاني وأني اللي جاعدة.. جاعدة ليه من بعد ما فاتوني الغوالي يا ولدي!..
همس حبيب لائما: وهو احنا مش حبايب وغاليين يا ستي.. ربنا يخليكي لينا وما يحرمنا من بركة وچودك وسطنا.. خابر إن الفراج صعب.. بس لو ينفع نروح ورا اللي راحوا كنت أني أول اللي يروح.. بس الشيلة اللي اتحط على كتافي وأمانة أمي مخلياني صالب طولي يا ستي وأني بموت وبحيا فاليوم ميت مرة..
ربتت صفية على كتف حبيب في محبة خالصة بعد أن كفمفت دموعها: ربنا يعينك يا ولدي علينا.. الشيلة تجيلة صح.. بس أنت كدها..
ضم حبيب كف جدته المتغضن بين كفيه مقبلا في حنو: ربنا يخليكي لينا يا ستي.. كله بفضل دعواتك..
نهض حبيب مغادرا حجرة جدته يصعد حيث كانت منيرة.. التي لم يجف لها دمعا منذ ما حدث.. طرق الباب لتسمح له بالدخول وهي تمسح عن خديها خيوط الدموع التي كان أثرها كفيلا ليدل عنها..
همس حبيب وهو يجلس على طرف الفراش متطلعا نحو الكتب المنصورة هنا وهناك.. مدركا أنها مجرد منظر لا يدل على حال صاحبته.. فتطلع نحو منيرة هامسا: عارف ان الحماية واعرة. وواعرة جوي يا منيرة.. بس انتي امتحاناتك خلاص ع الأبواب.. ولچل خاطر الغاليين اللي راحوا وكان نفسهم تفرحيهم.. عدي السنة دي على خبر.. وفرحينا..
همست منيرة باكية: مش جادرة يا حبيب.. الكتب جدامي ومش مركزة ف حرف.. صورتهم جصاد عيني .. ده أني سواعي بسمع صوتهم بينادم علي اجوم من مطرحي رمح ناحية الباباجول أمي تعبانة وعايزة حاچة.. وافتكر إنها راحت خلاص.. ومش هسمع حسها تاني..
ربت حبيب على كف أخته في مواساة موقنا عمق الوجع المشترك داخل كليهما.. لكنه همس من جديد مشجعا: عارف والله.. الفراج واعر.. وهم محوطينا في كل مكان حوالينا.. بس حاولي.. مش عشانك لوحدك.. عشان ستك صفية اللي دمعها منشفش عن خدها من ساعتها وعشان خاطر اخوكي الصغير محمود اللي لا له حول ولا قوة.. انتي أمه دلوجت.. ولا إيه!..
هزت منيرة رأسها في تفهم.. ليربت حبيب على كتفها مقبلا هامتها في حنو.. قبل أن يغادر غرفتها نحو غرفة محمود أخيه الأصغر..
طرق الباب ولم ينل جوابا فقد كان الصمت يعم المكان على عكس المعتاد حين كان يعلو صوت محمود العذب بقراءة وترتيب الآيات التي كان يحفظها في براعة تحت إشراف الشيخ معتوق.. وقد قارب على ختم حفظ القرآن بعدة قراءات..
دفع حبيب باب حجرة أخيه ليجده ممددا على فراشه، نائما أو كما استنتج هو يدعي النعاس.. كان حبيب يكشفه مهما حاول محمود التظاهر بالنوم... كانت لعبة محمود المفضلة منذ كان طفلا.. وكان حبيب يجيد قواعدها.. جلس حبيب جواره هامسا: اطلع من دول.. عارفك صاحي وبتعملهم عليا!..
استدار محمود ضاربا بقواعد اللعبة عرض الحائط، والتي كان من المفترض أن يدعي عكس ما يقوله حبيب، معطيا أخيه الأكبر ظهره.. رافضا التعاطي معه منذ ما حدث..
ليهمس حبيب في حزن: لساك زعلان مني يا محمود!.. هتفضل مخاصم اخوك كده لحد ميتا!.. أهون عليك!..
همس محمود مفسرا: جولتلك يوم ما أمك كانت خارچة مع أبوك للمستشفى، بلاها تروح.. لو راحت مش راچعة.. جلت لي لاه هترچع يا محمود متجولش كده.. ادعي لها بالشفا والسلامة.. واهي راحت ومرچعتش..
وبكي محمود قهرا: رحت عشان متبعتش كلامي يا حبيب.. أني مش مسامحك.. لو منعتها كان زمنها بينا..
تماسك حبيب وكلام محمود وبكائه المقهور يضغط على أعصابه وقدرته على ضبط دموعه.. متعجبا في نبرة حاول أن يكسوها بالثبات: ووه يا شيخ محمود! اومال قرآن ايه بجى اللي بتحفظه.. وربما جال إن لكل أچل كتاب.. ولا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون.. يعني أني ولا كان مين مكنش هيغبر من حكم ربنا وجضاه يا حبيبي.. مش أنت عارف كده برضك!..
استدار محمود ناحية حبيب مواجها، هامسا بوجع: بس أني كان نفسي أمي تفصل معاي يا حبيب..
جذب حبيب أخيه لصدره، ضاما إياه بين ذراعيه ليشهق محمود باكيا.. معترفا بين أحضان أخيه الأكبر: أني اتوحشت أمي وأبوي جوي يا خوي.. اتوحشتهم جوي..
همس حبيب بصعوبة بنبرة متحشرجة من بين الغصة التي احتلت حلقه: وأني كمان اتوحشتهم.. بس هم ف الچنة دلوجت.. أيوه.. أدعيلهم كتير.. وادعي أننا نلحج بهم على هناك.. تمام!..
هز محمود رأسه بأحضان أخيه التي ما فارقها.. حتى زار النوم أجفانه أخيرا.. نهض حبيب نحو حجرته وقد اضحت السراي ساكنة بلا روح صامتة كصمت قبر يضم أحياء..
هم بالدخول لحجرته لكنه سار الرواق نحو الردهة الصغيرة المواصلة للرواق الآخر مادا كفه نحو غرفة والديه.. دفع الباب ووقف للحظة متمنيا أن يكونا بالداخل.. مد كفه نحو زر الإضاءة لينير الغرفة الشاغرة..
دخل في خطوات بطيئة مهاودة نحو الفراش وجلس عليه في حرص.. مادا كفه مملسا بكفه ذهابا وإيابا على غطاء الفراش ذي الملمس الحريري.. سقطت عيناه على جلباب أمه المنزلي الذي خلعته عنها منيرة لحظة نزولها للمشفى.. فنهض في هوة متناولا إياه من على المشجب القريب..
وما أن قربه لأتفه يتنسم رائحة أمه الراحلة.. حتى انهارت دفاعاته وفقد كل رباطة جأشه دفعة واحدة وقد سقط أرضا على ركبتيه جوار الفراش يضم جلباب الغالية لأتفه مستخلصا رائحتها من بين ثنايا النسيج.. باكيا في قهر.. ضاما إياه لصدره في لوعة.. وكأن كل ذاك الثبات الذي أظهره حتى اللحظة كان ادعاءً واهيا.. وأنه لتوه فقط قد أدرك أن أمه قد رحلت وأن أبيه كان بصحبتها ولن يعودا للأبد.. فعاش الصدمة وحيدا.. وجد الجميع من يمسح دموعهم إلا هو.. قدره أن يعيش الالم وحيدا وأن يتجرع كؤوس الحزن بلا رفيق..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
تطلع جمال حوله داخل المقهى الذي أخبرته مريم أن ممدوح وهاجر يجلسا به اللحظة، وما أن وقعت عينيه على موضعهما حتى أشار في أريحية نحو ممدوح الذي أشار له بالقدوم بدوره، ليجذب جمال أخته مريم خلفه والتي كانت أشبه بالنعجة العاصية فقد اتى بها على مضض.. ودون رغبتها.. هلل جمال في سلاسة مرحبا بممدوح وألقى التحية على هاجر في شوق ظهر جليا على الرغم من محاولة ساره ما استرعى ابتسامة ممدوح متعجبا من قسمات مريم الغاضبة التي تحمل حنقا غير مبرر، ملقيا التحية في وداعة: ازيك يا آنسة مريم.. اتفضلي..
جلست بلا وعي بين ممدوح وهاجر فابتسم جمال لفعلتها فقد أدرك أن مريم تحمل مشاعر تجاه ممدوح ولا تريد أن تعترف حتى لنفسها بذلك.. وهو أيضا يشعر تجاهها بمشاعر قوية يستشعرها جمال كلما اجتمعوا لكنه لا يفصح.. لكن على أي حال جلوس مريم بين ممدوح وهاجر سمح له بأن يكون الأقرب لخارج بالمجلس وذاك كان قمة مراده..
هتف جمال معتذرا: إحنا جينا قطعنا عليكم كلام مهم أو حاجة!..
أكدت هاجر في صدق: مفيش كلام مهم انت مش عارفه يا جمال ومش هخبي حاجة عليك أكيد..
انتفخت اوداج جمال نشوة وسرورا لهذا التصريح متسائلا: طب تشربو ايه قبل ما نتكلم في أي حاجة!..
طلبت هاجر وكذا ممدوح إلا مريم التي أقرت في وجه عابس: أنا جعانة وانت نزلتني قبل ما اتغدا..
امسك ممدوح ضحكاته.. وهتف جمال مقرا: حاضر هأكلك وانتي شبه العيل العلي اللي فاضح أهله في كل زيارة للقرايب..
قهقهت هاجر على مزحة جمال، واتسعت ابتسامة ممدوح ليسأل جمال بعد طلب المشروبات والمأكولات: هااااا.. ايه بقى الموضوع المهم اللي عشانه عاملين اجتماع القمة ده!..
هتفت هاجر: موضوع أنس الوجود وأرض الرسلانية يا جمال!.. ممدوح لسه مبلغني إن نصير مرجعش الفيلا يوم ما سبتها .. ده طلع ع الرسلانية ورجع ب أنس الوجود وهم معلنين خطوبتهم..
هتف جمال مستفسرا: معلش ثواني بس.. مش صاحبتك أنس الوجود دي هي اللي سابت القاهرة وسافرت الصعيد عشان كانت رافضة عرض نصير بالجواز!.. ايه اللي بدل الأحوال كده!..
هتف ممدوح: أنس الوجود كانت رائحة الرسلانية عشان تاخد تكن ورث أمها.. وأنا كنت معاها ساعتها.. سبتها ورجعت عشان شغلي وهي من يوميها قاعدة تروح وتيجي ومتحصلتش على مليم منهم.. على الرغم إني أشهد أن قريبها اللي هناك ده شخص محترم وقال فعلا هيصفي كل حاجة ويديها حقها.. ايه سبب التأخير مش عارف..
قاطعته هاجر: وايه سبب اللي عمله نصير بعد اللي أنا اكتشفته من الملف اللي خدناه يا جمال.. ايه علاقة نصير ب أرض الرسلانية .. وايه علاقة جوازه من أنس بن الأرض دي!..
هتف جمال في نبرة رسمية: العلاقة واضحة.. أنس الوجود وجوازه منها هيوصله لأرض الرسلانية اللي بيسعى لها.. وده واضح.. السؤال اللي ملوش إجابة هنا .. ليه أرض الرسلانية بالذات.. رجل أعمال كبير زي نصير يهمه ايه في حتة أرض مهما كبرت مساحتها موجودة في قلب الصعيد!..
هو ده السؤال اللي لازم نعرف إجابته واللي هيفسر حاجات كتير..
هتف ممدوح مؤيدا: جمال بيه عنده حق.. بس هنعرف ده إزاي!..
هتفت هاجر: أنا ميهمنيش اي حاجة دلوقت إلا أنس الوجود وسلامتها.. الموضوع بقى يخوف وأنا فعلا قلقانة عليها..
هتفت مريم بعد أن رفعت رأسها عن طبق طعامها أخيرا: انتو بتقولو ايه أنا مش فاهمة حاجة!..
هتف جمال مازحا: وهو انتي بتفهمي وعندك عقل زينا كده يا مريم.. ما شاء الله.. حصل امتى ده!..
قهقه ممدوح وهاجر بينما امتعضت مريم مؤكدة: استظرف زي ما انت عايز.. مسيرك يا ملوخية تيجي تحت المخرطة.. واخد بتاري منك.. والحساب يجمع..
هتف جمال في نبرة مترددة مدعيا الخوف: لا يا مريومة أنا كنت بهزر.. أنا عارفك شرانية وتعمليها.. اقصد أنا اخوكي برضو.. وربنا ما يجيب تار.. خلينا حبايب.. ولا ايه!..
هتفت مريم أمرة: طب أنا عايزة حاجة سقعة وأعلن الهدنة!..
قهقه ممدوح وهاجر على أفعال مريم بينما هتف جمال أمرا بما رغبت، ساخرا من أفعالها: والنعمة جايب بت أختي معايا..
نهضت مريم من مكانها، فسأل جمال : رايحة فين!
أكدت مريم مازحة: رايحة الحمام.. ومحدش ياخد بق م الحاجة السقعة بتاعتي..
قهقه الجميع ومريم تبتعد ليؤكد جمال: مش بقولكم جايب بنت اختي..
ساد الصمت لبرهة ليهتف جمال موجها حديثه لهاجر: بس كده الحسبة اختلفت يا هاجر! لو فعلا عايزين نعرف نصير ده ناوي على ايه يبقى لازم حد يبقى مزروع في بيته وشغله ..ومفيش غيرك يقدر يعمل كده.. الراجل ده من خلال الملف اللي شفته وراه حكايات كبيرة.. وانتي مش عايزة حاجة تضر أنس الوجود.. وعايزة سلامتها.. يبقى السؤال اللغز محدش هيعرف يجيب إجابته غيرك.. بسبب قربك من نصير وشغله..
هتف ممدوح متسائلا وقد لمح القلق على قسمات وجه هاجر: طب وده مفيش أي ضرر منه على هاجر.. أصلها تسيب فيلته كده فجأة.. ومن غير ما تقول هي فين.. وبعدين موضوع اكتشافها حكاية الملف ده مش ممكن يخلي نصير ده يحط هاجر تحت الميكروسكوب وساعتها مش هطول معلومة.. يبقى خاطرنا برجعوها له من غير لازمة..
هتف جمال مؤكدا: سلامة هاجر أهم عندي من أي معلومات وأنا لو شاكك ولو واحد ف المية إن نصير ده ممكن يضرها عمري ما هقول كده.. وعلى العموم .. انت عارف يا ممدوح زميلي الظابط اللي كان معايا في اسكندرية ساعة اللي حصل لأنس الوجود.. النقيب سراج.. اهو هو اللي ماسك النقطة هناك فالرسلانية .. هبقى أشوف معاه ايه الحكاية دي.. يمكن يكون عنده معلومة عن اي حاجة احنا منعرفهاش تقلب الموازين لصالحنا.. وبعدين في ايه!.. أنا ظابط يا جماعة .. هو أنا بتاع بطاطا!..
هتفت مريم التي وصلت لتوها متسائلة في لهفة: الله.. بطاطا! نفسي فيها.. بحبها أوي..
تطلع جمال نحوهما وهو يشير لمريم.. ما دفع هاجر وممدوح للانفجار في الضحك..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
كانت زيارته للبنك مخيبة للأمال.. فقد اعتقد أن هناك خطأ ما في بعض الأمور وقرر الذهاب والعمل على إصلاحها لكن ما عاد إلا بخفي حنين.. فقد أكد له المسؤولون هناك أنه وعلى الرغم من أنه يدفع أقساط القروض بانتظام ذلك لم يشفع له فشله في دفع آخر قسطين نتيجة ظروف زواج منيرة الذي لم يتم.. وحريق الشونة قبله.. وتعجب من ذاك التعنت الواضح وعدم وضع تسهيلات في السداد على غرار التعامل مع عملاء آخرين أو حتى على غرار بنوك آخرى.. فتحجج الموظفون بعدة لوائح وقوانين عقيمة لا يعمل بها في الأساس.. وقد تأكد له بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر به (إن) لا يمكن أن يغفلها إلا ساذج..
يقول جواب البنك أنه تأخر عن سداد أكثر من عدة أقساط وأن ذلك يخول للبنك حفاظا على أمواله الحجز على الأرض حتى يضمن ما يكفيه لسداد ديون القروض وفوائدها.. الحجز على الأرض!.. وماذا يبقى بعد ضياع الأرض!.. لقد دفع أسلافه حدود وأباء الكثير من أجل الحفاظ على هذه الأرض حتى يأتي هو وتضيع هكذا في غمضة عين من يديه!.. أي مصيبة حلت على رأسه.. وأي كارثة عليه مواجهتها الآن!.. الأرض التي اختلط بثراها دموع الأجداد ودماهم واستقرت بها عظامهم.. هل من السهل التفريط فيها!.. لن يحدث!.
هو يعلم الآن وهو يقف على تلك التلة التي تشرف على الرسلانية كلها من مدخلها البعيد هناك على الطريق الرئيسي وحتى مدخلها الآخر الذي يربطها بعرابة آل حفني.. أن تلك الالعيب التي تمارس عليه لن تخرج أبدا عن ذاك الرجل القصير الذي زاره من قبلومعه مساعده يعرض عليه شراء الأرض بسعر وهمي يعادل حقها ثلاث مرات ..لكنه رفض في أدب وانتهى الأمر.. لا.. لم ينته.. فمنذ ذاك اليوم المشؤوم وهو يتلقى تهديدات عجيبة لم يلق لها بالا في البداية لكن مع ارتفاع زروة التهديدات مع استعدادات زفاف منيرة وحريق الشونة والذي مر على سلامه بعض الخسائر البسيطة التي لا تكاد تذكر.. ثم خراب الزفاف لأسباب غير مفهومة بدأ عزت في نوبة صحوة يلقي بها هنا وهناك.. مؤكدا أن هناك من جاء لوالده العمدة أبو زكيبة أمرا إياه أن يطلق عزت منيرة على الملأ بعد عقد القران بيوم واحد وأن يؤكد أنه فعل ذلك بعد أن يخوض في عرضها.. ويسيء إلى شرفها الطاهر وسمعتها النقية.. وإلا سيكون الثمن سحب العمودية ..
من هؤلاء!.. وما هذه الرغبة المحمومة في شراء الأرض! والتي جعلتهم يتفننو في حياكة كل هذه المؤامرات والدسائس من أجل الحصول عليها!. هناك سر خفي.. وعليه كشفه ومعرفة من هؤلاء.. فمعرفة العدو نصف النصر..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٢..
فتحت حمدية الباب، وتسمرت موضعها أمام ذلك الرجل الذي تذكر أنها رأته وقد جاء إلى هنا مرة حين كانت أنس الوجود غائبة بالصعيد.. لكنها لم تذكر اسمه فهتفت تسأله: مين حضرتك!..
هم نصير بالإجابة، لكن برلنتي كانت سباقة مرحبة به في فرحة: اهلا يا نصير بيه.. اتفضل.. هتستأذن في بيتك!..
ابتسم نصير وهو يضع باقة الزهور بين يدي حمدية ودخل ملقيا التحية في هدوء، مقبلا ظاهر كف برلنتي كما كان يفعل الرجال قديما في الاربعينيات ما أسر قلب برلنتي.. مشيرة له ليجلس على أحب مقعد لقلبها، وذاك امتياز كبير لا تدركه إلا أنس التي وقفت موضعها لم تنطق حرفا إلا حين تطلع لها نصير باسما: ايه!.. مش في بينا ميعاد!..
لقت نسيت بالفعل.. انمحى كل كلمة قالها لها من ذاكرتها.. وكأنها بشكل لا واعِ تقوم بحذف كل ما يخصه من عقلها.. وكأنها تحاول أن تقنع نفسها أن ما يحدث معها هو مجرد كابوس سيء وستصحو منه قريبا.. على واقع مختلف.. وحقيقة أجمل من اختيارها..
هتفت أنس الوجود معتذرة: معلش.. نسيت خالص.. هروح اجهز بسرعة..
أكد نصير في أريحية: خدي وقتك.. أنا هتأنس بصحبة برلنتي هانم مع فنجان قهوة من أيد حمدية.. لسه بدري على مشوارنا.. بس أنا قلت نفطر سوا الأول يكون الجوهرجي فتح..
اندفعت أنس الوجود مبتعدة، متحججة بالاسراع في تجهيز نفسها، وهي ما عادت تحتمل الحديث عن الخطبة من ذاك الرجل.. حتى تحقق مرادها.. تاركة إياه يناقش تفاصيل حفل الخطبة مع أمها..
هم ممدوح بصف السيارة بالقرب من مدخل البناية حيث تسكن أنس الوجود إلا أن هاجر صرخت به امرة: ابعد يا ممدوح.. اركن بعيد لو سمحت..
نفذت ممدوح لتفسر هي مشيرة نحو سيارة فارهة تقف تسد مدخل البناية وبداخلها سائقها، مؤكدة: نصير هنا عند أنس الوجود فوق، دي عربيته والسواق بتاعه..
لم تنه هاجر جملتها، حتى ظهر نصير خارجا من البناية بصحبة أنس الوجود التي كان يبدو على وجهها العبوس عكس نصير تماما الذي كان يرتسم على وجهه السعادة..
تنهدت هاجر وهي ترى السيارة ترحل بهما: اتأخرنا.. بس معلش ملحوقة.. ياللاه بينا.. يمكن خير إننا اتأخرنا اصلا عشان نصير ميجيش يلاقيني عندها..
أكد ممدوح على قولها بايماءة من رأسه قبل أن يرحل بدوره من أمام منزل أنس الوجود..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٢..
منذ وصوله من الإسكندرية إلى هنا وهو يتجنب هذه الزيارة.. لا يعرف ماذا يقول وعن أي شيء يتحدث.. فوضى كبيرة داخله لا يعرف لها استقرار.. وأفكار مبعثرة من هنا وهناك ما عاد قادرا على جمعها تحت مسمى واحد..
إن الأمر بالنسبة له أشبه بحكاية من حكايات الاساطير أو الجنيات.. قصة عجيبة وتفاصيل أعجب.. مع الكثير من الغدر والخيانة والخزلان.. كان يعتقد أن الحياة ابسط وأقل تعقيدا من كل هذه الأزمات.. لكنه أيقن أنه مخطيء تماما في اعتقاده وان الحكاية ليست عادلة مع كل البشر وان الدنيا قد تذيق بعضهم من المرات ما لا يحتمل.. كما تحمل أمه واباه الويلات من أجل ابسط حق لهما.. تقرير مصيرهما ومصير قلبيهما.. لن ينسى أبدا حال أمه حين استشهد جده فضل وهي ترى جثمانه الطاهر على شاشة التلفاز بعد أن اغتاله الإرهابيون غدرا.. وسقطت هي فاقدة وعيها حزنا وقهرا..
سار جوار سور السراي وللمرة الأولى يستشعر حنينا عجيبا نحو هذا المكان.. كان ينظر للسراي بمهابة لأنها تستحق.. فذاك البناء العتيق يحمل رقيا وفخامة تجبرك على التطلع لها بهيبة.. لكن اللحظة الوضع اختلف.. وانقلبت هذه الهيبة لمحبة وقد أدرك أن ها هنا نشأت أمه..
وصل لبوابة السراي فانتفض شبل حارسها في تأدب ملقيا التحية: يا مرحب يا سراچ بيه.. اتفضل..
سأل سراج باشا: حبيب بيه موجود يا شبل!..
أكد شبل: لاه يا باشا.. فمشوار وجرب يعاود.. اتفضل.. استنظره فالتعريشة وأني هحضر لك كباية شاي يكون حبيب بيه وصل..
في الأوقات العادية، كان سراج قد عاد للنقطة مع التأكيد على الزيارة مرة آخرى.. لكن هذه المرة ليست عادية.. ما دفعه لتنفيذ اقتراح شبل والدخول للسراي.. عيناه تتطلع حوله كأنما يرى تفاصيلها التي رآها عدة مرات سابقا بعين آخرى.. عين المحب..
اجتاز المدخل وسار حتى وصل للتعريشة وجلس.. وأتى شبل بالشاي وكأنه جاهز على الدوام.. رحل شبل للبوابة وتسمرت هو عيناه هناك.. حيث ذاك الجانب الخلفي من السراي كان موضع لقاء أبيه بأمه خلسة.. حين كان يدفعه الشوق لمرآها عندما تغيب عن زيارة العرابة.. هكذا حكى والده وعينيه يفيض دمعها شوقا لحبيبته.. كان دوما ما يتعجب من ذاك الرابط القوي بين والديه.. ويتعجر أكثر من ذاك المجهول المدعو الحب.. ويسخر داخله من تلك المشاعر الهشة التي تسيطر على العقول وتأسر الألباب.. حتى كان يوم إصابته وفتح عينيه من حلم كانت هي بطلته ليجدها تطل عليه بقسمات وجهها المضطربة.. وضعت شاله جانبا ورحلت.. ومن يومها .. وهو يعلم أنها غادرت وهي تحمل شيء ما من دواخله معها.. لم يدرك ما هو .. حتى رآها مرة آخرى.. و..
كاد أن ينتفض واقفا حين هلت منيرة وللعجب وقفت عند ذاك الجانب الذي كان يستحضر فيه ذكرى لقاء والديه.. مدت كفها نحو تعريشة هناك.. وبدأت في قطف بعض عناقيد العنب الأحمر لتضعها في سلة تحملها بكفها الأخرى..
تنبه أنها لم تدرك وجوده من موضعها.. حاول أن يحيد ناظريه عن حضورها الرهيف لكن ذاك ما عاد بمقدوره.. وللمرة الأولى يدرك في اضطراب.. كم تشبه منيرة أمه الغالية!.. عمتها.. دمعت عيناه.. وأصبح اشاحه نظره عن موضع منيرة درب من مستحيل.. غاب في التطلع للحسن الرباني المتمثل قبالته كصورة زيتية بالغة الرقة متناسقة الألوان.. حتى أنه لم يتنبه لسؤال جاءه من حيث لا يحتسب: أنت مين يا بني!..
انتفض تاركا كوب الشاي الذي لم يرشف منه حتى رشفة واحدة.. متجها صوب المرأة العجوز التي كانت تجلس على كرسيها المدولب هناك على الشرفة القريبة نسبيا من موضع جلوسه.. وما أن أصبح أمامها مباشرة، حتى عرف نفسه: أنا النقيب سراچ الحفني.. يا حچة صفية..
ابتسمت صفية تهز رأسها في إدراك متسائلة: وجاعد بره ليه لوحدك يا ولدي.. تعال اتفضل چوه السرايا.. لحد ما ياچي عفيف.. هو أنت غريب.. ده أنت برضك من ريحة الحبايب..
تهللت اسارير سراج.. وكأن كلام صفية نزل على نار قلقه بردا وسلاما.. ودخل السراي بصحبتها.. مشيرة له ليجلس في مقابلة ذاك الحائط الذي يحمل كل هذه الصور الفوتوغرافية والتي تعلق ناظريه بهم ما أن وعى لوجودهم..
سألت صفية في أريحية: وأنت ابن مين فالحفناوية.. أصلك عدنان اتچوز كذا مرا.. وعياله وعيال الحفناوية هنا وهناك..
ساد الصمت لبرهة، وسراج يستجمع شجاعته، فما كان يتوقع أن تأتي لحظة الحقيقة بهذه السرعة، مؤكدا في نبرة حاول أن تكون ثابتة: لاه، أني مش من ولاد عدنان يا حچة.. أني.. واد صبري الحفني.. أخوه.. فكراه يا حچة صفية!..
تحشرج صوت سراج تأثرا.. وهو ينطق جملته الأخيرة.. لينتفض صفية موضعها صارخة: وووه، واد سعاد.. أنت واد صبري وسعاد.. يا حبيبي.. تعالى يا ريحة الغوالي..
اندفع سراج بلا تحفظ لأحضان صفية عمة أمه والتي تعد في مقام جدته، لتطبق عليه بذراعيها مقبلة هامته هاتفة في فرحة عارمة: راحة الحبايب ورچعو بعوضهم.. يا حبيبي.. ربنا جادر يجمعكم حواليا من تاني.. يا رب.. انولها جبل ما أموت.. أشوف لمة الحبايب هنا من تاني..
هتف سراج وهو يبتعد عن أحضان جدته: بعد الشر عنك يا ستي.. ربنا يطول بعمرك..
سألت صفية في لهفة: طب أمك وابوك فين!.. ولا لسه بعد الزمن ده كله مداريين!..
هتف سراج في نبرة شجية: أبويا چاي يا ستي.. وبيهديكي السلام.. لكن أمي.. أمي تعيشي إنتي من سنتين..
ضربت صفية صدرها بباطن كفها في حزن: بتي!. يا وچع جلبي على شبابك يا سعاد..
ساد الصمت برهة، لتهتف صفية في حسرة: الهم بيجصف عمر الرسلانية بدري.. مبجاش إلا ستك العچوزة دي اللي بجت كيف النخلة العچفانة لا ضلة ولا طرح..
هتف سراج معاتبا: كيف ده!.. والله الرسلانية كلها موچودة على حسك يا ستي..
اتسعت ابتسامة صفية ممازحة سراج: كنك بكاش وعتاكل بعجلي حلاوة كيف حبيب.. بس أني بحب الحلاوة..
قهقه سراج لمزحة جدته.. والتي انقطعت ما أن دخل حبيب في غضب عارم: ايه!.. لحجو.. ده أني لسه چاي من هناك.. چري چاي تنفذ الحچز .. وتحط يدك ع الأرض يا حضرة الظابط!..
انتفض سراج موضعه لا يعرف عما يتحدث حبيب بهذا الشكل، بينما صرخت صفية في قهر: يحجزو على الأرض!..
يتبع...